المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

القرآن الكريم وعلومه
عدد المواضيع في هذا القسم 17508 موضوعاً
تأملات قرآنية
علوم القرآن
الإعجاز القرآني
قصص قرآنية
العقائد في القرآن
التفسير الجامع
آيات الأحكام

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر

الأفعال التي تنصب مفعولين
23-12-2014
صيغ المبالغة
18-02-2015
اولاد الامام الحسين (عليه السلام)
3-04-2015
الجملة الإنشائية وأقسامها
26-03-2015
معاني صيغ الزيادة
17-02-2015
انواع التمور في العراق
27-5-2016


مسألة الناسخ والمنسوخ وارتباطها بنظرية العلاقة بين النص والسياق  
  
4531   02:53 صباحاً   التاريخ: 25-02-2015
المؤلف : خلود عموش
الكتاب أو المصدر : الخطاب القرآني
الجزء والصفحة : ص97-106.
القسم : القرآن الكريم وعلومه / علوم القرآن / الناسخ والمنسوخ /

تعدّ ظاهرة النسخ التي ذكرها علماء القرآن في مؤلّفاتهم من الظواهر الدالّة على وجود علاقة قويّة بين النصّ والواقع ، وهي دالّة أيضا على تفاعل هذا النصّ مع سياقه الثقافي والاجتماعي.

ومعنى النسخ : الإزالة ، واختلف العلماء حول مفهومه ، فشرحه بعضهم بأنّه إزالة الحكم وإبقاء اللفظ ، ويقصد بذلك إزالة حكم آية بحكم آية أخرى متلوّة أو بخبر متواتر ، ويبقى لفظ المنسوخة متلوّا ، ويرى آخرون أنّه إزالة الحكم واللفظ وتحلّ الآية الناسخة لها في الحكم والتلاوة.

والمعنى الثالث من معاني النسخ مأخوذ من قول العرب : نسخت الريح الآثار إذا أزالتها فلم يبق منها عوض ، ولا حلّت الريح محلّ الآثار بل زالا جميعا ، وهذا النوع من النسخ إنّما يؤخذ من جهة الأخبار ، نحو ما روي أنّ سورة الأحزاب كانت تعدل سورة البقرة طولا ، فنسخ اللّه منها ما شاء فأزاله بغير عوض ، وذهب حفظه من القلوب ، وهذا الأخير على ضربين :

1- أن يزول اللّفظ من الحفظ أو يزول الحكم ، على نحو ما ذكرنا من سورة الأحزاب.

2- أن تزول التلاوة واللفظ ، ويبقى الحكم والحفظ للفظ ، ولا يتلى على أنّه قرآن ثابت ، نحو آية الرجم التي تواترت الأخبار عنها «1».

وقد انقسم العلماء إزاء هذه المسألة إلى أقسام ، فكان منهم القائلون بوجود النسخ ، وآخرون قالوا بندرته ، وفئة ثالثة انكرت وجود النسخ في القرآن‏ «2» ويهمّنا في هذا المبحث إيضاح علاقة هذا الموضوع بنظريّة العلاقة بين النصّ والسّياق من خلال النصوص التي تركها أصحاب دراسات علوم القرآن ونشير ابتداء إلى أنّ مسألة النسخ تتّصل بموضوع معالجة النص للواقع وتفاعله معه من جهة ، وكذلك تتصل بمسألة انسجام الخطاب من جهة أخرى.

فنرى أبا محمّد مكّي بن أبي طالب (المتوفّى سنة 437 هـ) يحاول جاهدا الخروج من مسألة شائكة ، وهي أنّ حدوث النسخ يناقض أنّ القرآن محفوظ حفظا أزليّا في اللوح المحفوظ. وبعد أن يقرّر أنّ هذا التعديل والتبديل والنسخ إنّما هو مكتوب في علم اللّه. وأنّ اللّه يحدّد أوقات التعديل وكيفيّة. في علمه سبحانه ، ثمّ يخرج بعد هذا إلى توضيح وظيفة النسخ ، وهي في رأينا توضح علاقة النصّ بالسياق الخارجي ، وبالذات علاقة النصّ بالمخاطبين يقول : " ... وذلك منه تعالى لما فيه من الصلاح لعباده ، فهو يأمرهم بأمر في وقت لما فيه من صلاحهم في ذلك الوقت ، وقد علم أنّه يزيلهم عن ذلك في وقت آخر لما علم فيه من صلاحهم في ذلك الوقت الثاني (...) فأتى كلّ رسول قومه بشرع شرعه اللّه مخالف لشرع من كان قبله من الرسل ‏{لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً ومِنْهاجاً} . وذلك منه تعبّد واختيار وابتلاء للطائع والعاصي ، وكلام اللّه واحد لا اختلاف فيه ، وإنّما الاختلاف في المأمور به في وقتين متقدّمين في علم اللّه قبل علم كل مخلوق ..... ولأجل ما أراد اللّه من النسخ للرفق بعباده ، والصلاح لهم أنزل القرآن شيئا بعد شي‏ء ، ولم ينزله جملة واحدة لأنّه لو نزل جملة واحدة لم يجز أن يكون فيه ناسخ ولا منسوخ ، إذ غير جائز ، أن يقول في وقت واحد افعلوا كذا ولا تفعلوا كذا لذلك الشي‏ء بعينه " «3».

إنّ هذا النصّ يعالج قضيّة اتّساق النصّ مع المقام (السياق المقامي) فليس معقولا أن يتنزّل الأمر وضدّه في آن واحد فكيف يستجيب المخاطبون في هذه الحالة؟ ثمّ إنّ النصّ كان يتشكّل مع تطوّر الواقع وتفاعل المخاطبين من جانب آخر ، ومع هذا التنزّل وفق‏ حاجات البشر وتدريج التشريع على أولئك العباد ، يبقى النصّ منسجما متّسقا ولاحظ قوله (و كلام اللّه واحد لا اختلاف فيه) ويبقى الاختلاف في دائرة تفاعل المخاطبين مع النصّ الواحد المتّسق المنسجم. ثمّ إنّ النسخ مظهر لاتّصال النّص مع الوقائع ، ومعالجتها معالجة مباشرة ، ولا بدّ أن تظهر آثار هذا الاتّصال داخل النصّ القرآني ، فأيّ معنى أن ينزل النصّ حول حادثه لم تقع بعد ؟ يقول مكّي بن أبي طالب حول هذه القضية" ... مع أنّه كان إنزاله القرآن غير جملة أخفّ في التعبّد ، فلو نزل العرض كله جملة واحدة لصعب العمل به ، ولسبق الحوادث التي من أجلها نزل كثير من القرآن ، فغير جائز أن ينزل قرآن في حادثة يخبر عنها بالحدوث ويحكم فيها وهي لم تقع ، فافهم ذلك فهو الأصل الذي يبنى عليه الناسخ والمنسوخ" «4».

وقريب من هذا ما قاله ابن الجوزي في كتابه (نواسخ القرآن) " إنّ التكليف لا يخلو أن يكون موقوفا على مشيئة المكلّف أو على مصلحة المكلّف ، فإن كان الأوّل فلا يمنع أن يريد تكليف العباد عبادة في مدّة معلومة ثم يرفعها ويأمر بغيرها. وإن كان الثاني فجائز أن تكون المصلحة للعباد ، في فعل عبادة زمان دون زمان" «5». ويستفاد من النصوص السابقة ما يلي :

1- النصّ القرآني وحدة واحدة لا تتجزّأ وكلام اللّه واحد وليس متعدّدا ، وهو بهذا يعامل معاملة النّص الواحد الكامل مع أنّه نزل منجّما ، أو حدث فيه نسخ للأحكام أو الألفاظ.

2- النّص القرآني متّسق ، لا اختلاف فيه ولا تباين ، أو تناقض بين أجزائه ، فهو يمتلك جميع خصائص النّص الكامل من حيث التماسك والترابط ، وهذه الخصيصة (النصيّة) تلازمه في جميع مفرداته ، بما فيها ناسخه ومنسوخه إن ثبت أن فيه نسخا (الاتّساق الداخلي للخطاب).

3- وجود الناسخ والمنسوخ يجب أن يراعى فيه (زمان الخطاب) أو زمن النّص ، وإنّ النّص المتعلّق بإحدى مناسبات النزول يجب أن يرتبط بظروف التنزيل وملابساته ، ويجب أن يوضع في فضائه الزماني والمكاني وقت تنزيله (سياق التخاطب).

4- النّص يتفاعل مع المخاطبين ويتنزّل بحسب أحوالهم وهذا ما يسمّى بالسياق المقامي أو السياق الثقافي والاجتماعي المحيط بالنّص. وهذا هو انسجام النّص مع السياق المقامي. وإذن فقد تجمّع لدينا من خلال موضوع (الناسخ والمنسوخ) جميع عناصر نظرية النّص والسياق ، وهي النّص الكامل بجميع عناصره ، الاتّساق الداخلي والتماسك ، الانسجام مع السياق (السياق اللغوي والسياق المقامي).

ويعالج (مكّي بن أبي طالب القيسي) في باب (بيان شروط الناسخ والنسوخ) علاقة الناسخ والمنسوخ بالشرائع السابقة ، ويرى أنّها يجب أن لا توضع في الناسخ والمنسوخ يقول :" وقد أدخل أكثر المؤلّفين في الناسخ والمنسوخ آيات كثيرة وقالوا : نسخت ما كانوا عليه من شرائعهم ، وكان حقّ هذا ألّا يضاف إلى الناسخ والمنسوخ ، لأنّا لو اتبعنا هذا النوع لذكرنا القرآن كلّه في الناسخ والمنسوخ" وهذا خروج عما نقصد إليه من هذا العلم" «6». ويستفاد من ذلك أنّ النّص القرآني نصّ واحد متّصل ، ارتبطت آية بأمّة جديدة ، وبظروف تنزيل مختلفة عن الشرائع السابقة ، وعالجت سياقا ثقافيا واجتماعيّا مختلفا ولذلك لا يجوز أن ندرس الناسخ والمنسوخ في أطر زمانيّة سابقة لنزول القرآن ، وليس معنى هذا أنّ قراءة هذا النّص موقوفة على ظروف تنزيله فقط بل هو نصّ لغوي يمتلك دوال متعدّدة تمكّن القارئ من قراءته في إطار النظرة الشاملة (للعالم). ولكن ينبغي علينا قراءته في ضوء علاقة النّص بالمخاطبين (المكلّفين) وفقا لظروف السياقات المختلفة المحيطة بهذا النّص ، لأنّه نصّ لغويّ (بلسان عربي مبين) نزل وفق سنن العربيّة ، التي تقتضي هذا التناغم والانسجام بين النّص والمقام ، إضافة لأنّ ذلك يحقّق (مصلحة العباد) التي أشار إليها (مكّي بن أبي طالب) وغيره من دارسي موضوع الناسخ والمنسوخ.

وفي شرط آخر من شروط النسخ يذكر مكّي بن أبي طالب من شروط الناسخ أن يكون منفصلا من المنسوخ ، منقطعا عنه ، فإن كان متّصلا به غير منقطع عنه لم يكن ناسخا لما قبله ممّا هو متّصل به"«7». وهاهنا تأكيدا آخر على اتّساق الخطاب وانسجامه ، فوجود التناقض يفسد انسجام الخطاب ويفسد تناسقه ، لتغاير الخطاب أو النصّ مع الحقيقة الواقعة خارجه من جهة ، ولوجود تعارض بين بعض مكوّنات النص الدلالية ، وهذا ممّا يفسد (النصيّة).

و قد ناقش د. نصر حامد أبو زيد مسألة النسخ في كتابه (مفهوم النصّ) وينطلق من معنى النسخ ويحدّده بأنّه إبدال نصّ بنص مع بقاء النصّين ، وعلى ذلك يصعب تقبّل كثير من النصوص والأنواع التي يوردها العلماء داخل قضيّة الناسخ والمنسوخ ، ثمّ بعد ذلك يعرّج على وظيفة النسخ وهي التدرّج في التشريع خطوة خطوة ، فالقرآن وحي انطلق من حدود الواقع ، ولا بدّ أن يراعي في نصوصه هذا الواقع ، وقد قارب العلماء القدماء هذا الفهم وعبّروا عنه بلغة عصرهم. ويرى أنّه لا يجوز إغفال البعد الآخر للنّص وهو الواقع والمتلقّون ، ذلك أنّ الأحكام الشرعيّة أحكام خاصّة بالبشر في حركتهم داخل المجتمع ، ويرى أنّ كثيرا من علماء القرآن قد غالوا في النماذج التي عدّوها من الناسخ والمنسوخ ، وخلطوا في ذلك بين أدوات التخصيص اللّغوي داخل الآية الواحدة ، وبين تغيير الحكم لتغيّر الظروف والملابسات. ثمّ يتناول عددا من الأمثلة يعدّها بعض علماء القرآن من المنسوخ ، ويوضح من خلال سياقها أنّها آيات محكمة ، وأنّ المقصود بها خلاف ما فهمه أولئك.

ويعالج أبو زيد مسألة أنماط النسخ ، ومنها نسخ نصوص من القرآن بنصوص من السنة ، ويذكر خلاف العلماء حول هذه المسألة ، ويرى أنّ موقف الشافعي‏ «8» هو أقرب‏ المواقف إلى سياق النّص من حيث إصراره على التماثل في مستوى النصوص فيما يتّصل بنسخ الأحكام ، ويعدّ الناسخ والمنسوخ في رأيه من المفردات الهامّة التي تحدّد علاقة النصّ بسياق الواقع والثقافة «9».

وفي كتابه (ديناميّة النصّ) يفرد د. محمد مفتاح فصلا عنوانه (الانسجام في النصّ القرآني) ، ويتناول فيه موضوع (ناسخ القرآن ومنسوخه) ويهدف من هذا التناول إلى محاولة تعميم نظريّة وضعها في دراسة دينامية النص وتفاعله وانسجامه ، وأمّا المبادئ التي ينطلق منها فهي :

1- اعتبار آراء السلف ، وخصوصا من صاحب منهم الرسول ، ومن قارب عهده.

2- استثمار المناهج اللسانيّة والسيميائيّة ومنها :

أ- اعتبار النّص القرآني كلا لا يتجزأ لأنّه يهدف إلى غاية واحدة ، وينطلق من فلسفة منسجمة ، وإن تنوّعت مظاهر تعبيره ، وتنوّعت قضاياه ، لذلك يجب التسليم بأنّ الآيات التي تدور حول قضيّة واحدة وإن وجدت في مواطن متفرّقة من المصحف لها ثابت بنيوي تنطلق منه لتفصّله ، أو تكمله ، أو تبيّنه في الآيات المكيّة ، أو لتخصّصه أو تقيّده في الآيات المكيّة ، أو المدنية. ولكنّه مهما كان الحال فإنّها لا تناقضه أبدا. وكذلك الأمر في الآيات المدنيّة التي تتحدّث عن قضيّة واحدة (آيات الصيام مثلا) ويمكن أن تدعى هذه الوشائج بالعلائق الداخلية.

ب- مراعاة مقتضى الأحوال التي نزل فيها القرآن ، ومجاله التداولي ، وزمانه ، أي علاقات النصّ القرآني بالشرائع والعادات والأعراف السابقة والمعاصرة ، ويطلق على هذه العلاقات اسم العلائق الخارجيّة«10».

و أمّا مفاهيم التحليل التي يستند إليها د. مفتاح فهي أوّلا المقصدية ، وهي المعتقدات والمقاصد والأهداف التي تحكم فعل الكلام الصادر من متكلّم إلى مخاطب في مقتضيات أحوال خاصّة ، وبهذا يدخل من خلال هذا المفهوم ثلاثة عناصر أساسيّة هي :

المخاطب ، والمخاطب ، وظروف التنزيل. أو ما عبّر عنه الشاطبي بالمقاصد ومقتضيات الأحوال. فالمخاطب هو الرسول الذي كان يخاطب الناس بلسان عربيّ مبين ، وينبني على هذا الأصل نتائج منها تفضيل النصّ الذي لا يحتمل التأويل على غيره. وإذا كان ثمّة تأويل فهو مبنيّ على حقائق العربيّة وسننها في التعبير. فاللّغة وظيفتها الأساسيّة هي التواصل فيجب أن يكون التعبير اللّغوي واضحا دقيقا شفّافا. وأمّا عن المخاطب فقد تكيّف أسلوب القرآن بحسب نوعية مخاطبيه ، وبحسب القضيّة المتحدّث عنها والسياق الذي دار فيه الخطاب ، وأمّا ظروف التنزيل فهي الظروف التي جرت فيها عمليّة الخطاب ممّا يؤدّي إلى نجاحه أو فشله.

وأمّا المفهوم الثاني فهو المماثلة والمشابهة فإنّ أهمّ ما يضمن نجاح الرسالة هو مخاطبة الناس على قدر عقولهم وبما يفهمونه. ويترتّب عليه ، أنّ المطابقة بين مجموعتين غير ممكنة في عمليّة الخطاب ؛ إذ لا يمكن أن تحصل هذه المطابقة إلّا إذا كان الموضوع والزمان والمكان هي نفسها من جميع الجهات ، وهذا شي‏ء لا يحصل البتّة. فإذا توفر عنصر وحدة الموضوع فإنّ الزمان والمكان يفتقدان. وإن ما أتى في الموضوع قد يأتي مخصّصا (أي حاذفا لبعض المقوّمات). وقد يكون بيانا وتفصيلا (يضيف بعض المعلومات) وباستخدام مبدأ المماثلة والمشابهة فليس هناك ناسخ ولا منسوخ. وأمّا المفهوم الثالث فهو نوع العلاقة ويقسّمها إلى قسمين :

* علاقة خارجيّة ، وهي علاقة المماثلة والمشابهة بين الخطاب القرآني وغيره من الخطابات السابقة له أو المعاصرة ، وهي نوعان علاقة تعضيد أو علاقة رفع ، ومثال التعضيد : القاعدة الفقهيّة : (شرع من قبلنا شرع لنا) ، ومثال الرفع القاعدة الفقهيّة : (ما خالف شرعنا). وللتعضيد درجات كما للرفع درجات بحسب توافر عناصر المقصديّة والمماثلة. والمشابهة. فآيات القصاص مثلا تأخذ أقصى درجات التعضيد ، باعتبار أنّ الإسلام حافظ عليها كما جاء قبله ، وآيات الصيام مثلا تأخذ أوسط حالات التعضيد ، فإنّها تناولت الموضوع نفسه الذي تناولته الديانات السابقة ، بتعديلات اقتضتها الأحوال. وآيات المعتقدات المتعلّقة بالألوهيّة تأخذ أقصى درجات الرفع (تغيير جذري للمعتقدات المحرّفة) ، وآيات المحرّمات في اللحوم مثلا عند اليهود تأخذ أوسط حالات الرفع ، فقد أبيحت بعض أنواع اللحوم للمسلمين ، وهناك ضرب مشترك يحتمل التعضيد في سياق ومساق ، وتحتمل الإبطال والنقض في سياق ومساق ، كما في بعض القصص القرآني.

* علاقة داخليّة وهي إمّا :

أ- علاقات مرفوضة أو مقبولة مثل علاقة التناقض ويعرّفها أبو بكر الصيرفي بقوله (و إنّما التناقض في اللّفظ ما ضادّه من كلّ جهة على حسب ما تقتضيه الأسماء ، ولن يوجد في الكتاب والسّنة شي‏ء من ذلك أبدا) ، وبذا فإنّ هذه النقطة التي ترتكز عليها دعوى النسخ تكون قد تهاوت وهي (التناقض). ومن هذه العلاقات علاقة التضادّ وهو ذو طرفين لا يجتمعان ، ويمكن أن يرتفعا معا كأن يقال الصلاة واجبة ، الصلاة غير واجبة وهذا غير مقبول إذا توارد على شي‏ء واحد في وقت واحد ، ولكن يمكن أن يرتفعا معا وحينئذ يبقى التخيير.

ومنها علاقة الاقتضاء ، وتحكمها المعادلة التي مثالها (ليست الصلاة غير واجبة يقتضي الصلاة واجبة) وعلاقة التناقض غير موجودة في القرآن أبدا ، ولكنّ العلاقات الأخرى موجودة شرعا ومتصوّرة عقلا ، ولهذا تعرّضت لها كتب الفقه.

ب- العلاقات المهيمنة : ومن أبرزها بيان المجمل وتخصيص العموم ، وتقييد المطلق ، وتفصيل ما لم يفصّل ، وتكميل ما لم يظهر تكميله. ويختزل د. مفتاح هذه العلاقات إلى مفهومين : الأوّل : التنمية ، أي تنمية قضيّة كليّة أو فكرة ما بتقليبها في صور مختلفة ، إن على مستوى الخطاب القرآني جميعه أو على مستوى آيات متتابعة تحتلّ فضاء واحدا ، وإنّ اختلاف هيئات المخاطبين والأوقات والأمكنة كانت سببا في هذا التنويع.

والثاني : النقص (تخصيص العموم وتقييد المطلق) وفي هذه الحالة تأتي آية أو آيات مزيلة لبعض الأوصاف ، وهذا النوع غالبا ما يصيب الآيات المدنية وحدها. وبهذه الأدوات جميعا نستبعد من الخطاب القرآني علاقة التناقض عبر الناسخ والمنسوخ (بمعنى الإزالة والإبطال)؛ إذ هو مجرد دعوى قائمة على أوهام لغويّة وأيديولوجيّة أغرت كثيرا ممّن ألّف في الموضوع من القدماء والمعاصرين معتبرين فيه تدرّجا للتشريع ومراعاة للظروف الاجتماعية والاقتصادية ، فالأسلم لهؤلاء أن يقولوا بالبيان والتفصيل والتكميل والتخصيص.

و إنّ النتائج النظريّة والمنهاجيّة والعمليّة التي نتوصّل إليها بهذا الموقف ، تجعلنا نحصل على نظريّة منسجمة واحدة وشاملة لعموم أنواع الخطاب القرآني الهادفة جميعها إلى تبليغ الرسالة مع مراعاة أحوال المخاطبين الذين هم أنواع عديدة : منهم الخلّ الحميم للمبلّغ ، ومنهم العارف المتنوّر ، ومنهم الأعرابي والبادي ، مع اعتبار مقتضيات الأحوال.

و هذا لا يناقض القول بالتدرّج مع اختلاف المنطلقات ، وذلك على النحو التالي :

أ- إنّ المخاطبين بالقرآن لم يكونوا على مستوى واحد من الفهم والإدراك ، ولم يكونوا على درجة واحدة . في اتّصالهم بصاحب الرسالة. وعلى هذا فلا يعقل أن يتساوى إدراك أقرب الصحابة إلى الرسول مع الأعراب الوافدين عليه من مناطق نائية؛ فالمقرّبون يفهمون مضمون الرسالة ومغزاها بالإيحاء والتلميح دون ذكر التفاصيل وضرب الأمثلة؛ إذ أطرهم المعرفيّة مشتركة ، ومن ثمّ كانت تغني الإشارة عن العبارة. وأمّا من كانوا أبعد ثقافيّا وحضاريّا فإنّهم كانوا محتاجين إلى الإطناب.

ب- إنّ القرآن أخرج أوامره ونواهيه مخرج الاستفهام أو الإخبار أحيانا كثيرة تلطّفا وتأنيسا ، وقد كان المقرّبون والمؤمنون يدركون التوضيحات والتلميحات والتلويحات فيطيعون ويستجيبون. وقد كان البعيد أو الذي في قلبه مرض يتجافى عقله عن الفهم فيستمرّ في سلوكه ، أو يسأل فتأتي آيات أخرى فيها مزيد إيضاح حتى ترفع كل شبهة وتقطع كل ذريعة.

ج- إنّ كثيرا من التعابير العربيّة ، وتبعا لذلك الآيات القرآنية ، يحكمها مبدأ الترابط ، ومعناه أنّ بعض الكلمات ترتبط بأخرى أو تدعوها ، وهكذا فإنّه غالبا ما تأتي الصلاة مقرونة بالزكاة ، والفحشاء بالمنكر ... ولكن أن تذكر الصلاة إلى جانب الخمر فشيء لا يقبله العرف اللغوي ، فالصلاة يدعو حقلها الدلالي مجموعة من الألفاظ ويرفض أخرى ، ومن ثمّ فإنّ ممارستها أثناء السكر تعني عملا غير مقبول أي محرّما.

وأما الآيات التي تتخذ كلية ليجعل ما جاء بعدها بيانا أو تكميلا أو تفصيلا أو تخصيصا أو تقييدا؛ فإنّها الآيات التي تواترت الأخبار في سبق نزولها ، فإنّها تتّخذ أصلا ، وما عضّده المساق الوارد فيه؛ أي ينظر إلى علاقته بما قبله وما بعده من آيات؛ إذ إنّه إذا بتر من سياقه يفقد خصوصيّته ، ويصبح قابلا لأن يمنح أيّة دلالة ، وإذا وردت أخبار في سبب النزول ، ولكنّها ليست متواترة ، أو لم تتوافر فيها شروط الحديث الصحيح ، فإنّه يجب تحليل الآية ، أو الآيات في ضوء مساقها تحليلا دقيقا كل على حدة ، ثمّ تجميعها حتى تصير مكوّنة لموضوع قائم الذات ، ثمّ يقارن بين دلالة كل منها حتى يتبيّن كليّها من جزئيّها مع الاسترشاد ببعض القواعد الأصوليّة ، من مثل : حمل المطلق على المقيّد ، والعامّ على الخاص. وأمّا عن إشكال مبدأ تأخير البيان عن وقت الحاجة فيرى أنّه لا يجوز ، وأمّا تأخيره إلى وقت الحاجة فجائز عند أهل الأصول‏ «11». وهذا الرأي منطلقه أن نأخذ بعين الاعتبار المخاطب والمخاطبين الذين وجّهت إليهم الدعوة ومساق الخطاب وسياقه ، فعمليّة الخطاب تتحكّم فيها ثلاثة أركان أساسيّة هي المخاطب والمخاطب والسياق. «12»

_______________________

(1) أبو محمد مكّي بن أبي طالب القيسي ، الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه ، ص (49- 53).

(2) يمكن للمهتم أن يطّلع على آراء هذه الفئات في كتب التفسير والأصول وكتب علوم القرآن ، كما يمكن التعرّف على آراء العلماء المحدثين من خلال مناقشاتهم وفتاويهم التي ورد بعضها في كتاب (لا نسخ في القرآن)/ أحمد حجازي السقا/ دار الفكر العربي ط 1/ 1978.

(3) مكّي بن أبي طالب القيسي ، الإيضاح ، ص (55- 56).

(4) ابن الجوزي ، نواسخ القرآن ، ص (14- 15).

(5) مكّي بن أبي طالب ، الايضاح ، ص : 58.

(6) مكي بن أبي طالب ، الإيضاح ، ج 1/ 59.

(7) مكي بن أبي طالب ، الإيضاح ، ج 1/ 59.

(8) يقول الشافعي :" حيث وقع نسخ القرآن بالسنّة فمعها قرآن عاضد لها ، وحيث وقع نسخ السنّة بالقرآن فمعه سنّة عاضدة ليتبيّن توافق القرآن والسنّة" ، الرسالة ، الشافعي ، ص 141.

(9) نصر حامد أبو زيد ، مفهوم النصّ/ دراسة في علوم القرآن ، ص (122- 124).

(10) د. محمّد مفتاح ، ديناميّة النصّ ، ص 202.

(11) انظر : الغزالي ، المستصفى ، ص 388.

(12) محمّد مفتاح ، دينامية النصّ ، ص (203- 207).




وهو تفسير الآيات القرآنية على أساس الترتيب الزماني للآيات ، واعتبار الهجرة حدّاً زمنيّاً فاصلاً بين مرحلتين ، فكلُّ آيةٍ نزلت قبل الهجرة تُعتبر مكّيّة ، وكلّ آيةٍ نزلت بعد الهجرة فهي مدنيّة وإن كان مكان نزولها (مكّة) ، كالآيات التي نزلت على النبي حين كان في مكّة وقت الفتح ، فالمقياس هو الناحية الزمنيّة لا المكانيّة .

- المحكم هو الآيات التي معناها المقصود واضح لا يشتبه بالمعنى غير المقصود ، فيجب الايمان بمثل هذه الآيات والعمل بها.
- المتشابه هو الآيات التي لا تقصد ظواهرها ، ومعناها الحقيقي الذي يعبر عنه بـ«التأويل» لا يعلمه الا الله تعالى فيجب الايمان بمثل هذه الآيات ولكن لا يعمل بها.

النسخ في اللغة والقاموس هو بمعنى الإزالة والتغيير والتبديل والتحوير وابطال الشي‏ء ورفعه واقامة شي‏ء مقام شي‏ء، فيقال نسخت الشمس الظل : أي ازالته.
وتعريفه هو رفع حكم شرعي سابق بنص شرعي لا حق مع التراخي والزمان بينهما ، أي يكون بين الناسخ والمنسوخ زمن يكون المنسوخ ثابتا وملزما بحيث لو لم يكن النص الناسخ لاستمر العمل بالسابق وكان حكمه قائما .
وباختصار النسخ هو رفع الحكم الشرعي بخطاب قطعي للدلالة ومتأخر عنه أو هو بيان انتهاء امده والنسخ «جائز عقلا وواقع سمعا في شرائع ينسخ اللاحق منها السابق وفي شريعة واحدة» .