أقرأ أيضاً
التاريخ: 11-9-2020
3774
التاريخ: 14-9-2020
15169
التاريخ: 12-9-2020
2834
التاريخ: 13-9-2020
7063
|
قال تعالى: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79) وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81) وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ } [الأنبياء: 78 - 82]
{ وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} أي: وآتينا داود وسليمان حكما وعلما إذ يحكمان وقيل تقديره واذكر داود وسليمان حين يحكمان في الحرث في الوقت الذي نفشت فيه غنم القوم أي تفرقت ليلا { وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ } أي: بحكمهم عالمين لم يغب عنا منه شيء وإنما جمع في موضع التثنية لإضافة الحكم إلى الحاكم وإلى المحكوم لهم وقيل لأن الاثنين جمع فهو مثل قوله {إن كان له إخوة} وهو يريد أخوين.
واختلف في الحكم الذي حكما به فقيل أنه زرع وقعت فيه الغنم ليلا فأكلته عن قتادة وقيل كان كرما وقد بدت عناقيده فحكم داود بالغنم لصاحب الكرم فقال سليمان غير هذا يا نبي الله قال وما ذاك قال يدفع الكرم إلى صاحب الغنم فيقوم عليه حتى يعود كما كان ويدفع الغنم إلى صاحب الكرم فيصيب منها حتى إذا عاد الكرم كما كان ثم دفع كل واحد منهما إلى صاحبه ماله عن ابن مسعود وروي ذلك عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليه السلام) وقال الجبائي أوحى الله تعالى إلى سليمان بما نسخ به حكم داود الذي كان يحكم به قبل ولم يكن ذلك عن اجتهاد لأنه لا يجوز للأنبياء أن يحكموا بالاجتهاد وهذا هو الصحيح المعول عليه عندنا وقال علي بن عيسى والبلخي يجوز أن يكون ذلك عن اجتهاد لأن رأي النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أفضل من رأي غيره فإذا جاز التعبد بالتزام حكم غير النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) من طرق الاجتهاد فكيف يمنع من حكم النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) على هذا الوجه والذي يدل على صحة القول الأول أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) إذا كان يوحى إليه وله طريق إلى العلم بالحكم فلا يجوز أن يحكم بالظن على أن الحكم بالظن والاجتهاد والقياس قد بين أصحابنا في كتبهم أنه لم يتعبد بها في الشرع إلا في مواضع مخصوصة ورد النص بجواز ذلك فيها نحوقيم المتلفات وأروش الجنايات وجزاء الصيد والقبلة وما جرى هذا المجرى وأيضا فلو جاز للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أن يجتهد لجاز لغيره أن يخالفه كما يجوز للمجتهدين أن يختلفا ومخالفة الأنبياء تكون كفرا هذا وقد قال الله سبحانه { وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} فأخبر سبحانه أنه إنما ينطق عن جهة الوحي.
ويقوي ما ذكرناه قوله تعالى {ففهمناها سليمان} أي: علمناه الحكومة في ذلك وقيل إن سليمان قضى بذلك وهو ابن إحدى عشر سنة وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه قضى بحفظ المواشي على أربابها ليلا وقضى بحفظ الحرث على أربابه نهارا { وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} أي: وكل واحد من داود وسليمان أعطيناه حكمة وقيل معناه النبوة وعلم الدين والشرع { وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ} قيل: معناه سيرنا الجبال مع داود حيث سار فعبر عن ذلك بالتسبيح لما فيه من الآية العظيمة التي تدعوإلى تسبيح الله وتعظيمه وتنزيهه عن كل ما لا يليق به وكذلك تسخير الطير له تسبيح يدل على إن مسخرها قادر لا يجوز عليه مما يجوز على العباد عن الجبائي وعلي بن عيسى وقيل إن الجبال كانت تجاوبه بالتسبيح وكذلك الطير يسبح معه بالغداة والعشي معجزة له عن وهب.
{وكنا فاعلين} أي: قادرين على فعل هذه الأشياء ففعلناها دلالة على نبوته {وعلمناه صنعة لبوس لكم} أي: علمناه كيف يصنع الدرع قال قتادة أول من صنع الدرع داود (عليه السلام) وإنما كانت صفائح جعل الله سبحانه الحديد في يده كالعجين فهو أول من سردها وحلقها فجمعت الخفة والتحصين وهو قوله {لتحصنكم من بأسكم} أي: ليحرزكم ويمنعكم من وقع السلاح فيكم عن السدي وقيل معناه من حربكم أي: في حالة الحرب والقتال فإن البأس في اللغة هو شدة القتال {فهل أنتم شاكرون} لنعم الله تعالى عليكم وعلى أنبيائه قبلكم وهذا تقرير للخلق على شكره فإن إنعامه على الأنبياء إنعام على الخلق.
وقيل إن سبب إلانة الحديد لداود (عليه السلام) أنه كان نبيا ملكا وكان يطوف في ولايته متنكرا يتعرف أحوال عماله ومتصرفيه فاستقبله جبرائيل ذات يوم على صورة آدمي فسلم عليه فرد عليه السلام وقال ما سيرة داود فقال نعمت السيرة لو لا خصلة فيه قال وما هي قال أنه يأكل من بيت مال المسلمين فتنكره وأثنى عليه وقال لقد أقسم داود أنه لا يأكل من بيت مال المسلمين فعلم الله سبحانه صدقه فألان له الحديد كما قال وألنا له الحديد وروي أن لقمان الحكيم حضره فرآه يفعل ذلك فصبر ولم يسأله حتى فرغ من ذلك فقام ولبس وقال نعمت الجنة للحرب فقال لقمان الصمت حكمة وقليل فاعله .
ثم عطف سبحانه بقصة سليمان على ما تقدم فقال {ولسليمان الريح} أي: وسخرنا لسليمان الريح {عاصفة} أي: شديدة الهبوب قال ابن عباس إذا أراد أن تعصف الريح عصفت وإذا أراد أن ترخي أرخيت وذلك قوله رخاء حيث أصاب {تجري بأمره} أي: بأمر سليمان { إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا } وهي أرض الشام لأنها كانت ماواه وقد سبق ذكرها في هذه السورة وقيل كانت الريح تجري في الغداة مسيرة شهر وفي الرواح كذلك وكان يسكن بعلبك ويبني له بيت المقدس ويحتاج إلى الخروج إليها وإلى غيرها وقال وهب وكان سليمان يخرج إلى مجلسه فتعكف عليه الطير ويقوم له الجن والإنس حتى يجلس على سريره ويجتمع معه جنوده ثم تحمله الريح إلى حيث أراد {وكنا بكل شيء عالمين} فإنما أعطيناه ما أعطيناه لما علمناه من المصلحة.
{ وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ } أي: وسخرنا لسليمان من الشياطين من يغوصون له في البحر فيخرجون له الجواهر واللآلىء والغوص النزول إلى تحت الماء { وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ } أي: سوى ذلك من الأبنية كالمحاريب والتماثيل وغيرهما { وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ} لئلا يهربوا منه ويمتنعوا عليه وقيل يحفظهم الله من أن يفسدوا ما عملوه عن الفراء والزجاج.
_______________
1- تفسير مجمع البيان ،الطبرسي،ج7،ص103-106.
{وداوُدَ وسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ }. اشتهر على ألسن الرواة ان رجلين تخاصما إلى داود ، أحدهما صاحب زرع ، والثاني صاحب غنم ، قال صاحب الزرع : ان غنم هذا رعت زرعي في الليل ، وبعد ان ثبت ذلك عند داود قضى بالغنم لصاحب الزرع ، ولما علم سليمان قال لأبيه : الأرفق بالرجلين ان يأخذ صاحب الأرض الغنم لينتفع بها ، لا على سبيل الملك ، وان يأخذ صاحب الغنم الأرض ليصلحها حتى يعود الزرع كما كان ، وعندها يترادان ، فيأخذ هذا غنمه ، وذاك زرعه . فاستحسن داود حكم ولده ، ورجع إليه . وظاهر الآية يتفق مع هذه الرواية ، وقد ثبت عن الرسول الأعظم ( صلى الله عليه واله وسلم ) أنه قال : ما وافق القرآن فخذوه ، وما خالفه فدعوه .
وتسأل : ان كلا من داود وسليمان نبي ، والنبي معصوم عن الخطأ بخاصة في الأحكام الشرعية ، وحكم الواقعة الواحدة واحد ، فما هو الوجه للاختلاف في الحكم بين داود وولده سليمان ؟ .
وأجاب البعض بأن قول داود كان صلحا بين الطرفين ، لا حكما . . ويلاحظ بأن الصلح يكون على بعض الشيء المتنازع ، وليس على جميعه ، والمفروض ان داود لم يبق لصاحب الغنم غنمة واحدة . . وقال آخرون : كل من داود وسليمان حكم باجتهاده . ويبتني هذا القول على أن النبي يجتهد كغيره من العلماء إذا أعوزته النصوص ، ولا يلتفت إلى هذا الرأي لأن الاجتهاد انما يكون مع عدم النص ، وقول النبي نص يدل على الحق ، ولأن الاجتهاد يحتمل فيه الخطأ ومخالفة الواقع ، وهذا لا يصح بحق المعصوم .
وقال جماعة : ان الحكم كان على ما قال داود ، ثم نسخ بما قال سليمان . .
وهذا أرجح الأقوال بدلالة قوله تعالى :{فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وعِلْماً}حيث شهد اللَّه لكل منهما بأنه عالم بالحكم ، وعلى هذا يكون قوله : فهمناها سليمان انه أوحى إليه بنسخ الحكومة دون أبيه .
واختلف الفقهاء هل يضمن صاحب الماشية جنايتها ؟ قال مالك والشافعي :
يضمن ما أفسدته ليلا لا نهارا . وقال أبو حنيفة : لا يضمن إطلاقا لا ليلا ولا نهارا . وقال جماعة من فقهاء الشيعة الإمامية بمقالة مالك والشافعي ، أما المحققون منهم فذهبوا إلى أن المعول على التفريط وعدمه ، ولا أثر لليل والنهار ، فان فرط صاحب الماشية وأهمل رعايتها كما يقتضي ضمن ، وان احترس ولم يهمل فلا شيء عليه .
{ وسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ والطَّيْرَ وكُنَّا فاعِلِينَ } . اشتهر عن داود انه كان ذا صوت رقيق حنون ، وأثبتت التجارب ان كثيرا من الحيوانات والطيور تطرب لنوع من الغناء والموسيقى ، وقرأت في الصحف ان أفعى خرجت من جحرها لتستمع إلى أم كلثوم في إحدى حفلاتها الغنائية ، ولما انتهى الغناء عادت إلى مكمنها ، أما تسبيح الجبال فهو مجاز ومبالغة كما تقول : لقد أضحك أو أبكى الصخر الأصم ، أو انه حقيقة لأن الذي جعل النار بردا وسلاما على إبراهيم هو الذي جعل الجبال تسبح مع داود . أنظر ما قلناه عند تفسير الآية 69 من هذه السورة .
{ وعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ }. المراد بصنعة اللبوس الدروع ، وتومئ الآية إلى أن أول من اخترعها داود ، وروي في سبب ذلك ان داود كان ملكا على بني إسرائيل ، وكان من عادته أن يطوف متنكرا يتعرف أحوال الناس ، وفي ذات يوم التقى برجل فسأله عن سيرة داود ؟
فقال للملك : نعمت السيرة لولا انه يأكل من بيت المال . فأقسم داود أن لا يأكل بعد يومه إلا من كدّ يمينه وعرق جبينه ، ولما علم اللَّه منه الإخلاص وصدق النية ألان له الحديد وعلمه صنعة الدروع .
وسواء أصحت الرواية أم لم تصحّ فإنها ترمز إلى وجوب الحرص والمحافظة على مصالح الناس وأموالهم ، وتواتر ان محمدا ( صلى الله عليه واله وسلم ) قبض ودرعه مرهونة في أصوع من شعير ، وكانت أموال الجزيرة العربية في قبضته وطوع أوامره .
{ ولِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ }. هذه الآية ظاهرة الدلالة على أن الريح كانت تحمل سليمان بأمر اللَّه ، ولا داعي للتأويل ما دام العقل لا يأبى هذا الظاهر ، وأوضح من هذه الآية قوله تعالى : « ولِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ ورَواحُها شَهْرٌ » - 12 سبأ فهي تقطع بالغداة مسيرة شهر على الجمال ، وبالعشي كذلك ، والمراد بالأرض المباركة نفس الأرض التي جاء ذكرها في الآية 71 من هذه السورة .
وتسأل : قال سبحانه هنا : { ولِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً } . مع أنه قال في الآية 36 من ص : { فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً }. والعاصفة هي الشديدة ، والرخاء هو اللين ، فما هو وجه الجمع ؟ .
الجواب : انها تجري تارة شديدة ، وأخرى لينة حسبما يأمرها تماما كسائق السيارة والطائرة .
{ ومِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ} في البحار ، فيستخرجون منها اللؤلؤ والمرجان ، والمراد بالشياطين هنا الجن { ويَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ } كبناء المحاريب والتماثيل ، قال تعالى : « يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وتَماثِيلَ وجِفانٍ كَالْجَوابِ وقُدُورٍ راسِياتٍ » - 13 سبأ . { وكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ } من التمرد والخروج عن طاعة سليمان . . وليس لنا ما نقوله إلا أن الوحي أثبت وجود الجن ، وانهم عملوا في خدمة سليمان ، وان العقل لا يأبى ذلك ، وعليه فلا موجب للتأويل وصرف الكلام عن ظاهره . وقال الإمام علي ( عليه السلام ) : ولو أن أحدا يجد إلى البقاء سلما ، أو إلى الموت سبيلا لكان ذلك سليمان بن داود الذي سخر له ملك الجن والإنس مع النبوة وعظيم الزلفة .
_____________________
1- التفسير الكاشف، ج 5، محمد جواد مغنية، ص 291-293.
تذكر الآيات جماعة آخرين من الأنبياء و هم داود و سليمان و أيوب و إسماعيل و إدريس و ذو الكفل و ذو النون و زكريا و يحيى و عيسى (عليهما السلام)، و لم يراع في ذكرهم الترتيب بحسب الزمان و لا الانتقال من اللاحق إلى السابق كما في الآيات السابقة، وقد أشار سبحانه إلى شيء من نعمه العظام على بعضهم واكتفى في بعضهم بمجرد ذكر الاسم.
قوله تعالى:{ وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ - إلى قوله - حكما وعلما} الحرث الزرع والحرث أيضا الكرم، والنفش رعي الماشية بالليل، وفي المجمع،: النفش بفتح الفاء وسكونها أن تنتشر الإبل والغنم بالليل فترعى بلا راع. انتهى.
وقوله:{ وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ} السياق يعطي أنها واقعة واحدة بعينها رفع حكمها إلى داود لكونه هوالملك الحاكم في بني إسرائيل وقد جعله الله خليفة في الأرض كما قال:{ يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ:} ص: 26 فإن كان سليمان يداخل في حكم الواقعة فعن إذن منه ولحكمة ما ولعلها إظهار أهليته للخلافة بعد داود.
ومن المعلوم أن لا معنى لحكم حاكمين في واقعة واحدة شخصية مع استقلال كل واحد منهما في الحكم ونفوذه، ومن هنا يظهر أن المراد بقوله:{إذ يحكمان} إذ يتناظران أويتشاوران في الحكم لا إصدار الحكم النافذ، ويؤيده كمال التأييد التعبير بقوله:{إذ يحكمان} على نحو حكاية الحال الماضية كأنهما أخذا في الحكم أخذا تدريجيا لم يتم بعد ولن يتم إلا حكما واحدا نافذا وكان الظاهر أن يقال: إذ حكما.
ويؤيده أيضا قوله:{وكنا لحكمهم شاهدين} فإن الظاهر أن ضمير{لحكمهم} للأنبياء وقد تكرر في كلامه تعالى أنه آتاهم الحكم لا كما قيل: إن الضمير لداود وسليمان والمحكوم لهم إذ لا وجه يوجه به نسبة الحكم إلى المحكوم لهم أصلا فكان الحكم حكما واحدا هو حكم الأنبياء والظاهر أنه ضمان صاحب الغنم للمال الذي أتلفته غنمه.
فكان الحكم حكما واحدا اختلفا في كيفية إجرائه عملا إذ لو كان الاختلاف في أصل الحكم لكان فرض صدور حكمين منهما بأحد وجهين إما بكون كلا الحكمين حكما واقعيا لله ناسخا أحدهما - وهو حكم سليمان - الآخر وهو حكم داود لقوله تعالى:{ففهمناها سليمان} وإما بكون الحكمين معا عن اجتهاد منهما بمعنى الرأي الظني مع الجهل بالحكم الواقعي وقد صدق تعالى اجتهاد سليمان فكان هو حكمه.
أما الأول وهو كون حكم سليمان ناسخا لحكم داود فلا ينبغي الارتياب في أن ظاهر جمل الآية لا يساعد عليه إذ الناسخ والمنسوخ متباينان ولو كان حكماهما من قبيل النسخ ومتباينين لقيل: وكنا لحكمهما أو لحكميهما ليدل على التعدد والتباين ولم يقل:{وكنا لحكمهم شاهدين} المشعر بوحدة الحكم وكونه تعالى شاهدا له الظاهر في صونهم عن الخطإ، ولو كان داود حكم في الواقعة بحكم منسوخ لكان على الخطإ، ولا يناسبه أيضا قوله:{وكلا آتينا حكما وعلما} وهو مشعر بالتأييد ظاهر في المدح.
وأما الثاني وهو كون الحكمين عن اجتهاد منهما مع الجهل بحكم الله الواقعي فهو أبعد من سابقه لأنه تعالى يقول:{ففهمناها سليمان} وهو العلم بحكم الله الواقعي وكيف ينطبق على الرأي الظني بما أنه رأي ظني.
ثم يقول: وكلا آتينا حكما وعلما فيصدق بذلك أن الذي حكم به داود أيضا كان حكما علميا لا ظنيا ولو لم يشمل قوله:{وكلا آتينا حكما وعلما} حكم داود في الواقعة لم يكن وجه لإيراد الجملة في المورد.
على أنك سمعت أن قوله:{وكنا لحكمهم شاهدين} لا يخلو من إشعار بل دلالة على أن الحكم كان واحدا ومصونا عن الخطإ.
فلا يبقى إلا أن يكون حكمهما واحدا في نفسه مختلفا من حيث كيفية الإجراء وكان حكم سليمان أوفق وأرفق.
وقد وردت في روايات الشيعة وأهل السنة ما إجماله أن داود حكم لصاحب الحرث برقاب الغنم وسليمان حكم له بمنافعها في تلك السنة من ضرع وصوف ونتاج.
ولعل الحكم كان هو ضمان ما أفسدته الغنم من الحرث على صاحبها وكان ذلك مساويا لقيمة رقاب الغنم فحكم داود لذلك برقابها لصاحب الحرث، وحكم سليمان بما هو أرفق منه وهو أن يستوفي ما أتلفت من ماله من منافعها في تلك السنة والمنافع المستوفاة من الغنم كل سنة تعدل قيمتها قيمة الرقبة عادة.
فقوله:{وداود وسليمان} أي واذكر داود وسليمان{إذ} حين{يحكمان في الحرث {إذ} حين{نفشت فيه غنم القوم} أي تفرقت فيه ليلا وأفسدته {وكنا لحكمهم} أي لحكم الأنبياء، وقيل: الضمير راجع إلى داود وسليمان والمحكوم له، وقد عرفت ما فيه، وقيل: الضمير لداود وسليمان لأن الاثنين جمع وهو كما ترى{شاهدين} حاضرين نرى ونسمع ونوقفهم على وجه الصواب فيه {ففهمناها} أي الحكومة والقضية {سليمان وكلا} من داود وسليمان{آتينا حكما وعلما} وربما قيل: إن تقدير صدر الآية {وآتينا داود وسليمان حكما وعلما} إذ يحكمان إلخ.
قوله تعالى:{ وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ } التسخير هو تذليل الشيء بحيث يكون عمله على ما هو عليه في سبيل مقاصد المسخر - بكسر الخاء - وهذا غير الإجبار والإكراه والقسر فإن الفاعل فيها خارج عن مقتضى اختياره أو طبعه بخلاف الفاعل المسخر - بفتح الخاء - فإنه جار على مقتضى طبعه واختياره كما أن إحراق الإنسان الحطب بالنار فعل تسخيري من النار وليست بمقسورة وكذا فعل الأجير لمؤجره فعل تسخيري من الأجير وليس بمجبر ولا مكره.
ومن هنا يظهر أن معنى تسخير الجبال والطير مع داود يسبحن معه أن لهما تسبيحا في نفسهما وتسخيرهما أن يسبحن مع داود بمواطاة تسبيحه فقوله:{يسبحن} بيان لقوله:{وسخرنا مع داود} وقوله:{والطير} معطوف على الجبال.
وقوله:{وكنا فاعلين} أي كانت أمثال هذه المواهب والعنايات من سنتنا وليس ما أنعمنا به عليهما ببدع منا.
قوله تعالى:{ وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ } قال في المجمع،: اللبوس اسم للسلاح كله عند العرب - إلى أن قال - وقيل: هو الدرع انتهى. وفي المفردات،: وقوله تعالى:{صنعة لبوس لكم} يعني به الدرع.
والبأس شدة القتال وكأن المراد به في الآية شدة وقع السلاح وضمير{وعلمناه} لداود كما قال في موضع آخر:{وألنا له الحديد} والمعنى وعلمنا داود صنعة درعكم - أي علمناه كيف يصنع لكم الدرع لتحرزكم وتمنعكم شدة وقع السلاح وقوله:{فهل أنتم شاكرون} تقرير على الشكر.
قوله تعالى:{ وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ} إلخ.
عطف على قوله{مع داود} أي وسخرنا لسليمان الريح عاصفة أي شديدة الهبوب تجري الريح بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها وهي أرض الشام التي كان يأوي إليها سليمان وكنا عالمين بكل شيء.
وذكر تسخير الريح عاصفة مع أن الريح كانت مسخرة له في حالتي شدتها ورخائها كما قال:{رخاء حيث أصاب:} (صلى الله عليه وآله وسلم) - 36 أن تسخير الريح عاصفة أعجب وأدل على القدرة.
قيل: ولشيوع كونه (عليه السلام) ساكنا في تلك الأرض لم يذكر جريانها بأمره منها واقتصر على ذكر جريانها إليها وهو أظهر في الامتنان انتهى، ويمكن أن يكون المراد جريانها بأمره إليها لتحمله منها إلى حيث أراد لا جريانها إليها لترده إليها وتنزله فيها بعد ما حملته، وعلى هذا يشمل الكلام الخروج منها والرجوع إليها جميعا.
قوله تعالى:{ وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ } كان الغوص لاستخراج أمتعة البحر من اللئالي وغيرها، والمراد بالعمل الذي دون ذلك ما ذكره بقوله:{ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ:} سبأ: 13، والمراد بحفظ الشياطين حفظهم في خدمته ومنعهم من أن يهربوا أو يمتنعوا أو يفسدوا عليه الأمر، والمعنى ظاهر وستجيء قصتا داود وسليمان (عليهما السلام) في سورة سبإ إن شاء الله تعالى.
______________
1- تفسير الميزان ،الطباطبائي،ج14،ص253-256.
قضاء داود وسليمان (عليهما السلام):
بعد الحوادث والوقائع المتعلّقة بموسى وهارون وإبراهيم ونوح ولوط(عليهم السلام)، تشير هذه الآيات إلى جانب من حياة داود وسليمان، وفي البداية أشارت إشارة خفيّة إلى حادث قضاء وحكم صدر من جانب داود وسليمان، فتقول: { وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ(2) فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ }.
وبالرغم من أنّ القرآن قد ألمح إلى هذه المحكمة لمحة خفيّة، وإكتفى بإشارة إجمالية وإستخلاص النتيجة الأخلاقية والتربوية لها والتي سنشير إليها فيما بعد، إلاّ أنّه وردت بحوث كثيرة حولها في الرّوايات الإسلامية وأقوال المفسّرين.
فقال جماعة: إنّ القصّة كانت كما يلي: إنّ قطيع أغنام لبعض الرعاة دخلت ليلا إلى بستان فأكلت أوراقه وعناقيد العنب منه فأتلفته، فرفع صاحب البستان شكواه إلى داود، فحكم داود بأن تعطى كلّ الأغنام لصاحب البستان تعويضاً لهذه الخسارة الفادحة، فقال سليمان ـ والذي كان طفلا آنذاك ـ لأبيه: يانبي الله العظيم، غيّر هذا الحكم وعدّله! فقال الأب: وكيف ذاك؟ قال: يجب أن تودع الأغنام عند صاحب البستان ليستفيد من منافعها ولبنها وصوفها، وتودع البستان في يد صاحب الأغنام ليسعى في إصلاحه، فإذا عاد البستان إلى حالته الأُولى يُردّ إلى صاحبه، وتردّ الأغنام أيضاً إلى صاحبها. وأيّد الله حكم سليمان في الآية التالية.
وقد ورد هذا المضمون في رواية عن الإمامين الباقر والصادق (عليهما السلام)(3).
ويمكن أن يتصوّر عدم تناسب هذا التّفسير مع كلمة (حرث) التي تعني الزراعة، ولكن يبدو أنّ للحرث معنى واسعاً يشمل الزراعة والبستان، كما يستفاد ذلك من قصّة أصحاب الجنّة في سورة القلم، الآية 17 ـ 32.
لكن تبقى هنا عدّة إستفهامات مهمّة:
1 ـ ماذا كان أساس ومعيار هذين الحكمين؟
2 ـ كيف إختلف حكم داود عن حكم سليمان؟ فهل كانا يحكمان على أساس الإجتهاد؟
3 ـ هل المسألة هذه كانت على هيئة تشاور في الحكم، أم أنّهما حكما بحكمين مستقلّين يختلف كلّ منهما عن الآخر؟!
ويمكن الإجابة عن السؤال الأوّل: إنّ المعيار كان جبران الخسارة، فينظر داود إلى أنّ الخسارة التي أصابت الكرم تعادل قيمة الأغنام، ولذلك حكم بوجوب إعطاء الأغنام لصاحب البستان جبراً للخسارة، لأنّ التقصير من جانب صاحب الأغنام.
وينبغي الإلتفات إلى أنّنا نقرأ في بعض الرّوايات أنّ على صاحب الأغنام أن يمنع غنمه من التعدّي على زرع الآخرين في الليل، كما أنّ من واجب صاحب الزرع حفظ زرعه في النهار(4).
أمّا معيار حكم سليمان(عليه السلام) فقد كان يرى أنّ خسارة صاحب البستان تعادل ما سينتفع به من الأغنام لسنة كاملة!
بناءً على هذا فإنّ الإثنين قد قضيا بالحقّ والعدل، مع فارق أنّ حكم سليمان كان أدقّ، لأنّ الخسارة لا تدفع مرّة واحدة في مكان واحد، بل تؤدّي بصورة تدريجيّة بحيث لا تثقل على صاحب الغنم أيضاً. وإضافةً إلى ما مرّ، فقد كان هناك تناسب بين الخسارة والجبران، لأنّ جذور النباتات لم تتلف، بل ذهبت منافعها المؤقتة، ولذلك فإنّ من الأعدل ألاّ تنقل اُصول الأغنام إلى ملك صاحب البستان، بل تنقل منافعها فقط.
ونقول في جواب السؤال الثّاني: لا شكّ أنّ حكم الأنبياء مستند إلى الوحي الإلهي، إلاّ أنّ هذا لا يعني أنّ وحياً خاصّاً ينزل في كلّ مورد من موارد الحكم، بل إنّ الأنبياء يحكمون حسب القواعد الكليّة التي تلقّوها من الوحي.
بناءً على هذا فإنّه لا توجد مسألة الإجتهاد النظري بمعناها الإصطلاحي، وهو الإجتهاد الظنّي، ولكن لا مانع من أن يكون هناك طريقان لإيجاد ضابطة كليّة، وأن يكون نبيّان كلّ منهما يرى أحد الطريقين، وكلاهما صحيح في الواقع، وكان الموضوع الذي عالجناه في بحثنا ـ على سبيل الإتّفاق ـ من هذا القبيل كما بيّناه آنفاً بتفصيل. وكما أشار القرآن إليه، فإنّ الطريق الذي إختاره سليمان(عليه السلام) كان أقرب من الناحية التنفيذيّة، وجملة {وكلاًّ آتينا حكماً وعلماً} والتي ستأتي في الآية التالية، شاهدة على صحّة كلا القضاءين.
ونقول في جواب السؤال الثّالث: لا يبعد أن يكون الأمر على هيئة تشاور، وهو التشاور الذي يحتمل أن يكون لتعليم سليمان وتأهيله في أمر القضاء، والتعبير بـ (حكمهم) شاهد أيضاً على وحدة الحكم النهائي، بالرغم من وجود حكمين مختلفين في البداية(5). (فتأمّلوا بدقّة).
ونقرأ في رواية عن الإمام الباقر (عليه السلام) في تفسير هذه الآية أنّه قال: «لم يحكما، إنّما كانا يتناظران»(6).
ويستفاد من رواية أُخرى رويت في اُصول الكافي عن الإمام الصادق (عليه السلام)أنّ هذه القضيّة حدثت لتعيين وصيّ داود وخليفته وأن يتعلّم اُولئك النفر منهما أيضاً(7).
وعلى كلّ حال، فإنّ الآية التالية تؤيّد حكم سليمان في هذه القصّة على هذه الشاكلة: { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} ولكن هذا لا يعني أنّ حكم داود كان إشتباهاً وخطأً، لأنّها تضيف مباشرةً { وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا }.
ثمّ تشير إلى إحدى المواهب والفضائل التي كان الله سبحانه قد وهبها لداود(عليه السلام)، فتقول: { وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ} فإنّ ذلك ليس شيئاً مهمّاً أمام قدرتنا (وَكُنَّا فَاعِلِينَ).
الرياح تحت إمرة سليمان:
تشير هاتان الآيتان إلى جانب من المواهب التي منحها الله لنبي آخر من الأنبياء ـ أي سليمان (عليه السلام) فتقول الآية الأُولى منهما: { وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا } وهذا الأمر ليس عجيباً، لأنّنا عارفون به { وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ} فنحن مطّلعون على أسرار عالم الوجود، والقوانين والأنظمة الحاكمة عليه، ونعلم كيفية السيطرة عليها، ونعلم كذلك نتيجة وعاقبة هذا العمل، وعلى كلّ حال فإنّ كلّ شيء خاضع ومسلّم أمام علمنا وقدرتنا.
إنّ جملة (ولسليمان ...) معطوفة على جملة (وسخّرنا مع داود الجبال) أي إنّ قدرتنا عظيمة نقدر معها على أن نسخّر الجبال لعبد من عبادنا أحياناً لتسبّح معه، وأحياناً نجعل الريح تحت إمرة أحد عبادنا ليرسلها حيث شاء.
إنّ لفظة (العاصفة) تعني الرياح القويّة أو الهائجة، في حين يستفاد من بعض آيات القرآن الاُخرى أنّ الرياح الهادئة أيضاً كانت تحت إمرة سليمان، كما تصوّر ذلك الآية (36) من سورة ص: (فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ).
إنّ التصريح بالعاصفة هنا يمكن أن تكون من باب بيان الفرد الأهمّ، أي ليست الرياح الهادئة لوحدها تحت إمرته، بل حتّى العواصف الشديدة كانت رهن إشارته أيضاً، لأنّ الثّانية أعجب.
ثمّ إنّ هذه الرياح القويّة التي في مسير الأرض المباركة (الشام) حيث كان مقرّ سليمان(عليه السلام)، لم تكن الوحيدة، بل إنّها كانت تتحرّك حيث أراد، وإلى جميع الأمكنة حسب الآية (36) من سورة ص، وعلى هذا فإنّ التصريح باسم الأرض المباركة لأنّها كانت مركزاً لحكومة سليمان.
أمّا كيف كانت الريح تحت إمرته وتصرّفه؟
وبأيّة سرعة كانت تتحرّك؟
وعلى أي شيء كان يجلس سليمان وأصحابه ويتحرّكون؟
وأي عامل كان يحفظ هؤلاء عند حركتهم من السقوط أو ضغط الهواء أو المصاعب الاُخرى؟
والخلاصة: أيّة قوّة خفيّة كانت تعطيه القدرة على إمكانية التحرّك بمثل هذه الحركة السريعة في ذلك العصر والزمان(8)؟
إنّ هذه مسائل لم تتّضح لنا جزئياتها، والذي نعلمه هو أنّها كانت موهبة إلهيّة خارقة وضعت تحت تصرّف هذا النّبي العظيم، وما أكثر المسائل التي نعلم بوجودها الإجمالي، ونجهل تفصيلها؟! إنّ معلوماتنا في مقابل ما نجهله كالقطرة من البحر المحيط، أو كالذرّة مقابل الجبل العظيم.
والخلاصة: فإنّ من وجهة نظر وإعتقاد إنسان موحّد يعبد الله، لا يوجد شيء صعب ومستحيل أمام قدرة الله سبحانه، فهو قادر على كلّ شيء، وعالم بكلّ شيء.
لقد كتبت حول هذه الفترة من حياة سليمان ـ كالفترات الاُخرى من حياته العجيبة ـ أساطير كاذبة أو مشكوكة كثيرة لا نقبلها مطلقاً، فنحن نكتفي بهذا المقدار الذي بيّنه القرآن هنا.
ويلزم ذكر هذه اللطيفة أيضاً، وهي أنّ بعض الكتّاب المتأخرين يعتقدون بأنّ القرآن ليس فيه شيء صريح عن حركة سليمان والبساط، بل أورد الكلام عن تسخير الرياح لسليمان فقط، فربّما كان ذلك إشارة إلى إستغلال سليمان لقوّة الهواء في المسائل المرتبطة بالزراعة، وتلقيح النباتات، وتنقية الحنطة والشعير، وحركة السفن، خاصّةً وأنّ أرض سليمان (الشام) كانت أرضاً زراعية من جهة، ومن جهة أُخرى فإنّ جانباً مهمّاً منها كان على سواحل البحر الأبيض المتوسط، وكان يُنتفع منها في حركة الملاحة(9).
إلاّ أنّ هذا التّفسير لا يتناسب كثيراً وآيات سورة سبأ وسورة ص وبعض الرّوايات الواردة في هذا الباب.
ثمّ تذكر الآية التالية أحد المواهب الخاصّة بسليمان (عليه السلام) فتقول: (وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ) لإستخراج الجواهر والأشياء الثمينة الاُخرى (وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ) من التمرّد والطغيان على أوامر سليمان(عليه السلام).
إنّ ما ورد في الآية آنفة الذكر باسم «الشياطين»، جاء في آيات سورة «سبأ» باسم الجن ـ الآية (12 و13) من سورة سبأ ـ ومن الواضح أنّ هذين اللفظين لا منافاة بينهما، لأنّا نعلم أنّ الشياطين من طائفة الجنّ.
وعلى كلّ حال، فقد ذكرنا أنّ الجنّ نوع من المخلوقات التي لها عقل وشعور وإستعداد، وعليها تكليف، وهي محجوبة عن أنظارنا نحن البشر، ولذلك سمّيت بالجنّ، وهم ـ كما يستفاد من آيات سورة الجنّ ـ كالبشر منهم المؤمنون الصالحون، ومنهم الكافرون العصاة، ولا نمتلك أي دليل على نفي مثل هذه الموجودات، ولأنّ المخبر الصادق (القرآن) قد أخبر عنها فنحن نؤمن بها.
ويستفاد من أيات سورة سبأ وسورة ص ـ وكذلك من الآية محلّ البحث ـ جيداً أنّ هذه الجماعة من الجنّ التي سخّرت لسليمان، كانوا أفراداً أذكياء نشيطين فنّانين صنّاعاً ماهرين في مجالات مختلفة، وجملة (ويعملون عملا دون ذلك)تبيّن إجمالا ما جاء تفصيله في سورة سبأ من أنّهم كانوا (يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات).
ويستفاد من جزء من الآيات المتعلّقة بسليمان أنّ جماعة من الشياطين العصاة كانوا موجودين أيضاً، وكان سليمان(عليه السلام) قد أوثقهم: (وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ)(ص،38)، وربّما كانت جملة (وكنّا لهم حافظين) إشارة إلى هذا المعنى بأنّا كنّا نحفظ تلك المجموعة التي كانت تخدم سليمان من التمرّد والعصيان. وستطالعون تفصيلا أكثر في هذا الباب في تفسير سورة سبأ وسورة ص إن شاء الله تعالى.
ونذكر مرّة أُخرى أنّ هناك أساطير كاذبة أو مشكوكاً فيها كثيرة حول حياة سليمان وجنوده، يجب أن لا تُمزج مع ما في متن القرآن، لئلاّ تكون حربة في يد المتصيدين في الماء العكر.
________________
1- تفسير الامثل ،ناصر مكارم الشيرازي،ج8،ص300-308.
2ـ «نفشت» من مادّة نَفْش على وزن (حرب) أي التفرّق والتبعثر في الليل، ولمّا كان تفرّق الأغنام في الليل، وفي مزرعة سيقترن بالتهام نباتها حتماً لذا قال البعض: إنّها الرعي في الليل. و «نَفَش» (على وزن علم) تعني الأغنام التي تتفرّق في الليل.
3ـ مجمع البيان، ذيل الآيات مورد البحث.
4- نقرأ في مجمع البيان في ذيل الآية مورد البحث: روي عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قضى بحفظ المواشي على أربابها ليلا، وقضى بحفظ الحرث على أربابه نهاراً. وقد نقل هذا المضمون في تفسير الصافي نقلا عن كتاب الكافي.
5- أن الاجوبة على هذه الاسئلة تقوم على أساس أن قصة قطيع الغنم تحتمل نوعين من الحكم وكليهما صحيح في مجاله ،والأ فأنه لايستفاد من الأية الشريفة وجود أمر مشكل في عملية التحكيم والقضاء حين تقول الأية ((وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث))ومن جهة اخرى فقد أيد الله تعالى حكم سليمان ،وأما داود فقد وهبه الله القضاء أيضاً كما ورد في قوله تعاللى في سورة ص الأية 26((يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ)) وعليه يكون قضاء كل منهما صحيحاً.
6ـ من لا يحضره الفقيه، طبقاً لنقل تفسير نور الثقلين، الجزء3، ص443.
7ـ لمزيد الإطّلاع راجع تفسير الصافي ذيل الآية مورد البحث.
8ـ يظهر من الآية 12/سورة سبأ: (ولسليمان الريح غدوّها شهر ورواحها شهر) بصورة مجملة أنّهم كانوا يسيرون صباحاً مسافةً أمدها شهر ويسيرون عصراً مسافة أمدها شهر «بمقياس الحركة في ذلك الزمان».
9ـ قصص القرآن، 185; أعلام القرآن، 386.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مدرسة دار العلم.. صرح علميّ متميز في كربلاء لنشر علوم أهل البيت (عليهم السلام)
|
|
|