أقرأ أيضاً
التاريخ: 14-9-2020
15160
التاريخ: 13-9-2020
3239
التاريخ: 13-9-2020
7062
التاريخ: 14-9-2020
6158
|
قال تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (94) وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (95) حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97) إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98) لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ } [الأنبياء: 92 - 100]
{ إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} أي: هذا دينكم دين واحد عن ابن عباس ومجاهد والحسن وأصل الأمة الجماعة التي على مقصد واحد فجعلت الشريعة أمة واحدة لاجتماعهم بها على مقصد واحد وقيل معناه جماعة واحدة في أنها مخلوقة مملوكة لله تعالى أي فلا تكونوا إلا على دين واحد وقيل معناه هؤلاء الذين تقدم ذكرهم من الأنبياء فريقكم الذي يلزمكم الاقتداء بهم في حال اجتماعهم على الحق كما يقال هؤلاء أمتنا أي فريقنا وموافقونا على مذهبنا.
{وأنا ربكم} الذي خلقكم {فاعبدوني} ولا تشركوا بي شيئا ثم ذكر اليهود والنصارى بالاختلاف فقال { وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} أي: فرقوا دينهم فيما بينهم يلعن بعضهم بعضا ويتبرأ بعضهم من بعض عن الكلبي وابن زيد والتقطع هذا بمنزلة التقطيع ثم قال مهددا لهم {كل إلينا راجعون} أي: كل ممن اجتمع وافترق راجع إلى حكمنا في الوقت الذي لا يقدر على الحكم سوانا فنجازيهم بأعمالهم {فمن يعمل من الصالحات} التقدير فمن يعمل من الصالحات شيئا مثل صلة الرحم ومعونة الضعيف ونصر المظلوم والتنفيس عن المكروب وغير ذلك من أنواع الطاعات {وهو مؤمن} شرط الإيمان لأن هذه الأشياء لو فعلها الكافر لم ينتفع بها عند الله تعالى {فلا كفران لسعيه} أي: فلا جحود لإحسانه في عمله بل يشكر ويثاب عليه.
{وإنا له كاتبون} أي: نأمر ملائكتنا أن يكتبوا ذلك ويثبتوه فلا يضيع منه شيء وقيل كاتبون أي ضامنون جزاءه حتى نوفر على عاملها مجموعة ومنه الكتيبة لأنه ضم رجال إلى رجال { وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} اختلف في معناه على وجوه أحدها: أن لا مزيدة والمعنى حرام على قرية مهلكة بالعقوبة أن يرجعوا إلى دار الدنيا عن الجبائي وقيل إن معناه واجب عليها إنها إذا أهلكت لا ترجع إلى دنياها عن قتادة وعكرمة والكلبي قال عطا يريد حتم مني والمراد إن الله تعالى كتب على من أهلك أن لا يرجع إلى الدنيا قضاء منه حتما وفي ذلك تخويف لكفار مكة بأنهم إن عذبوا وأهلكوا لم يرجعوا إلى الدنيا كغيرهم من الأمم المهلكة وقد جاء الحرام بمعنى الواجب في شعر الخنساء :
وإن حراما لا أرى الدهر باكيا على شجوة إلا بكيت على صخر(2)
وثانيها: إن معناه حرام على قرية وجدناها هالكة بالذنوب أن يتقبل منهم عمل لأنهم لا يرجعون إلى التوبة وثالثها : إن معناه حرام أن لا يرجعوا بعد الممات بل يرجعون أحياء للمجازاة عن أبي مسلم وروى محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال كل قرية أهلكها الله بعذاب فإنهم لا يرجعون .
لما تقدم أنهم لا يرجعون إلى الدنيا وعدهم بالرجوع إلى الآخرة وبين علامة ذلك فقال { حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ} أي: فتحت جهتهم والمعنى انفرج سد يأجوج ومأجوج بسقوط أو هدم أو كسر وذلك من أشراط الساعة { وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ } أي: وهم يريد يأجوج ومأجوج من كل نشز من الأرض يسرعون عن قتادة وابن مسعود والجبائي وأبي مسلم يعني أنهم يتفرقون في الأرض فلا ترى أكمة إلا وقوم منهم يهبطون منها مسرعين وقيل إن قوله هم كناية عن الخلق يخرجون من قبورهم إلى الحشر عن مجاهد وكان يقرأ من كل جدث يعني القبر ويدل عليه قوله فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون.
{ وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} أي: الموعود الصدق ومعناه اقترب قيام الساعة { فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا} معناه فإذا القصة أن أبصار الذين كفروا تشخص في ذلك اليوم أي لا تكاد تطرف من شدة ذلك اليوم وهو له ينظرون إلى تلك الأهوال عن الكلبي {يا ويلنا} أي يقولون يا ويلنا { قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا } اشتغلنا بأمور الدنيا وغفلنا عن هذا اليوم فلم نتفكر فيه {بل كنا ظالمين} بأن عصينا الله تعالى وعبدنا غيره ثم قال سبحانه { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} يعني الأصنام {حصب جهنم} أي: وقودها عن ابن عباس وقيل حطبها عن مجاهد وقتادة وعكرمة وأصل الحصب الرمي فالمراد أنهم يرمون فيها كما يرمى بالحصباء عن الضحاك وأبي مسلم.
ويسأل على هذا فيقال: أن عيسى (عليه السلام) قد عبد والملائكة قد عبدوا والجواب أنهم لا يدخلون في الآية لأن ما لما لا يعقل ولأن الخطاب لأهل مكة وإنما كانوا يعبدون الأصنام فإن قيل فأي فائدة في إدخال الأصنام النار وقيل يعذب بها المشركون الذين عبدوها فتكون زيادة في حسرتهم وغمهم ويجوز أن يرمى بها في النار توبيخا للكفار حيث عبدوها وهي جماد لا تضر ولا تنفع وقيل إن المراد بقوله وما يعبدون من دون الله الشياطين دعوهم إلى عبادة غير الله فأطاعوهم كما قال يا أبت لا تعبد الشيطان.
{أنتم لها واردون} خطاب للكفار أي: أنتم في جهنم داخلون وقيل إن معنى لها إليها لقوله بأن ربك أوحى لها أي إليها {لو كان هؤلاء} الأصنام والشياطين {ءالهة} كما تزعمون {ما وردوها} أي: ما دخلوا النار ولامتنعوا منها {وكل} من العابد والمعبود {فيها} أي: في النار {خالدون} دائمون {لهم فيها زفير} أي صوت كصوت الحمار وهو شدة تنفسهم في النار عند إحراقها لهم {وهم فيها لا يسمعون} أي: لا يسمعون ما يسرهم ولا ما ينتفعون به وإنما يسمعون صوت المعذبين وصوت الملائكة الذين يعذبونهم ويسمعون ما يسوءهم عن الجبائي وقيل يجعلون في توابيت من نار فلا يسمعون شيئا ولا يرى أحد منهم إن في النار أحدا يعذب غيره عن عبد الله بن مسعود.
________________
1- تفسير مجمع البيان ،الطبرسي،ج7،ص111-116.
2- الشجوة:الحزن.وفي نسخة مخطوطة وكذا في اللسان ((على عمرو)) مكان ((على صخرة)) ونسب البيت في اللسان إلى عبد الرحمن المحاربي.
{ إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ }. هذه إشارة إلى عقيدة الأنبياء ، وهي التوحيد مع الانقياد إليه تعالى قولا وعملا ، والخطاب في أمتكم لجميع الناس بلا استثناء ، والمعنى عليكم أيها الناس أن تدينوا جميعا بدين التوحيد الذي كان عليه الأنبياء ، وأن تعبدوا الواحد الأحد ، وتخلصوا له في الأقوال والأفعال { وتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ } أمرهم سبحانه أن يكونوا جميعا على عقيدة التوحيد ، فتفرقوا شيعا وطوائف ، منهم الجاحدون ، ومنهم المشركون ، حتى أتباع الأنبياء يلعن بعضهم بعضا ، ويتبرأ بعضهم من بعض ، بل وأتباع النبي الواحد كذلك { كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ }. هذا تهديد ووعيد على تفرقهم وشتاتهم وانحرافهم عن الحق .
{فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ }.
الايمان مع العمل الصالح طريق إلى الجنة ، والايمان بلا عمل لا يجدي شيئا لقوله تعالى : « لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً » - 158 الانعام . أما العمل بلا ايمان فينفع صاحبه في الدنيا بنحو من الأنحاء ، وقد ينفعه في الآخرة بتخفيف العذاب . وتكلمنا عن ذلك مفصلا بعنوان الكافر وعمل الخير عند تفسير الآية 178 من سورة آل عمران ج 2 ص 221 ، وتقدم نظير هذه الآية في سورة النحل الآية 97 ج 4 ص 550 .
{وحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ }. هذه الآية سؤال عن جواب مقدر ، وهو : هل المشركون من أهل القرى الذين أهلكهم اللَّه بكفرهم يحييهم اللَّه ثانية بعد الموت ، ويعذبهم في الآخرة كما عذبهم في الدنيا ؟ .
فأجابه سبحانه بأن كل الناس يرجعون غدا إلى اللَّه من غير استثناء حتى الذين أهلكهم في الدنيا بذنوبهم ، وحرام عليهم عدم الرجوع إلى اللَّه بعد الموت ، بل لا بد من نشرهم وحشرهم لا محالة .
سؤال ثان : هل يعاقبهم اللَّه في الآخرة على كفرهم بعد ان عاقبهم عليه في الدنيا ؟ وهل يجوز الجمع بين عقوبتين على جريمة واحدة ؟
الجواب : كان إهلاكهم في الدنيا عقابا على تكذيبهم الرسل الذين جاؤوهم بالمعجزات كما دل قوله تعالى : « وقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ » - 37 الفرقان . وقوله : « كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وأَصْحابُ الرَّسِّ وثَمُودُ وعادٌ وفِرْعَوْنُ وإِخْوانُ لُوطٍ وأَصْحابُ الأَيْكَةِ وقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ » - 14 ق وغير ذلك من الآيات ، أما عذاب الآخرة فهو على الكفر من حيث هو ، وعلى سائر الذنوب كالكذب والظلم ونحوه ، فالعقاب متعدد ولكن بتعدد الذنوب ، لا على ذنب واحد .
{حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ ومَأْجُوجُ وهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ }. عند تفسير الآية 94 من سورة الكهف نقلنا عن بعض المفسرين أن يأجوج هم التتر ، ومأجوج هم المغول ، وأيضا قلنا عند تفسير الآية 98 من السورة المذكورة :
إن سد يأجوج ومأجوج قد ذهب مع الأيام لأنه لو كان اليوم لبان ، وعلى هذا يكون المراد بفتحت يأجوج ومأجوج انتشارهم في القارات . . ومهما يكن فإنّا لم نقرأ عن يأجوج ومأجوج ما تركن إليه النفس لا في التفاسير ولا في غيرها ، ولا مجال للفكر في مثل هذه الموضوعات ، لذلك نقف عند ظاهر النص القرآني ، ونترك التفاصيل لغيرنا .
{ واقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا }. المراد بالوعد الحق قيام الساعة ، وعندها تذهل عقول الكفرة الطغاة ، وتجحظ منهم الأعين ، وترتفع الجفون من شدة الهول . . وتقدم مثله في الآية 42 من سورة إبراهيم ج 4 ص 455 {يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ }. الجملة مفعول لقول محذوف أي يقولون : يا ويلنا الخ . وتقدم نظيره في الآية 14 و 46 من هذه السورة ، والآية 5 من سورة الأعراف ج 3 ص 302 .
{ إِنَّكُمْ وما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ }. الخطاب لمشركي مكة ، والمراد بما يعبدون أصنامهم ، وحصب جهنم وقودها ، مأخوذ من الرمي بالحصباء حيث يرمى بالمجرم في نار جهنم ، والمعنى انكم أيها المشركون أنتم وأصنامكم مقرونان غدا في جهنم . . وفي الحديث المرء مع من أحب .
وتسأل : وأية جدوى من إدخال الأصنام إلى النار ، وهي أحجار ، لا ادراك فيها ولا شعور ؟
وأجاب المفسرون بأن الغرض من ذلك أن يزداد عبدتها حسرة وغما كلما رأوها إلى جانبهم . وهذا مجرد حدس واستحسان ، والأولى أن ندع الجواب للآية 24 من سورة البقرة : « فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ والْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ » .
وفي بعض الروايات : « ان ابن الزبعري - وهو أحد مشركي قريش وشعرائهم - اعترض على هذه الآية بأن اليهود يعبدون عزيرا ، والنصارى يعبدون المسيح ، وهما من أهل الجنة باعتراف محمد ، فكيف يقول كل معبود حصب جهنم ؟ فقال له رسول اللَّه ( صلى الله عليه واله وسلم ) : ما أجهلك بلغة قومك ! أليست ( ما ) لما لا يعقل ؟ » .
هذا ، إلى أن الخطاب لمشركي قريش بالخصوص ، كما قلنا ، وهم يعبدون الأصنام .
{ لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وكُلٌّ فِيها خالِدُونَ }. هؤلاء إشارة إلى الأصنام ، وضمير وردوها يعود إلى النار ، ومعنى الآية واضح ، وهو لو كانت الأصنام آلهة ما دخلت النار ، ومثل هذا النقض ان تقول : لو كنت أمينا لما خنت ، ولكنك قد خنت ، فما أنت بأمين . . وفي المنطق يسمى هذا النوع من الاستدلال بالقياس الاستثنائي {لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ }. ضمير لهم يعود إلى كل مجرم مسلما كان أم كافرا ، وضمير فيها إلى جهنم ، والمعنى لكل مجرم في جهنم أنين وعنين ، ولا يسمع من أحد كلمة عطف وحنان ، بل من يراه يوبخه ويعنفه : « وقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ » - 24 الزمر .
______________
1- التفسير الكاشف، ج 5، محمد جواد مغنية، ص 298-300.
في الآيات رجوع إلى أول الكلام فقد بين فيما تقدم أن للبشر إلها واحدا وهو الذي فطر السماوات والأرض فعليهم أن يعبدوه من طريق النبوة وإجابة دعوتها ويستعدوا بذلك لحساب يوم الحساب، ولم تندب النبوة إلا إلى دين واحد وهو دين التوحيد كما دعا إليه موسى من قبل ومن قبله إبراهيم ومن قبله نوح ومن جاء بعد موسى وقبل نوح ممن أشار الله سبحانه إلى أسمائهم ونبذة مما أنعم به عليهم كأيوب وإدريس وغيرهما.
فالبشر ليس إلا أمة واحدة لها رب واحد هو الله عز اسمه ودين واحد هو دين التوحيد يعبد فيه الله وحده قطعت به الدعوة الإلهية لكن الناس تقطعوا أمرهم بينهم وتشتتوا في أديانهم واختلقوا لهم آلهة دون الله وأديانا غير دين الله فاختلف بذلك شأنهم وتباينت غاية مسيرهم في الدنيا والآخرة.
أما في الآخرة فإن الصالحين منهم سيشكر الله سعيهم ولا يشاهدون ما يسوؤهم ولن يزالوا في نعمة وكرامة، وأما غيرهم فإلى العذاب والعقاب.
وأما في الدنيا فإن الله وعد الصالحين منهم أن يورثهم الأرض ويجعل لهم عاقبة الدار والطالحون إلى هلاك ودمار وخسران وسعي وبوار.
قوله تعالى:{ إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} - الأمة جماعة يجمعها مقصد واحد، والخطاب في الآية على ما يشهد به سياق الآيات - خطاب عام يشمل جميع الأفراد المكلفين من الإنسان، والمراد بالأمة النوع الإنساني الذي هو نوع واحد، وتأنيث الإشارة في قوله{هذه أمتكم} لتأنيث الخبر.
والمعنى: أن هذا النوع الإنساني أمتكم معشر البشر وهي أمة واحدة وأنا - الله الواحد عز اسمه - ربكم إذ ملكتكم ودبرت أمركم فاعبدوني لا غير.
وفي قوله:{أمة واحدة} إشارة إلى حجة الخطاب بالعبادة لله سبحانه فإن النوع الإنساني لما كان نوعا واحدا وأمة واحدة ذات مقصد واحد وهو سعادة الحياة الإنسانية لم يكن له إلا رب واحد إذ الربوبية والألوهية ليست من المناصب التشريفية الوضعية حتى يختار الإنسان منها لنفسه ما يشاء وكم يشاء وكيف يشاء بل هي مبدئية تكوينية لتدبير أمره، والإنسان حقيقة نوعية واحدة، والنظام الجاري في تدبير أمره نظام واحد متصل مرتبط بعض، أجزائه ببعض ونظام التدبير الواحد لا يقوم به إلا مدبر واحد فلا معنى لأن يختلف الإنسان في أمر الربوبية فيتخذ بعضهم ربا غير ما يتخذه الآخر أويسلك قوم في عبادته غير ما يسلكه الآخرون فالإنسان نوع واحد يجب أن يتخذ ربا واحدا هو رب بحقيقة الربوبية.
وهو الله عز اسمه.
وقيل: المراد بالأمة الدين، والإشارة بهذه إلى دين الإسلام الذي كان دين الأنبياء والمراد بكونه أمة واحدة اجتماع الأنبياء بل إجماعهم عليه، والمعنى أن ملة الإسلام ملتكم التي يجب أن تحافظوا على حدودها وهي ملة اتفقت الأنبياء (عليهم السلام) عليها.
وهو بعيد فإن استعمال الأمة في الدين لو جاز لكان تجوز الإيصال إليه إلا بقرينة صارفة ولا وجه للانصراف عن المعنى الحقيقي بعد صحته واستقامته وتأيده بسائر كلامه تعالى كقوله:{وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا:} يونس: 19 وهو - كما ترى - يتضمن إجمال ما يتضمنه هذه الآية والآية التي تليها.
على أن التعبير في قوله:{وأنا ربكم} بالرب دون الإله يبقى على ما ذكروه بلا وجه بخلاف أخذ الأمة بمعنى الجماعة فإن المعنى عليه إنكم نوع واحد وأنا المالك المدبر لأمركم فاعبدوني لتكونوا متخذين لي إلها.
وفي الآية وجوه كثيرة أخر ذكروها لكنها جميعا بعيدة من السياق تركنا إيرادها من أراد الوقوف عليها فليراجع المطولات.
قوله تعالى:{ وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ } - التقطع على ما قال في مجمع البيان، بمعنى التقطيع وهو التفريق، وقيل: هو بمعناه المتبادر وهو التفرق والاختلاف و{أمرهم} منصوب بنزع الخافض، والتقدير فتقطعوا في أمرهم وقيل{تقطعوا} مضمن معنى الجعل ولذا عدي إلى المفعول بنفسه.
وكيف كان فقوله:{وتقطعوا أمرهم بينهم} استعارة بالكناية والمراد به أنهم جعلوا هذا الأمر الواحد وهو دين التوحيد المندوب إليه من طريق النبوة وهو أمر وحداني قطعا متقطعة وزعوه فيما بينهم أخذ كل منهم شيئا منه وترك شيئا كالوثنيين واليهود والنصارى والمجوس والصابئين على اختلاف طوائفهم وهذا نوع تقريع للناس وذم لاختلافهم في الدين وتركهم الأمر الإلهي أن يعبدوه وحده.
وقوله:{كل إلينا راجعون} فيه بيان أن اختلافهم في أمر الدين لا يترك سدى لا أثر له بل هؤلاء راجعون إلى الله جميعا وهم مجزيون حسب ما اختلفوا كما يلوح إليه التفصيل المذكور في قوله بعد:{فمن يعمل من الصالحات} إلخ.
والفصل في جملة:{كل إلينا راجعون} لكونها في معنى الجواب عن سؤال مقدر كأنه قيل: فإلى م ينتهي اختلافهم في أمر الدين؟ وما ذا ينتج؟ فقيل: كل إلينا راجعون فنجازيهم كما علموا.
قوله تعالى:{ فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ } تفصيل لحال المختلفين بحسب الجزاء الأخروي وسيأتي ما في معنى تفصيل جزائهم في الدنيا من قوله:{ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون}.
فقوله:{فمن يعمل من الصالحات} أي من يعمل منهم شيئا من الأعمال الصالحات وقد قيد عمل بعض الصالحات بالإيمان إذ قال:{وهو مؤمن} فلا أثر للعمل الصالح بغير إيمان.
والمراد بالإيمان - على ما يظهر من السياق وخاصة قوله في الآية الماضية:{وأنا ربكم فاعبدون} - الإيمان بالله قطعا غير أن الإيمان بالله لا يفارق الإيمان بأنبيائه من دون استثناء لقوله:{ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ- إلى قوله - أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا:} النساء: 151.
وقوله:{فلا كفران لسعيه} أي لا ستر على ما عمله من الصالحات والكفران يقابل الشكر ولذا عبر عن هذا المعنى في موضع آخر بقوله:{وكان سعيكم مشكورا:} الدهر: 22.
وقوله:{وإنا له كاتبون} أي مثبتون في صحائف الأعمال إثباتا لا ينسى معه فالمراد بقوله:{فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ} إن عمله الصالح لا ينسى ولا يكفر.
والآية من الآيات الدالة على أن قبول العمل الصالح مشروط بالإيمان كما تؤيده آيات حبط الأعمال مع الكفر، وتدل أيضا على أن المؤمن العامل لبعض الصالحات من أهل النجاة.
قوله تعالى:{ وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ } الذي يستبق من الآية إلى الذهن بمعونة من سياق التفصيل أن يكون المراد أن أهل القرية التي أهلكناها لا يرجعون ثانيا إلى الدنيا ليحصلوا على ما فقدوه من نعمة الحياة ويتداركوا ما فوتوه من الصالحات وهو واقع محل أحد طرفي التفصيل الذي تضمن طرفه الآخر قوله:{ فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} إلخ.
فيكون الطرف الآخر من طرفي التفصيل أن من لم يكن مؤمنا قد عمل من الصالحات فليس له عمل مكتوب وسعي مشكور وإنما هو خائب خاسر ضل سعيه في الدنيا ولا سبيل له إلى حياة ثانية في الدنيا يتدارك فيها ما فاته.
غير أنه تعالى وضع المجتمع موضع الفرد إذ قال:{وحرام على قرية أهلكناها} ولم يقل: وحرام على من أهلكناه لأن فساد الفرد يسري بالطبع إلى المجتمع وينتهي إلى طغيانهم فيحق عليهم كلمة العذاب فيهلكون كما قال:{ وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا}: إسراء: 58.
ويمكن - على بعد - أن يكون المراد بالإهلاك الإهلاك بالذنوب بمعنى بطلان استعداد السعادة والهدى كما في قوله:{ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ:} الأنعام: 26 فتكون الآية في معنى قوله:{ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ:} النحل - 37، والمعنى وحرام على قوم أهلكناهم بذنوبهم وقضينا عليهم الضلال أن يرجعوا إلى التوبة وحال الاستقامة.
ومعنى الآية والقرية التي لم تعمل من الصالحات وهي مؤمنة وأنجز أمرها إلى الإهلاك ممتنع عليهم أن يرجعوا فيتداركوا ما فاتهم من السعي المشكور والعمل المكتوب المقبول.
وأما قوله:{أنهم لا يرجعون} وكان الظاهر أن يقال: إنهم يرجعون فالحق أنه مجاز عقلي وضع فيه نتيجة تعلق الفعل بشيء - أعني ما يئول إليه حال المتعلق بعد تعلقه به - موضع نفس المتعلق فنتيجة تعلق الحرمة برجوعهم عدم الرجوع فوضعت هذه النتيجة موضع نفس الرجوع الذي هو متعلق الحرمة وفي هذا الصنع إفادة نفوذ الفعل كأن الرجوع يصير بمجرد تعلق الحرمة عدم رجوع من غير تخلل فصل.
ونظيره أيضا قوله:{ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ:} الأعراف: 12 حيث إن تعلق المنع بالسجدة يئول إلى عدم السجدة فوضع عدم السجدة الذي هو النتيجة موضع نفس السجدة التي هي متعلق المنع.
ونظيره أيضا قوله:{ قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا:} الأنعام: 151 حيث إن تعلق التحريم بالشرك ينتج عدم الشرك فوضع عدم الشرك الذي هو النتيجة مكان نفس الشرك الذي هو المتعلق وقد وجهنا هاتين الآيتين فيما مر بتوجيه آخر أيضا.
وللقوم في توجيه الآية وجوه: منها: أن لا زائدة والأصل أنهم يرجعون.
ومنها: أن الحرام بمعنى الواجب أي واجب على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون واستدل على إتيان الحرام بمعنى الواجب بقول الخنساء:
وإن حراما لا أرى الدهر باكيا. على شجوة إلا بكيت على صخر.
ومنها: أن متعلق الحرمة محذوف والتقدير حرام على قرية أهلكناها بالذنوب أي وجدناها هالكة بها أن يتقبل منهم عمل لأنهم لا يرجعون إلى التوبة.
ومنها: أن المراد بعدم الرجوع عدم الرجوع إلى الله سبحانه بالبعث لا عدم الرجوع إلى الدنيا والمعنى - على استقامة اللفظ - وممتنع على قرية أهلكناها بطغيان أهلها أن لا يرجعوا إلينا للمجازاة وأنت خبير بما في كل من هذه الوجوه من الضعف.
قوله تعالى:{ حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ } الحدب بفتحتين الارتفاع من الأرض بين الانخفاض، والنسول الخروج بإسراع ومنه نسلان الذئب، والسياق يقتضي أن يكون قوله:{حتى إذا فتحت} إلخ.
غاية للتفصيل المذكور في قوله:{فمن يعمل من الصالحات} إلى آخر الآيتين، وأن يكون ضمير الجمع راجعا إلى يأجوج ومأجوج.
والمعنى: لا يزال الأمر يجري هذا المجرى نكتب الأعمال الصالحة للمؤمنين ونشكر سعيهم ونهلك القرى الظالمة ونحرم رجوعهم بعد الهلاك إلى الزمان الذي يفتح فيه يأجوج ومأجوج أي سدهم أوطريقهم المسدود وهم أي يأجوج ومأجوج يخرجون إلى سائر الناس من ارتفاعات الأرض مسرعين نحوهم وهو من أشراط الساعة وأمارات القيامة كما يشير إليه بقوله:{ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98) وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا:} الكهف: 99 وقد استوفينا الكلام في معنى يأجوج ومأجوج والسد المضروب دونهم في تفسير سورة الكهف.
وقيل: ضمير الجمع للناس والمراد خروجهم من قبورهم إلى أرض المحشر.
وفيه أن سياق ما قبل الجملة{حتى إذا فتحت} إلخ.
وما بعدها{واقترب الوعد الحق} لا يناسب هذا المعنى، وكذا نفس الجملة من جهة كونها حالا.
على أن النسول من كل حدب - وقد اشتملت عليه الجملة - لا يصدق على الخروج من القبور ولذا قرأ صاحب هذا القول وهو مجاهد الجدث بالجيم والثاء المثلثة وهو القبر.
قوله تعالى:{ وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا } إلخ.
المراد بالوعد الحق الساعة، وشخوص البصر نظره بحيث لا تطرف أجفانه، كذا ذكره الراغب وهو لازم كمال اهتمام الناظر بما ينظر إليه بحيث لا يشتغل بغيره ويكون غالبا في الشر الذي يظهر للإنسان بغتة.
وقوله:{ يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا } حكاية قول الكفار إذا شاهدوا الساعة بغتة فدعوا لأنفسهم بالويل مدعين أنهم غفلوا عما يشاهدونه كأنهم أغفلوا إغفالا ثم أضربوا عن ذلك بالاعتراف بأن الغفلة لم تنشأ إلا عن ظلمهم بالاشتغال بما ينسي الآخرة ويغفل عنها من أمور الدنيا فقالوا:{بل كنا ظالمين}.
قوله تعالى:{ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ } الحصب الوقود، وقيل: الحطب، وقيل: أصله ما يرمى في النار فيكون أعم.
والمراد بقوله:{وما تعبدون من دون الله} ولم يقل: ومن تعبدون - مع تعبيره تعالى عن الأصنام في أغلب كلامه بألفاظ تختص بأولي العقل كما في قوله بعد:{ما وردوها} - الأصنام والتماثيل التي كانوا يعبدونها دون المعبودين من الأنبياء والصلحاء والملائكة كما قيل ويدل على ذلك قوله بعد:{إن الذين سبقت لهم منا الحسنى} إلخ.
والظاهر أن هذه الآيات من خطابات يوم القيامة للكفار وفيها القضاء بدخولهم في النار وخلودهم فيها لا أنها إخبار في الدنيا بما سيجري عليهم في الآخرة واستدلال على بطلان عبادة الأصنام واتخاذهم آلهة من دون الله.
وقوله:{أنتم لها واردون} اللام لتأكيد التعدي أو بمعنى إلى، وظاهر السياق أن الخطاب شامل للكفار والآلهة جميعا أي أنتم وآلهتكم تردون جهنم أو تردون إليها.
قوله تعالى:{ لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ } تفريع وإظهار لحقيقة حال الآلهة التي كانوا يعبدونها لتكون لهم شفعاء، وقوله:{وكل فيها خالدون} أي كل منكم ومن الآلهة.
قوله تعالى:{ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ } الزفير هو الصوت برد النفس إلى داخل ولذا فسر بصوت الحمار، وكونهم لا يسمعون جزاء عدم سمعهم في الدنيا كلمة الحق كما أنهم لا يبصرون جزاء لإعراضهم عن النظر في آيات الله في الدنيا.
وفي الآية عدول عن خطاب الكفار إلى خطاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إعراضا عن خطابهم ليبين سوء حالهم لغيرهم، وعليه فضمائر الجمع للكفار خاصة لا لهم وللآلهة معا.
___________
1- تفسير الميزان ،الطباطبائي،ج14،ص262-267.
اُمّة واحدة:
لمّا ورد في الآيات السابقة أسماء جمع من أنبياء الله، وكذلك مريم، تلك المرأة التي كانت مثلا أسمى، وجانب من قصصهم، فإنّ هذه الآيات تستخلص نتيجة ممّا مرّ، فتقول: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} فقد كان منهجهم واحداً، وهدفهم واحداً بالرغم من إختلافهم في الزمان والمحيط والخصائص والأساليب والطرائق، فهم كانوا يسيرون في منهج واحد ويمضون جميعاً في طريق التوحيد ومحاربة الشرك ودعوة الناس إلى الإيمان بالله والحقّ والعدالة.
إنّ توحيد ووحدة الخطط والأهداف هذه تعود إلى أنّها جميعاً تصدر عن مصدر واحد، عن إرادة الله الواحد، ولهذا تقول الآية مباشرةً: {وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}.
إنّ توحيد الأنبياء الإعتقادي في الواقع يقوم على أساس وحدة منبع الوحي، وهذا الكلام يشبه كلام الإمام علي (عليه السلام) في وصيته لولده الإمام المجتبى (عليه السلام) حيث يقول: «واعلم يابني أنّه لو كان لربّك شريك لأتتك رسله، ولعرفت أفعاله وصفاته»(2).
«الاُمّة» ـ كما يقول الراغب في مفرداته ـ تعني كلّ جماعة تربطهم جهة مشتركة، الإشتراك في الدين، أو الزمن والعصر الواحد، أو المكان المعيّن، سواء كانت هذه الوحدة إختيارية أو بدون إختيار.
وإعتبر بعض المفسّرين الاُمّة الواحدة هنا بمعنى الدين الواحد، ولكن كما قلنا أنّ هذا التّفسير لا يتناسب والأصل اللغوي للاُمّة.
وقال البعض الآخر: إنّ المراد من الاُمّة هنا كلّ البشر وفي جميع الأعصار، أي إنّكم أيّها البشر اُمّة واحدة، ربّكم واحد، وهدفكم الأخير واحد.
إنّ هذا التّفسير وإن كان أكثر إنسجاماً من التّفسير السابق، ولكنّه لا يبدو مناسباً بملاحظة إرتباط هذه الآية بالآيات السابقة، بل الأنسب منها جميعاً أن تكون هذه الجملة إشارة إلى الأنبياء الذين مرّ ذكرهم في الآيات السابقة.
وأشارت الآية التالية إلى إنحراف جماعة عظيمة من الناس عن أصل التوحيد، فقالت: {وتقطّعوا أمرهم بينهم} فقد وصل بهم الأمر إلى أن يقف بعضهم ضدّ بعض، ويلعن بعضهم بعضاً ويتبرّأ منه، ولم يكتفوا بذلك، بل شهروا السلاح فيما بينهم، وسفكوا الدماء الكثيرة، وكانت هذه الأحداث نتيجة الإنحراف عن أصل التوحيد ودين الله الحقّ.
جملة «تقطّعوا» ـ من مادّة قطع ـ بمعنى تفريق القطع المتّصلة بموضوع واحد، وإذا لاحظنا أنّها جاءت من باب (تفعّل) الذي يأتي بمعنى القبول، فإنّ معنى الجملة هو: إنّ اُولئك قد إستسلموا أمام عوامل التفرقة والنفاق، ورضوا بأن يبتعد أحدهم عن الآخر، وأنهوا إتّحادهم الفطري والتوحيدي، فمَنُوا ـ نتيجة ذلك ـ بكلّ تلك الهزائم والشقاوة!
وتضيف في النهاية: {كلّ إلينا راجعون} فإنّ هذا الإختلاف عرضي يمكن إقتلاعه، وسيسيرون في طريق الوحدة جميعاً في يوم القيامة، وقد أكّد على هذه المسألة في كثير من الآيات القرآنية، وهي أنّ واحدة من خصائص يوم القيامة زوال الإختلافات وذوبانها والرجوع إلى الوحدة، فنقرأ في الآية 48/سورة المائدة: {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ }.
ويلاحظ هذا المضمون في آيات متعدّدة من القرآن الكريم(3)، وعلى هذا فإنّ خلق البشر بدأ من الوحدة، ويرجع إلى الوحدة.
وتبيّن الآية الأخيرة نتيجة الإنسجام مع الاُمّة الواحدة في طريق عبادة الله، أو الإنحراف عنها وإتّخاذ طريق التفرقة، فتقول: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ } ومن أجل زيادة التأكيد قالت: {وإنّا له لكاتبون}.
وممّا يستحقّ الإنتباه، أنّ الإيمان والعمل الصالح قد ذكرا في هذه الآية ـ ككثير من آيات القرآن الاُخرى ـ كركنين أساسيّين لنجاة البشر، غير أنّ كلمة (من) التبعيضيّة تضيف إلى ذلك أنّ القيام بكلّ الأعمال الصالحة ليس شرطاً، فإنّ المؤمنين إذا قاموا ببعض الأعمال الصالحة فإنّهم من أهل النجاة والسعادة.
وعلى كلّ حال، فإنّ هذه الآية ككثير من آيات القرآن الاُخرى قد عدّت الإيمان شرطاً لقبول الأعمال الصالحة.
ذكر جملة (فلا كفران لسعيه) في مقام بيان ثواب مثل هؤلاء الأفراد، هو تعبير مقترن بتمام اللطف والمحبّة والسماحة، لأنّ الله سبحانه هنا في مقام الشكر والثناء على عباده، ويشكر لهؤلاء سعيهم.
وهذا التعبير يشبه التعبير الذي ورد في الآية 19/سورة الإسراء: { وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا}.
الكافرون على أعتاب القيامة:
كان الكلام في آخر الآيات السابقة على المؤمنين العاملين للصالحات، وتشير الآية الأُولى من هذه الآيات إلى الأفراد في الطرف المقابل لاُولئك، وهم الذين استمرّوا في الضلال والفساد إلى آخر نفس، فتقول: { وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ}(4).
إنّ هؤلاء في الحقيقة اُناس ترفع الحجب عن أعينهم وأنظارهم بعد مشاهدة العذاب الإلهي، أو بعد فنائهم وإنتقالهم إلى عالم البرزخ، وعندها يأملون أن يرجعوا إلى الدنيا ليصلحوا أخطاءهم ويعملون الصالحات، إلاّ أنّ القرآن يقول بصراحة: إنّ رجوع هؤلاء حرام تماماً، ولم يبق طريق لجبران ما صدر منهم.
وهذا يشبه ما جاء في الآية (99) من سورة المؤمنون: { حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا..}.
وقد ذكرت في تفسير هذه الآية توضيحات أُخرى نشير إلى بعضها في الهامش(5).
وعلى كلّ حال فإنّ هؤلاء المغفّلين في غرور وغفلة على الدوام، وتستمرّ هذه التعاسة حتّى نهاية العالم، كما يقول القرآن: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ}.
لقد بحثنا بصورة مفصّلة حول «يأجوج ومأجوج»، وإنّهما من أيّة طائفة كانا؟ وأين كانا يعيشان؟ وأخيراً ماذا يعملان، وماذا سيكونان؟ في ذيل الآية (94) وما بعدها من سورة الكهف، كما تكلّمنا على «السدّ» الذي بناه «ذو القرنين» في مضيق جبلي ليمنع نفوذهما أيضاً ..
هل المراد من فتح هاتين الطائفتين تحطيم السدّ، ونفوذهما عن هذا الطريق إلى مناطق العالم الاُخرى؟ أم المراد نفوذهما في الكرة الأرضية من كلّ حدب وصوب؟ لم تتحدّث الآية عن ذلك بصراحة، بل ذكرت إنتشارهم وتفرّقهم في الكرة الأرضية كعلامة لنهاية العالم ومقدّمة للبعث والقيامة، فتقول مباشرةً: {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا}. لأنّ الرعب يسيطر
وقال بعض آخر: إنّ هذه الآية من قبيل نفي النفي، فتقول: إنّ من المحال أن لا يرجع هؤلاء في القيامة، أي إنّهم يرجعون (تفسير منهج الصادقين، ذيل الآية مورد البحث) إلاّ أنّ ما أوردناه في المتن هو الأنسب من الجميع.
على وجودهم إلى حدّ أنّ عيونهم تتوقّف عن الحركة وتصبح جاحظة لدى نظرهم إلى تلك الحوادث.
في هذه الأثناء ترفع عن أبصارهم حجب الغفلة والغرور، فيرتفع صوتهم: { يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا}. ولمّا كانوا لا يقدرون على تغطية ذنبهم بهذا العذر ليبرّئوا أنفسهم، فإنّهم يقولون بصراحة: {بل كنّا ظالمين}.
كيف يمكن عادةً مع وجود كلّ هؤلاء الأنبياء، والكتب السماوية، وكلّ هذه الحوادث المثيرة والعبر والدروس أن يكونوا في غفلة؟ إنّ ما صدر من هؤلاء تقصير وظلم لأنفسهم وللآخرين.
حصب جهنّم!
متابعة للبحث السابق عن مصير المشركين الظالمين، فقد وجّهت هذه الآيات الخطاب إليهم، وجسّدت مستقبلهم ومستقبل آلهتهم بهذه الصورة: { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ }!
«الحصب» في الأصل يعني الرمي والإلقاء، وتقال بالذات لإلقاء قطع الحطب في التنور.
وقال بعضهم: إنّ للحطب ـ على وزن سبب ـ في لغات العرب ألفاظاً مختلفة، فبعض القبائل يسمّيه حصباً، والبعض الآخر خضباً، ولمّا كان القرآن يسعى للتأليف بين القبائل والطوائف والقلوب، فإنّه كان يستعمل لغات مختلفة أحياناً، ومن جملة ذلك كلمة «حصب» هذه، وهي لغة أهل اليمن لكلمة حطب(6).
وعلى كلّ حال، فإنّ الآية محلّ البحث تقول للمشركين: إنّكم وآلهتكم ستكوّنون حطب جهنّم، وستُلقون الواحد تلو الآخر في نار جهنّم كقطع الحطب التي لا قيمة لها، ثمّ تضيف {أنتم لها واردون}.
وهذه الجملة إمّا أن تكون تأكيداً لهذا المطلب، أو إنّها إشارة إلى نكتة جديدة، وهي أنّهم يلقون آلهتكم في النّار أوّلا، ثمّ تردون عليها، فكأنّ آلهتكم تستقبلكم وتستضيفكم بالنّار المنبعثة من وجودها(7).
فإذا سأل سائل ما الهدف من إلقاء الأصنام في جهنّم؟
يقال في الجواب: إنّ هذا بنفسه نوع من العذاب بالنسبة لعبدة الأصنام حيث يرون أنّهم يحترقون في النّار التي تتوقّد من آلهتهم. إضافةً إلى أنّه تحقير لأفكارهم حيث كانوا يلتجؤون إلى مثل هذه الموجودات العديمة القيمة والأهميّة.
طبعاً، هذا في حالة كون (ما يعبدون) تعني الآلهة الميتة التي لا روح لها كالأصنام الحجرية والخشبية، كما يستفاد ذلك من (ما) لأنّها تستعمل غالباً لغير العاقل.
أمّا إذا أخذناها بالمعنى العامّ، بحيث تشمل الشياطين الذين أصبحوا محلّ عبادة، فإنّ مسألة ورود هذه الآلهة إلى جهنّم واضحة تماماً، لأنّهم شركاء في الجريمة والمعصية.
ثمّ تقول كإستخلاص للنتيجة: { لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا} ولكن اعلموا أنّهم لا يدخلون جهنّم وحسب، بل { وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ}. وممّا يلفت النظر هنا أنّ عبّاد الأصنام سيبتلون بآلهتهم خالدين معها، تلك الآلهة التي كانوا يعبدونها دائماً، وكانوا يعدّونها درعاً واقياً عن البلاء، وكانوا يطلبون منها حلّ مشاكلهم ومعضلاتهم!
ولمزيد الإيضاح عن حال هؤلاء «العابدين الضالّين» المؤلمة المخزية قبال «آلهتهم الحقيرة»، تقول الآية محلّ البحث: {لهم فيها زفير وشهيق}.
«الزفير» في الأصل يعني الصراخ المقترن بإخراج النفس. وقال بعضهم: إنّ صوت الحمار وصراخه المنكسر يسمّى في البداية زفيراً، وفي آخره شهيقاً. وعلى كلّ حال فإنّه استُعمل هنا إشارة إلى الصراخ أو الضجيج المنبعث من الحزن وشدّة الكرب(8).
كما يحتمل أنّ هذا الزفير أو الأنين المؤلم لا يكون مقتصراً على العباد فحسب، بل إنّ معبوداتهم من الشياطين أيضاً يصطرخون معهم.
ثمّ تذكّر الجملة التالية أحد العقوبات الاُخرى المؤلمة لهؤلاء، وهي {وهم فيها لا يسمعون}. وهذه الجملة قد تكون إشارة إلى أنّ هؤلاء لا يسمعون الكلام الذي يسرّهم ويبهجهم، بل يسمعون أنين أهل جهنّم المؤلم المنغّص وصراخ ملائكة العذاب فقط.
وقال بعضهم: إنّ المراد هو أنّ هؤلاء يوضعون في توابيت من نار بحيث لا يسمعون صوت أي أحد أبداً، فكأنّهم لوحدهم في العذاب، وهذا بنفسه يعتبر عقوبة أشدّ، لأنّ الإنسان إذا رأى معه بعض المسجونين فستهون عليه المصيبة، و «البليّة إذا عمّت طابت»، كما في المثل.
________________
1- تفسير الامثل ،ناصر مكارم الشيرازي،ج8،ص323-331.
2ـ نهج البلاغة. الرسالة 31.
3ـ آل عمران ـ 55، والأنعام ـ 164، والنحل ـ 92، والحجّ ـ 69، و...
4ـ بناءً على هذا التّفسير فإنّ (حرام) خبر لمبتدأ محذوف، وجملة (إنّهم لا يرجعون) دليل على ذلك، والتقدير: (حرام على أهل قرية أهلكناها أن يرجعوا إلى الدنيا أنّهم لا يرجعون).
5- اعتبر البعض «الحرام» هنا بمعنى الواجب، وقالوا: إنّ هذه الكلمة قد تأتي أحياناً بهذا المعنى، فتكون (لا) زائدة، ويصبح معنى الآية: إنّ رجوع هؤلاء في الآخرة واجب.
وقال البعض الآخر: إنّ الحرام هنا يعني الحرام نفسه، إلاّ أنّ (لا) زائدة، فيكون المعنى: إنّ رجوع هؤلاء إلى الدنيا حرام.
وإعتقد البعض الآخر أنّ المعنى عدم التوبة والرجوع إلى الله (تفسير مجمع البيان، والفخر الرازي، ذيل الآية مورد البحث).
6ـ تفسير أبي الفتوح الرازي، ذيل الآيات مورد البحث.
7ـ ينبغي الإلتفات إلى أنّ اللام في (لها) بمعنى «إلى»، وضمير (ها) يعود إلى جهنّم في الصورة الأُولى، أمّا في التّفسير الثّاني فإنّ اللام تعني «إلى»، ولكن الضمير يعود إلى الأصنام.
8ـ لمزيد الإيضاح راجع تفسير الآية (106) من سورة هود.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مدرسة دار العلم.. صرح علميّ متميز في كربلاء لنشر علوم أهل البيت (عليهم السلام)
|
|
|