علم الحديث
تعريف علم الحديث وتاريخه
أقسام الحديث
الجرح والتعديل
الأصول الأربعمائة
الجوامع الحديثيّة المتقدّمة
الجوامع الحديثيّة المتأخّرة
مقالات متفرقة في علم الحديث
أحاديث وروايات مختارة
الأحاديث القدسيّة
علوم الحديث عند العامّة (أهل السنّة والجماعة)
علم الرجال
تعريف علم الرجال واصوله
الحاجة إلى علم الرجال
التوثيقات الخاصة
التوثيقات العامة
مقالات متفرقة في علم الرجال
أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله)
اصحاب الائمة من التابعين
اصحاب الائمة من علماء القرن الثاني
اصحاب الائمة من علماء القرن الثالث
علماء القرن الرابع الهجري
علماء القرن الخامس الهجري
علماء القرن السادس الهجري
علماء القرن السابع الهجري
علماء القرن الثامن الهجري
علماء القرن التاسع الهجري
علماء القرن العاشر الهجري
علماء القرن الحادي عشر الهجري
علماء القرن الثاني عشر الهجري
علماء القرن الثالث عشر الهجري
علماء القرن الرابع عشر الهجري
علماء القرن الخامس عشر الهجري
الحديث بين الشكل والمضمون
المؤلف:
الشيخ الدكتور صبحي الصالح
المصدر:
علوم الحديث ومصطلحه
الجزء والصفحة:
ص 275 ــ 288
2025-10-06
50
الفَصْلُ السَّابِعُ: الحَدِيثُ بَيْنَ الشَّكْلِ وَالمَضْمُونِ:
إنّ نظرة عجلى يلقيها الباحث المنصف على فهرس الموضوعات التفصيلي لهذا الكتاب لتقنعه بأن المكان الذي ينبغي أَنْ يَتَبَوَّأَهُ مصطلح الحديث في تاريخ العلوم يعلو كل مكان سمت إليه فلسفة المصطلحات في مختلف العصور.
فإذا انتقل الباحث من نظرة عجلى في الفهرس إلى نظرة عميقة في بعض ما يستهويه من موضوعات الكتاب، آنس في الجانب التاريخي منه والجوانب التحليلية لمصطلحاته مادة غنية من النقد العلمي الدقيق الذي بناه المحدّثون على تمحيص الحقائق لا على تنميق الظواهر: فالمضمون هو الذي يعني هؤلاء النَّقَدَةِ المَهَرَةِ، أمّا الشكل فلا قيمة له عندهم إلّا بمقدار ما يعين على تحقيق ذلك المضمون.
وفي مواطن مختلفة، وعصور متباينة، احتدمت خصومات ثقال طوال حول الشكل والمضمون، أو اللفظ والمحتوى، أو المعنى والمبنى.
خصومات تناولت الشعر والأدب، وانزلقت إلى العلم والفلسفة، وما فتئ خطرها يمتد إلى كلّ فنّ وإلى كلّ حقيقة في هذا الكون حتّى اقتحم عالم الدين، وتعدّى حدود الغيب، ففرق في كلّ دين بين حقائقه المُسَلَّمَةِ، وأصوله المؤصّلة، وقواعده المرسومة، وبين الوثائق التاريخيّة التي نقلت هذه الحقائق والأصول والقواعد واللغة المعبّرة عن تلك الوثائق، والمنطق الذي يوجه هاتيك اللغة.
هذا كتاب الله المجيد الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه يدرس اليوم بأقلام المستشرقين ومقلّديهم من ناشئتنا أحيانًا وقادة الفكر فينا أحيانًا أخرى كما يدرس أي كتاب وضعيّ لا صلة له بالسماء، فتحشد له الأحكام صريحة عارية، وتلقى عليه الأضواء كشافة ساطعة، وَتُخْضَعَ مَبَاحِثُهُ كلها لطرائق الدراسة العلميّة الموضوعيّة التي يريدها العقل الغربيّ أو «المستغرب»، شكاكة مرتابة، أو قل: متردّدة حيرى.
على هذا الأساس غير الفطريّ، وبهذا المنطق غير الوجدانيّ، وفي نطاق هذا البحث غير الإنسانيّ الأصيل، درس الدارسون القرآن الكريم، وَوَدُّوا لَوْ يلمسون حقائقه بأيديهم، ويتبعون تنزّلاته بأبصارهم، ويتعقّبونه في مكّيّه ومدنيّه، وناسخه ومنسوخه، وجمعه وترتيبه، وتأويله وتفسيره، ولقد حفظه الذي أنزله من عبث أولئك العابثين، مصداقًا لقوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}.
فإن يكُ هذا شأن القرآن، كتاب الله، فلا عجب أَنْ تَخْلُصَ هذه الدراسة النقدية العلمية إلى الحديث النبوي، تماري في أصوله وطرق نقله وحفظه وتلوينه، ومصطلحات علومه وفنونه، وتشكّك في صحّته مثلما شككت زَمَنًا غير قليل في صحّة الشعر الجاهليّ. ولا ريب أنّ السلاح الثقيل لا يفله إلّا السلاح الثقيل، وأنّ الشبهات التي يثيرها العدو العليم أو الصديق الجهول لا تعالج بالصراخ والعويل، فما يدفع الباطلَ إلّا الحق ولا يدفع الشبهاتِ الحوالك إلّا حجج واضحة «لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا، لاَ يَضِلُّ فِيهَا إِلاَّ هَالِكٌ»!.
وكما عرضنا في كتابنا "مباحث في علوم القرآن" (1) شبهات القوم وطوينا في غضونها رَدَّنَا عليها، أو ردّها على نفسها - لِوَهَنِهَا وَتَهَافُتِهَا - عرضنا في «علوم الحديث»، أهمّ الشبهات، وأتبعناها تحليلاً دقيقًا (ما وسعنا الأمر) لحقائق هذه العلوم كما بسطها علماؤنا الأتقياء الأبرار، فَلَمْ نَرَ حاجة - وقد اتّضح هذا كلّه - إلى عقد فصل مستقل لبحث المشكلة الأساسية التي تشغل بال المستشرقين ومقلّديهم في ديارنا، ألا وهي مشكلة اللفظ والمحتوى، أو الشكل والمضمون في الحديث ومصطلحه، بل أرسلنا بحثنا على سجيّته، وأجريناه إلى غايته، وجئنا هنا نتحدّث في «الخاتمة» متعجّبين من هؤلاء الناس الذين يظنّون مصطلحنا يقوم على الشكل، ويهمل المضمون، أو كما يقولون: يُعنَى بالأسانيد ولا يبالي بالمتون، وأقبلنا عليهم وعلى المخدوعين بهم نؤكّد أنّ ما استقيناه من كتب علمائنا في المصطلح (وكدنا والحمد للهِ لا نغفل واحدًا من أمّهاتها مطبوعة ومخطوطة) لا يجوز أن يقال فيه أَبَدًا إِنَّهُ عُنِيَ بِالشَّكْلِ، فما اتّجهت عنايته إلّا إلى المضمون.
ومع أنّ النظرة الممعنة في غضون كتابنا هذا كافية لإقناع الباحث المنصف بهذه الحقيقة البديهيّة، نؤثر في هذه الخاتمة أن نردّد لمن ألقى السمع وهو شهيد أصداءً حلوة لطائفة من أقوال المحدّثين، ونخطّط له مرّة أخرى بعض مقاييسهم النقديّة الموضوعيّة، ولن نفتّش بعيدًا عن هذه الأقوال والمقاييس فهي بين أيدينا في الصفحات التي يطويها هذا الكتاب بين دفّتيه، حتّى ليكونن حسبنا أن نشير إلى هاتيك الصفحات، ولتنطقنّ بَعْدُ بحقائق لا يجحدها إلّا مكابر عنيد!.
لقد اعتقد المحدّثون أنّ دراستهم لمتن الحديث وعنايتهم بحفظ كتب الرواية ليستا شيئًا ذا بال إن لم تقترنا بعلم الحديث دراية، الذي هو الدراسة التاريخيّة التحليليّة لأقوال الرسول العظيم وأفعاله، ورأيناهم في علم الحديث دراية يبحثون عن أحوال الراوي والمروي، وما كانوا يقصدون بالراوي إلّا حلقة في سلسلة السند، ولا بالمروي إلا متن الحديث فعلم مصطلح الحديث - بطبيعة تعريفه - لا يقتصر على مباحث الإسناد، بل يجاوزها إلى المسائل المتعلّقة بالمتن أيضًا. وقد يبدو للباحث - إذا وقف عند الظاهر وحده - أنّ نقّاد الحديث عنوا بالإسناد أكثر من المتن، ولكن هذا وهم بعيد ما أسرع تبدّده لدى البحث العميق، والنظر الدقيق.
إنّ مباحثهم تدور حول الإسناد والمتن من حيث القبول والرد، ففي حالة القبول يدرسون الصحيح والحسن، وفي حالة الرد يدرسون [الضعيف] والموضوع.
ونكاد نلمح في جميع مصطلحاتهم تقسيمًا ثنائيًّا مؤلّفًا من السند والمتن، وأهمّ ما في هذا الشأن أنّ المتن يذكر في تقسيمهم كالسند، وإليك البيان والتفصيل:
في بحثَي الصحيح والحسن قضيّة مشتركة خلاصتها أنّ الصحّة قد تتناول السند والمتن مَعًا، أو السند دون المتن، أو المتن دون السند، ومثلها الحسن في ذلك، فلا يحكم بصحّة حديث ولا حسنه إطلاقًا بل يبيّن نوع صحّته أو حسنه هل وقع في الإسناد أو المتن، فَمَا كُلُّ مَا صَحَّ سَنَدًا صَحَّ مَتْنًا.
وحين يكون الصحيح متواترًا لا ينظر فيه إلى إسناده من حيث تعدّد رواته واشتراك الجمع فيه، بل ينظر إلى متنه بحيث يؤمن تواطؤ هذا الجمع على الكذب في مثله؛ لأنّ الكذب لا يؤمن تواطؤ الجمع عليه فما يخالف الحسّ أو العقل. والمتواتر فوق ذلك، ليس من مباحث الإسناد.
والحسن لذاته حين يرقى إلى درجة الصحيح لغيره لا ينظر فيه إلى كثرة طرقه وأسانيده فقط، بل يلاحظ فيه - منذ الخطوة الأولى - أنّه كالصحيح لذاته في تجرّده من كلّ شذوذ وعلة، وفي الشذوذ تفرد ومخالفة كثيرًا ما يكونان في المتن، لذلك قالوا: «لاَ يَجِيئُكَ بِالحَدِيثِ الشَاذِّ إِلّا الرَّجُلُ الشّاذُّ»، ولذلك أيضًا كرهوا رواية المناكير.
وفي العلّة ضرب من النقد الذاتي يتناول المتون بالتضعيف من خلال توهن الرواة المدرك بنوع من الإلهام والتعمّق في الفهم، لا بحفظ الأسماء والأسانيد.
وفي أكثر أنواع الضعيف تتضح هذه الثنائيّة، يستوي فيها ما كان خالصًا للضعف وما كان مشتركًا بين الصحيح والحسن والضعيف.
فمرسل الصحابة مقبول رغم انقطاع السند؛ لأنّ المتن الذي يحكيه الصحابة لا يعقل أن يكون مُخْتَرَعًا، فإذا كان هؤلاء الصحابة ممّن ينقلون الإسرائيليّات تشدّد العلماء؛ لأنّ متونهم قد تخالف متون الأحاديث النبويّة.
ومن هنا تحفّظ النقّاد في تفسير الصحابة، فلم يطلقوا القول بأنّ له حكم المرفوع، مخافة تأثّر بعضهم بمسلمة أهل الكتاب. ونفى بعضهم أن يكون هنالك شيء يسمّى مرسل الصحابة، وعدّوا مراسيل بعضهم تدليسًا، وقالوا صراحة: «مَا أَقَلَّ مَنْ سَلِمَ مِنَ التَّدْلِيسِ!» (2).
ومع اعترافهم بأنّ التعليل أكثر ما يتطرق إلى الإسناد لم ينفوا تعليل المتن، فقالوا: لا يطلق الحكم بصحّة حديث ما لجواز أن يكون فيه عّلة في متنه.
ومع أنّ الاضطراب أكثر ما يقع في الإسناد، لم يفت النقّاد أن ينبّهوا على وقوعه في المتن أيضًا، وجاؤوا على ذلك بشواهد.
وقسّموا المقلوب إلى قسمين: مقلوب مَتْنًا ومقلوب إسنادًا.
وتشدّدهم في أداء الحديث باللفظ أكثر ما يتّجه إلى المتون، حتّى لا يكذب الناس على رسول الله - صَلَى اللهُ عَلَيْهِ [وآله] وَسَلَّمَ -، ولا سيما إذا لحن الراوي زاعمًا أنّ خطأه من لفظ الرسول فقد عدّوه متعمّدًا للكذب، جديرًا بأن يتبوّأ مقعده من النّار.
وبعض مباحث القسم المشترك بين الصحيح والحسن والضعيف إنّما ينظر فيها إلى حال المتن كالمرفوع مثلاً، فإنّ للمرفوع إلى النبي ـ صلى الله عليه [وآله] وسلّم ـ نورًا كنور النهار يعرفه الذوق السليم، فلا يخفى على أحد شيء ممّا يحمل عليه أو يوضع في فيه؛ لأنّ للموضوع المختلق ظلمة كظلمة الليل، تنكره البصيرة النيّرة (3).
وكثير من مباحث هذا القسم المشترك يتناول المتون بالدرجة الأولى، وإن كانت له صور في الأسانيد، كالمدرج مثلاً، فإنّ مدرج الإسناد يرجع في الحقيقة إلى المتن، وكالمصحّف أيضًا فإنّه أكثر ما يقع في المتون، وكالمسلسل بعد هذا كلّه فإنّ أشدّ شيء إثارة للريبة فيه تماثل العبارات في متونه، وإن كانت صورته الظاهريّة ترتد إلى هذا التماثل على ألسنة الرواة، أو بعبارة أخرى إلى سلسلة الإسناد، ولذلك يقولون: هذا باطل مَتْنَا وَتَسَلْسُلاً، كأنّ سِرَّ بطلانه ليس مجرد تسلسله إطلاقًا بل تسلسل متنه بهذا الشكل النادر الفريد!.
ومصطلحًا الفرد والغريب يخيل إلى الباحث أنّهما ليسا أكثر من بحثين خالصين للإسناد، يجمعهما رابط مشترك هو التفرّد كما رأينا، ولكن النظرة الفاحصة المدقّقة ترى القضية ألصق بالمتن منها بالسند، فكما أنكروا رواية الشواذ والمناكير أنكروا الولوع بالأفراد والغرائب، وفرّوا من حسن هذه الغرائب لمخالفتها متون الروايات العزيزة والمشهورة والمستفيضة.
أمّا هذه الروايات الثلاث الأخيرة فلم تكن غاية النقّاد من مباحثها سوى تقوية الأحاديث الأفراد والغرائب بمتون تشهد لها وتتابعها، وليس تقويتها بأسانيد متعدّدة ورجال كثيرين، فكانت مقاييسهم فيها قيميّة، لا كمّيّة عدديّة، فلا بدع إذا كانت الشهرة نسبيّة، ولا غرو إذا اشتهرت متون أحاديث عند الفقهاء، وعليها طابعهم، واشتهرت متون عند العامّة وعليها ألفاظهم، وعند الصوفيّة، وبدت موضوعة غالبًا لتأييد أهوائهم.
ولعلّنا - على هذا الأساس من العناية الخاصّة بالمتون - نفهم تشدّد القوم في الأصول أكثر من تشدّدهم في المتابعات والشواهد، فالأصول ينبغي لها من الثقة بمتونها أكثر ممّا ينبغي للفروع المقويّة للفظها أو المعزّزة لمعناها، ونفهم أيضًا سرّ رفضهم متروك الحديث عند الاعتبار؛ لأنّ من صفات المتروك عدم الضبط، فحفظ المتون لا يواتيه مهما يبذل من الجهد فيه، فكان أن فرّقوا بين صالح للاعتبار وغير صالح.
وإذا تذكّرنا أنّ الشاهد عندهم على قسمين: لفظيّ ومعنويّ، وأنّ اللفظي يتناول متن الحديث نَصًّا، وأنّ المعنوي يرد إليه؛ لأنّه تقوية للمتن نفسه بما يقارب لفظه، وأضفنا إلى ذلك أنّ في المتابعة أيضًا مقاربة للفظ، أدركنا ما للمتن من قيمة في جميع هذه المصطلحات.
ونحن إلى هذا الحد ليس وراءنا دافع يسوقنا إلى أن نرد للمتن كلّ مبحث يتعلق بالإسناد، فقد أسلفنا أنّ الثنائيّة المؤلفة من المتن والإسناد، بهذا القيد الثنائي، هي التي كانت تسود جميع مسائل هذا الفن، ولا نريد أَبَدًا أن نقلّل من شأن الإسناد، فنحن لا نشك ولا نحسب مُنْصِفًا يشك في أنّ التشدّد في الأسانيد ليس عيبًا جسامًا يلام عليه علماؤنا الأخيار، ما دام لا يقصد لذاته، بل للغاية التي أنشأوا لدراسته من أجلها ألا وهي تمييز الصحيح من الموضوع وترتيب الأحاديث على درجات متفاوتة ليتمكّن العلماء من الاستفادة منها في التشريع الدينيّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ والعسكريّ والسياسيّ، وهي غاية إنسانيّة نبيلة رافقت العلوم الإسلاميّة في جميع ألوانها ومختلف أطوارها، فلا يغضّ من قيمتها انفراد أمّتنا بها، بل هي خصّيصة لنا وَمَزِيَّةٌ بَاهَيْنَا وَسَنُبَاهِي بها العالمين أبد الدهر.
على أنّنا لن نرتكب الحماقة التي لا يزال المستشرقون وتلامذتهم المخدوعون بعلمهم «الغزير» يرتكبونها كلّما عرضوا للحديث النبويّ، إذ يفصلون بين السند والمتن مثلاً يفصل بين خصمين لا يلتقيان، أو ضرّتين لا تجتمعان (4): فمقاييس المحدّثين في السند لا تفصل عن مقاييسهم في المتن إلا على سبيل التوضيح والتبويب والتقسيم، وإلا فالغالب على السند الصحيح أن ينتهي بالمتن الصحيح، والغالب على المتن المعقول المنطقيّ الذي لا يخالف الحس أن يردّ عن طريق سند صحيح، وإذن، فكلّ أبحاث النقّاد في رجال الإسناد، وفي شروط الرواة، إنّما تؤدّي بكلّ بساطة إلى النتيجة التي لا مفرّ منها: وهي نقد متون الأحاديث، لمعرفة درجتها من الصحّة والحسن والضعف.
وليت القارئ الكريم يعود مرّة أخرى إلى مبحث (شروط الراوي)، ويقرؤه بتدبّر وتعمق، ليرى رأي العين أنّ تشدّد النقّاد في شروط الراوي ليس إلّا وسيلة لتزكية الخبر المروي، ولقد استوجب هذا التشدّد أن تقاس تلك الشروط بمقاييس إنسانيّة مشتركة، تصلح لأن تأخذ بها كلّ أمّة في القديم والحديث؛ لاْنّها صادرة في أغلب صورها عن منهج موضوعي يتعالى عن الأشخاص، وعن كلّ ما تفرضه قدسيّة بعض الأشخاص من التملّق والنفاق.
لا قيمة للألقاب في هذا المنهج، فالمقياس نسبيّ لا ضير معه أن يُرْمَى بعض الصحابة بالتدليس، ولا ضير أن يعزى التصحيف إلى العلماء الأعلام، كمالك، ولا بأس أن يفضل الإسناد النازل عن الثقات على الإسناد العالي عن غير الثقات، ولا خير في التحديث عن الأحياء، فالمعاصرة حجاب، ولا مانع من وجود أحاديث فيها مقال في كل من "الصحيحين" (5)، وأحاديث ضعيفة في "مسند أحمد" (6)، بل لا مانع أن يقوم الجدل بصورة عامّة حول الحديث الآحادي هل يفيد الظنّ رغم صحّته ورغم جميع الشروط التي روعيت لدى تصحيحه، ورغم انبناء جلّ التشريع الإسلامي عليه.
ومقياس المحدّثين زمانيّ مكانيّ، أو تاريخيّ جغرافيّ، فلمّا استعمل الرواة الكذب استعمل لهم النقّاد التاريخ، واشترطوا معرفة الرجال وطبقاتهم والعناية بمواليدهم ووفياتهم، واشترطوا تقييد أسماء الرجال باسم البلد الذي حَدَّثُوا فيه، وذكروا قصصًا وأخبارًا حكموا عليها بالتدليس بسبب جهل الراوي بتاريخ وفاة المروي عنه، وجعلوا من أمارات الوضع مخالفة الحقائق التاريخيّة بوجه عام (7)، وعدّوا من صور العلو النسبيّ تقدّم وفاة الراوي وإن تساويا في العدد، وتقدّم السماع، وَنَبَّهُوا على أنّ المدنيّين إذا رَوَوْا عن الكوفيّين زلقوا، وعلى أنّ حدّ السماع خضع لاعتبارات إقليميّة... ولاحظوا أثر المذاهب التي كان لها في بعض العصور والبيئات أنصارًا متحمّسون، فكثيرًا ما يكون ذلك سببًا في الحكم بالوضع على مثل هذه الأحاديث، ورأوا إلحاق تدليس البلاد بتدليس الشيوخ؛ لأنّ فيه ادّعاء رؤية أماكن لم يتح للراوي مشاهدتها.
ومقياس المحدّثين نفسيّ اجتماعيّ، فحديث الهريسة موضوع، وضعه محمد بن الحجّاج اللخمي وكان صاحب هريسة (8) ومثله حديث «مُعَلِّمُو صِبْيَانِكُمْ شِرَارُكُمْ...!» فقد وضعه سعد بن طريف لما ضربوا ابنه.
وحديث دخوله - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - حَمَّامًا بِالجُحْفَةِ موضوع باتّفاق الحفاظ (9) لأنّه لم يكن على زمانه - صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ - حمّامات.
والدقّة واضحة في هذه المقاييس، فمن كذب مرة واحدة لا يقبل حديثه، ولا يؤخذ الحديث عن غلّاط لا يرجع عن خطئه، وَأُذُنُ المحدّثين مرهفة لا يفوتها التصحيف ولو كان تصحيف سمع لا تصحيف نظر مثل أكيل وبكير. والتحفّظ في الجرح أشد منه في التعديل؛ لأنّ المقاييس - على نزعتها الإنسانيّة السمحة - يجب أن تحجز النّاس عن الكذب على رسول الله ـ صلى الله عليه [وآله] وسلّم ـ، فلا بُدَّ من الشدّة مع الجميع حتّى يؤمن الخطأ والعثار.
أمّا المتون فكلّ ما ذكروه في علامات الوضع يتعلق بها ويدور عليها: فاللحن والركة، ومخالفة العقل أو الحس، والمجازفة بالوعد والوعيد، ومزج الكلام البليغ الفطري بعبارات معقّدة من عبارات الأصوليّين أو المتكلّمين (10)، واختلاق الأحاديث تقرّبًا إلى الطبقة الحاكمة، كلّها مباحث تتعلّق بالمتن المروي من حيث إدخال أشياء عليه لا تليق بالنبي.
ومن ذلك إدراج بعض العبارات التي يستحيل صدورها عن رسول الله ـ صلى الله عليه [وآله] وسلّم ـ كتمنّيه الرقّ في حديث أبي هريرة، ومنه الاعتقاد بأنّ قلب الحديث عَمْدًا من الكذب، والاعتقاد بأنّ بقاء التعارض بين حديثين مستحيل، فإمّا أن يحملا على نسخ أحدهما للاَخر أو تفصيله أو تخصيصه.
إنّ كل هذا يشير إلى نتيجة واحدة لا مراء فيها: هي أنّه إذا كان لا بد من الاختيار بين السند والمتن أيّهما تدور عليه مباحث المحدّثين، فإنّه المتن بلا نزاع، وما السند إلّا وسيلة إلى الأقوال والمتون.
وإذا انضمّ إلى هذا كلّه ورع الرواة في مختلف العصور، وركوبهم المشاق في طلب الرحلة والأحاديث، وشعورهم بقيمة المروي، وبأنّ هذا الأمر دين، أمكننا أن نقول: إنّ هذا المصطلح على نحو ما عرفه المحدّثون ليس له في الدقّة مثيل في التاريخ(11).
فكيف يبيح المستشرقون لأنفسهم بعد أن تجشّموا عناء قراءة ما رأينا من المخطوطات والمدوّنات والصحف أن يزعموا أن لا طريق لصحّة المتن سوى الإسناد، وأنّ العرب لم يعنوا إلّا بهذا الاسناد؟ وكيف يجرؤ أكابرهم على المغالطة إلى هذا الحد فيصنّفوا الكتب ويكتبوا الأبحاث لمجرّد الطعن في الحديث ورجاله، والنيل من نصوصه ومتونه(12)؟
وإذا انضمّ مرة أخرى إلى هذا كلّه ما حقّقناه من وجود وثائق تاريخيّة تثبت كتابة الأحاديث في حياة النبي ـ صلى الله عليه [وآله] وسلّم ـ وتهدم ما بناه المستشرقون وأعوانهم من أحلام وآمال، وتصوّر طرق المحدّثين ومناهجهم في التربية والتعليم، وتشدّدهم في الألفاظ التي يفرّقون بها بين صور التحمّل والأداء، رأينا أنّ كلّ ثناء على عمل المحدّثين ومصطلحاتهم الدقيقة لا يفي شيئًا ممّا لهم على ثقافتنا من يد، وعلى الحضارة الإنسانيّة من فضل، وأيقنّا أنّ دراسة مصطلح الحديث تدعيم لمناهجنا الأصليّة في نشر الثقافة وهي مناهج لم يعرفها العالم مطبقة إلّا مرّة واحدة في عصورنا الذهبيّة، ولا يمكن أن يطبقها غيرنا؛ لأنّها انبثقت من تفكيرنا القادر على التجريد، ومن ثقافتنا الواسعة الشاملة ومن روح ماضينا المجيد.
وبعد، فإنّ المستشرقين قوم يتقنون الحرب وأساليب الهجوم، ويتفوّقون في إلقاء الشبهات وبثّ السموم، ونحن قوم لا نتقن إلا ما نعلم، ولا نعلم إلا ما نعتقد، ولا يعنينا أن نحارب الناس ونجاولهم ونصاولهم حيث لا ضرورة لحرب ولا دافع لجيال أو صيال، بل يعنينا أن يرى النّاس الحق كما نراه بعيون ليس عليها غشاوة، وقلوب ليس فيها مرض. وإلى شبابنا العربي المثقف نوجّه هذه الكلمات، فهلّا ينصتون؟! وهلّا يوقنون؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) طبع هذا الكتاب في مطبعة جامعة دمشق 1377 هـ، ثم طبع الطبعة الثانية سنة 1381 هـ. وقد طبع مؤخّرًا في منشورات دار العلم للملايين ببيروت.
(2) ومع أنّ التدليس أخو الكذب، كما نقلنا عن العلماء ص 171، فإنّهما ليسا مترادفين على معنى واحد، والمدلّس على كلّ حال ليس هو الموضوع. فالكذب في التدليس ضرب من الخداع، والكذب في الوضع لون من الاختلاق. وقد لاحظ هذا الاختلاف بين الاصطلاحين كل من المستشرقين فرنكل وابن الورد. انظر: Frankel, Diearamaischen Fremdworter im Arabischen 188 ; Ahlwardt,Verzeichniss der Landbergschen Sammlung arab. Handschriften de la Biblioth royale de Berlin, no 149.
وجولدتسيهر يعرف هذا جيدًا، ولكنّه يتعمّد الخلط بين الاصطلاحين ليهوّل في شأن الوضع والوضّاعين.
(3) وتمييز المرفوع إلى النبي من الموضوع عليه المنسوب إليه يسير جدًّا حتّى في اختلاق المواعظ ترغيبًا في الخير ودعوة إلى الفضيلة. وقد وافق الأستاذ أحمد خان بهادر في تصوير هذا الاستعداد الفطريّ للتمييز بين ما رفع إلى النبي وما نسب إليه. انظر بحثه بالإنكليزية في "قاموس الإسلام" «مادة حديث» ....
(4) كما فعل شبرنجر في مقاله في، "المجلّة الاجتماعيّة الألمانيّة الشرقيّة" عن الحديث عند العرب وإن كان قد حاول أن يهدّئ من غلوائه بزعمه أنّ التشدّد في الأسانيد لم يكن يعني المحدّثين حقيقة إلا إذا تعلّق بالحلال والحرام ....
وقد بيّنا فساد هذا الرأي حين عرضنا لقول أحمد: «إِذَا رَوِينَا فِي الحَلاَلِ وَالحَرَامِ شَدَّدْنَا، وَإِذَا رَوِينَا فِي الفَضَائِلِ وَنَحْوِهَا تَسَاهَلْنَا». فراجع هذا مرة أخرى ص 211.
(5) فقد وجدوا في أحاديث "البخاري" (110) انتقدوها عليه، خَرَّجَ منها "مسلم" (32) حديثًا، وانفرد "البخاري" منها بثمان وسبعين. وليست عللها كلّها قادحة كما لاحظ ابن حجر.
(6) ولذلك هبّ الكثيرون يدافعون عن "المسند" كما رأينا ص 272.
(7) كحديث وضع الجزية عن أهل خيبر فهذا كذب من عدّة وجوه، أهمّها أنّ فيه شهادة سعد بن معاذ، وسعد توفّي قبل ذلك في غزوة الخندق، وفيه كتابة معاوية بن أبي سفيان، وهو إنّما أسلم زمن الفتح، والجزية إنّما نزلت بعد عام تبوك، وفيه أنّه - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - وضع عنهم الكلف والسخر ولم يكن في زمان النبي كلف ولا سخر ولا مكوس. قارن بـ"اللؤلؤ المرصوع فيما لا أصل له أو بأصله موضوع" للقاوقجي.
ومن أجود ما كتب في هذا الباب رسالة الدكتور مصطفى السباعي "السنة ومكانتها في التشريع الإسلاميّ"، وهي الرسالة التي تقدّم بها لنيل شهادة العالميّة من درجة أستاذ في الأزهر، وقد تفضّل الزميل الكريم باطّلاعي على رسالته هذه قبل أن تطبع، وكنت في طبعتي الأولى لكتابي هذا قد أشرت في هذا الموضوع إلى عدم تمكّني من قراءة رسالة الدكتور السباعي إلّا والملازم الأخيرة من كتابي ماثلة للطبع، وذكرت أنّ الأستاذ وعد بطبع رسالته، وقد طبعت فعلاً وأتيح لي الاطّلاع عليها والإفادة منها.
(8) انظر "تذكرة الموضوعات" للفتني: ص 145.
(9) "اللؤلؤ المرصوع": ص 35.
(10) ذكر في "شرح الديباج المذهب": ص 53: أنّ من الموضوع ما أورده الأصوليّون من قوله ـ صلى الله عليه [وآله] وسلّم ـ: «إِذَا رُوِيَ الحَدِيثُ عَنِّي فَاعْرِضُوهُ عَلَى كِتَابِ اللهِ، فَإِنْ وَافَقَهُ فَاقْبَلُوهُ وَإِنْ خَالَفَ فَرُدُّوهُ». قال الخطابي: «وَضَعَهُ الزَّنَادِقَةُ»، وعلى ذلك فقس ...
(11) ولقد اعترف المستشرق جولدتسيهر بذلك، ولكنّه أبى أن يجعل الدقّة فيه شاملة للمتن والسند.
(12) كطعن جولدتسيهر في الصحابي أبي هريرة ....
الاكثر قراءة في علوم الحديث عند العامّة (أهل السنّة والجماعة)
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة

الآخبار الصحية
