المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية


Untitled Document
أبحث عن شيء أخر

الأفعال التي تنصب مفعولين
23-12-2014
صيغ المبالغة
18-02-2015
اولاد الامام الحسين (عليه السلام)
3-04-2015
الجملة الإنشائية وأقسامها
26-03-2015
معاني صيغ الزيادة
17-02-2015
انواع التمور في العراق
27-5-2016


الجملة الإنشائية وأقسامها  
  
287446   04:21 مساءاً   التاريخ: 26-03-2015
المؤلف : عبد الرحمن الميداني
الكتاب أو المصدر : البلاغة العربية أسسها وعلومها وفنونها
الجزء والصفحة : ص170-234
القسم : الأدب الــعربــي / البلاغة / المعاني /


أقرأ أيضاً
التاريخ: 26-03-2015 2594
التاريخ: 26-03-2015 2809
التاريخ: 26-03-2015 11103
التاريخ: 26-03-2015 28485

الإِنشاء في الجملة الإِنشائية ينقسم إلى قسميّن:

القسم الأول: الإِنشاء غير الطلبي.

القسم الثاني: الإِنشاء الطلبي.

***

المقولة الأولى

شرح الإِنشاء غير الطّلبي

تعريفه:

الإِنشاء غير الطلبي: هو ما لا يستدعي مطلوباً، إلاَّ أنّه ينشئ أمراً مرغوباً في إنشائه، وله أنواع وصيَغٌ تَدُلُّ عليه، ومنها الأنواع التالية:

النوع الأول: وهو أعلاها، وهو ما يمكن أن نُسَمّيَهُ "أمْرَ التكوين" وجملَة أمْرِ التكوين هي لفظ "كُنْ" كما قال الله عزَّ وجلَّ في سورة (يس/ 36 مصحف/ 41 نزول):

{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ (82)}.

***

النوع الثاني: إنشاءُ العقود، وحلُّ المعقود منها، مثل عقود البيع، وعقود الزواج، وأوامر ضَرْبِ الرّق، وقرارات تعيين الموظفين، وقرارات الإِقالة من الوظائف ممّن يملك ذلك، وكعبارات الطلاق والعتق، ومبايعة رئيس الدولة، وخلع البيعة عنه، ونحو ذلك.

وتأتي صِيَغُ العقود وصِيَغُ حلّها بعباراتٍ مختلفات من الجمل الفعليّة والاسميّة، وما يقوم مقامها اختصاراً، مثل:

(1)إنشاء عقود البيع والشراء بما يدلُّ عليها اصطلاحاً من عبارات: "كبِعْتُكَ، اشْتَريتُ منك - أبيعك، أشتري منك - بِعْني، بْعتُك - اشْتَرِ مِنْي، اشْتَرَيتُ منك" ونحوها.

 (2) إنشاء عقود الزواج بما يدلُّ عليها اصطلاحاً من عبارات: "كزَوّجتُك بنتي، قبلت زواجها - أُزَوَجُك ابنتي، تَزَوَّجتها - زَوّجْنِي ابْنَتَك، زوّجْتُكَهَا" ونحوها.

(3) إنشاء عقد مبايعة أمير المؤمنين بما يدلُّ عليها من عبارات: "أبايعك على السّمع والطاعة - بايعتُكَ على السّمع والطاعة" ونحوها.

إلى غير ذلك من عباراتٍ تتضمَّن في عرف الناس إنشاء العقود، وهي جُمَلٌ، أو مختصراتٌ تتضَمَّنُ معنَى جُمَلٍ إنْشَائِيّة.

(4) إنشاءُ الدخول في الإِسلام بإعلان الشهادتين، فهو عَقْدٌ مع اللهِ بالإِسْلاَم له، مع عقد النيّة على هذا الدخول.

(5) إنشاء الدخول في نحو عبادة الصلاة، أو عبادة الحج والعمرة، فالدخول في الصلاة يكون بعقد النيّة مع تكبيرة الإِحرام، إذْ تكبيرة الإِحرام تنوب مناب: عقدت الدخول في الصلاة وأنشأته، مع استحضار النيّة في النفس.

والدخول في عبادة الحج أو العمرة يكون بعد النيّة مع التلبية، إذ عبارة "لبَّيْكَ اللَّهُمَ لبَّيْكَ" تنوبُ مناب: عقدتُ الدخول في الحج أو العمرة وأنشأْته، مع استحضار النيّة في النفس.

(6) حلُّ العقود بعبارات تدلُّ عليه، مثل:

"فَسَخْتُ البيع - خَلَعْتُ الْبَيْعَةَ - قول الرجل لزوجته: طلَّقْتُكِ أو أنتِ طالق، أو نحو ذلك - قول مالك الرقيق لمملوكة: أعتقتك، أو أَنْتَ عَتِيقٌ، أو قوله له: كاتَبْتُكَ على كذا" ونحو ذلك.

النوع الثالث: إنْشاء المدح أو الذّم، ويأتي في أفعالٍ وصِيغ:

* فيأتي المدح بفعل: "نِعْم" مثل: "نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّه أوّاب - ولَنِعْمَ دار المتَّقين - فَنِعِمَّا هِي".

* ويأتي الذَّمُّ بفعل: "بئْسَ" مثل: "بِئْسَ الشَّرَابُ - فَلَبِئْسَ مَثْوَى المتكبِّرِينَ".

* ويُحَوَّلُ الفعل الماضي الثلاثي عن وزْنِه فَيُصَاغُ على وَزْنِ "فَعُلَ، لازماً بضمّ العين، ويُسْتَعْمَلُ عندئذٍ قريباً من استعمال "نعم وبئس" للدلالة على المدح أو الذم، مثل: "وَحَسُنَ أولئِكَ رَفيقاً - حَسُنَتْ مُسْتقرّاً وَمُقاماً - إنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرّاً ومُقَاماً - وسَاءَتْ مَصِيراً - وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً - مُحْمُّدٌ عَظُمَ رَسُولاً، وكَرُمَ أصْلاً، وجَمُلَ خُلُقاً، وجَادَ عطاءً، وفَاقَ بَيَاناً".

أفْعَالُ "ساءَ وجَادَ وفاقَ" في هذه الأمثلة هي على تقدير تحويلها إلى وزنِ "فَعُل" وإن شابَهَ لفظُها الذي حُوِّلَتْ إلَيْهِ لَفْظَهَا الذي حُوِّلَتْ مِنْهُ، لأنّ لَفْظَها الّذِي حُوِّلَتْ إليهِ هو "سَوُءَ - جَوُدَ - وفَوْق" ولكن تحرَّكتِ الواو وانْفَتَحَ ما قَبْلَهَا فَقُلِبَتْ ألفاً، فعادت إلى مثل ما حُوّلَتْ عَنْهُ في اللفظ.

ونُلاحِظُ أنْ عبارات إنشاء المدح والذمّ من بدائع الصِّيَغ والتركيباتِ في اللِّسَان العربي.

ويُمْكِن أن نُلْحِقَ الشتائم بإنْشاءِ الذّم.

***

النوع الرابع: إِنْشَاءُ الْقَسَم، ولَهُ صِيَغٌ كثيرَة، منها: "أُقْسِمُ بالله لَفَعَلْتُ أَوْ لأَفْعَلَنَّ - أَحْلِفُ بالله لأَفْعَلُ أو لَتَفْعَلَنَّ - أَشْهَدُ لأَفْعَلَنَّ - أُشْهِدُ اللهَ لأَفْعَلَنَّ - عَلِمَ اللهُ أو يَعْلَمُ اللهُ لأفْعَلَنّ".

ويختصر العرب عباراتِ الْقَسَم فَيَحْذِفون منها فعل الْقَسَمِ، ويشيرون إليه بأداةٍ كحرف الْقَسَم، مثل: واللهِ - باللهِ - تَاللهِ" أو بحركة إعرابٍ مثل: "اللهِ لأفْعَلَنَّ" على تقدير وجود حرف القسم الجارّ، أو "اللهَ لأفْعَلَنَّ" أي: أَحْلِفُ اللهَ بالنصب، والنصب جاء على طريقة الحذف والإِيصال، وهو حذف الجار ونصْبُ المجرور به على أنّه مفعولٌ به.

والغرضُ من إنشاء الْقَسَمِ تأكيد الجملة الخبريَّة كما سَبَقَ بيانه في مؤكداتِ الخبر.

***

النوع الخامس: إنشاء التوجّعِ أو التَّفَجُّعِ، أو التَّرَحُّمِ، أو التَّثْرِيب، أَوْ تَقْبيحِ الحال.

وتَدُلُّ على هذه المعاني عبارات هي في الحقيقة اختصارٌ لجمل أو رَمْزٌ لها من جهة المعنى.

* ففي التوجّع نلاحظ عبارات مثل: "يا عُمراه - واعُمَراهُ - وامُحمّداهُ - واحُزْنَاه - وافَجِيعَتاه".

ومثل: "آه - أَوّه".

* وفي الترحم أو التخوّف من وقوع مكروه، مثل "ويْحَهُ - وَيْسَه".

* وفي التقبيح والتثريب، مثل: "وَيْلَه - وَيْبَه" قالوا: وهما كلمتا عذاب، أي هما كلمتان لإِنْشَاءِ التقبيح والتثريب بسبب استحقاق العذاب.

***

المقولة الثانية

شرح الإِنشاء الطّلبي

تعريفه:

الإِنشاء الطلبي: هو ما يستدعي مطلوباً غير حاصل في اعتقاد المتكلّم وقت الطلب، ويكون الإِنشاء بأنواع من الكلام: "الأمر والنهي - التحذير والإِغراء - النداء - التمنّي والترجّي - الدعاء - الاستفهام".

***

(1) النوع الأول: الأمر والنهي

تعريف الأمر: هو طلَبُ تحقيق شيْءٍ ما، مادّيٍّ أو معنويّ، وتدُلُّ عليه صِيَغٌ كلاميّة أربع، هي:

"فعل الأمر - المضارع الذي دخلت عليه لام الأمر - اسم فعل الأمر - المصدر النائب عن فعل الأمر".

تعريف النهي: هو طلَبُ الكفّ عن شيءٍ ما، مادّيٍّ أو معنويٍّ، وتدلُّ عليه صيغةٌ كلامية واحدة هي: "الفعل المضارع الذي دخلت عليه (لاَ) الناهية".

أمثلة من الأمر:

(1) من صيغة "فعل الأمر":

* {قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً...} [الآية 158] (الأعراف/ 7 مصحف/ 39 نزول):

* {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)} (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول).

* وقول أبي الطيّب المتنبّي:

*عِشْ عَزِيزاً أَوْ مُتْ وَأَنْتَ كَرِيمٌ * بَيْنَ طَعْنٍ الْقَنَا وَخَفْقِ الْبُنُودِ*

* وقَوْلُ الشاعر:

*إِذَا لَمْ تَخْشَ عَاقِبَة اللَّيالي * وَلَمْ تَسْتَحْيِ فَاصْنَعْ مَا تَشَاءُ*

 

 (2) مِنْ صيغة "المضارع الذي دخلَتْ عليه لاَمُ الأَمْر".

* {وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)} (آل عمران/ 3 مصحف / 89 نزول).

* وقول البحتري:

*فَمَنْ شَاءَ فَلْيَبْخَلْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَجُدْ * كَفَانِي نَدَاكُمْ عَنْ جَمِيعِ الْمَطَالِبِ*

* وقول المتنبي في مدح سيف الدولة:

*كَذَا فَلْيَسْرِ مَنْ طَلَبَ الأَعَادِي * وَمِثْلَ سَرَاكَ فَلْيَكُنِ الطِّلاَبُ*

* وقول الشاعر:

*لِيَكُنْ بِرَبّكَ كُلُّ عِزِّك يَسْتَقِرُّ ويَثْبتُ * فَإذَا اعْتَزَزْتَ بِمَنْ يَمُوتُ فَإِنَّ عِزَّكَ مَيِّتُ*

(3) مِنْ صِيغَةِ :اسم فِعْلِ الأَمْرِ":

* {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (17)} (الطارق/ 86 مصحف/ 36 نزول).

رَوَيدا: اسم فعل بمعنى "أَمْهلْ".

* {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَآؤُمُ اقْرَؤُاْ كِتَابيَهْ (19)} (الحاقة/ 69 مصحف/ 78 نزول).

ها: اسم مفعل أمر بمعنى "خذ".

* وقول المعرّي:

*أَبَنَاتِ الْهَدِيلِ أَسْعِدْنَ أَوْعِدْ * نَ قَلِيلَ الْعَزَاءِ بالإِسْعَادِ*

*أيهِ للهِ دَرُّكُنَّ فَأَنْتُنَّ * اللَّوَاتِي تُحْسِنَّ حِفْظَ الْوِدَادِ*

إِيهِ: اسْمُ فعل أمر، معناه طلب الزيادة.

الْهَدِيل: صوتُ الحمام - أو ذكر الحمام الوحشي.

فالمعري يطالِبُ بناتِ الهديل، وهي أنغام صوت الحمام، بأن تُسْعِدَه بما لديها من ترجيعٍ وترديدِ ألحان، وبأن تزيده من غنائها.

(4) من صيغة "المصدر النائب عن فعل الأمر".

* {فَسُحْقاً لأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11)} (الملك/ 67 مصحف/ 77 نزول).

فَسُحْقاً: أي فَبُعْداً شديداً، وهو مصْدَر "سَحُقَ" بمعنى: بَعُدَ أَشَدَّ الْبُعْد، وقد ناب عنْ فعل الأمر، والمعنى: "اسْحُقُوا" أي: ابْتَعِدوا ابتعاداً شديداً".

* قول قَطَرِيّ بن الْفُجَاءَة:

* فَصَبْراً فِي مَجَالِ الْمَوْتِ صَبْراً * فَمَا نَيْلُ الْخُلُودِ بَمُسْتَطَاعِ*

فَصَبْراً: أي: فاصْبِرْ.

أَمْثِلةٌ مِنَ النهي:

* {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً...} [الآية 118] (آل عمران/ 3 مصحف/ 89 نزول).

بِطَانَةً: أي: أصْحاباً يُخالطونكم ويطلعون على أسراركم وبواطن أموركم.

لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً: أي: لا يُقَصِّرُونَ في إفساد شؤونكم وخططكم وأفكاركم وأعمالكم.

* {وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَآءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً...} [الآية 5] (النساء/ 4 مصحف/ 92 نزول).

* وقول المعرّي:

*وَلاَ تَجْلِسْ إِلَى أَهْلِ الدَّنَايَا * فَإِنَّ خَلاَئِقَ السُّفَهَاءِ تُعْدِي*

* وقول المتنبي في مدح سيفِ الدولة:

*فَلاَ تُبْلِغَاهُ مَا أَقُولُ فَإِنَّهُ * شُجَاعٌ مَتَى يُذْكَرْ لَهُ الطَّعْنُ يَشْتَقِ*

* وقول أبي الأسود الدُّؤَلِي:

*لاَ تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ * عَارٌ عَلَيْكَ إِذَا فَعَلْتَ عَظِيمُ*

دلالات صِيَغِ الأمْرِ والنهي:

(1) يُسْتَفادُ مِنْ صِيَغِ الأَمر التكليفُ الإِلْزامِيُّ بالفعل.

(2) ويستفادُ منْ صيغة النهي التكليف الإِلزاميُّ بالترك وعدم الفعل.

وكلُّ من صِيَغِ الأمْرِ وصيغةِ النهي قد تخرج عن دلالَتَيْهِما بقرائنِ حاليّة أو قوليّة إلى معانٍ كثيرة، منها ما يلي:

"الدعاء - الالتماس - الإِرشاد - التمنّي - الترجّي - التيئيس - التخيير - التسوية - التعجيز - التهكّم والإِهانة - الإِباحة - التوبيخ والتأنيب والتقريع - الندب - التهديد - الامتنان - الاحتقار والتقليل من أمر الشيء - الإِنذار - الإِكرام - التكوين - التكذيب - المشورة - الاعتبار - التعجّب أو التعجيب" إلى غير ذلك من معان.

أمثلة:

(1) من الدعاء ويكون عادةً من العبد لربّه:

* {...فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155) وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَاذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ...} (الأعراف/ 7 مصحف / 39 نزول).

* {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)} (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول).

(2) ومن الالتماس، ويكونُ عادةً من الإِنسان لمن هو أعلى منه، أو لمساويه:

* قول هارون لموسى عليهما السلام: {ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَآءَ وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150)} (الأعراف/ 7 مصحف/ 39 نزول).

* وكقول الصِّدِيقِ لصَدِيقه: أعِرْنِي كتابَكَ وَلاَ تُحْرِجْنِي أَنْ أُعِيدَهُ قَبْلَ أُسْبُوعٍ.

* وقول الشاعر:

*لاَ تَطْوِيَا السِّرَّ عَنِّي يَوْمَ نَائِبَةٍ * فَإنَّ ذَلِكَ ذَنْبٌ غَيْرُ مُغْتَفَرِ*

(3) ومن الإِرشاد، ويكونُ عادةً في مجال النُّصْحِ وإِبْدَاءِ المشورة:

* {وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُمْ...} [الآية 282] (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول).

* وقَوْلُ المستَشار في نَصيحَتِه: تَزَوّجْ بِكْراً وَلاَ تَتَزَوَّجْ مَنْ تَعَدَّدَ عَلَيْهَا الأزواج.

* وقول المعرّي:

*لاَ تَحْلِفَنَّ عَلَى صِدْقٍ وَلاَ كَذِبٍ * فَلا يُفِيدُك إِلاَّ الْمَأْثَمَ الْحَلِفُ*

(4) ومن التَّمنِي، ويكون عادة في الميئوس من الحصول عليه، أو فيما هو بعيد المنال:

* تمنِّي أهل النّار أنْ يُقْضَى عَلَيْهِمْ بالْمَوِتِ وَهُمْ يائسونَ مِنْ ذلك:

{وَنَادَوْاْ يامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَّاكِثُونَ (77)} (الزخرف/ 43 مصحف/ 63 نزول).

* وطَلَبُهُم من أصحاب الجنة أن يفيضوا عليهم من الماء او مما رزقهم الله.

{وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَآءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ...} [الآية 50] (الأعراف/ 7 مصحف/ 39 نزول).

* وقولي واضعاً مثلاً:

*أَمْطِرِي يَا سَمَاءُ كُلَّ صَبَاحٍ * فَوْقَ بَيْتِي مِنَ الدنانِيرِ ألْفاً*

*لاَ تَكُفِّني مِنْ فَيْضِ جُودِكِ عَنِّي * عَادَتِي لاَ أَسُوءُ بِالْقَبْضِ كَفّاً*

(5) ومن الترجّي، ويكونُ في المطموع فيه، والمترقّب الحصول عليه:

* قول امرىء القيس:

*أَلاَ أَيُّهَا اللَّيْلُ الطَّوِيلُ أَلاَ انْجَلِي * بصُبْحٍ وما الإِصْبَاحُ مِنْكَ بَأَمْثَلِ*

فالصبْحُ مَرْجُوٌّ قُدُومُه بعد اللَّيل الطويل.

(6) ومن التيئيس:

* قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (التوبة/ 9 مصحف/ 113 نزول) بشأن المنافقين:

{لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ...} [الآية 66].

(7) وَمِنَ التَّخيير:

* قولُنَا للطالب في الامتحان: أجبْ على أَحَدِ السؤالَيْن التاليين:

* وقول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الملك/ 67 مصحف/ 77 نزول):

{وَأَسِرُّواْ قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُواْ بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13)}.

* وقول المتنبي:

*عِشْ عَزِيزاً أَوْ مُتْ وَأَنْتَ كَرِيمٌ * بَيْنَ طَعْنِ الْقَنَا وَخَفْقِ الْبُنُودِ*

القنا: الرماح. البنود: الأعلام.

(8) ومن التسوية:

* قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الطور/ 52 مصحف/ 67 نزول) حكاية لما يُقال لأهل النار يوم الدين:

{هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هَاذَا أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُواْ أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (16)}.

* وقول الشاعر:

*أَسِيئِي بنَا أَوْ أحْسِنِي لاَ مَلُومَةٌ * لَدَيْنَا وَلاَ مَقْلِيَّةٌ إِنْ تَقَلَّتِ*

تَقَلَّتْ: تَبَغَّضَتْ - أو تَمَلْمَلَتْ.

(9) ومن التّعجيز:

* قولُ الله عزَّ وجلَّ في صورة (الرحمن/ 55 مصحف/ 97 نزول):

{يامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُواْ لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ (33)}.

* وقول الله عزَّ وجلَّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول): {وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23)}.

* وقول اللهِ عزَّ وجلَّ في سورة (النمل/ 27 مصحف/ 48 نزول):

{أَاله مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (64)}.

(10) ومِنَ التهكّم والإِهانة:

* ما يقال للمعذَّب في النار يوم الدّين، كما جاء في سورة (الدخان/ 44 مصحف/ 64 نزول):

{خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَآءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّواْ فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49)}.

ففي الأمر بفعل [ذُقْ] تهكُّم به.

* وما يُقال جواباً لِمَنْ قَضِي عليهم بالخلود في النار حين يقولون:

رَبَّنَا أَخْرجْنَا مِنْها فإنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظالِمُونَ، كما جاء في سورة (المؤمنون/ 23 مصحف/ 74 نزول):

{قَالَ اخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ (108)}.

(11) ومن الإِباحة:

* قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول):

{يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً...} [الآية 168].

* وقول الله عزَّ وجلَّ في سورة (المائدة/ 5 مصحف/ 112 نزول):

{...وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ...} [الآية 2].

(12) ومن التوبيخ والتأنيب والتقريع:

* قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) خطاباً لأهل الكتاب:

{وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42)}.

(13) ومن الندب ويقابله في النهي الكراهَة:

* قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الأعراف/ 7 مصحف/ 39 نزول):

{وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204)}.

دل على أنّ الأمر للنّدب قوله: {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} ففي هذا ترغيب لا ترهيب.

* وقول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الإِسراء/ 17 مصحف/ 50 نزول):

{وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً (37)}.

(14) وَمِنَ التهديد:

* قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (فُصّلت/ 41 مصحف/ 61 نزول):

{إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنَآ أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40)}.

أي: فَسَتَلْقَونَ عِقابَ أعمالكم في النار.

(15) ومن الامتنان:

* قول الله عزَّ وجلَّ في سورة الأنعام/ 6 مصحف/ 55 نزول):

{*وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141)}.

 

ففي الأمر بعبارة (كلوا) امتنان من الله على عباده.

(16) ومن الاحتقار والتقليل من أمر الشيء:

* قول مُوسَى عليه السلام للسَّحَرةِ: {أَلْقُواْ مَآ أَنتُمْ مُّلْقُونَ} كما جاءَ في سورة (يونس/ 10 مصحف/ 51 نزول):

{فَلَمَّا جَآءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُّوسَى أَلْقُواْ مَآ أَنتُمْ مُّلْقُونَ (80)}.

لقد احتقر موسى عليه السلام وسائلهم واستهان بسحرهم، فقال لهم: ألْقُوا. أي: قبلي:

(17) ومن الإِنذار:

* قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الزمر/ 39 مصحف/ 59 نزول):

{...قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8)}.

* وقول الله عزَّ وجلَّ في سورة (المرسلات/ 77 مصحف/ 33 نزول):

{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (45) كُلُواْ وَتَمَتَّعُواْ قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُّجْرِمُونَ (46)}.

(18) ومن الإِكرام والتكريم:

* قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الحجر/ 15 مصحف/ 54 نزول):

{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ (46)}.

(19) ومن التكوين:

* قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (يس/ 36 مصحف/ 41 نزول):

{إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ (82)}.

(كُنْ): من الله أمْرُ تكوين.

(20) ومن التكذيب:

* قولُ الله عزَّ وجلَّ في سورة (الأنعام/ 6 مصحف/ 55 نزول):

{قُلْ هَلُمَّ شُهَدَآءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَاذَا...} [الآية 150].

* قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (آل عمران/ 3 مصحف/ 89 نزول):

{*كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (93)}.

(21) ومن المشورة:

* قول سيدنا إبراهيم لولده إسماعيل عليهما السلام كمَا حكَى اللهُ في سورة الصافات/ 37 مصحف/ 56 نزول):

{فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102)}.

فقول إبراهيم لإسماعيل عليهما السلام: {فَانظُرْ مَاذَا تَرَى} قول طالب مشورة في أمْرِ الرؤيا.

(22) ومن الاعتبار:

* قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الأنعام/ 6 مصحف/ 55 نزول):

{...انْظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ ذالِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)}.

(23) ومن التعجب والتعجيب:

* قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الفرقان/ 25 مصحف/ 42 نزول) خطاباً لرسوله:

{انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (9)}.

* وقول الله عزَّ وجلَّ في سورة (مريم/ 19 مصحف/ 44 نزول):

{...فَوْيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَاكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (38)}.

ذَكَرهُ السَّكَاكِيُّ في استعمال الإِنشاءِ بمعنى الخبر، والمعنَى: ما أشدّ سمعهم وبصرهم يومئذٍ.

إلى غير ذلك من معانٍ أخرى، وعلى متدبرّ النصوص القرآنيّة، ودارِسِ النصوص الأخرى أن يكون باحثاً درّاكاً للمراد من صِيَغِ الأَمْرِ والنهي، مستفيداً مِنْ قرائِن الأحوال وسِبَاقِ الكلامِ وسيَاقِه.

***

(2) النوع الثاني: التَّحْذِير والإِغراء

التحذير والإِغراء هما في المعنى من فروع الأمر والنهي، وينطبق عليهما ما ينطبق عليهما.

* فعبارات التحذير هي في معنى: احذر - أو تجنّبْ - أو تَوَقَّ - أو تَبَاعَدْ - أو لا تَقْرَبْ - أو لاَ تَدْنُ".

أو نحو ذلك ممّا يُلائم حال الْمُحَذَّرِ منه.

 

* وعبارات الإِغراء هي في معنى: (افْعَلْ - أَو الْزَم - أو اطْلُبْ - أو أَقْبِلَ - أو تَقَدَّم - أَوْ خُذْ -" أو نحو ذلك مما يُلائم حال الْمُغْرَى به.

أمثلة:

(1) من التحذير:

قول الشاعر:

*وَإِيّاكَ والْمَيْتَاتِ لاَ تَقْرَبَنَّهَا * وَلاَ تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ وَاللهَ فَاعْبُدا*

وقولي صانعاً مثلاً:

*إِيَّاكَ والصَّبْوَةَ إِنْ أقْبَلَتْ * مُنْذِرةُ الشَّيْبِ تَهَادَى إِلَيْك*

*زَلَّتُكَ الْيَوْمُ وَأنْتَ الَّذِي * قَدْ شِبْتَ تُرْدِيكَ وَتَقْضِي عَلَيْكَ*

* وقول الشاعر:

*فَلاَ تَصْحَبْ أَخَا الْجَهْلِ * واِيَّاكَ وَإيَّاهُ*

(2) ومن الإِغراء:

* قول الشاعر:

*أَخَاك أَخَاكَ إِنَّ مَنْ لاَ أخَا لَهُ * كَسَاعٍ إِلَى الْهَيْجَا بِغَيْرِ سِلاَحِ*

* وقول الداعي إلى الصلاة: الصَّلاَةَ جَامعة.

***

(3) النوع الثالث: النداء

تعريف النداء: هو طلَبُ الإِجابة لأمْرٍ ما بحرف من حروف النداء يَنُوبُ مَنابَ "أدعو".

وأدوات النداء ثمان: "أَ - أَيْ - يَا - آ - آي - أَيَا - هَيَا - وَا".

* أمَّا "أَ - أَيْ" فلنِدَاء القريب.

* وأمّا "أَيَا - هَيَا - آ" فلنداء البعيد.

* وأمّا "يا" فالراجع أنّها موضوعةٌ لنداء البعيد حقِيقةً أو حكماً، وقيل مشتركة.

* وتُسْتَعَمل "وَا" للنّدْبة، وهيَ الَّتي يُنَادَى بها المندوبُ الْمُتَفجَّعُ عليه، وتُسْتَعْمَلُ في النُّدْبة أيضاً "يَا" عند أَمْنِ الالتباسِ بالنداء الحقيقي.

تصرُّف البليغ في استعمال أدوات النداء:

(1) قد يستعملُ البليغ أدوات النداء الّتي للقريب فينادي بها البعيد، لمعنًى يُريدُ الإِشارة إليه، كأن يُريدَ الإِشارَة إِلَى أنَّ هذا البعيد في جَسَده هو قريب إلى قبله ونفسه حاضر في تصوّره المستمر، وكأن يريد الإِشارة إلى أنّه لشدّة سمعه وانتباهه وسرعة استجابته، كأنّه قريب، فهو لا يحتاج أن ينادى بأدوات نداءِ البعيد.

 (2) وقد يَسْتَعْمِلُ البليغ أدوات النداء الَّتي للبعيد فينادي بها القريب، لمعنى يُريدُ الإِشارة إليه، كأنْ يُريدَ أنّه رفيع المنزلة عالي المقام، فهو لارتفاع منزلته وبعد مقامه بمثابة البعيد إلى الأعلى في جسده، فاللاّئق به أنْ يُنَادَى بأدوات النداء التي للبعيد. وكأَنْ يريد أنَّه مُنْحَطُّ المنزلة جداً، فهو لانحطاط منزلته بمثابة البعيد إلى الأسفل في جسده، فاللاّئق به أن يُنَادى بأدَواتِ النّداءِ الّتي للبعيد. وكأن يُرِيدَ التعبيرَ عن حَالةِ تَلَهُّفِهِ وشدّةِ طلَبِه، فهو بمثابة المستغيث الذي يمدُّ صوته في النداء، فيستعمل أدوات النداء التي للبعيد لما فيها من مدِّ الصّوْت وَطُول النفس معه. فيستعمل أدوات النداء التي للبعيد لما فيها من مدِّ الصّوْت وَطُول النفس معه. وكأن يريد أنّ المنادَى غافل شارد الذهن أو غير مستعدٍّ للاستجابة فهو بمثابة البعيد.

(3) وقد يخرج النداء عن المعنى الأصليّ الموضوع له، فيُسْتَعْمَلُ لدى البلغاء وغيرهم في أغراضٍ أخْرى غير النداء، وهذه الأغراضُ تُفْهَمُ من قرائن الحال أو قرائن المقال، فكلُّ حَرَكَةٍ نفسيَّةٍ ذات مشاعِرَ تَدْفَعُ الإِنسان إلى التعبير عنها بنداء ما بطريقةٍ تلقائية، ولو لم يشعر بأنّ هذا النداء يحقق له مرجوّاً أو مؤمولاً أو يدفع عنه مكروها.

كأن يستعمل النداء في الزّجْر واللّوم، أو التحسّر والتأسّف والتَفجع والندم أو النُّدْبة، أو الإِغراء، أو الاستغاثة، أو اليأس وانقطاع الرجاء، أو التمني، أو التذكر وبث الأحزان، أو التضجر، أو الاختصاص، أو التعجب، إلى غير ذلك.

(4) وكثيراً ما تُحذَفُ أداة النداء ولا سيما في نداء الرّبّ ودُعائه، فتكون مقدَّرة ذِهناً، مثل: "رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمناً - رَبّ اغْفِر لي وَلأِخي - رَبّ زِدْنِي عِلماً - رَبِّ انْصُرنِي بمَا كذَّبُونِ".

والأداةُ التي تُقدَّرُ عند الحذف هي: "يا" فيما ذكر النحاة.

أقول: إنّ حذف أداة النداء لَهُ دلالةٌ في نفس البليغ، وهي أنّ المنَادى هو في أقرب منازل القرب من المنادِي، حتّى لَمْ يحتج إلى ذكر أداة نداءٍ لَهُ لشدّةِ قُربِهِ، وهذا يليق بمقام دُعاءِ الرّبّ جلّ وعلا، فإذا قال الداعي "يَارب" فهو يعبرّ بذكر أداة النداء عن شِدَّةِ حاجة نفسه لما يدعو به، أو يعبّر عن ألمه أو استغاثته أو ضيقِ صدره، أو نحو ذلك من المعاني.

لذلك وجدتُ في القرآن أنّ كلّ نداءٍ فيه دعاءٌ للربّ قد حُذِفَتْ منه أداة النداء، باستثناء نِدَاءَيْنِ نَادَاهُما الرسُول محمّد صلى الله عليه وسلم، فقد ذكر فيهما أداةَ النداء "يا" تعبيراً عن حالة نفسه الحزينة من أجل قومه الذين اتّخَذوا القرْآن مهجوراً بعد أن بلّغهم ما أُنْزِل عليه منه، وأسْمَعَهُمْ آياتِهِ، وأعادَهَا عليهم مَرَاتٍ ليفهموا دلالاتها فأصرُّوا على كُفْرهم وعنَادهم حتَّى رأى أنَّهُمْ لا يُؤْمِنُون مَهْمَا ذكَّرَهُمْ وأقنعهم وحذَّرَهُمْ وأَنْذَرَهُمْ.

فالأول: ما جاء في سورة (الفرقان/ 25 مصحف/ 42 نزول) بقول الله عزَّ وجلَّ فيها:

{وَقَالَ الرَّسُولُ يارَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُواْ هَاذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (30)}.

فذكَر الرسول حرف النداء "يا" مع أنه يُنَادِي ربَّهُ الذي هو أقرب إليه من حبل الوريد، ليعبّر بمدّ صوته بأداة النداء عن حزنه منْ أجل قومه، وتلَهُّفِهِ لاستجابتهم، وحِرْصِه على نجاتِهِمْ من عذاب ربّهم في جهنم دار عذاب الكافرين يوم الدين.

والثاني: ما جاء في سورة (الزخرف/ 43 مصحف/ 63 نزول):

{وَقِيلِهِ يارَبِّ إِنَّ هؤلاء قَوْمٌ لاَّ يُؤْمِنُونَ (88)}.

أي: تَصَلَّبُوا على العناد و الكفر، فَهُمْ لاَ يتحرَّكونَ حركة جديدةً يُشْعِرُون فيها باقترابهم من الإِيمان، فعبّر بأداة النداء عن تلهُّفِهِ لإِيمانهِم ونجاتهم، وتوجُّعِ قلبه من أجلهم.

فائدة: قال الزمخشري: "كثُر في القرآن النداء بـ[يا أيُّها] دون غيرها لأنّ فيها أوجهاً من التأكيد، وأسباباً من المبالغة، منها:

(1) ما في "يا" من التأكيد والتنبيه.

(2) ما في "ها" من التنبيه.

(3) وما في التدرّج من الإِبهام في "أي" إلى التوضيح.

والمقام يناسب المبالغة والتأكيد، لأنّ كلّ ما نادى الله له عباده من أوامره، ونواهيه، وعطائه، وزواجره، ووعده، ووعيده، ومن اقتصاص أخبار الأمم الماضية، وغير ذلك ممّا أنطق الله به كتابه، أمورٌ عظام، وخطوبٌ جسام، ومعانٍ واجبٌ عليهم أن يتيقظُوا لها، ويميلوا بقلوبهم وبصائرهم إليها، وهُمْ غافلون، فاقتضى الحال أن يُنَادَوْا بالآكد الأبلغ".

***

أمثلة من استعمال أدوات النداء على وفق أو على خلاف مقتضى الأصل من القرب والبعد

* نادى نوح عليه السلام ولده الذي كان في معزل عنه مستخدِماً أداة النداء الّتي للبعيد، دلَّ على ذلك قول الله عزّ وجلّ في سورة (هود/11 مصحف/ 52 نزول):

{وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يابُنَيَّ ارْكَبَ مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ (42)}.

فاستعمل أداة النداء الّتي تُسْتَعْمَلُ للبعيد وفْقَ مقتضى الأَصْلِ، إذْ كان بعيداً في معزلٍ عن أبيه.

* ونُلاَحِظُ أنَّ هارُونَ عليه السلام كانَ لَهُ مَوْقِفَانِ مَعَ أخِيهِ موسَى عليه السلام، تُجَاهَ مَا كَانَ مِنْ مُوسَى إذْ أَخَذَ برأسِهِ يَجُرُّهُ إلَيْهِ:

أمَّا في المرّةِ الأَولَى فَحَذَفَ مِنْ عبارَتِهِ أَداةَ النداء لإِشعارِه بأنَّه أكْثَرُ مِنْ قَريبٍ بالنسبة إليه، دلَّ عَلى هذه المرّة ما جاء في سُورَةِ (الأَعراف/ 7 مصحف/ 39 نزول)

{قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَآءَ وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150)}.

 

فحذفَ أدامة النداء مُسْتَعطِفاً، لأنّه كان قريباً منه جَسَدِيّاً، وأشْعَرَهُ بزيادة القرب منه نفسيّاً، إذْ هو أبْنُ أُمِّهِ.

وأمَّا في المرّة ا لأُخْرَى حِينَ أَخَذَ مُوسَى عليه السلام برأسِ هارون ولحيته محاسباً، فقد ناداه بحرف النداء "يا" قائلاً لَهُ كما جاء في سورة (طَه/ 20 مصحف/ 45 نزول):

{قَالَ يَبْنَؤُمَّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94)}.

أي: ولم تَرْقُبْ قَوْلي السّابقَ لَكَ: إنَّ الْقَومَ اسْتَضعَفُوني وكادُوا يَقْتُلُونَنِي "هذا فيما أرى والله أعلم".

فأنزل هارون أخاه موسى في هذا النداء الثاني منزلة البعيد، لأنّه لم يَرْقُبْ قولَهُ السّابِق لَهُ، أي: لم يضعه موضع المراقبة ليعمل بمقتضاه.

* ونلاحظ في خطاب الله لعباده في القرآن أنّه يُنزِّلُهُم مَنْزِلَة البعيدين عنه، فيناديهم بحرف النداء "يا" مع أنّه أقربُ إليهم من حبْلِ الوريد، مراعاةً لمقام الربوبيَّةِ الرفيع، في الأمر والنهي والتوجيه، إذْ هو سبحانه العليُّ الأعْلَى.

فجاء في النصوص القرآنية: يا عبادي - يا معشر الجنّ والإِنس - يا يَحْيَى - يا عِيسَى - يا داود - يا زكريا - يا أيُّها الناس - يا أيُّها النبيّ - يا أيُّها المزّمل - يا أيُّها المدَّثِّر".

* وأنزل أبو العتاهية مخاطَبَهُ الذي يعظه منزلة البعيد، فناداه بأداة النداء التي للبعيد "أيَا" ليشير إلى أنه غافِلٌ لاهٍ في دُنياه، فهو بمثابة البعيد الذي يحتاج إلى أداة النداء التي يُنَادى بها البعيد، فقال:

*أَيَا مَنْ عَاشَ فِي الدُّنيا طَوِيلاً * وَأَفْنَى الْعُمْرَ فِي قِيلٍ وَقَالِ*

*وَأَتْعَبَ نَفْسَهُ فِيمَا سَيَفْنَى * وَجَمَّعَ مِنْ حَرَامٍ أَوْ حَلاَلِ*

*هَبِ الدُّنْيَا تُقَادُ إِلَيْكَ عَفْواً * أَلَيْسَ مَصِيرُ ذَلِكَ للزَّوَالِ"

* وخَاطَبَ سَوَارُ بْنُ المضَرَّب قلْبَهُ الذي هو منه، فناداه كما يُنادي البعيد، ليشير بذلك إلى غفلَتِه فكأنَّه بعيد، فقال:

*يَا أَيُّهَا الْقَلْبُ هَلْ تَنْهَاكَ مَوْعِظَةٌ؟ * أَوْ يُحْدِثَنْ لَكَ طُولُ الدَّهْرِ نسياناً*

* وكتب والِدٌ لوَلَدِه البعيد عنه في سفر رسالةً قال له فيها ناصحاً:

*أَحُسَيْنُ إِنّي واعظٌ وَمُؤَدِّبٌ * فافْهَم فَإِنَّ الْعَاقِلَ الْمُتَأَدِّبُ*

فاستعملَ أداة النداء " أ " الّتي هي للقريب على خلاف الأصل، ليشير بذلك إلى أنّه حاضر في ذهْنِهِ لا يغيب عن باله.

* ونزَّل المتنبّي سيفَ الدولة منزلة البعيد مُشِيراً إلى ارتفاع منزلَته مع الإِشارة إلى أنّه ابتعد عن معاملته بالعدل فناداه بحرف النداء "يا" في مخاطبته، فقال له مُعَاتِباً:

*يَا أَعْدَلَ الناسِ إلاَّ في مُعَامَلَتي * فيكَ الخِصَامُ وَأَنْتَ الْخَصْمُ والْحَكَمُ*

*أُعِيذُها نَظَراتٍ مِنْكَ صَادِقَةً * أَنْ تَحْسَبَ الشَّحْمَ فِيمَنْ شَحْمُهُ وَرَمُ*

***

أمثلة من خروج النداء عن معناه الأصلي إلى معاني أخرى

الّذي أراه أنّ النداء بمعنى رفع الصوت بحرف " أ " أو "يا" أو "وا" أو نحوها، عند تحرّك النفس بأيّ شعورٍ داخليٍّ هو من مظاهر الفطرة التلقائيّة الموجودة لدى الأطفال عند مطالبهم وأوجاعهم وأحزانهم وفرحهم وسرورهم وتعجُّبهم وغير ذلك من مشاعر على اختلاف هذه المشاعر على اختلاف هذه المشاعر التي تتحرّك في نفوسهم، وعلى تناقضها، فهم بالدافع الفطريّ يريدون التعبير عنها بأصواتهم، وقد يُسْتَدَلُّ على اختلاف المعاني باختلاف نغمات الأصوات، وما يقترن بها من بكاء أو ضحك أو مظاهر دهشة، أو تلَهُّفٍ لمطلوبٍ يريدونه، أو انزعاجٍ من أمرٍ يكرهونه، أو حركةٍ تدلُّ على أَلَمٍ يعانون منه.

وبقي لهذا المظهر من مظاهر التعبيرات الفطريّة التلقائيّة أثَرٌ في اللّغة، وبدأ المفكّر المعبّر بالكلمة يتصرّف باستخدام أدوات النداء في غير طلب الإِجابة لأمْرٍ ما، كحالِ الطفْلِ، إلاَّ أَنَّهُ خَصَّصَ بعض الأدوات لبعض المعاني، وجعلَ القرائن القولية والحالية تدلُّ على مشاعره النفسيَّةِ التي يريد التعبير عنها.

ونظر علماء اللّغة العربيّة، ثُمَّ علماءُ البلاغةِ إلى خروج أدوات النداء عن غرض طلب الإِجابة لأمْرٍ ما، إلى معانٍ أخرى، فرأوا أنّه من الأساليب البلاغيّة التي يَحْسُن التَّنْبِيه عليها في علم المعاني، وعرضُ طائفة من أمثلتها.

وهي فيما أرى بمثابة الزُّجاج الشفاف الذي يتلَوّن بلون الأشعةِ المسلَّطة عليه أو المقارنة له، لا أنّ أدوات النداء تستعمل للدّلالة على هذه المعاني التي نفهمها من القرائن، ولسْتُ أقول: إنّها مُطْلَقُ أصواتٍ لا معنى لها، بل هي أصواتٌ تَظْهَرُ لَها مَعَانٍ بدلالاتِ القرائن القوليّة والحاليّة.

وتمشّياً مع مُدَوّناتِ البلاغيين أعرض طائفة من الأمثلة الّتي جاءت فيها أدوات النداء مستعملةً في غير طَلَبِ الإِجابَةِ لأمْرٍ ما، الذي هو معناها الأصلي.

(1) ففي التحسُّر يُسْتَعْمَل النداء بمدّ الصوت تعبيراً عن تأوُّهٍ داخِليّ في النفس، فيقول المتحسّر مثلاً: "يَا حَسْرَتي - يَا حَسْرتا - يا حَسْرَتاه" ويرافق التحسُّرَ الندمُّ والتمني غالباً إذا كان المتحسِّر يتحسَّر من أجل نفسه.

وجاء هذا الاستعمال في القرآن تعبيراً عن حالة المتحسّرين، جرْياً على طريقة أهل اللّسان العربي في ذلك.

* في سورة (يس/ 36 مصحف/ 41 نزول) عبّر الله عزّ وجلّ عمّا يَشْعُر به الذين يتحسّرون من أجل أهل الكفر الذين يعرّضون أنفسهم بكفرهم لعذاب الله الشديد، فقال تعالى:

{ياحَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (30) أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ (31)}؟!.

* وفي سورة (الزمر/ 39 مصحف/ 59 نزول) وصف الله عزّ الله وجلّ حالة نفس الْمُسْرِفِ بالمعاصي، إذ تُنَادِي بالْحَسْرَةِ على ما فَرَّطَتْ في جنْب الله، حين يَنْزِل بها العذاب الرّبّاني، فقال تعالى خطاباً للّذين أسْرَفُوا على أنْفُسِهم:

{وَاتَّبِعُواْ أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ (55) أَن تَقُولَ نَفْسٌ ياحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56)}.

* وفي سورة (الفرقان/ 25 مصحف/ 42 نزول) وصف اللهُ عزّ وجلّ حالة الكافرِ يَوْمَ الدّين إذْ يُنادِي بالْحَسْرَةِ مُتَمَنّياً نادماً، فقال تعالى:

{وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (27) يَاوَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً (28)}.

* وفي سورة (الأنعام/ 6 مصحف/ 55 نزول) وصف الله عزَّ وجلّ حالةَ المكذّبين بلقاء الله حينما تأتيهم الساعة بغتة، إذْ يُنادُونَ بالحسْرَة على أنفسهم، بسبب تفريطهم بما يجب عليهم تجاه لقاء الله وحسابِه يوم الدين، فقال تعالى:

{قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَآءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَآءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُواْ ياحَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ (31)}.

(2) وفي التَّمَنِّي يُسْتَعْمَلُ النّداءُ بمدّ الصّوتِ تَعْبيراً عنْ مشاعِرِ النفس المتمنّية أمْراً عَسِيرَ المنال أو مُتَعَذِّرَهُ.

أمثلة:

 

* نظر الذين يريدون الحياة الدنيا من بني إسرائيل في عَهْدِ موسَى عليه السلام، إلى ما آتى اللهُ قارُونَ من مالٍ وزينَةٍ في الحياة الدنيا، فَتَمنَّوْا أَنْ يكونَ لَهُمْ مثْلُ مالَهُ من ذلك، فقالوا كما ذكر الله عزّ وجلّ في سورة (القصص/ 28 مصحف/ 49 نزل):

{يالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَآ أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79)}.

فنَادَوا مُتَمَنِّين قائلين: يَا لَيْتَ لنا، كأنّهم يُنادُونَ بِالأُمنية.

* وتمنَّى الرَّجُلُ المؤْمِنُ الّذي اسْتُشْهِد في سبيل الله من أصحاب القرية التي جاءها المرسَلُونَ الثلاثة، وهو يتقلّبُ في نعيم من نعيم الجنّةِ المرتّب للشهداء في سبيل الله، أَنْ يَعْلَمَ قومُه بما غفر له رَبُّهُ وبما جعله من المكرمين، فنادَى مُتَمنّياً، كما جاء في سورة (يس/ 36 مصحف/ 41 نزول):

{يالَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27)}.

* وبَثَّ عَنْتَرَةُ بن شدّاد العبسيّ أحزازنه مع الذكريات فنادَى دار محبوبته "عَبْلَة" فقال:

*يَا دَارَ عَبْلَة فِي الْجَواءِ تَكَلَّمِي * وَعِمِي صَباحاً دَارَ عَبْلَةَ واسْلَمِي*

* وبثَّ أحدهم أحزانه على راحلٍ أخلى الدّيار فناداه قائلاً:

*يَا رَاحِلاً أَخْلَى الدِّيَا * رَ - وفَضْلُهُ - لَمْ يَرْحَلِ*

(3) وفي التّعجب وفي التأسّف يُسْتَعْمَلُ النداءُ يرفْع الصوتِ تعبيراً عمَّا في النفس من حالةِ التَّعَجّب المثيرة أو حالة التأسف.

* ففي التعجّب من البشارة بالحمل لعقيم في سِنِّ اليأس قالَتْ "سارة" زوجة سيّدنا إبراهيم عليه السَّلام حين بشرتها الملائكة بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب، كما جاء في سورة (هود/ 11 مصحف/ 52 نزول):

{قَالَتْ يَاوَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَاذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَاذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72)}.

* وفي التّعجُّب والتأسّف من أحوال بعض الناس قال أبو العلاء المعرّي:

*فَوَا عَجَباً كَمْ يَدَّعِي الْفَضْلَ نَاقِصٌ * وَوَا أَسَفاً كَمْ يُظْهِرُ النَّقْصَ فَاضِلُ*

وفي التَّعجُّب منْ طُولِ بقاء أبي الْهَوْلِ أحَدِ الآثار الفرعونية عصوراً كثيرة، ناداه الشاعرُ مع حذف أداة النداء بقوله:

*أَبَا الْهَوْلِ طَالَ عَلَيْكَ الْعُصُر * وبُلِّغْتَ في الأَرْضِ أقْصَى الْعُمُر*

(4) وفي الرّثاء وَبثِّ الحزن يُسْتَعْمَلُ النداءُ برَفْع الصوت تَعْبِيراً عمّا في النَّفْسِ من مشاعِرَ تَنْدَفعُ إلى بَثٍّ صَوْتيٍّ.

* ففي رثاء مَعْنِ بن زائدة أحَدِ أجواد العرب الشجعان الفصحاء، قال الشاعر مُنَادِياً قَبْرَهُ، تعبيراً عن مشاعر الحزن عليه:

*فَيَا قَبْرَ مَعْنٍ كَيْفَ وَارَيْتَ جُودَهُ * وَقَدْ كَانَ مِنْهُ الْبَرُّ والْبَحْرُ مُتْرَعاً*

وارَيْتَ: ستَرتَ واخفيْتَ.

مُتْرَعاً: مْمْتَلِئاً، يُقالُ لغةً: أتْرَعَ الإِناءَ إِذا ملأَه.

وَرَثَى "حافظ إبراهيم" ابنة عزِيزٍ عليه، فوصَفَها بأنَّها دُرّة، وَنَادها، تعبيراً عن حُزْنِه من أجل أبيها، فقال:

*يَا دُرَّةً نُزِعَتْ مِنْ تَاجِ وَالِدِهَا * فَأَصْبَحَتْ حِلْيَةً فِي تَاجِ رِضْوَانِ*

رضوان: خازن الجنة.

* ورَثَى أحدُهُم أخاه، فَنَادهُ تعبيراً عن حزنه عليه، قائلاً:

*يَا ابْنَ أُمِيّ وَيَا حُبَيِّبَ نَفْسِي * أَنْتَ خَلَّفْتَنِي لِدَهْرٍ شَدِيدٍ*

* وبَثَّ الشاعر أحزانه مع الذكريات فَنادَى منَازِلَ سَلْمَاهُ تعبيراً عن مشاعره تجاه محبوبته، فقال:

*أَيَا مَنَازِلَ سَلْمَى أَيْنَ سَلْمَاكِ * مِنْ أَجْلِ هَذَا بَكَيْنَاهَا بَكَيْنَاكِ*

(5) وفي التضجّر يُسْتَعْمَل النداء تعبيراً عن مشاغر النفس التي تُعَاني من الضجر.

* فقال امرؤ القيس متضجّراً من طول ليله:

*أَلاَ أَيُّها اللَّيْلُ الطَّوِيلُ أَلاَ انْجَلِي * بِصُبْحٍ وَمَا الإِصْبَاحُ مِنْكَ بِأَمْثَلِ*

أي: وليس الإِصباح بأفضل حالاً منك ما دام لا يأتي بالمحبوب، وأداة النداء محذوفة مقدرة، أي: ألاَ يَا أَيُّها اللّيل.

(6) وفي الزجر والتلويم يُسْتَعمل النداء للإِشعار بأن المخاطَبَ يُناسِبُهُ النداء، ولا يكفيه مجرّد الخطاب.

* فقال الشاعر ينادي فؤاد نفسه:

*أَفُؤَادِي مَتَى الْمَتَابُ أَلَمَّا * تَصْحُ وَالشَّيْبُ فَوْقَ رَأْسِي ألَمَّا*

(7) وفي اليأس وانقطاع الرَّجاء يُسْتَعْمَلُ النداءُ تعبيراً عن مشاعر النفس اليائسة.

* فقال الشاعر:

*فَيَا صَاحِبَيْ رَحْلِي دَنَا الْمَوْتَ فَانْزِلاَ * بِرابِيَةٍ إِنّي مُقِيمٌ لَيَالِيَا*

(8) وفي الاختصاص يُسْتَعمل النداء من أجل التنبيه على تخصيص المتحدّثِ عنه.

ومنه قولي:

*إِنَّا بَني الْعَرْبِ على طُولِ المدى * لَمْ نَكْتَسبْ في أَيّ عَصْرٍ سُؤْدَدَا*

*إلاّ بإسْلاَمِ حَمَانَا وهَدَى * تَارِيخُنَا وَمَجْدُنَا لَقَدْ بَدَا*

*مُذا أرْسَل اللهُ لَنَا مُحَمّداً*

*صلَّى عليه الله*

***

(4) النوع الرابع: التّمَنِّي والتّرجّي

ومن أنواع الإِنشاء الطلبي التّمنّي والتّرجّي:

أما التمنّي: فهو طلب أمْرٍ محبوبٍ أو مرغوبٍ فيه، ولكن لا يُرْجَى حصولُهُ في اعتقاد المتمنّي، لاستحالته في تصوُّره، أو هو لا يطمَعُ في الحصول عليه، إذْ يراه بالنسبة إليه معذّراً بعيد المنال.

والادامة التي يُتَمنَّى بِها هي كلمة: "لَيْتَ".

وأمام التَّرَجِّي: فهو طلبُ أمْرٍ محبوبٍ أو مَرْغُوبٍ فيه، ممّا طالِبُهُ أنَّه مطموعٌ فيه، وهُو يترقَّبُ الظفر به، أو الحصول عليه، وقد ترد صيغته لمجرّد التوقع، ولو كان توقُّعَ أمْرٍ محذورٍ منه، ويسمَّى حينئذٍ إشفاقاً، مثل [لعَلَّ السّاعة قريب].

ويستعمل في الترجّي كلمتان هما: "لَعَلَّ" و "عَسَى". وقد يُتَرجَّى بأداة الاستفهام "هَلْ" وبحرف "لو" فيما هو عزيز المنال مع إمكانه.

وعلى خلاف الأصل قد يُسْتعمل في التّمنّي: "هل" و"لَعَلَّ" و"عسَى" الغرض بلاغي، وهو إبرازُ المتَمَنَّى في صورة الممكن المطموع فيه، بغيةَ الإِشعار بكمال العناية به، والتلهُّفِ على الحصول عليه، أو تحقيقه.

وقد يُسْتَعمل في التّمني حرف "لو" لإِبراز المتمنَّى في صورة الممكن إلاَّ أنّه عزيز المنال يَصْعُبُ تحقيقه، إذْ حرف "لو" يُشْعِر بعزّة الأمرِ المرجوّ المطموع فيه.

وقد يُسْتَعْمَل في الترجي لفظ "ليت" الذي للتمنّي، لغَرَضٍ بلاغيّ، هو إبراز المرجوّ في صورة المستحيل أو المتعذِّر الْبعيد المنال، للمبالغة في بيانِ بُعْدِ الحصول عليه أو تحقيقه.

ويُلاحظُ أَنّ مجيّ عبارات الترجّي أو الدعاء في كلام اللهِ عزّ وجلّ هو على معنى أنّ مقتضى الحال يلائمه من البشر الترجّي أو الدعاء، فَقَوْل الله تعالى لموسى وهارون بشأن فرعون في سورة (طه/ 20 مصحف/ 45 نزول):

{اذْهَبَآ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)}.

ينبغي أن نفهم الترجّي فيه على معنى: اذْهَبَا إلى فرعون راجِيَيْنِ وطامِعَيْنِ في أن يتذكّر أو يخشَى، إذ لو ذهبا إليه وهما يائسَانِ من استجابَتِه، لَمْ تندفعْ أنفسهما للقيام بمهمّةِ رسَالَتِهما على الْوَجْهِ الأمثَلِ المطلوب منهما.

أمثلة وتطبيقات:

* سبق في بحث النداء عرض طائفة من الأمثلة القرآنية التي فيها التّمنّي بأداة التمنّي "ليت" مسبوقةً بأداة النداء "يا".

* الذين اتّخذوا دينهم في الحياة الدنيا لهواً ولعباً، ونَسُوا كتاب الله تاركين له إذْ جحدوا به، وغرّتْهُم الحياة الدنيا وزيناتُها، يَتمَنَّونَ يوم القيامة أن يكون لهم شفعاء فيَشْفعوا لهم، أو أنْ يُرَدّوا إلى الحياة الدّنيا، ليعملوا غير الذي كانوا يعملون ممّا يُرْضي ربّهم عليهم.

دلَّ على تمنِّيهم هذا قول الله عزّ وجلّ في سورة (الأعراف/ 7 مصحف/ 39 نزول) حكاية لمقالتهم يوم الدين:

{يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَآءَ فَيَشْفَعُواْ لَنَآ أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُواْ أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ (53)}.

جملةٌ "فهل لنا من شفعاء" وجملة "أو نردّ فنعمل غير الذي كنّا نعمل" هما من قبيل الإِنشاء الطلبي، والمطلوب فيهما من نوع تمنّي أمْرٍ محبوبٍ مرغوبٍ فيه لا يطمعون في الحصول عليه.

والأداة المستعملة هي "هل" الاستفهامية، إذ الاستفهام هنا مستعمل في التمني، لأنّهم يعلمون أنّه لا يشفع أحدٌ يومئذٍ إلاَّ بإذن الله، ويعلمون أنّهم لا يُريدّون إلى الحياة الدنيا، فقد طلبوا قبل ذلك الرجعة ساعة موتهم فزُجِروا ورُفِضَ طَلَبُهُمْ.

* ويتمنَّى الضالون الأتباع الذين أضلّهم المجرمون وهم يُعَذَبون في الجحيم، أن يرجعوا إلى الحياة الدنيا ليُؤْمِنُوا، لكنّهم يعلمون أنّ هذا المطلب ميؤوس من تحقيقه.

دلَّ على هذا التمنّي ما جاء في سورة (الشعراء/ 26 مصحف/ 47 نزول) حكاية لقولهم:

{وَمَآ أَضَلَّنَآ إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ (99) فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ (100) وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102)}.

والأداة المستعملة في هذا التَّمنِّي حرف "لو" إذْ لدى هؤلاء بعض أمَلٍ ضعيفٍ باستجابة طلبهم، أو أرادوا إظهاره في صورة الممكن عزيز المنال.

* وتمنَّى ابْن الرُّومي أنْ يكون ليلُ رمضان شهراً، وأن يمرَّ نَهَارُه مرَّ السحاب، فقال

*فَلَيْتَ اللَّيْلَ فِيهِ كان شَهْراً * وَمَرَّ نَهَارُهُ مَرَّ السَّحَابِ*

والأداةُ المستعملة في هذا التمني لفظ "ليت".

* وتمنَّى جرير أن يُشْتَرَى الشبابُ بالمال ليشتريه، أَوْ أنْ يرجع كَرَّةً أُخْرَى، فقال:

*ولَّى الشَّبَابُ حَمِيدَةً أيَّامُهُ * لَوْ كَان ذَلِكَ يُشْتَرَى أَوْ يَرْجِعُ*

والأداة المستعملة في هذا التمنّي حرفُ "لو" وغرض جرير أَنْ يُظْهِر أنّ عودة الشباب أمْرٌ ممكن إلاَّ أنّه عزيزُ المنال، لئلا يعيش في اليأس الكامل.

* وعرض أحدهم بأسلوبه التخيُّلي على طير القطا يُعيرهُ جناحه، مُتَمنّياً أن يطير به إلى محبوبه، ، فقال مخاطباً سِرْب القطا:

*أسِرْبَ الْقَطَا هَلْ مَنْ يُعِيرُ جَنَاحَهُ؟ * لَعَلِّي إلى مَنْ قَدْ هَوِيتُ أَطِيرُ*

القطا: واحدته "قطاة" وهو نوع من اليمام يؤثر الحياة في الصحراء، ويتخذ أُفحوصَهُ في الأرض، ويطير جماعات، ويقطع مسافات شاسعات، وبيضُه مرقّط.

والأداة المستعملة في هذا التمنّي لفظ "هل" في الجملة الأولى، ولفظ "لعلّ" في الجولة الثانية، وهاتان الأداتان تستعملان أصلاً في الترجّي، إلاَّ أنّ الشاعر استعملهما فيما هو متعذر، ليُظْهِرَ مطلوبه بأنه أمر ممكن مرجوّ في مشاعر نفسه.

* وتمنّى الآخر أن تدنُوَ له الكواكب، لينظم منها عقود مدح لممدوحه فقال:

*لَيْتَ الكوَاكِبَ تُدْنُوا لِي فَأَنْظِمَها * عُقُودَ مَدْحٍ فَمَا أَرْضَى لَكُمْ كَلِمِي*

والأداة المستعملة في هذا التمنّي لفظ "ليت" والتّمني في كلامه ظاهر.

* وتَرجَّى الشاعر أن يُفرّج الله عنه الكرْب الضاغط عليه، فقال:

*عَسَى الكَرْبُ الَّذِي أمْسَيْتُ فِيهِ * يَكُونُ وَرَاءُه فَرَجٌ قَرِيبُ*

هذا الكلام من قسم الإِنشاء الطلبي، وهو من نوع الترجّي، لأنّ الفرج أمْرٌ مترقّبُ مطموع فيه.

وأداة الترجّي فيه كلمة "عَسَى".

* وترجَّى الشاعر الآخر أن تكون عاقبة العتب محمودة، فقال للذي عتَبَ عليه:

*لعَلَّ عَتْبَكَ مَحْمُودٌ عَوَاقبُهُ * ورُبَّمَا صَحَّتِ الأَجْسَامُ بالْعِلَلِ*

وأداة الترجّي في هذا القول كلمة "لَعَلَّ" وفق الأصل.

* وترجّى البوصيري أن ينال من رحمة ربّة على مقدار معاصيه، فقال:

*لَعَلَّ رَحْمَةَ رَبِّ حِينَ يَقْسِمُهَا * تَأْتِي عَلَى حَسَبِ الْعِصْيَانِ في الْقِسَمِ*

وأداة الترجِّي الّتي استعملها كلمة "لعَلّ" وفق الأصل.

***

(5) النوع الخامس: الدعاء

الدعاء: هو في الأصل من النداء، يقال لغة: دَعا فلاناً إذا صاح به وناداه، فهو طلبُ إقبال المدعوِّ إلى الداعي. ويقال: دعا بالشيء، إذا طلَبَ إحضاره، ودعَا الميّتَ إذا ندَبَهُ، فقال مثلاً: وَاوَلَدَاه، واحَبِيبَتاه. ودعا فُلاَناً، إذا استعان به، ورغب إليه.

ودعا المؤمن رَبّه، إذا ناداه وطلبَ منه تحقيق نفع أو دفع ضرّ من أمور الدنيا، أو أمور الآخرة.

ودعا الوثنيُّ مَعْبُودَه، إذَا نَادَاه، وطلبَ أمراً من أمور الدّنيا.

واشتهر الدُّعاء بأحد معانيه اللّغوية، وهو المعنى الدينيِّ له، مع توسُّع شمَلَ كلّ ذِكْرٍ لله عزّ وجلّ وثناء عليه بصفاته وأسمائه الحسنى، لأنّ ذكْرَ الله يُرجَى منه رضوان اللهِ وثوابُه، فهو ذو دَلاَلَةٍ طلبيَّةٍ، ويتضمَّن غالباً نداء اللهِ عَزَّ وجلّ بحَمْدِه والثناء عليه.

روى الترمذي عن عَمْروا بن شُعَيْبٍ عن أبيه عن جدّه، أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:

"خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَة، وخَيْرُ ما قُلْتُ أَنَا والنَّبِيُّون مِنْ قبْلِي: لاَ إلَهَ ِإلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ ولَهُ الْحَمْدُ وَهْوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ".

فمن دعاء الله ما هو مُطْلَقُ ذكْرٍ له، ومن دعاء اللهِ ما نداءٌ له بطلَبِ يتضمَّنْ اسْتِجْداءَ تحقيق مرغوب فيه من خيرات الدنيا، أو خيرات الآخرة، أو دفْع مكروهٍ من أُمور الدنيا أَوْ أمور الآخرة.

ويكون الدّعاء بصِيَغٍ كثيرة تَشْمَلُ صِيَغَ الأمر والنهي، وصِيَغَ الجمل الخبريّة، والأصلُ فيه النداء مع طلبٍ بصِيَغ الأَمْرِ أو النَّهْي، وكثيراً ما يُحْذَفُ حَرْفُ النداء، مثل: رَبِّ اغْفِرْ لي وارْحَمْنِي. وكثيراً ما يُدْعَى بصيغَةٍ خَبَرِيَّة، مثل: رَحِمَ الله فلاناً وغَفَرَ له، أو يَرْحَمُ الله فُلاناً ويَغْفِر له.

والدعاءُ الموجَّه لله عزّ وجلّ من أجَلِّ العبادات، والدعاءُ وفْقَ المعنى الديني الموجّه لغير الله عزّ وجلّ شِرْكٌ بالله، والله لا يغفر أن يُشْرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء.

وقد يتأدّب الداعي مع ربّه، في طلب بعض حاجاته الدنيوية، كما فعل موسَى عليه السلام، وهو عند ماءِ مَدْين، إذْ قال كما جاء في سورة (القصص/ 28 مصحف/ 49 نزول):

{رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24)}.

فاستجاب الله طلبه الذي ألمح إليه دون تصريح، فدَعَاه الشيخ والد المرأتين اللَّتَيْن سقا لهما إلى منزله، وبعد أن قصّ عليه قصة خروجه من مصر، عرض عليه أن يُنْكِحَهُ إحدى ابْنتَيَيْه، فَتَمّ ذلك.

وتأدب رسولُ الله محمد صلى الله عليه وسلم مع ربّه، وفي نفسه أن يُحَوِّل الله القبلة إلى الكعبة المشرّفة، فجعل يقلّب وجْهَهُ في السّماء، فقال الله عزّ وجل له كما جاء في سورة (البقرة / 2 مصحف/ 87 نزول):

{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَآءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)}.

وتَأَدَّبَ أيضاً صلواتُ الله عليْه مع ربّه في دعائه الصريح، فلَمْ يَشْكُ ما يَتَعَلَّقُ بشَخْصِه من عداء قومه له، وتَدْبيرهِمْ وسائل محاربته وقمعه، واقتصر على ما يتَعلَّق بأمْرِ تبليغ القرآن، ومُتَابعةِ تذكير قومه به، فقال كما جاء في سورة (الفرقان/ 25 مصحف/ 42 نزول):

{وَقَالَ الرَّسُولُ يارَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُواْ هَاذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (30)}.

فجاء الجواب الرّبّاني متعلّقاً بما كتمه الرسول ولم يُصَرِّح به، فقال الله عزّ وجلّ:

{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً (31)}.

فبدأ العلاجُ القرآني بما كتمه الرسولُ صلى الله عليه وسلم في دعائه ولم يُصَرِّحْ به.

***

(6) النوع السادس: الاستفهام

تعريفه:

الاستفهام: هو من أنواع الإِنشاء الطّلبي، والأصل فيه طلَبُ الإِفْهامِ والإِعْلاَمِ لتَحْصِيلِ فائدةٍ عمليّةٍ مجهولةٍ لدَى الْمُستَفْهِم.

وقَد يُراد بِالاستفهام غيْرُ هذا المعنى الأصليّ له، ويُسْتَدلُّ على المعنى المراد بالقرائن القوليّة أو الحالية، كما سيأتي بيانه إن شاء الله.

***

أقسام أدوات الاستفهام

للاستفهام طائفةٌ من الأدوات، وهي تقع في ثلاثة أقسام:

القسم الأول: ما يُسْتَفْهَمُ به عن التصوُّر والتصديق، وهو "همزة الاستفهام" فقط، وهو حرفٌ لا يكون له محلُّ من الإِعراب في الجملة.

القسم الثاني: ما يُستَفْهَمُ به عن التصديق فقد وهو لفظ "هَلْ" وهو حرفٌ أيضاً، لا يكونُ محلُّ من الإِعراب في الجملة.

القسم الثالث: ما يُسْتَفهَمُ به عن التَّصَوُّر فقط، وهي سائر أدوات الاستفهام، وهذه جميعُها أسماء، وهي: "مَا - مَنْ - أَيُّ - كَمْ - كَيْفَ - أَيْنَ - أَنَّى - مَتَى - أَيَّانَ".

التّصوّر: هو إدْراكُ المفرد، ويُطْلَبُ بالاستفهام عن التصّور إدْراكُ المسند إليه، أو إدْراكُ المسند، لتعيينه، ويكونُ الجوابُ بتعيينِ المسؤول عنه، مُسْنداً كان أو مُسنداً إليه. مثل:

* أضَرَبَ خالدٌ أَمْ أكل؟ والجواب: ضرب - أو - أَكل.

* أضُرِبَ زَيْدٌ أم عَمْروٌ؟ والجواب: عَمْرو - أو - زَيْدٌ.

* متى يُفْطِرُ الصّائم؟ والجواب: إذا غربتِ الشمس.

التصديق: هو إدْراك النسبة الحكميّة بين المسند والْمُسْنَد إليه، موجبةً كانت أو سالبة.

مثل:

* هل بُعِثَ خَاتم المرسلين؟ والجواب: نعم، بُعِث.

* هل ظهر المسيح الدجال؟ والجواب: لا، لم يظهر بَعْدُ.

ولكلّ أداة من أدوات الاستفهام صفاتٌ وخصائص، وفيما يلي بيان ذلك إن شاء الله.

***

شرح أدوات الاستفهام وبيان ما يتعلّق بكُلٍّ منها

الأداة الأولى: همزة الاستفهام "أ" ويُسْتَفْهم بها كما سبَقَ بيانُه عن التصوّر والتصديق، وهي أصل أدواتِ الاستفهام كلّها.

ويرى "سيبويْهِ" أن العرب تركوا النُّطق بهمزة الاستفهام مع سائر أدوات الاستفهام لأنّهم أَمِنُوا الالتباس، فاكتسبَتْ هذه الأدواتُ معنى الاستفهام بالتداول.

قال ابن مالك في "المصباح":

"ما عدا الهمزة نائبٌ عنها،ـ ولكونه "أي: الاستفهام" طلبَ ارْتِسَام صورةِ ما في الخارج في الذهن، لزم أن لا يكون حقيقةً إلاَّ إذا صَدَرَ من شاكٍّ مُصدِّقٍ بإمكان الإِعلام، فإنّ غير الشاكّ إذا استفهم يلزمُ منه تحصيل الحاصل، وإذا لم يُصدّقْ بإمكان الإِعلام انْتَفَتْ عنه فائدة الاستفهام".

* وتختصّ همزة الاستفهام عن سائر الأدوات بعدّة خصائص، هي الخصائص التالية:

(1) جواز حَذْفِها وتقديرها ذهناً، مثل ما جاء في قول الله عزّ وجلّ في سورة (الأعراف/ 7 مصحف/ 39 نزول) في حكاية قول فرعون لسرحته بعْدَ أنْ غُلِبُوا وأعلَنُوا إيمانهم:

{قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ...} [الآية 123]. أي: أآمنُتُمْ به؟

 (2) أنَّها أداةٌ يُطْلَبُ بها التصوّر، ويُطْلبُ بها التصديق، كما سبق بيانه.

ويكْثرُ في طلب التصوّر بها أن يُذْكَر للمسْتَفْهَم عنه معادلٌ بعد "أم" وتسمَّى عندئذٍ همزة التسوية، مثل:

* أخالد بن الوليد فتح دمشق أم أبو عبيدة بن الجرّاح.

* {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ}؟ [البقرة/2].

* {آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59)}؟ [النمل/27].

* {سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (6)} [البقرة/2]. أي: سواءٌ عليهم إنذارُكَ وَعَدَمُه.

* ألَحْمَ عِجْلٍ أطْعَمْتنا؟

فإذا طُلِبَ بها التصديق (وهو إدراكُ النسبة الحكميّة في الجملة) امْتَنَع ذِكْرُ معادلٍ للمستفهم عنه بها، مثل:

* {أَأَمِنتُمْ مَّن فِي السَّمَآءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16)} [الملك/67].

* {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْداً إِذَا صَلَّى (10)} [العلق/96].

* {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى (6)} [الضحى/93].

* {أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ} [13/ المجادلة/ 58].

(3) أَنَّها تَدْخُلُ على الإِثبات، وتدخل على النفي، مثل:

* أدَرَسْتَ مادَةَ التفسير؟

* ألَمْ نَشْرَحْ لكَ صَدْرك؟

*أَبَعْدَ بَنِي عَمْروٍ أُسَرُّ بِمُقْبِلٍ * مِنَ الْعَيْشِ أَوْ آسَى عَلَى إِثْرِ مُدْبِرِ*

(4) أنّها لا يَلِيها إلاّ المسؤول عنه، سواءٌ أكان مسنداً، أَمْ مُسْنداً إليه، أَمْ مفعولاً به، أم حالاً أم ظَرْفاً أم غير ذلك من متعلقات الفعل.

(5) أنّ لها تمامَ الصدارة، فتُقَدَّم من الجملة حتّى على حروف العطف، مثل:

* {أَوَلَمْ يَنْظُرُواْ...}؟ [185/ الأعراف/ 7].

* {أَوَلَمْ يَسيرُواْ}؟ [9/ الروم/ 30].

* {أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ...}؟ [51/ يونس/ 10].

أمّا سائر أدوات الاستفهام فتتأخَّرُ عن حروف العطف، وتتأخّر عن "أمْ" التي للإِضراب، مثل:

{وَكيف تكفُرُون؟ - فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ؟ - فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ؟ - فَهَلْ يُهْلَكُ إلاّ الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ؟ - فأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بالأَمْنِ؟ - فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْن؟ - أَمْ مَنْ يُجِيبُ المضْطَّرَّ إِذا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ؟}.

إلى غير ذلك من خصائص ذكرها النحاة.

***

الأداة الثانية: كلمة "هل" وهي أداة يستفهم بها عن التصديق فقط، فلا يُذْكر مع الْمُسْتَفْهَمِ عنه بها معادل، بخلاف همزة الاستفهام، وهي "حرف" كالهمزة.

والأصل في كلمة "هل" أن تدخُلَ على جلمة فعليّة، فِيَلِيَهَا فِعْلٌ لفظاً أَوْ تقديراً مثل:

* قول الله عزّ وجلّ في سورة (النحل/ 16 مصحف/ 70 نزول):

{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ؟...} [الآية 33].

* وقول الله عزّ وجلّ في سورة (الرعد/ 13 مصحف/ 96 نزول):

{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ؟...} [الآية 16].

* وقول الله عزّ وجلّ في سورة (النازعات/ 79 مصحف/ 81 نزول):

{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15)}.

فإذا عُدِل عن الجملة الفعليّة فأدخلت "هل" على الجملة الاسمية، فذلك لنكتة يلاحظها الْبُلَغَاء، وهي جعل ما سيحصل كأنّه حاصل موجودٌ فعلاً، اهتماماً بشأنه، أو تأكيداً للرغبة بتحقُّقِ وُقُوعِهِ، مثل:

* قول الله عزّ وجلّ في معرض الحديث عن داوُد عليه السّلامُ في سورة (الأنبياء/ 21 مصحف/ 73 نزول):

{وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ (80)}؟.

أي: فهل ستكونُونَ حقاً شَاكِرينَ، أو هو استفهام تضمّن معنى الحضّ على الشكر.

* قول الله عزّ وجلّ في سورة (المائدة/ 5 مصحف/ 112 نزول) بشأن الخمر والميسر، خطاباً للذين آمنوا:

{إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَآءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ}؟!.

أي: فَهَلْ سَتَنْتَهون، أو هو استفهامٌ تضمّن معنى الحضّ على الطاعة.

ولا تدخل أداة "هل" على: [النفي - والمضارع الذي للحال - والشّرط - حرف "إنّ" الذي ينصب الاسم ويرفع الخبر - وحرفِ العطف].

بخلاف الهمزة في كلّ ذلك.

***

الأداة الثالثة: كلمة "ما" وتأتي اسماً من أسماء الاستفهام، ومعناها "أيُّ شيء؟" وهي للاستفهام عن غير العقلاء، والمطلوب بها أحد أمور ثلاثة:

الأمر الأول: إيضاح الاسم وشرحه، مثل:

* ما النُّضار؟ وجوابه: الذهب. أو الخالِصُ من كلِّ شيء.

* ما اللُّجَيْن؟ وجوابه: الفضّة.

* {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ (24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلاَ تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ الأَوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي? أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (29) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ (28)} [الشعراء/ 26 مصحف/ 47 نزول).

في هذا النصّ نلاحظ أنّ سؤال فرعون عن ربّ العالمين هو سؤالٌ عن شرح الاسم، أي: ما معنَى "رَبّ العالمين".

إنّه لا يجهل معنى كلمة "رَبّ" ولا معنى كلمة "العالمين" لكنّه سأل عن الاسم المؤلّف من "ربّ العالمين".

فشرح له موسَى عليه السلام بقوله: "رَبُّ السَّمَاواتِ والأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا".

فاتَّهَمَهُ فِرْعَوْنُ بالجنون، لأنَّه ذكر أنّ السَّمَاواتِ والأَرْض وما بينهما خاضعةٌ لسلطان رَبٍّ واحد، وهو يتصوَّرُ أنّ الكائنات يتحكَّمُ بها أربابُ مُتَعدِّدُون، وهو رَبُّ إِقليم مصر.

فتنزّل موسى عليه السلام إلى مستوى إدْراك فرعون، فقال له ولِمَلَئِه: رَبُّ الْمَشْرِقِ والْمَغْرِب وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ.

أي: هو المتَصَرِّفُ بعمليّات الْخَلْق والتَّدْبِيرِ في هذِهِ الأَرْضِ من مَشْرِقِهَا إلَى مَغْرِبها، ومن ذلك حدود سلطانك في مصر يا فرعون.

عندئذٍ اسْتكْبَر فرعونُ حِينَ فهم مراد موسَى عليه السلام، فقال له: {لَئِنِ اتَّخَذْتَ الهاً غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29)}.

أي: لَئِنْ اتَّخَذْتَ مَعْبُوداً غَيْرِي.

الأمر الثاني: بَيَانُ حقيقةِ الْمُسَمَّى، مثل:

* ما الْحَسَد؟. وجوابُه مثلاً: تَمَنِّي زَوالِ النعمة عن المحسود.

* ما الكِبْرُ؟. وجوابُه: "بَطَرُ الْحَقِّ وَغْمْطُ النّاس".

الأمر الثالث: بيان صفات المسؤول عنه وأحواله الخاصة أو العامة، مثل:

* {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يامُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18)} [طه/ 20 مصحف/ 45 نزول).

* أَنْ تَقُولَ لقادم عليكَ وأنت لا تعرف صفاته: مَا أَنْت؟

* قول المتنبّي في مَدْح سيف الدولة:

*لَيْتَ الْمَدَائِحَ تَسْتَوْفِي مَنَاقِبَهُ * فَمَا كُلَيْبٌ وَأَهْلُ الأَعْصُرِ الأُوَلِ؟

أي: فَمَا صفاتُ كُلَيْب بجانبِ صفاتِهِ، وكان العربُ يقولون: أعزُّ من كليب بن وائل. ومَا صفاتُ الملُوكِ الأوّلين بجانب صفاته ومناقبه، ومرادُه التعظيم من مناقبه وصفاته، والتقليل من صفات السّابقين من سادَة العرب.

الأداة الرابعة: كلمة "مَنْ" وتأتي اسماً من أسماء الاستفهام، قالوا: ويُطْلَبُ بها تعيينُ أحد العقلاء، أو العلماء، مثل:

* {قَالُواْ ياوَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا؟...} [الآية 52] (يَس/ 36 مصحف/ 41 نزول).

* {...وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ...} [الآية 135] (آل عمران/ 3 مصحف/ نزول 89).

* قول الشاعر:

*وَمَنْ ذَا الَّذِي تُرْضَى سَجَايَاهُ كُلُّهَا؟ * كَفَى الْمَرْءَ نُبْلاً أَنْ تُعَدَّ مَعَايِبُه*

***

الأداة الخامسة: كلمة "متَى" وتأتي اسماً من أسماء الاستفهام، ويُسْتَفْهَمُ بها عن الزمان ماضياً كان أم مستقبلاً، فلها محلٌّ من الإِعراب في الجملة، كسائر الأسماء، مثل:

* قول الله عزّ وجلّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول):

{أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَآءُ وَالضَّرَّآءُ وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)}.

* مَتَى قَامَتِ الْحَرْبُ العالميّة الثانية؟

* متَى يُفِيضُ الحاجّ من عَرَفَات يوم عرفة؟

* وقولي صانعاً مثلاً:

*وَقَالُوا: مَتَى شَمْسُ الْهِدَايَةِ أَشْرَقَتْ؟ * فَقُلْتُ: بِعَامِ الْفِيلِ فِي الْحَرَمِ الْمَكّي*

***

الأداة السّادسة: كلمة "أَيّانَ" وتأتي اسْمَ استفهام، ويستَفْهَمُ بها عن الزمان، مثل "متى" ومعناها "أَيُّ حين" وتختصُّ بالاستفهام عن الزمان المستقبل، وتُسْتَخْدَمُ في الموضع الذي يَحْسُنُ فِيه التهويل والتعظيم، وتضخيمُ أمره، مثل:

* قول الله عزّ وجلّ في سورة (الأعراف/ 7 مصحف/ 39 نزول):

{يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا؟...} [الآية 187].

* وقول الله عزّ وجلّ في سورة (القيامة/ 75 مصحف/ 31 نزول):

{بَلْ يُرِيدُ الإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5) يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6)}؟

* وقولي صانعاً مثلاً:

*أَيَّانَ يَأْتِي الْحَدَثُ الْعَجِيبُ * وَيَرْتَضِي زَوْرَتَنَا الْحَبِيبُ؟*

***

الأداة السابعة: كلمة "كَيْفَ" وَتأتي اسم استفهام، ويُسْتَفْهَمُ بها عن الحال، ويُطلَبُ بها تعيينُ الحال مثل:

* قول الله عزّ وجلّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول):

{...وَانْظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً...}؟ [الآية 259].

* وقول الشاعر:

*إِلَى اللهِ أَشْكُو بِالْمَدِينَةِ حَاجَةً * وَبِالشَّامِ أُخْرَى كَيْفَ يَلْتَقِيَانِ؟*

***

الأداة الثامنة: كلمة "أَيْنَ" وَتأتي اسم استفهام، ويُسْتَفْهَمُ بِهَا عن المكان، وهي مبنيّةٌ على الفتح في كلّ حالاتها، مثل:

* قول الله عزّ وجلّ في سورة (القيامة/ 75 مصحف/ 31 نزول):

{فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10)}.

* وقول الله عزّ وجلّ في سورة (الأنعام/ 6 مصحف/ 55 نزول):

{وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ (22)}.

* قول الشاعر:

*فَأَيْنَ إلَى أَيْنَ النَّجَاةُ بِبَغْلَتِي * أَتَاكَ أَتَاكَ اللاَّحِقُّون. أحْبِسِ أحْبِسِ*

يخاطب نفسه بقوله: "أتاكَ أتاكَ".

***

الأداة التاسعة: كلمةُ "أتَّى" وَتأتي اسماً من أسماء الاستفهام بمعنى "مِنْ أيْنَ؟" وبمعنى: "كَيْفَ؟" وبمعنى "متى؟" وبمعنى "أيْنَ؟" فلها أربعة معانٍ.

أمثلة:

* قول الله عزّ وجلّ في سورة (آل عمران/ 3 مصحف/ 89 نزول) بشأن مريم عليها السلام:

{...كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَاذَا} [الآية 37]؟.

أَنَّى لَكِ هذَا؟: من أَيْنَ لَكِ هَذَا؟.

* وقول الله عزّ وجلّ في سورة (آل عمران/ 3 مصحف/ 89 نزول) بشأن زكريّا عليه السلام:

{قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِي الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ (40)}.

أَنّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ؟: كَيْفَ يَكُونَ لي غُلاَمٌ؟

* وقول الله عزّ وجلّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول):

{نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ...} [الآية 223]؟.

فأتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُم؟: أي: متى شِئْتم؟، وكيف شِئْتُمْ؟ ولكِنْ من مكان الْحَرْثِ الّذِي يُنْبِت الزَّرْع.

* وقول الله عزّ وجلّ في سورة (المنافقون/ 63 مصحف/ 104 نزول) بشأن المنافقين:

{هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4)}؟.

أَنَّى يُؤْفَكُونَ: أي: أَيْنَ يُصْرَفُونَ وَيَذْهَبُونَ؟.

***

الأداة العاشرة: كلمة "كم" وتأتي اسماً من أسماء الاستفهام، ويستفهم بها عن العدد، ويطلب بها تعيين العدد، ومعناها: أيُّ عَدَد، مثل:

* قول الله عزّ وجلّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول):

{سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ}؟.

* قول الله عزّ وجلّ في سورة (الكهف/ 18 مصحف/ 69 نزول) في عَرْض قصة أهل الكهف:

{وَكَذالِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَآءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَم لَبِثْتُمْ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ...} [الآية 19].

* وقول الله عزّ وجلّ في سورة (المؤمنين/ 23 مصحف/ 74 نزول) بشأن سؤال المَبْعُوثين يَوْمَ الْبَعْثِ عَنْ مُدَّةِ إقامتِهِمْ في الأرض موتى:

{قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعَآدِّينَ (113) قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (114)}.

* وقولي صانعاً مثلاً:

*قُلْتُ لاِبْنِي: كَمْ زُرْتَني عَبْرَ عَشْرٍ * مُنْذُ فَارَقْتَ مَنْزِلي؟ قَال: عَشْراً*

*قُلْتُ: يَكْفِيكَ أنْ يَزُورَكَ أبْنَاؤُكَ في الْعَامِ مَرَّةً؟ قال: عُذْراً*

الأداة الحادية عشرة: كلمة "أيّ" وتأتي اسماً من أسماء الاستفهام، ويُسْتَفْهَمُ بها لتعيين أحد المتشاركين في أَمْرٍ يَعُمُّهُما، سواءٌ أكانَا شخصين مِمَّنْ يَعْقِلْ، أَم مِمَّا لاَ يَعْقِل، أو زمانين، أو مكانين، أو حالَيْن، أو عددين، أو غير ذلك، وتكُونُ بِحَسَبِ ما تُضاف إليه، نحو: "أيّ الرجلين؟ - أي المرأتين؟ - أيُّ الزمانين؟ - أيُّ المكانين؟ - أيُّ الحالين؟ - أيّ العدَدَيْن"؟.

أمثلة:

* قول الله عزّ وجلّ في سورة (الأنعام/ 6 مصحف/ 55 نزول):

{قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ...} [الآية 19].

* وقول الله عزّ وجلّ في سورة (الأنعام/ 6 مصحف/ 55 نزول) في حكاية محاجّة إبراهيم عليه السلام لمشركي قومه:

{وَكَيْفَ أَخَافُ مَآ أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (81)}؟.

* وقول الله عزّ وجلّ في سورة (الرحمن/ 55 مصحف/ 97 نزول) خطاباً للجن و الإِنس:

{فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13)}؟ وهي مكرّرة فيها.

***

خروج الاستفهام عن أصل دلالته إلى معنى أخرى

كثيراً ما يخرج الاستفهام عن إرادة طلب الإِفْهامِ والإِعلام إلى معانٍ أخرى أشار إليها به، ويُسْتَدَلُّ علَيْهَا مِنْ قرائِنِ الحال أو قرائن المقال، إذْ يَسْتَغْنِي الْبُلَغاء بعبارات الاستفهام عن ذكر الألفاظ الدّالة دلالةً صَريحةً على مَا يُريدون التَّعْبيرَ عَنْهُ منَ المعَاني، وبلاغةُ الدّلالة على هذه المعاني بأسْلُوبِ الاسْتفهام آتيةٌ من التعبير عنها بصورة غير مباشرة وهيَ دلالاتٌ تُتَصيَّدُ بالذكاء.

قال شمس الدين ابن الصائغ في كتابه "روض الأفْهام في أقسام استفهام":

"وقد توسعت العرب، فأخرجت الاستفهام عن حقيقته لمعانٍ، أو أشربته تلك المعاني".

وقد أحصى البلاغيّون معاني كثيرة خرج إليه الاستفهام عن حقيقته، إذْ تَنَبَّهُوا إليها لدى دراسة مُخْتَلِف النصوص، وهي ما يلي:

"1- الإِنكار 2- التوبيخ 3- التقرير 4- التعجّب أو التعجيب 5- العتاب 6- التذكير 7- الافتخار 8- التفخيم والتعظيم 9- التهويل والتخويف 10- التسهيل والتخفيف 11- التهديد والوعيد 12- التكثير 13- التسوية 14- الأمر 15- التنبيه 16- الترغيب 17- النهي 18- الدعاء 19- الاسترشاد 20- التَّمنّي والترجّي 21- الاستبطاء 22- العرض 23- التحضيض 24- التجاهل 25- التحقير والاستهانة 26- المدح والذّم 27- الاكتفاء 28- الاستبعاد 29- الإِيناس 30- التهكّم والسخرية 31- الإِخبار 32- التأكيد" إلى غير ذلك من معادنٍ.

أقول:

من طبيعة الإِنسان إذا لم يُرِد التصريح بالمعنى الذي يَقْصِده، فإنّه يتّخذ للإِشعار به أسلوباً غير مباشر.

ومن الأساليب الذكيّة غير المباشرة أن يحاول جعل المخاطَب هو الذي يعبّر بنفسه عن المعنى، أو يُدْرِكُه بنفسه ولو لم يُعبِّر عنه بكلامه.

والطريق السهل للوصول إلى هذه الغاية، أن يطرح على المخاطب جملةً استفهاميَّةً موجّهةً توجيهاً خاصّاً، إذ يحيطها بقرائن تجعله يدرك المعنى بنفسه، سواء عبّر عنه بالجواب أو لم يُعَبِّر.

ولمّا كانت المعاني التي يمكن الإِشارة إليها من طرفٍ خفيّ كثيرة جدّاً، ويُمْكنُ استدعاؤها إلى الذهن عن طريق طرح السُّؤال الذي لا يُصَرَّحُ فيه بالمراد، كان من الأمر الطبيعيّ في الكلام أن يُصَاغ فيه جُمَلٌ استفهاميّة محفوفةٌ بقرائن الحال أو المقال، بغيَةَ استدراج المخاطَب لإدراكها، وقد يُصَرِّح في جوابه بما أدرك من معنى، أو يكتفي بإدراك المراد، ويعلم أن السؤال قد طُرِح لمجرّد إفهامه الغرض من السؤال.

والمحققون من علماء البلاغة يَرَوْنَ أَنَّ معنى الاستفهام يبقَى ولكن ينضم إيه ما يُستفاد منه من المعاني التي يُدَلُّ بِه عليها.

شرح المعاني التي يُدَلُّ عليها بالاستفهام مع الأمثلة

(1) شرح الاستفهام المستَعْمَل في الإِنْكار:

ويُسَمَّى استفهاماً إنكارياً، ويُرادُ منه النفي، مع الإِنكار على المثْبِتِ كَيْفَ أَثْبَتَ مَا هو ظاهر النفي، وكانَ الواجبُ عليه أن يَنْفِي، أو مع الإِنكار على المخاطب قضيَّته، وهي باطلةٌ في تصوُّرِ مُوجِّه الاستفهام.

وقد يأتي بعدُه الاستثناء كما يأتي بعد المنفي بأداةٍ من أدوات النفي، وقد يعطفُ عليه المنفي.

وكثيراً ما يصحبُه التكذيب، وهو في الماضي بمعنى "ما كان" وفي المستقبل بمعنى "لا يكون" وقد يُشْرَبُ الإِنكار معنى التوبيخ والتقريع.

أمثلة:

* قول الله عزّ وجلّ في سورة (الأحقاف/ 46 مصحف/ 66 نزول):

{...بَلاَغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35)}.

أي: لاَ يُهْلَكُ إِهلاكاً عامّاً شاملاً بعقوبةٍ دُنيويَّةٍ معجَّلةٍ إلاَّ الْقَوْمُ الفاسِقُون، من مستوى فسق الظلم الكبير فلا يكونون فاسقين إلاَّ وهُمْ ظالمون، وكذلك العكس، ولذلك جاء في (الأنعام/ 6 مصحف/55 نزول):

{قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47)}؟.

* وقول الله عزّ وجلّ في سورة (الشعراء/ 26 مصحف/ 46 نزول) حكاية لمقالة نوحٍ عليه السلام له:

{*قَالُواْ أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ (111)}؟.

أي: لاَ يكونُ منّا إيمانٌ بكَ وَإِسْلامٌ لَكَ والحالُ أنَّه اتَّبَعك الأَرْذَلُون.

* وقول الله عزّ وجلّ في سورة (القمر/ 54 مصحف/ 37 نزول) حكاية المقالة ثمود بشأن الرسول صالح عليه السلام:

{كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقَالُواْ أَبَشَراً مِّنَّا وَاحِداً نَّتَّبِعُهُ إِنَّآ إِذاً لَّفِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ (24)}.

أي: لا نَتَّبِع بشراً منَّا واحداً لمجرّد ادّعائه أنّه رسولٌ من ربّه، إنَّنا إذا اتّبعناه كُنَّا إذاً في ظلالٍ في مسيرتنا وجنونٍ في عقولنا.

* وقول الله عزّ وجلّ في سورة (الروم/ 30 مصحف/ 84 نزول):

{فَمَن يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ (29)}.

أي: لاَ أحد يحكم بالهداية لِمَنْ حَكَم الله عليهم بالضّلال، ومَا لهم من ناصرين ينصرونهم فيدفَعُون عنْهُمْ عذَابَ الله.

فجاء في هذه الآية عطف الجملة المنفيّة على الاستفهام الإِنكاري، إذ معناه النفيُ.

* وقول الله عزّ وجلّ في سورة (الإسراء/ 17 مصحف/ 50 نزول):

{أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِنَاثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً (40)}.

أي: أفَآثَرَكم رَبُّكُمْ بِالبنين على نفسه...؟ والمعنى: ما فَعَلَ ذلك ولم يتّخذ من الملائكة إناثاً لنفسه.

* وقولُ الله عزّ وجلّ في سورة (هود/ 11 مصحف/ 52 نزول) حكايةً لمقالة هود عليه السلام لقومه:

{قَالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي? وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28)}.

أي: لاَ نجْبرُكُمْ بِالإِكْرَاهِ على اتِّباعِ مَا جئتُكُمْ به، فاتّباع الدين لا يكن إلاَّ بإرادةٍ اختياريّة، إذْ لا إكْرَاهَ في الدين.

* وقول امرىء القيس:

*أَيَقْتُلُنِي وَالْمَشْرَفِيُّ مُضَاجِعِي * وَمَسْنُونَةٌ زُرْقٌ كَأَنْيَاب أغْوَال؟

***

(2) شرح الاستفهام المستعمل في التوبيخ والتقريع:

ويسمَّى استفهاماً توبيخيّاً، أو تقريعيّاً.

التقريع: توجيه اللّوم والعتاب الشديد الموجع، وأصْلُ الْقَرْعِ الضَّرْبُ.

والاستفهام التوبيخي قد يُوجَّهُ للتوبيخ على فعل شيءٍ غير حَسَنٍ في نظر موجّه الاستفهام، أو تركِ فعْلٍ كانَ ينبغي القيامُ به في نظر موجّه الاستفهام.

أمثلة:

* قول موسى لأخيه هارون بشأن اتّخاذ قومه العجل، فيما حكاه الله عزّ وجلّ في سورة (طه/20 مصحف/ 45 نزول):

{ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93)}؟.

فَمُوسَى عليه السلام يلوم أخاه بشدَّةٍ على أمْرٍ ظَنَّ أنَّهُ ارتكَبَهُ، وَهُو معصيةُ أَمْرِه، لكنَّ هارُونَ عليه السلام اجْتَهَد وَلَمْ يَعْصِ، والمعنى: مَا مَنَعَكَ عَنِ اتَباعي وحَمَلَكَ على ألاَّ تتَّبِعَني.

* وقول إبراهيم عليه السلام لقومه بشأن أصنامهم التي يعبدونها، فيما حكاه الله عزّ وجلّ في سورة (الصّافات/ 37 مصحف/ 56 نزول):

{قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96)}؟.

فإبراهيم عليه السلام يوبّخهم على أنّهم يَعْبُدون أوثاناً ينحتونها بأيديهم، والله خلقهم وخلق أوثانهم التي يعبدونها، وهو الذي يجب أن تكون العبادة له وحده.

* وقول الله عزّ وجلّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/87 نزول) خطاباً لبني إسرائيل:

{*أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (44)}؟.

الشاهد في الآية قوله تعالى: {أَفَلاَ تَعْقِلُون} وفي {*أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ...}؟ معنى التعجيب منْ فعلهم كما سيأتي إن شاء الله.

* قول الله عزّ وجلّ في سورة (النساء/ 4 مصحف/ 92 نزول).

{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْواْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَائِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَآءَتْ مَصِيراً (97)}.

فالملائكة تُوبِّخُهُمْ وَتُقَرِّعُهُمْ لأنّهم لم يُهَاجروا من الأرضِ الّتي كانوا مستضعفين فيها، ورَضُوا بأن يكونوا ظالمي أنفسهم طاعةً للجبَّارين، من أنّ أرض الله واسعة، وكان بإمكانهم أن يهاجروا إلى أماكن لا يُكْرَهُونَ فيها على مَعْصِية الله.

* قول العجّاج:

*أَطَرَياً وَأَنْتَ قَيْسَرِيُّ * و الدَّهْرُ بِالإِنْسانِ دَوَّارِيُّ؟*

الْقَيْسَرِيُّ: الشيخ الكبير، أي: أتطربُ وأنت شيخ كبير؟ ويُرْوى "قِنَّسْريُّ" كما في اللّسان. وهو الشيخ الكبير أيضاً.

***

(3) شرح الاستفهام المستعمل في التقرير:

ويُسمَّى استفهاماً تقريريّاً، والمرادُ منه حَمْلُ المخاطَب على الإِقْرار والاعتراف بأمْرٍ قد استقرّ عنده العلْمُ به، أو هو أمْرٌ باستطاعته معرفته حِسِّيّاً أو فكْرِيّاً، موجباً كان أو سالباً.

فمن ادَّعَى أنَّكَ جئْتَه وأنْتَ لم تأته، قد توجّه له استفهاماً تقريريّاً قائلاً: هَلْ أَنَا جئتك؟ ومتَى جئتُك؟ وَمَاذَا كَانَ حين الْتَقَيْتُكَ، لتنزعَ منْه الإِقرارَ والاعْتِرافَ بأنَّك لم تَأْتِهِ.

ومن بَدا عليه أماراتُ إنكارِ أمْرٍ وقع، قَدْ توجِّه له استفهاماً تقريرياً، قائلاً: أَلَمْ يحدُثْ كذا؟ أَلَمْ أفعلْ كذا؟ ألَمْ يكُنْ منْكَ كذا وكذا؟ لِتَنْتَزعَ منه الإِقرار الاعتراف بالأمر الذي قد حدث ووقع فعلاً.

أمثلة:

* قول الله عزّ وجلّ لرسوله في سورة (الشرح/ 94 مصحف/ 12 نزول):

{أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4)}.

* وقول الله له في سورة (الضحى/ 93 مصحف/ 11 نزول):

{أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَآئِلاً فَأَغْنَى (8)}؟.

* وقول الله للمكذّبين بيوم الدّين في سورة (المرسلات/ 77 مصحف/ 33نزول):

{أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (24)}.

* وقول إبراهيم عليه السلام لمشركي قومه بشأن أوثانِهِم لانتزاع إقراراهم، فيما حكاه الله عزّ وجلّ في سورة (الشعراء/ 26 مصحف/ 47 نزول):

{قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73)}.

فإذا لم يُقِرُّوا بألسنتهم بأنّ أوثانهم لا تَسْمَعُهم، فإنهم لا بُدَّ أنْ يُقِرُّوا بذلك في قلوبهم.

* قول الله عزّ وجلّ في سورة (الفجر/ 89 مصحف/ 10 نزول):

{وَالْفَجْرِ (1) وَلَيالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِى حِجْرٍ (5)}؟.

الظاهر من الاستفهام في هذا النصّ أنّ الغرض منه انتزاع إقرار ذوي الفكر والعلم والعقل بأن القسم بهذهِ الأشياء قسمٌ عظيم يثبت صدق وعيد الله، وأنّه بالمرصاد للمجرمين المفسدين في الأرض.

* وقول عزّ وجلّ في سورة (الزمر/ 39 مصحف/ 59 نزول):

{أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ...} [الآية 36]؟.

* وقول الله عزّ وجلّ في سورة (الأعراف/ 7 مصحف/ 39 نزول):

{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَآ...} [الآية 172].

فَمِنَ الظَّاهر في هذِهِ الأمْثلة أنّ الاستفهام فيها مُسْتَعْمَلٌ لاستِدعاء المخاطب إلى الإِقْرار بقضيَّةٍ مُوجَبَةٍ أو سالبة جرى حولها الاستفهام.

فالجواب المستدْعَى في أمْثلة: {ألَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكْ؟ - أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى؟ - أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ؟ - أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ؟ - أَلَسْتُ بِرَبّكُمْ}؟ هو: "بَلَى" وَكلمة الجواب هذه تدلُّ على نقيض المستَفْهَمِ عنه، أي: شَرَحْتَ صدْرِي - وَجَدني يتمياً فآوى - خَلَقْتَنَا مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ - اللهُ كافٍ عَبْدِهُ - أنْتَ رَبُّنا.

والجوابُ المستدعى في مثال: {هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ} هو: "لا" إذ الأوْثانُ المعنيَّةُ في الاسْتفهام لا تَسْمَعُ ولاَ تَنْفَعُ وَلاَ تَضُرُّ.

والجوار المستدعى في مثال: {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِى حِجْرٍ} هو: "نعم" أي: من تفكَّر بعقلٍ حصيفٍ في هذهِ الأشياء التي أقْسَمَ الله بها وَجَدها مؤكِّدة حقّاً لمضمون الْمُقْسَمِ عليه، وذلك لأنَّ الأزمان الّتي أقْسَمَ الله بها هي أزمان إهْلاك الله الأُمَمَ السَّابقة، وظاهرٌ أنَّ القَسَمَ بأزمَانٍ خاصة هو قَسَمٌ بالأَحْدَاثِ العظيمة التي جرتْ فيها، وهذه الأحداث أدلّةٌ تجريبيّةٌ ماضية تؤكد صدق الخبر بحدوث أشباهها مستقبلاً عند وجود المقتضيات المماثلات للمتقضيات التي حدثت بسببها الأحداث الماضية، لأنّ سنة الله القائمة على حكمته سنة دائمة، لا تتغيّر ولا تتبدّل.

***

(4) شرح الاستفهام المستعمل في التعجُّب أو التعجيب:

ويُسَمَّى اسْتِفْهَاماً تَعْجُبيّاً حين يَكونُ صَادِراً مِنْ متعجِّبٍ فعلاً، ويُسَمَّى اسْتِفْهَاماً تَعْجِيبيّاً حينَ يكونُ الغرض من إيراده إثارَةَ الْعَجَب عنْد مَنْ يخاطَبُ بهِ أو يتلقَّاهُ، منه ما يكون صادراً عن الله عزّ وجلّ، إذْ ليْسَ صفاتِهِ سبحانه أن يتعجَّب تَعَجُّبَ استِغْرابٍ واستبعاد، نظراً إلى سابقٍ علمه تعالى بكلّ ما يحدُثُ منْ عباده قبْلَ حدوثه، وعِلْمِهِ بخلقِه وَصفاتِهِمْ وخصائصهم النّفسية والسلوكيّة.

وما ورد في بعض الأحاديث النبويّة منْ نسبة العجب إلَى الله عزّ وجلَّ فهو بمعنى الاستحسان المقتضي للرّضى والمثوبة.

أمثلة:

* قول الله عزّ وجلّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول):

{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28)}؟!.

الاستفهام في هذه الآية استِفْهَامٌ تَعْجيبيٌّ فيه معنَى التَّوْبيخِ والتْلويم والتَّأْنِيب والتَّقْريع، فَالْمَعْنَى أَنَّ كُفْرَكُمْ باللهِ مَعَ كَوْنِكُمْ كُنْتُمْ أَمْواتاً فأحْيَاكُمْ ولم تُحْيُوا أنتم أنْفُسَكُمْ، أمْرٌ ينْبَغِي أن تَعْجبُوا منه قبل غيركم، وأمْرٌ يتعجّبُ منه كلُّ العقلاء من أهل الرشد. فحالُكم يثير التعجُّب والاستغراب، كيف يصْدُرُ من ذوي عقول وأفكار؟!.

* قول الله عزّ وجلّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) خطاباً لعلماء بني إسرائيل:

{*أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (44)}؟!.

فالاستفهامُ في {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ} الذي يخاطب اللهُ به علماء بني إسرائيل استفهامٌ فيه معنى التَّعْجيب مِنْ حالِهِمْ مع التوبيخ والتَّلْويم والتقريع، إذْ يأمُرونَ الناسَ منْ عَامَّةِ بني إِسرائيل بالبرّ (أي: بالتَّوَسُّعِ في أعْمالِ الخير فوْقَ الواجبات) وأنْ يتركوا مَعَ ذَلك أنْفُسَهم فلا يؤدّوا ما فرض الله عليهم وأَخَذَ عليهم به الْعَهْدَ من الإِيمان بالرسول الخاتم واتّباعه، وهم يتلون كتاب التوراة، وفيه تكليفهم أنْ يؤمنوا بالرَّسول النبيِّ الأُمّيِّ الّذي يأْمُرُهُمْ بالْمَعْرُوف ويَنْهَاهم عن المنكر، ويُحِلُّ لهم الطَّيباتِ ويُحَرِّمُ عليْهِمُ الخبائث، ويَضْعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُم والأَغَلاَلَ الَّتِي كانت عليهم.

* قول الله عزّ وجلّ في سورة (النَّمْل/ 27 مصحف/ 48 نزول) في حكايةِ تفقُّدِ سُليمانَ عليه السلام الطَّيْرَ واسْتِفهامه عن الْهُدْهُد إذْ لم يَرَهُ بينها:

{وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَالِيَ لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَآئِبِينَ (20)}.

فالاستفهامُ في {مَالِيَ لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ}؟ اسْتِفْهَامٌ تَعَجُّبِيٌّ، إذْ تعجَّب سليمانُ عليه السَّلام مِنْ عدم رؤية الْهُدْهُدَ مع أَنواع الطَّيْرِ وليْسَ من عادته أن يتخلَّف.

* وقول الشاعر:

*مَالِي أَرَاكُمْ تُنْكِرُون مَكَانَتِي؟! * الشَّمْسُ لاَ تَخْفَى معَ الإشرَاقِ*

* قول أبي تمَّام:

*مَا لِلْخُطُوبِ طَغَتْ عَلَيَّ كَأَنَّهَا * جَهِلَتْ بِأَنَّ نَدَاكَ بالْمِرْصَادِ؟!*

الْخُطُوب: مُفْرَدُهَا "خَطْبٌ" وهو الأَمْرُ الشّديد الذي يكثُر فيه التخاطب.

فأبو تمَّام يُبْدِي عجَبَهُ منْ طُغْيانِ الشدائدِ عليه مع أنَّ ممدوحه قائم بالمرصاد لها يدفعها عنه بنداه، أي: بعطاياه.

* قول المتنبّي في سيف الدولة وهو يعودُه منْ دُمَّلٍ كَانَ فيه:

*وَكَيْفَ تُعِلُّكَ الدُّنْيَا بِشَيءٍ * وأَنْتَ لِعِلَّةِ الدُّنْيَا طَبِيبُ؟!*

*وَكَيْفَ تَنُوبُكَ الشَّكْوَى بِدَاءٍ * وَأَنْتَ الْمُسْتَغَاثُ لِمَا يَنُوبُ؟!*

أي: إنّ هذا لأمْرٌ يستَحِقُّ أَنْ يُتَعَجَّبَ مِنْهُ.

* قولُ إحْدى نِسَاءِ الْعَرب تَشْكُو ابْنَها وتُظْهر التعجُّبَ مِنْ عَمَله:

*أَنْشَا يُمَزِّقُ أَثْوابِي يُؤَدِّبُني * أَبَعْدَ شَيْبِيَ يَبْغِي عِنْدِيَ الأدَبَا؟!

أي: إنّ تأديبَ مَنْ شاب من العجَبِ الْعُجَاب.

***

(5) شرح الاستفهام المستعمل في العتاب:

العتاب: أخفّ أنواع إظْهارِ عدم الارتياح لسلوكٍ ما، فعلاً كان أو تركاً، وقد يُسْتَخْدَمُ لدلالة عليه أسلوبُ الاستفهام للتخفيف من توجيهه، والتَّلَطُّفِ بنفس الموجَه له.

أمثلة:

* قول الله عزّ وجلّ في سورة (الحديد/ 57 مصحف/ 94 نزول):

{*أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُواْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلاَ يَكُونُواْ كَالَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ (16)}؟.

أَلَمْ يَأْنِ؟: أي: أَلَمْ يَحِنِ الْوَقْتُ؟ يُقَالُ لُغةً: أَنَى يَأْنِي أَنْياً وَإِنىّ وأَنَاةً، إذا حَانَ وَقَرْبَ.

الاستفهام في هذا النصِّ يتضَمَّن عِتَاباً لطائفَةٍ مِنَ الْمُؤْمِنينَ مرَّتْ عَلَيْهِمْ بعد إيمانهم مُدَّةٌ كافيةٌ، كَانَ يَنْبَغي أن يَرتَقُوا فيها من دَرَجَةِ إيمانِ الْوَجِلِ إلى دَرَجَةِ إيمانِ الخاشع.

الوجَلُ: هو الخوف، والخوفُ يرافقُه قلَقٌ واضطرابٌ في القلب.

الخشوع: هو الخضوع مع سُكُونِ القلب، وهو درجةٌ في الإِيمان أعلَى من درجةَ الوجَلِ.

وفوقهما درجة الطَّمَأْنينة.

أخرج الحاكم بسنده عن أبن مسعود قال: ما كان بين إسلام هؤلاَءِ وبين أن عُوتِبُوا بهَذِهِ الآية إلاَّ أرْبَعُ سِنين.

* قول الله عزّ وجلّ في سورة (التوبة/ 9 مصحف/ 113 نزول) خطاباً لرسوله محمّد صلى الله عليه وسلم بشأْنِ إِذْنِهِ لطائفةٍ من المنافقين عن الخروج معه إلى غزوة تبوك:

{عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43)}؟.

فقول الله له: {لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} من ألْطَفِ صُوَرِ العتاب.

* قول الحطيئة معاتباً:

*أَلَمْ أَكُ جَارَكُمْ وَيَكُونَ بَيْنِي * وبَيْنكُمُ الْمَوَدَّةُ والإِخَاءُ؟

* ويُفْهَمُ العتابُ من قول الشريف المرتضَى لِمَنْ يَهْجُره:

*أَتَبِيتُ رَيَّان الْجُفُونِ مِنَ الْكَرَى * وَأبِيتَ مِنْكَ بِلَيْلَةِ الْمَلْسُوعِ*

***

(6) شرح الاستفهامِ المستَعْمَلَ في التذكير:

قد يستخدم الاستفهام للتذكير بقولٍ أو فِعْلٍ أو حادثةٍ جرَتْ، وقد يُقْتَصَرُ فِيهِ على بعض ما يُسْتَدْعَى بالاستفهامِ تَذكُّره، فتحصل به فائدةُ الإِيجاز في القول.

أمثلة:

* قول الله عزّ وجلّ في سورة (يوسف/12 مصحف/53) نزول في حكاية قصّة يوسف عليه السلام وإخوته:

{قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ (89)}؟.

فيوسف عليه السلام يُذَكِّرُ إخوته بما سَبَقَ أَنْ فَعَلُوه بِهِ وبأخيهِ "بنيامين" بأسلوب الاستفهام، وتُفْهَمُ مع هذا التذكير معانٍ أخرى كالعتاب أو التلويم.

وقول اللهِ عزّ وجلَّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) خطاباً للملائكة بعد أن أثبت لهم تفوْق آدم عليهم بمعرفةِ الأسماء الَّتي علّمهُ إيّاها، وبعد أن اعلنوا جهلهم بها:

{قَالَ يَآءَادَمُ أَنبِئْهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّآ أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إِنِي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33)}؟.

***

(7) شرح الاستفهام المستعمل في الافتخار:

ذكروا أنّ الاستفهام قد يُسْتعمل في الافتخار، ومثَّلُوا له بقول اللهِ عزّ وجلّ في سورة (الزخرف/ 43 مصحف/ 61 نزول) حكاية لنداء فرعون فِي قومه:

{وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ ياقَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَاذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي? أَفَلاَ تُبْصِرُونَ (51)}؟.

قالوا: إنّ الاستفهام في قوله: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ} خرج عن معناهُ إلى معنى الافتخار بما يملك في مصر.

أقول: إنّ فرعون خالف على قومه أن يتأثّروا بدعوة موسى ويتّبعوه، بعد أن جاءهم بآياتٍ ذواتِ عدد، وبعد أن دعا رَبّه فكشَفَ عنهم ما أرسَلَ عليهم من رجز، فأراد فرعون أن يُقْنع قومه بتفوّقِهِ علَى مُوسَى بأنّ لَهُ مُلْكَ مصر، وبأنّ موسى لا مُلْكَ له ولا سلطان، وبأنّه إذا أراد أن يتكلّم فإنّه لا يكاد يُبين عن مراده، وعلى هذا فالاستفهام في كلامه مستعمل لانْتزَاع إقرار قومِهِ في جماهيريَّة غوغائيّة بتفوّقه على مُوسَى، وَلِلَفْتِ أنظارهم إلى عناصر التفوّق التي يريد أن يخدعهم بها عن الحقيقة، ولَيْسَ لمطلق الافتخار، وقد يكون فيه رائحة اْتِخَار.

وقد يُفْهَم الافتخار من بعض أمْثِلَةِ الاستفهام كمَقْصَدٍ أوّل، وقد يكون أحد لوازم المقصد الأوّل منه، كقولي مفتخراً بأمجاد أُمَّتنا الإِسلامية:

*أَما نَحْنُ الَّذِينَ غَدَوْا شُمُوساً * عَلَى الدُّنيَا وَعَمَّ بِنَا الرَّخَاءُ؟

***

(8)شرح الاستفهام المستعمل في التفخيم والتعظيم:

تندفع نفس المتكلّم حين يرى شيئاً عظيماً فخماً للتعبير عن عظمته وفخامته، بأسلوب التّعجُّبِ أحياناً، وبأسلوب الاستفهام أحياناً أخرى، فإذا رأى قصراً عظيماً فخماً قال: مَا هذا القصر؟. كيف بُنِي هذا القصر؟. مَنْ بنى هذا القصر؟. وإذا سمع شاعراً مُبْدعاً قال: ما هذا الشاعر؟. من أين له بهذا الشعر البديع؟ وهو لا يريد الإِجابة على استفهاماته، إنّما يريد التعبير عن عظمة ما رأى، أَوْ سَمع.

أمثلة:

قول الله عزّ وجلّ في سورة (الكهف/ 18 مصحف/ 69 نزول) بشأن استعظام المجرمين يوم الدّين كتاب أعمالهم، الذي لم يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلاَّ أحصاها:

{وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ ياوَيْلَتَنَا مَالِ هَاذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (49)}.

مَالِ هذا الكتاب؟: استفهامٌ يرادُ به تعظيمُ وتفخيم شأنه، وليس استفهاماً يطلب له الجواب.

* قول الشاعر:

*ومَنْ الّذي تُرْضى سَجَايَاهُ كُلُّها * كَفَى الْمَرْءَ نُبْلاً أَنْ تُعَدَّ مَعَايِبُهُ؟

أي: إنّ الذي تُرْضَى سجاياه كلُّها رَجُلٌ عظيم.

* قول المتنبّي يمدح كافرواً:

*وَمَنْ مِثْلُ كَافُورٍ إِذَا الْخَيْلُ أحْجَمَتْ؟ * وَكانَ قَلِيلاً مَنْ يَقُولُ لَهَا اقْدُمِي*

أي: هو عظيم قليل النظير في الحثّ على وُرُودِ المعارك، فأورد الاستفهام والغرض منه التعظيم، والقرينة المْدحُ.

* قول الشاعر:

*أَضَاعُوني وَأَيَّ فَتىً أَضَاعُوا؟ * لِيَوْمِ كَرِيهَةٍ وَسَدادِ ثَغْرِ*

وأَيَّ فَتىً أضَاعُوا؟: أي أضاعوا فَتىً عظيماً، فالشاعر يعظم من أمْرِ شجاعته.

الكريهة: الشدّة المكروهة في الحرب.

وسَدَادِ ثَغْر: أي: وَسَدِّ ثَغْرَةٍ مِنْ ثُغُورِ البلاد لحمايتها من الْعَدُوّ.

* قول ابن هانىء الأندلسي:

*مَنْ مِنكُمُ الْمَلِكُ الْمُطَاعُ كأنَّهُ * تَحْتَ السَّوَابِغِ تُبَّعٌ فِي حِمْيَرِ؟*

***

(9) شرح الاستفهام المستعمل في التهويل والتخويف:

وإذا كان المعظَّم شيئاً مُخِيفاً مَهُولاً، كان تعظيمه بالاستفهام فيه مَعْنَى التَّهْوِيل والتخويف.

أمثلة:

* قول الله عزّ وجلّ في سُورة (الحاقّة/ 69 مصحف/ 78 نزول) يخوّف من يوم القيامة وأهْوَالها:

{الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَآقَّةُ (2) وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3)}؟.

فالاستفهام هنا للتخويف والتهويل.

ونظيره قول الله عزّ وجلّ في سورة (القارعة/ 101 مصحف/ 30 نزول):

{الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3)}؟.

***

(10) شرح الاستفهام المستعمل في التسهيلِ والتخفيف:

وقد يُعبّر المتكلّم عمّا يراه أمراً سَهْلاً هيّناً خفيفاً بأسلوب الاستفهام، وتدلُّ قرينة الحال أو قرينة المقال على ما أراد التعبير عنه.

كأن يقول قائل لشابّ رياضيٍّ معتادٍ صعود الجبال: أتستطيع أنْ تصعد هذا الجبل؟

فيقول له: وماذا في صعوده؟

ويقول قائل لخطيب مفوّهٍ معتادٍ أن يقف بين الجماهير خطيباً مرتجلاً، وبأسرهم بكلامه: أتستطيع أن تخطب لنا خطبةً في هذا الحفل؟

فيجيبه بالْمَثَل: أو للبطّ تُهَدِّدِينَ بالشَّطّ.

أمثلة:

* قول الله عزّ وجلّ في سورة (النساء/ 4 مصحف/ 92 نزول):

{وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِم عَلِيماً (39)}.

أي: إنّ الإِيمان أمْرٌ سَهْلٌ يَسيرٌ هيِّنٌ لاَ ثِقَلَ فِيه عَلَى النفوس.

* قول اللهِ عزّ وجلّ في سورة (التوبة/ 9 مصحف/ 113 نزول):

{قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ...}؟ [الآية 52].

أي: هَلْ تَنْتَظِرُون أَنْ يَنَالَنا إلاَّ إحْدَى الْحُسْنَيَيْن: الشَّهَادَة وهْي سَهْلَةٌ عَلَيْنا، أو النَّصْر وهو حبيبُ إلينا.

***

(11) شرح الاستفهام المستعمل في التهديد والوعيد:

وقد يُهدِّد المتكلّم باستخدام أسلوب الاستفهام، وقَدْ يَتَوعَّدُ به.

كأن يقول السُّلْكان لطائفةٍ منَ المجرمين الّذين لم تَثْبُتْ بَعْدُ إدانتُهم بجرائمهم: ألَمْ تَعلَمُوا أَنَّا قطعْنَا أيدي الّذِينَ ثبتَتْ عليهم جريمة السّرقة؟. ألَمْ تَعْلَموا أنَّنا قتلْنَا من ثبتت عليهم جريمة القتل عمداً وعُدْواناً؟ ألم تَعْلَمُوا أَنَّنا عاقبنا من ثبتت عليهم جريمة الحِرابة بتقطيع أيديهم وأرجُلهم من خلاف، وبقتل القتَلة منهم؟.

أمثلة:

* قول الله عزّ وجلّ في سورة (المرسلات/ 77 مصحف/ 33 نزول): {أَلَمْ نُهْلِكِ الأَوَّلِينَ (16)}؟.

أي: كما فعلنا بالمجرمين الأولين من مكذّبي القرون الأولى سنفعل بأمثالهم من الأمم اللاّحقة.

* قول الله عزّ وجلّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) يتوعّد الكافرين بما في يوم الدين:

{هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ (210)}؟.

* قول الله عزّ وجلَّ في سورة (يونس/ 10 مصحف/ 51 نزول) يُهَدِّدُ المشركين:

{فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ...}؟ [الآية 102]. (12) شرح الاستفهام المستعمل في التكثير:

وقد يعبّر المتكلم عن الكَثْرَة بأسلوب الاستفهام، والأداة المستعملة في هذا غالباً كلمة "كم" وتخرج حنيئذٍ عن الاستفهام وتسقى "كم" الخبرية التي يُعبَّرُ بها عَنِ الكثرة.

وَيمكن أن يستعمل غيرها من الأدوات للدلالة على التكثير، كأن تقول الأم لابنها الذي يريد أن تحمله مع أن كبدها تذوب من توالي حمله:

*أَلَيْلَةً وَاحِدَةً * أَرَّقْتَني يَا وَلَدِي؟*

*تُرِيدُ حَمْلاً وأنَا * تَذُوبُ مِنْهُ كَبِدِي*

أمثلة:

* قول الله عزّ وجلَّ في سورة (الأعراف/ 7 مصحف/ 39 نزول):

{وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَآءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ (4)}؟.

أي: كثيرٌ من الْقُرى أهْلَكْنَاها.

* قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول):

{سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ...} [الآية 211]؟.

أي: آتيناهم آياتٍ بَيّنَاتٍ كثيرات.

* قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الشعراء/ 26 مصحف/ 47 نزول):

{أَوَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى الأَرْضِ كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7)}؟.

أي: أنبتنا فيها أصْنافاً كثيرة.

* قول أبي العلاء المعرّي:

*صَاحِ هذِي قُبُورُنَا تَمْلأُ الرَّحْـ * ـبَ فَأَيْنَ الْقُبُورُ مِنْ عَهْدِ عَادِ؟

أي: فقبورٌ كثيرة من عَهْدِ عاد.

***

(13) شرح الاستفهام المستعمل في التسوية:

ويكون في الاستفهام الداخل على جملة يصحُّ حلول المصدر محلّها، ويأتي بَعْدَها معادلٌ.

أمثلة:

قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول):

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (6)}؟.

أي: استوى إنذارهُمْ وعَدَمُهُ.

* قول المتنبي:

*وَلَسْتُ أُبَالي بَعْدَ إِدْرَاكِيَ الْعُلاَ * أَكَانَ تُرَاثاً مَا تَنَاوَلْتُ أَمْ كَسْبَا*

***

(14) شرح الاستفهام المستعمل في الأمر:

كثيراً ما يتلطَّفُ المتكلم بالمخاطب فيوجّه له الأمر بأسلوب الاستفهام، والأمْرُ يَشْمَلُ كُلَّ مَا تُسْتَعْمَلُ له صيغة الأمْرِ من تكليف، أو نصيحة، أو موعظة، إو إرشادٍ، أو دُعاءٍ، أو التماسٍ، أو غير ذلك.

فإذا قدّم له طعاماً مثلاً قال له: أتأكل؟ ألاَ تأكُل؟. وإذا أراد أن يأمُرَه بالصَّلاةِ وقد حانَ وقْتُها قالَ له: أَتُصَلّي؟ ألاَ تُصَلِّي.. وهكذا.

أمثلة:

* قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (آل عمران/ 3 مصحف/ 89 نزول) خطاباً لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم:

{فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِّلَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20)}.

أَأَسْلَمْتُمْ؟: أي: أسْلِموا.

* قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (المائدة/ 5 مصحف/ 112 نزول):

{إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَآءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ (91)}؟.

فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُون؟: أي: انْتَهُوا.

قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الفرقان/ 25 مصحف/ 42 نزول):

{وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ...} [الآية 20]؟.

أَتَصْبْرُون؟: أي اصْبِرُوا.

* قول الشاعر:

*أَلاَ ارْعِوَاءً لَمِنْ وَلَّتْ شَبِيبَتُهُ * وآذَنَتْ بِمَشيبٍ بَعْدَهُ هَرَمُ؟

أي: فلْيَرْعَوِ عن المعاصي والقبائح وفعل السّيّئات.

***

(15) شرح الاسْتِفْهَام المستعمل في التّنبيه:

التنبيهُ في الحقيقة هو من أقسام الأَمر، ومن المعاني الّتي تُستعمل فيها صيغة الأَمر.

أمثلة:

* قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الفرقان/ 25 مصحف/ 42 نزول):

{أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَآءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (45) ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً (46)}.

ألَمْ تَرَ إلَى رَبّكَ؟: انظر وتفكّر وتنبَّه إلى هذه الآية من آيات الله.

* قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (التكوير/ 81 مصحف/ 7 نزول) بشأن القرآن المجيد:

{وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ (25) فَأيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ (27)}.

فَأَيْنَ تَذْهَبونَ؟: أي: انْتَبِهُوا، ولاَ تَذْهَبُوا بعيداً منصرفين عن إدْراك الحقيقة.

* قول الشاعر:

*أَلَم تَسْمَعِي أيْ عَبْدَ في رَوْنَقِ الضُّحَى * بُكَاءَ حَمَامَاتٍ لَهُنَّ هَدِيرُ؟

أي: انتبهي لبكائهِنّ، فإنّك عندئذٍ تذكرين بُكَاء عَاشقك.

***

(16) شرح الاستفهام المستعمل في الترغيب:

الترغيب في الحقيقة من المعاني التي تُسْتَعْمَلُ للدَّلالة عَلَيْها صيغة الأَمْر، فكما يستعمل الاستفهام في الامر يمكن أن يُسْتَعمل في الترغيب.

أمثلة:

* قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول):

{مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)}.

أي: ارغبوا في هذا الثواب العظيم فأقْرِضوا الله قرضاً حسناً.

* قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الصف/ 61 مصحف/ 109 نزول):

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10)}.

أي: ارغَبُوا في هذِهِ التجارة العظيمة الرابحة.

***

(17) شرح الاستفهام المستعمل في النهي:

استعمال الاستفهام في النهي نظير استعماله في الأَمْر، لأنَّ الأمر بالشيءِ نهْيٌ عن ضدّه، وبالعكس.

أمثلة:

* قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (التوبة/ 9 مصحف/ 113 نزول) بشأنِ الحث على قتال أئمة الكُفر:

{أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُمْ مُّؤُمِنِينَ (13)}؟.

أي: لا تخشوهم، لأنّ الله ناصركم عليهم.

* قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الانفطار/ 82 مصحف/ 82 نزول):

{يا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7)}.

أي: لا تغتَرَّ بربّك.

* قول الشاعر:

*أَكُلَّ امْرِىءٍ تَحْسَبِينَ إمْرأً * وَنَارٍ تَوَقَّدُ في اللَّيْلِ نَاراً؟

أي: لاَ تَحْسَبي ذلك.

***

(18) شرح الاستفهام المستعمل في الدّعاء:

استعمال الاستفهام في الدعاء نظير استعماله في الأمْرِ والنهي، فالدعاء تستعمل للدلالة عليه صيغتا الأمر والنهي، والدعاء يكون عادة من الأدنى إلى الأعلى، والحقّ أَنْ لا يكون إلاَّ من العبد لربّه عزَّ وجلَّ.

أمثلة:

* قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الأعراف/ 7 مصحف/ 39 نزول):

{وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَآءُ مِنَّآ...} [الآية 155]؟.

أَتُهْلِكُنَا بَمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا؟: أي: لاَ تُهْلِكْنَا بِمَا فعَلَ السُّفَهَاءُ منا.

* قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الشعراء/ 26 مصحف/ 47 نزول) بشأن المشركين وتكذيبهم بالقرآن.

{كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُواْ هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ (203)}؟.

هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ: أي: أنْظِرْنَا رَبَّنا، يدعون بأسلوب الاستفهام لأنّهم يَعْلَمُونَ أَنَّهم مُذْنِبُون لا يستجاب لهم، فقد انتهت مدّة ابتلائهم.

***

(19) شرح الاستفهام المستعمل في الاسترشاد:

قد يطرح المتكلم سؤالاً استفهاميّاً ظاهرة يُشْعر بالاستشكال أو الاعتراض، وغرضه الاسترشاد، ويمكن أن نعتبر من الأمثلة على هذا أسئلة موسى للخضر في اعتراضاته على تصرّفاته، كما أبان الله لنا في سورة (الكهف/ 18 مصحف/ 69 نزول):

{فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (71)}؟.

{فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلاَماً فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً (74)}؟.

إِمْراً: أَيْ: عجيباً مُنْكَراً لاَ يَتَّفِقُ مع أحكام الشريعة فيما أَعْلَم.

نُكْراً: أيْ: مُنْكراً لاَ يتَّفِقُ مع أحكام الشريعة فيما أعلم.

 

لَقَدْ تعجَّلَ موسى عليه السّلامُ سؤال الاسترشاد، مع أَنْ موافقة الخضر على مصاحبته له كانت مشروطةً بِأَنْ يَصْبِرَ حتَّى يُبَيّنَ لَهُ أسبابَ تصرُّفاتهِ الَّتِي لم تكُنْ في الحقيقة مخَالِفةً لمقتضياتِ شَرْعِ الله، إذْ عَلِم الْخَضِر من الحقيقة ما لَمْ يَعْلَمْهُ موسَى عليهما السلام.

ومثَّلُوا لسؤال الاسترشاد الذي من هذا القبيل بسؤال الملائكة إذْ قَالُوا لربّهم كما جاء في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول):

{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي? أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (30)}؟.

***

(20) شرح الاستفهام المستعمل في التمنِّي والترجي:

يتمَنَّى المُتَمَنِّي أمراً يرى أنَّه معتذّر الحصول أو بعيد المنال، وقد يعبّر عن تَمَنِّيهِ بأسلوب الاستفهام، كأنّ يتمنَّى بعضُ أصحاب الأوهام أنْ ينام ليلة فيصحوَ وقد حفظ القرآن عن ظهر قلب، أو صار عالماً من كبار العلماء، أو ألقي إليه من السماء كنز من الذهب أو نحو ذلك، فيقول: هلْ يَحْصُلُ لي كذا وكذا؟ وكذلك الترجّي.

أمثلة:

* قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الأعراف/ 7 مصحف/ 39 نزول) بشأن تمنّي الكافرين يوم الدّين أن يكون لهم شفعاء يشفعون لهم:

{وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَآءَ فَيَشْفَعُواْ لَنَآ أَوْ نُرَدُّ فَنْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُواْ أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ (53)}.

أي: نَتَمَنَّى أنْ يكون لنا شفعاء، أو نُرَدَّ إلى حياة الابتلاء لنعمل غير الذي كنّا نعمل، لكنّ أمانيَّهُمْ ضائعة ومطالبهم بها مرفوضة.

* قول الشاعر:

*هَلْ بالطُّلُولِ لِسَائلٍ رَدُّ؟ * أَمْ هَلْ لَهَا بِتَكَلُّمٍ عَهْدُ؟*

* قول أبي العتاهية يمدح الأمين:

*تَذَكَّرْ أَمِينَ اللهِ حَقِّي وَحُرْمَتِي * وَمَا كُنْتَ تُولِينِي لعلَّكَ تَذْكُرُ*

*فَمَنْ لِيَ بالْعَيْنِ الَّتِي كُنْتَ مَرَّةً * إِلىَّ بِهَا في سَالِفِ الدَّهْرِ تَنْظُرُ؟*

أي: أتمنَّى أَنْ تعودَ لي تلك العين التي كنت تنظرُ إليَّ بها، أو أرجو.

* قول الشاعر:

*مَضَى زَمَنٌ والنّاسُ يِسْتَشْفِعُونَ بي * فَهَلْ لِي إلَى لَيْلَى الْغَدَاةَ شَفِيعُ؟

فهو يتمنى أو يرجو.

***

(21) شرح الاستفهام المستعمل في الاستبطاء:

يستبطئ الموعود بوعْدٍ حدوث الموعود به، وقد يعبّر عن استبطائه له بأسلوب الاستفهام، فيقول لمن وعده بزيارته له: متَى تأتينَا؟. متى تزورنا؟ حتَّى متَّى تعِدُنا وَلا تفي بوعدك؟

أمثلة:

* قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) خطاباً للمؤمنين:

{أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَآءُ وَالضَّرَّآءُ وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)}.

مَتَى نَصْرُ الله؟: تأخَّرَ النَّصْرُ الْمَوْعود به، وهكذا حالُ البشر يستعجلون، وحكمةُ الله لا تُسَايرُ مطالب المستعجلين.

* قول أبي العلاء المعرّي:

*إلاَمَ وفِيمَ تَنْقُلُنَا رِكابٌ * وَتَأْمُلُ أَنْ يَكُونَ لَنا أَوَانُ؟

أي: إلى متى تسير مطاياناً وترجو أن يكون لنا وقتٌ نجزيها فيه على إحسانها بنا.

***

(22) شرح الاستفهام المستعمل في العرض:

 

وتلطّف الآمر، أو الناصح، أو الداعي، أو طالب أيّ مطلب، فَيَعْرِضُ ما يطلبه أو يدعو إليه عرضاً بأسلوب الاستفهام، والصيغة الأصلية التي تُسْتَعْمَل في ذلك صيغة الأمر، أو صيغة النهي.

أمثلة:

* قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (النور/ 24 مصحف/ 102 نزول):

{...وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُواْ أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (22)}.

أي: إنْ عفوتم وصفحتُمْ غفر الله لكُم.

* قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (النازعات/ 79 مصحف/ 81 نزول) يعلّم موسَى عليه السّلام كيف يَعْرضُ دَعْوته على فرعون:

{اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19)}؟.

* قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الذاريات/ 51 مصحف/ 67 نزول) بشأنِ دعوة إبراهيم عليه السلام ضيوفه ليأكلوا ما أَعدَّ لهم من طعامٍ، وكان عِجْلاً مَشْوِيّاً:

{فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَآءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلاَ تَأْكُلُونَ (27)}؟.

***

(23) شرح الاستفهام المستعمل في التحضيض:

ويريد المتكلم حَضَّ مَنْ يخاطبه على فعل أمرٍ أو ترِك أمْرٍ، وقد يجد استعمال أسلوب الاستفهام أوقع في نفسه، وأكَثْرَ تَأْثيراً، إذا كانت القرينة القولية أو الحالية تشعر بالتلويم على عدم الاستجابة.

أمثلة:

* قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (التوبة/ 9 مصحف/ 113 نزول) يحضُّ على قتال المشركين:

{أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ...} [الآية 13]؟.

* قولي صانعاً مثلاً:

*أَلاَ قُمْتُموُا يَا رِجالَ الْهُدَى * لنُصرَةِ دِينِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ؟

***

(24) شرح الاستفهام المستعمل في التجاهل:

قد يتجاهل العارف بالأمر أو بالشخص أو بصفاته لأغراضٍ بلاغيّة، منها استزادة المعرفة، ومنها الاعتراف، ومنها تحقيره والتقليل من شأنه حتّى كأنه غير معروف، ومنها الإِثارة لإِفاضة البيان حوله من بعض حاضري المجلس للتعريف به مدحاً أو ذمّاً، إلى غير ذلك من أغراضٍ بلاغية، ويستعمل في التجاهل أسلوب الاستفهام.

ويمكن أن نعتبر من أمثلة الاستفهام المستعمل في التجاهل ما جاء في سورة (الأنبياء/ 21 مصحف/ 73 نزول) ضمن عرض قصة إبراهيم عليه السلام لمّا حطّم أصنام قومه إذْ تخلف عنهم يوم خرجوا ليلهوا في عيد لهم، قال الله عزَّ وجلَّ فيها:

{قَالُواْ مَن فَعَلَ هَاذَا بِآلِهَتِنَآ إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُواْ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُواْ فَأْتُواْ بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قَالُواْ أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَاذَا بِآلِهَتِنَا يا إِبْرَاهِيمُ (62)}؟.

(25) شرح الاستفهام المستعمل في التحقير والاستهانة والاستهزاء:

وقد يستعمل الاستفهام أسلوباً من أساليب تحقير المستَفْهَم عنه والاستهانة به، لأنّ الاستفهام يشعر بأنّ المستَفْهِمَ غَيرُ مهتَمٍّ بما يَسْتَفْهِمُ عنه، ولا مكثرة له لحقارته في نفسه، واستهانته به، ثم صار الاستفهام يدلُّ على التحقير والاستهانة بمساعدة قرائن الحال أو المقال:

أمثلة:

* قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الأنبياء/ 21 مصحف/ 73 نزول) في بيان بعض مواقف الذين كفروا من الرسول صلى الله عليه وسلم:

{وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهَاذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَانِ هُمْ كَافِرُونَ (36)}؟.

* وقول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الفرقان/ 25 مصحف/ 42 نزول) في ذلك أيضاً:

{وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهَاذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً (41)}؟.

لقَدِ احتقروه واستهزؤُوا به أوَّلاً إِذْ بعثه الله رسولاً، فسورة الفرقان قد نزلت قبل سورة الأنبياء، ثم احتقروه واستهزؤوا به دفاعاً عن أوثانهم بعد أنْ أَبَانَ أنَّها حجارةٌ لا تضُرُّ ولا تنفَعُ.

* قول الشاعر:

* فَدَعِ الْوَعِيدَ فَمَا وَعِيدُكَ ضَائِرِي * أطَنِينُ أَجْنِحَةِ الذُّبَابِ يَضِيرُ؟*

***

(26) شرح الاستفهام المستعمل في المدح أو الذمّ:

وقد يُسَاقُ الاستفهام للدلالة على مدح المتحدّث عنه والثناء عليه، أو للدلالة على ذمّة وكشف مثالبه، والقرائن القولية أو الحالية كواشف.

أمثلة:

* قول جرير في مدح عبدالملك:

*أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ الْمَطَايَا * وَأنْدَى الْعَالَمِين بُطُونَ رَاحِ؟*

* قول المتنبي حينما صَرَعَ بدْرُ بن عمَّار أسداً بسوطه يمدحه:

*أَمُعَفِّرَ اللَّيْثِ الْهِزَبْرِ بِسَوْطِهِ * لِمَنِ ادّخَرْتَ الصَّارِمَ الْمَصقُولاَ؟*

* قول الشاعر:

*أَرَأَيْتَ أَيّ سَوالِفٍ وَخُدُودٍ * بَرَزَتْ لَنَا بَيْنَ اللِّوَى فَزَرُودِ؟*

* قول ابن الرومي في المدح:

*أَلَسْتَ الْمَرْءَ يَجْبِي كُلَّ حَمْدٍ * إِذَا مَا لَمْ يَكُنْ لِلْحَمْدِ جَابِ؟*

جَابٍ: أي: مَنْ يَجْبِي بمعنى يجمع.

* قول الشاعر في الاستفهام المعبّر عن الذمّ:

*فَقَالَتْ: أَكُلَّ النَّاسِ أصْبَحْتَ مَانِحاً * لِسَانَكَ كَيْمَا أَنْ تَغُرَّ وتَخْدَعَا؟*

***

(27) شرح الاستفهام المستعمل في الاكتفاء:

وذكروا أنّ الاستفهام قد يستعمَلُ لبيان الاكتفاء، ومثلوا له بقول الله عزَّ وجلَّ في سورة (العنكبوت/ 29 مصحف/ 85 نزول):

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ (68)}؟.

* ويقول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الزمر/ 39 مصحف/ 59 نزول):

{*فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ علَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَآءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ (32)}؟.

{وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ (60)}؟.

أي: يكفيهم عقاباً لَهُمْ مَثْواهُمْ في جَهَنَّمَ يوم الدين.

أقول: الأقرب اعتبار هذه الأمثلة من الاستفهام المستعمل في التهديد والوعيد والترهيب.

***

(28) شرح الاستفهام المستعمل في الاستبعاد:

وَكثيراً ما يُسْتَخْدمُ الاستفهام للدلالة على استبعاد المستفهم عنه، والتشكُّك في حدوثه.

أمثلة:

* قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الدخان/ 44 مصحف/ 64 نزول) بشأن الدخان الذي هو أحد أشراط السّاعة:

{فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَآءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَاذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11) رَّبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مْؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْاْ عَنْهُ وَقَالُواْ مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ (14)}.

أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى؟: أي: تَذَكُّرُهُمْ واتِّعاظُهُمْ أَمْرٌ مُسْتَبْعَد.

* قول الشاعر:

*أَتُقْرَحُ أَكْبَادُ الْمُحِبِّينَ كَالَّذِي * أَرَى كَبِدي مِنْ حُبِّ مَيَّةَ تُقْرَحُ؟*

أي: أستبعد ذلك.

***

(29) شرح الاستفهام المستعمل في الإِيناس:

ويريد المتكلم أن يؤانِسَ من يخاطبه، فيطرح عليه أسئلة يَجُرّهُ بها إلى المحادثَة، مع أنّ المتكلم عالم بجواب أسئلته.

أمثلة:

* قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (طه/ 20 مصحف/ 45 نزول) مبيّناً ما كلّم الله به مُوسَى في رحلة التكليم:

 

{وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يامُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18)}.

* قول الزوج في ليلة عرسه لعروسه: مَنْ أهْداكِ هذا العقد النفيس؟ مِنْ أيْنَ جئتِ بهذا الشعر الذهبي الجميل؟ مَاذَا تُحَبّين أنْ يكون بِكْرُكِ؟ أذكر أم أنْثَى؟

***

(30) شرح الاستفهام المستعمل في التهكُّم والسخريَة:

ويستعمَلُ الاستفهام عند إرادة التهكُّم أو السخرية، ومن الأمثلة مقالة قوم شعيب عليه السلام له، كَما حكى الله عزَّ وجلَّ في سورة (هود/11 مصحف/ 52 نزول):

{قَالُواْ يا شُعَيْبُ أَصَلَاوتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَآ أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي? أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87)}؟.

ومقالة إبراهيم عليه السّلام لآلِهَةِ قَوْمِه مِنَ الأَوْثَانِ كما حكَى الله عزَّ وجلَّ في سورة (الصّافات/ 37 مصحف/ 56 نزول):

{فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لاَ تَنطِقُونَ (92)}؟.

أَلاَ تأْكُلُونَ؟: استفهامٌ تَهَكُّمِيُّ سَاخِر. وكذلك: مَالَكُمْ لاَ تنطقُونَ؟

***

(31) شرح الاستفهام المستعمل في الإِخبار:

وقد يستعمل الاستفهام أسلوباً من أسَالِيب الإِخبار، وهو يدخل في طريقة الإِعلام غير المباشر.

أمثلة:

* قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (النور/ 24 مصحف/ 102 نزول) بشأنِ طائفةٍ من المنافقين:

{وَإِذَا دُعُواْ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ مُّعْرِضُونَ (48) وَإِن يَكُنْ لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُواْ إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُواْ أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَائِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50)}.

أفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا: أي: هم فريقانِ، فريقٌ في قلوبهم مرض النفاق، وفريق دخل إلى قلوبهم الرّيبُ.

* قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الإِنسان/ 76 مصحف/ 98 نزول):

{هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً (1)}.

أي: قَدْ أتى عليه هذا الحين.

***

(32) شرح الاستفهام المستعمل في التأكيد:

وقد يأتي الاستفهام تأكيداً لاستفهام قبله، حين تدعو الحاجة البيانيّة الفرعية لذلك، ومن الأمثلة على هذا قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الزمر/ 39 مصحف/ 59 نزول):

{أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي النَّارِ (19)}؟.

قال الموفّق عبداللطيف البغدادي: "أي: مَنْ حقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ فإنَّكَ لاَ تُنْقِذُهُ، فـ "مَنْ" للشَّرْطِ، و"الفاء" جواب الشرط، و"الهمزة" في: {أَفَأَنتَ؟} دخلَتْ مُعَادَةً لطولِ الكلام، وهذا نوعٌ من أنواعها".

قال الزمخشري: "الهمزة الثانية هي الأولَى كُرّرَت لتوكيد معنى الإِنكار والاستبعاد".

***

خاتمة:

قد نلاحظ معاني أخرى في بعض أمثلة الاستفهام غير التي ذكرها مُحْصُو المعاني السابقة، كالاستعطاف والاسترحام، و التيئيس وقطع الرجاء، والشكوى، والتشوّق، والغيرة، والتفجّع والهلع.

* فمن الاستعطاف قول الشاعر:

*أَلَمْ أَكُ جَارَكُمْ وَيكُونَ بَيْنِي * وَبيْنكُمُ الْمَوَدَّةُ والإِخَاءُ؟*

ومن التيئيس وقطع الرجاء قول الشاعر:

*قَدْ قِيلَ مَا قيلَ إِنْ صِدْقاً وَإِنْ كَذِباً * فَمَا اعْتِذَارُكَ مَنْ قَوْلٍ إِذَا قِيلَ؟*

ومِنَ الشكوى قولُ الشاعر:

*أَلاَ تَسْأَلاَنِ الدَّهْرَ مَاذا يُحَاوِلُ؟ * أَنَحْبٌ فَيُقْضَى أَمْ ضَلاَلٌ وَبَاطِلُ؟*

ومن التشوّق قولُ الشاعر:

*فَقُمْتُ للطَّيْفِ مُرْتَاعاً فَأَرَّقَنِي * فَقُلْتُ: أَهْيَ سَرَتْ أَمْ عَادَنِي حُلُمُ؟*

ومن الغيرة قول مجنون لَيْلَى:

*بِرَبِّكَ هَلْ ضَمَمْتَ إِلَيْكَ لَيْلَى * قُبَيْلَ الصُّبْحِ أَوْ قَبَّلْتَ فَاها؟*

* وأرى من الهلع والجزع قول موسى عليه السلام في ميقاتِ المناجَاةِ الثاني لربه، كما جاء في سورة (الأعراف/ 7 مصحف/ 39 نزول):

{...أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَآءُ مِنَّآ...}؟ [الآية 155].

 





دلَّت كلمة (نقد) في المعجمات العربية على تمييز الدراهم وإخراج الزائف منها ، ولذلك شبه العرب الناقد بالصيرفي ؛ فكما يستطيع الصيرفي أن يميّز الدرهم الصحيح من الزائف كذلك يستطيع الناقد أن يميز النص الجيد من الرديء. وكان قدامة بن جعفر قد عرف النقد بأنه : ( علم تخليص جيد الشعر من رديئه ) . والنقد عند العرب صناعة وعلم لابد للناقد من التمكن من أدواته ؛ ولعل أول من أشار الى ذلك ابن سلَّام الجمحي عندما قال : (وللشعر صناعة يعرف أهل العلم بها كسائر أصناف العلم والصناعات ). وقد أوضح هذا المفهوم ابن رشيق القيرواني عندما قال : ( وقد يميّز الشعر من لا يقوله كالبزّاز يميز من الثياب ما لا ينسجه والصيرفي من الدنانير مالم يسبكه ولا ضَرَبه ) .


جاء في معجمات العربية دلالات عدة لكلمة ( عروُض ) .منها الطريق في عرض الجبل ، والناقة التي لم تروَّض ، وحاجز في الخيمة يعترض بين منزل الرجال ومنزل النساء، وقد وردت معان غير ما ذكرت في لغة هذه الكلمة ومشتقاتها . وإن أقرب التفسيرات لمصطلح (العروض) ما اعتمد قول الخليل نفسه : ( والعرُوض عروض الشعر لأن الشعر يعرض عليه ويجمع أعاريض وهو فواصل الأنصاف والعروض تؤنث والتذكير جائز ) .
وقد وضع الخليل بن أحمد الفراهيدي للبيت الشعري خمسة عشر بحراً هي : (الطويل ، والبسيط ، والكامل ، والمديد ، والمضارع ، والمجتث ، والهزج ، والرجز ، والرمل ، والوافر ، والمقتضب ، والمنسرح ، والسريع ، والخفيف ، والمتقارب) . وتدارك الأخفش فيما بعد بحر (المتدارك) لتتم بذلك ستة عشر بحراً .


الحديث في السيّر والتراجم يتناول جانباً من الأدب العربي عامراً بالحياة، نابضاً بالقوة، وإن هذا اللون من الدراسة يصل أدبنا بتاريخ الحضارة العربية، وتيارات الفكر العربية والنفسية العربية، لأنه صورة للتجربة الصادقة الحية التي أخذنا نتلمس مظاهرها المختلفة في أدبنا عامة، وإننا من خلال تناول سيّر وتراجم الأدباء والشعراء والكتّاب نحاول أن ننفذ إلى جانب من تلك التجربة الحية، ونضع مفهوماً أوسع لمهمة الأدب؛ ذلك لأن الأشخاص الذين يصلوننا بأنفسهم وتجاربهم هم الذين ينيرون أمامنا الماضي والمستقبل.