المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

القرآن الكريم وعلومه
عدد المواضيع في هذا القسم 17644 موضوعاً
تأملات قرآنية
علوم القرآن
الإعجاز القرآني
قصص قرآنية
العقائد في القرآن
التفسير الجامع
آيات الأحكام

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر

Reprise: what’s theory?
27-1-2022
معنى (روح الله)
21-10-2014
Giusto Bellavitis
23-10-2016
رقابة أمير المؤمنين على السوق
11-4-2016
دور مركبات الكلور والبروم كمواد مقاومة للحريق
2024-04-29
النصارى ومذهب اليعقوبية
25-09-2014


تفسير الأية (16-23) من سورة الأنبياء  
  
3774   03:41 مساءً   التاريخ: 11-9-2020
المؤلف : المرجع الإلكتروني للمعلوماتية
الكتاب أو المصدر : تفاسير الشيعة
الجزء والصفحة : ......
القسم : القرآن الكريم وعلومه / التفسير الجامع / حرف الألف / سورة الأنبياء /

 

قال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16) لَوأَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوزَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20) أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَو كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ } [الأنبياء: 16 - 23]

 

تفسير مجمع البيان
- ذكر الطبرسي في تفسير هذه  الآيات (1) :

{ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ} بل خلقناهما لغرض صحيح وهو أن يكون دلالة ونعمة وتعريضا للثواب { لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا} اللهو المرأة عن الحسن ومجاهد وقيل هو الولد عن ابن عباس وقيل: معناه اللهو الذي هو داعي الهوى ونازع الشهوة والمعنى لو اتخذنا نساء أوولدا لاتخذناه من أهل السماء ولم نتخذه من أهل الأرض يريد لوكان ذلك جائزا عليه لم يتخذه بحيث يظهر لهم ويسر ذلك حتى لا يطلعوا عليه وقد أحسن ابن قتيبة في شرح اللهو هنا فقال التفسيران في اللهو متقاربان لأن امرأة الرجل لهوه وولده لهوه ولذلك يقال امرأة الرجل وولده ريحانتاه وأصل اللهو الجماع كنى عنه باللهو كما كنى عنه بالسر ثم قيل للمرأة لهو لأنها تجامع قال امرؤ القيس :

ألا زعمت بسباسة اليوم أنني                كبرت وأن لا يحسن اللهو أمثالي

 وتأويل الآية أن النصارى لما قالت في المسيح وأمه ما قالت قال الله عز وجل {لوأردنا أن نتخذ} صاحبة وولدا كما تقولون لاتخذنا ذلك من عندنا ولم نتخذ من عندكم لأنكم تعلمون أن ولد الرجل وزوجته يكونان عنده لا عند غيره {إن كنا فاعلين} أي ما كنا فاعلين عن قتادة ومجاهد وابن جريج وقيل معناه إن كنا فاعلين ذلك لاتخذناه من عندنا بحيث لا يصل علمه إليكم عن الجبائي {بل نقذف بالحق على الباطل} معناه بل نورد الأدلة القاهرة على الباطل وقيل نرمي بالحجة على الشبهة وقيل بالإيمان على الكفر.

 {فيدمغه} أي: يعلوه ويبطله وقيل يهلكه {فإذا هو زاهق} أي: هالك مضمحل عن قتادة وتأويله أن الله سبحانه يظهر الحق بأدلته ويبطل الباطل فكيف يفعل الباطل واللعب { وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} أي: الهلاك لكم يا معشر الكفار مما تصفون الله تعالى به من اتخاذ الصاحبة والولد { وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } ملكا وملكا وخلقا وهذا رد أيضا على من أثبت له الولد والشريك أي وكيف يجوز عليه اتخاذ الشريك والولد {ومن عنده} يعني الملائكة الذين لهم عند الله تعالى المنزلة كما يقال عند الأمير كذا وكذا من الجند وإن كانوا متفرقين في الأماكن ولا يراد بذلك قرب المسافة.

 { لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ } أي: لا يأنفون ولا يترفعون عن عبادته وأراد بذلك نفس النبوءة عنهم لأن أحدا لا يستعبد ابنه {ولا يستحسرون} أي: لا يعيبون عن قتادة والسدي وقيل لا يملون عن ابن زيد وقيل لا ينقطعون مأخوذ من البعير الحسير المنقطع بالإعياء {يسبحون} أي: ينزهون الله تعالى عن جميع ما لا يليق بصفاته على الدوام {الليل والنهار} أي: في الليل والنهار {لا يفترون} أي: لا يضعفون عنه قال كعب جعل لهم التسبيح كما جعل لكم النفس في السهولة .

ثم عاد سبحانه إلى توبيخ المشركين فقال {أم اتخذوا آلهة من الأرض} هذا استفهام معناه الجحد أي لم يتخذوا آلهة من الأرض {هم ينشرون} أي: يحيون الأموات عن مجاهد يقال أنشر الله الموتى فنشروا أي أحياهم فحيوا وهو من النشر بعد الطي لأن المحيا كأنه كان مطويا بالقبض عن الإدراك فأنشر بالحياة والمعنى في ذلك أن هؤلاء إذا كانوا لا يقدرون على الإحياء الذي من قدر عليه قدر على أن ينعم بالنعم التي يستحق بها العبادة فكيف يستحقون العبادة قال الزجاج ومن قرأ ينشرون بفتح الياء فمعناه لا يموتون أبدا ويبقون أحياء أي لا يكون ذلك وأقول قد يجوز أن يكون ينشرون وينشرون بمعنى يقال نشر الله الميت بمعنى أنشر.

 ثم ذكر سبحانه الدلالة على توحيده وأنه لا يجوز أن يكون معه إله سواه فقال { لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا } ومعناه: لو كان في السماء والأرض آلهة سوى الله لفسدتا وما استقامتا وفسد من فيهما ولم ينتظم أمرهم وهذا هو دليل التمانع الذي بنى عليه المتكلمون مسألة التوحيد وتقرير ذلك أنه لوكان مع الله سبحانه إله آخر لكانا قديمين والقدم من أخص الصفات فالاشتراك فيه يوجب التماثل فيجب أن يكونا قادرين عالمين حيين ومن حق كل قادرين أن يصح كون أحدهما مريدا لضد ما يريده الآخر من إماتة وإحياء أوتحريك وتسكين أوإفقار وإغناء ونحوذلك فإذا فرضنا ذلك فلا يخلو إما أن يحصل مرادهما وذلك محال وإما أن لا يحصل مرادهما فينتقض كونهما قادرين وإما أن يقع مراد أحدهما ولا يقع مراد الآخر فينتقض كون من لم يقع مراده من غير وجه منع معقول قادرا فإذا لا يجوز أن يكون الإله إلا واحدا ولو قيل إنهما لا يتمانعان لأن ما يريده أحدهما يكون حكمة فيريده الآخر بعينه والجواب أن كلامنا في صحة التمانع لا في وقوع التمانع وصحة التمانع يكفي في الدلالة لأنه يدل على أنه لا بد من أن يكون أحدهما متناهي المقدور فلا يجوز أن يكون إلها .

ثم نزه سبحانه نفسه عن أن يكون معه إله فقال {سبحان الله رب العرش عما يصفون} وإنما خص العرش لأنه أعظم المخلوقات ومن قدر على أعظم المخلوقات كان قادرا على ما دونه {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون} معناه أن جميع أفعاله حكمة وصواب ولا يقال للحكيم لم فعلت الصواب وهم يسألون لأنهم يفعلون الحق والباطل وقيل معناه أنه لا يسأل عن ادعاء الربوبية وهم مسئولون إذا ادعوها ويدل على هذا التأويل النظم والسياق وقيل معناه لا يحاسب على أفعاله وهم يحاسبون على أفعالهم وقيل معناه أنه لا يسأله الملائكة والمسيح عن فعله وهو يسألهم ويجازيهم فلو كانوا آلهة لم يسألوا عن أفعالهم.

____________

1- تفسير مجمع البيان ،الطبرسي،ج7،ص76-80.

تفسير الكاشف
- ذكر محمد جواد مغنية في تفسير هذه  الآيات (1) :

{ وما خَلَقْنَا السَّماءَ والأَرْضَ وما بَيْنَهُما لاعِبِينَ } . تقدم نظيره في الآية 191 من

سورة آل عمران ج 2 ص 231 . ونقلنا هناك الأقوال في أن أفعال اللَّه هل تعلل بالأغراض ، أوانه تعالى لا يقبح منه شيء ولا يجب عليه شيء ؟ { لَوأَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ } . اللهو واللعب والعبث محال على من يقول للشيء : كُنْ فَيَكُونُ . . ولذا قال تعالى : {لَوأَرَدْنا . .} {إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ} أي ما أردنا ولسنا بفاعلين ، ولوأراد ان يتخذ لهوا - وفرض المحال ليس بمحال - لاتخذه من عنده أي من نوع آخر يناسب عظمته لا من نوع ما يفعله العباد كاللهوبالنساء والأولاد .

{ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُو زاهِقٌ } . المراد بالحق هنا الجد والحقيقة في قبال اللهوالذي نفاه تعالى عنه ، والمراد بالباطل اللهوواللعب . . بعد ان قال ، جلت عظمته ، لا نتخذ لهوا قال : كل أفعاله وأقواله جد وحقائق ، لا عبث فيها ولا لهو، بل إذا جاء العبث واللهومن أي مصدر فإنه يبطله ويمحقه فكيف يرتضي لنفسه ما لا يرتضيه لغيره ؟ . { ولَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ } اللَّه به ، وتنسبون إليه من صفات المصنوعين .

{ ولَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ والأَرْضِ ومَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ ولا يَسْتَحْسِرُونَ } أي لا يعيون ولا يكلَّون . وقال المفسرون : المراد ب ( من عنده ) الملائكة . . والذي نفهمه نحن ان المراد بهم كل من له مكانة ووجاهة عند اللَّه ملكا كان أوبشرا { يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ والنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ } أي لا يسأمون بل هم دائبون على الطاعة له في الأقوال والأفعال ، ولا يتوهمونه بالتصوير ، ولا يجرون عليه صفات المصنوعين .

{ أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ } . جملة هم ينشرون صفة للآلهة ، والمعنى ان كل معبود للمشركين فإنه لا يحيي الأموات ، ولا يبعثهم من قبورهم ، بل اللَّه وحده هو الذي يحيي ويميت ( لَوكانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ) . انظر ما كتبناه بعنوان دليل التوحيد والأقانيم الثلاثة عند تفسير الآية 48 من سورة النساء ج 2 ص 344 .

من علم حجة على من لا يعلم :

{ لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وهُمْ يُسْئَلُونَ }. استدل البعض بهذه الآية على أن اللَّه لا يقبح منه شيء ، ولا يجب عليه شيء ، فله ان يعاقب المطيع ، ويثيب العاصي . .

وهذا يتنافى مع عدل اللَّه وحكمته ورحمته . . والصحيح في معنى الآية ان اللَّه سبحانه لما كان عادلا بذاته فلا يجوز لأحد ان يعترض على قوله وفعله لأنه لا يقال للعادل :

لما ذا عدلت ؟ وللصادق : لما ذا صدقت ؟ تماما كما لا يجوز للجاهل بالطب ان يقول للطبيب الماهر : لما ذا وصفت هذا الدواء ؟ إن مثل هذا السؤال انما يجوز ويصح من الند إلى الند ، من العالم إلى مثله ، اما الجاهل فغاية جهده ان يبحث عن العالم ، ويتأكد من علمه بما يراه من العلامات والدلائل ، فإذا صار على يقين منها وجب عليه ان ينقاد ويستسلم للعالم فيما هوعالم به ، تماما كما يستسلم المريض للطبيب . . وقديما قيل : من علم حجة على من لا يعلم ، وإذا كان هذا هوشأن المخلوق مع مخلوق مثله فكيف به مع خالق السماوات والأرض ؟

قال تلميذ لأستاذه : لما ذا وجدنا ولما ذا نعيش ؟

فقال الأستاذ : ولما ذا يا بني تجازف بنفسك في متاهات لا أول لها ولا آخر ؟

لما ذا لا تؤمن بالدين فتريح نفسك وتستريح ، وتدع ما لا تستطيع إلى ما تستطيع ؟

أنت واحد من آلاف الملايين ، وبلدك الذي تعيش فيه واحد من آلاف البلاد ، والكرة الأرضية التي تعيش عليها كوكب من ملايين الكواكب ، والكون الذي يشمل هذه الكواكب جميعا من يدرينا ان له نظائر وأشباها تفوقه ، وهل يستطيع الجزء أن يحيط بالكل ؟ وهل تستطيع النقطة في البحر أن تتساءل عن البحر ؟

لا أقول لك يا بني : كف عن البحث والتطلع والتأمل ، فان نشد أن الحقيقة سبب من أسباب وجود الإنسان ، ولكن حيث يقصر عقلك عن الفهم والإدراك توقف إلى أن تزداد فهما وإدراكا ، فإذا عجزت آخر الأمر سلَّم بما هو واقع لأن قصورك عن الفهم لا يعني ان ما هو واقع عبث من العبث ، ولكنه يعني انك لم تفقه بعد حكمة الوجود ، فدعها لخالق الوجود .

_______________

1- التفسير الكاشف، ج 5، محمد جواد مغنية، ص 267-269.

تفسير الميزان
- ذكر الطباطبائي في تفسير هذه الآيات (1) :

أول الآيات يوجه عذاب القرى الظالمة بنفي اللعب عن الخلقة و أن الله لم يله بإيجاد السماء و الأرض و ما بينهما حتى يكونوا مخلين بأهوائهم يفعلون ما يشاءون و يلعبون كيفما أرادوا من غير أن يحاسبوا على أعمالهم بل إنما خلقوا ليرجعوا إلى ربهم فيحاسبوا فيجازوا على حسب أعمالهم فهم عباد مسئولون إن تعدوا عن طور العبودية أوخذوا بما تقتضيه الحكمة الإلهية و إن الله لبالمرصاد.

و إذ كان هذا البيان بعينه حجة على المعاد انتقل الكلام إليه و أقيمت الحجة عليه فيثبت بها المعاد و في ضوئه النبوة لأن النبوة من لوازم وجوب العبودية و هو من لوازم ثبوت المعاد فالآيتان الأوليان كالرابط بين السياق المتقدم و المتأخر.

و الآيات تشتمل على بيان بديع لإثبات المعاد و قد تعرض فيها لنفي جميع الاحتمالات المنافية للمعاد كما ستعرف.

قوله تعالى:{ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ} الآيتان توجهان نزول العذاب على القرى الظالمة التي ذكر الله سبحانه قصمها، وهما بعينهما - على ما يعطيه السياق السابق - حجة برهانية على ثبوت المعاد ثم في ضوئه النبوة وهي الغرض الأصيل من سرد الكلام في السورة.

فمحصل ما تقدم - أن هناك معادا سيحاسب فيه أعمال الناس فمن الواجب أن يميزوا بين الخير والشر وصالح الأعمال وطالحها بهداية إلهية وهي الدعوة الحقة المعتمدة على النبوة ولو لا ذلك لكانت الخلقة عبثا وكان الله سبحانه لاعبا لاهيا بها تعالى عن ذلك.

فمقام الآيتين - كما ترى - مقام الاحتجاج على حقية المعاد لتثبت بها حقية دعوة النبوة لأن دعوة النبوة - على هذا - من مقتضيات المعاد من غير عكس.

وحجة الآيتين - كما ترى - تعتمد على معنى اللعب واللهو واللعب هو الفعل المنتظم الذي له غاية خيالية غير واقعية كملاعب الصبيان التي لا أثر لها إلا مفاهيم خيالية من تقدم وتأخر وربح وخسارة ونفع وضرر كلها بحسب الفرض والتوهم وإذ كان اللعب بما تنجذب النفس إليه يصرفها عن الأعمال الواقعية فهو من مصاديق اللهو هذا.

فلو كان خلق العالم المشهود لا لغاية يتوجه إليها ويقصد لأجلها وكان الله سبحانه لا يزال يوجد ويعدم ويحيي ويميت ويعمر ويخرب لا لغاية تترتب على هذه الأفعال ولا لغرض يعمل لأجله ما يعمل بل إنما يفعلها لأجل نفسها ويريد أن يراها واحدا بعد واحد فيشتغل بها دفعا لضجر أوملل أو كسل أو فرارا من الوحدة أو انطلاقا من الخلوة كحالنا نحن إذا اشتغلنا بعمل نلعب به ونتلهى لندفع به نقصا طرأ علينا وعارضة سوء لا نستطيبها لأنفسنا من ملال أوكلال أو كسل أو فشل ونحو ذلك.

فاللعب بنظر آخر لهو، ولذلك نراه سبحانه عبر في الآية الأولى باللعب{ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ } ثم بدله - في الآية الثانية التي هي في مقام التعليل لها - لهوا فوضع اللهو مكان اللعب لتتم الحجة.

وتلهيه تعالى بشيء من خلقه محال لأن اللهو لا يتم لهوا إلا برفع حاجة من حوائج اللاهي ودفع نقيصة من نقائصه نفسه فهو من الأسباب المؤثرة، ولا معنى لتأثير خلقه تعالى فيه واحتياجه إلى ما هو محتاج من كل جهة إليه فلو فرض تلهيه تعالى بلهو لم يجز أن يكون أمرا خارجا من نفسه، وخلقه فعله وفعله، خارج من نفسه، بل وجب أن يكون بأمر غير خارج من ذاته.

وبهذا يتم البرهان على أن الله ما خلق السماء والأرض وما بينهما لعبا ولهوا وما أبدعها عبثا ولغير غاية وغرض، وهو قوله:{ لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا }.

وأما اللهو بأمر غير خارج من ذاته فهو وإن كان محالا في نفسه لاستلزامه حاجة في ذاته إلى ما يشغله ويصرفه عما يجده في نفسه فيكون ذاته مركبة من حاجة حقيقية متقررة فيها وأمر رافع لتلك الحاجة، ولا سبيل للنقص والحاجة إلى ذاته المتعالية لكن البرهان لا يتوقف عليه لأنه في مقام بيان أن لا لعب ولا لهو في فعله تعالى وهو خلقه، وأما أنه لا لعب ولا لهو في ذاته تعالى فهو خارج عن غرض المقام وإنما أشير إلى نفي هذا الاحتمال بالتعبير بلفظة{لو} الدالة على الامتناع ثم أكده بقوله:{إن كنا فاعلين} فافهم ذلك.

وبهذا البيان يظهر أن قوله:{لو أردنا} إلخ، في مقام التعليل للنفي في قوله:{وما خلقنا} إلخ، وأن قوله:{من لدنا} معناه من نفسنا، وفي مرحلة الذات دون مرحلة الخلق الذي هو فعلنا الخارج من ذاتنا، وأن قوله:{إن كنا فاعلين} إشارة استقلالية إلى ما يدل عليه لفظة{لو} في ضمن الجملة فيكون نوعا من التأكيد.

وبهذا البيان يتم البرهان على المعاد ثم النبوة ويتصل الكلام بالسياق المتقدم ومحصله أن للناس رجوعا إلى الله وحسابا على أعمالهم ليجازوا عليها ثوابا وعقابا فمن الواجب أن يكون هناك نبوة ودعوة ليدلوا بها إلى ما يجازون عليه من الاعتقاد والعمل فالمعاد هو الغرض من الخلقة الموجب للنبوة ولو لم يكن معاد لم يكن للخلقة غرض وغاية فكانت الخلقة لعبا ولهوا منه تعالى وهو غير جائز، ولو جاز عليه اتخاذ اللهو لوجب أن يكون بأمر غير خارج من نفسه لا بالخلق الذي هو فعل خارج من ذاته لأن من المحال أن يؤثر غيره فيه ويحتاج إلى غيره بوجه وإذ لم يكن الخلق لعبا فهناك غاية وهو المعاد ويستلزم ذلك النبوة ومن لوازمه أيضا نكال بعض الظالمين إذا ما طغوا وأسرفوا وتوقف عليه إحياء الحق كما يشير إليه قوله بعد:{ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ}.

وللقوم في تفسير قوله:{ لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا } وجوه: منها ما ذكره في الكشاف، ومحصله أن قوله:{من لدنا} معناه بقدرتنا، فالمعنى: أن لو شئنا اتخاذ اللهو لاتخذناه بقدرتنا لعمومها لكنا لا نشاء وذلك بدلالة{لو} على الامتناع.

وفيه أن القدرة لا تتعلق بالمحال واللهو - ومعناه ما يشغلك عما يهمك بأي وجه وجه - محال عليه تعالى. على أن دلالة{من لدنا} على القدرة لا تخلو من خفاء.

ومنها قول بعضهم: المراد بقوله:{من لدنا} من عندنا بحيث لا يطلع عليه أحد لأنه نقص فكان ستره أولى.

وفيه أن ستر النقص إنما هو للخوف من اللائمة عليه وإنما يخاف من لا يخلو من سمة العجز لا من هو على كل شيء قدير فإذ رفع نقصا باللهو فليرفع آخر بما يناسبه، على أنه إن امتنع عليه إظهاره لكونه نقصا فامتناع أصله عليه لكونه نقصا أقدم من امتناع الإظهار فيئول المعنى إلى أنا لو فعلنا هذا المحال لسترناه عنكم لأن إظهاره محال وهو كما ترى.

ومنها قول بعضهم إن المراد باللهو المرأة والولد والعرب تسمي المرأة لهوا والولد لهوا لأن المرأة والولد يستروح بهما واللهو ما يروح النفس، فالمعنى: لو أردنا أن نتخذ صاحبة وولدا - أو أحدهما - لاتخذناه من المقربين عندنا فهو كقوله:{ لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ }.

وقيل: لاتخذناه من المجردات العالية لا من الأجسام والجسمانيات السافلة، وقيل: لاتخذناه من الحور العين، وكيف كان فهو رد على مثل النصارى المثبتين للصاحبة والولد وهما مريم والمسيح (عليه السلام).

وفيه أنه إن صح من حيث اللفظ استلزم انقطاع الكلام عن السياق السابق.

ومنها ما عن بعضهم أن المراد بقوله:{من لدنا} من جهتنا، ومعنى الآية: لوأردنا اتخاذ لهولكان اتخاذ لهو من جهتنا أي لهوا إلهيا أي حكمة اتخذتموها لهوا من جهتكم وهذا عين الجد والحكمة فهو في معنى لو أردناه لامتنع ومحصله أن جهته تعالى لا تقبل إلا الجد والحكمة فلو أراد لهوا صار جدا وحكمة أي يستحيل إرادة اللهو منه تعالى.

وفيه أنه وإن كان معنى صحيحا في نفسه غير خال من الدقة لكنه غير مفهوم من لفظ الآية كما هو ظاهر.

وقوله:{إن كنا فاعلين} الظاهر أن{إن} شرطية كما تقدمت الإشارة إليه، وعلى هذا فجزاؤه محذوف يدل عليه قوله:{لاتخذناه من لدنا} وقال بعضهم: إن{إن} نافية والجملة نتيجة البيان السابق، وعن بعضهم أن إن النافية لا تفارق غالبا اللام الفارقة، وقد ظهر مما تقدم من معنى الآية أن كون إن شرطية أبلغ بحسب المقام من كونها نافية.

قوله تعالى:{ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} القذف الرمي البعيد، والدمغ - على ما في مجمع البيان، - شج الرأس حتى يبلغ الدماغ، يقال: دمغه يدمغه إذا أصاب دماغه، وزهوق النفس تلفها وهلاكها، يقال: زهق الشيء يزهق أي هلك.

والحق والباطل مفهومان متقابلان، فالحق هو الثابت العين، والباطل ما ليس له عين ثابتة لكنه يتشبه بالحق تشبها فيظن أنه هو حتى إذا تعارضا بقي الحق وزهق الباطل كالماء الذي هو حقيقة من الحقائق، والسراب الذي ليس بالماء حقيقة لكنه يتشبه به في نظر الناظر فيحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا.

وقد عد سبحانه في كلامه أمثلة كثيرة من الحق والباطل فعد الاعتقادات المطابقة للواقع من الحق وما ليس كذلك من الباطل وعد الحياة الآخرة حقا والحياة الدنيا بجميع ما يراه الإنسان لنفسه فيها ويسعى له سعيه من ملك ومال وجاه وأولاد وأعوان ونحو ذلك باطلا وعد ذاته المتعالية حقا وسائر الأسباب التي يغتر بها الإنسان ويركن إليها من دون الله باطلا، والآيات في ذلك كثيرة لا مجال لنقلها في المقام.

والذي يستند إليه تعالى بالأصالة هو الحق دون الباطل كما قال:{الحق من ربك:} آل عمران: 60، وقال:{ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا:} ص: 27، وأما الباطل من حيث إنه باطل فليس ينتسب إليه بالاستقامة وإنما هو لازم نقص بعض الأشياء إذا قيس الناقص منها إلى الكامل، فالعقائد الباطلة لوازم نقص الإدراك وسائر الأمور الباطلة لوازم الأمور إذا قيس إلى ما هو أكمل منها، وهي تنتسب إليه تعالى بالإذن بمعنى أن خلقه تعالى الأرض السبخة الصيقلية بحيث يتراءى للناظر في لون الماء وصفائه إذن منه تعالى في أن يتخيل عنده ماء وهو تحقق السراب تحققا تخيليا باطلا.

ومن هنا يظهر أن لا شيء في الوجود إلا وفيه شوب بطلان إلا الله سبحانه فهو الحق الذي لا يخالطه بطلان ولا سبيل له إليه قال:{إن الله هو الحق:} النور: 25.

ويظهر أيضا أن الخلقة على ما فيها من النظام بامتزاج من الحق والباطل، قال تعالى يمثل أمر الخلقة:{ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ:} الرعد: 17، وتحت هذا معارف جمة.

وقد جرت سنة الله تعالى أن يمهل الباطل حتى إذا اعترض الحق ليبطله ويحل محله قذفه بالحق فإذا هو زاهق فالاعتقاد الحق لا يقطع دابره وإن قلت حملته أحيانا أو ضعفوا، والكمال الحق لا يهلك من أصله وإن تكاثرت أضداده، والنصر الإلهي لا يتخطى رسله وإن كانوا ربما بلغ بهم الأمر إلى أن استيئسوا وظنوا أنهم قد كذبوا.

وهذا معنى قوله تعالى:{ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ } فإنه إضراب عن عدم خلق العالم لعبا أو عن عدم إرادة اتخاذ اللهو المدلول عليه بقوله:{لو أردنا أن نتخذ لهوا} إلخ، وفي قوله:{نقذف} المفيد للاستمرار دلالة على كونه سنة جارية، وفي قوله:{نقذف... فيدمغه} دلالة على علو الحق على الباطل، وفي قوله:{فإذا هو زاهق} دلالة على مفاجاة القذف ومباغتته في حين لا يرجى للحق غلب ولا للباطل انهزام، والآية مطلقة غير مقيدة بالحق والباطل في الحجة أوفي السيرة والسنة أو في الخلقة فلا دليل على تقييدها بشيء من ذلك.

والمعنى: ما خلقنا العالم لعبا أو لم نرد اتخاذ اللهو بل سنتنا أن نرمي بالحق على الباطل رميا بعيدا فيهلكه فيفاجئه الذهاب والتلف، فإن كان الباطل حجة أو عقيدة فحجة الحق تبطلها، وإن كان عملا وسنة كما في القرى المسرفة الظالمة فالعذاب المستأصل يستأصله ويبطله، وإن كان غير ذلك فغير ذلك.

وقد فسر الآية بعضهم بقوله: لكنا لا نريد اتخاذ اللهو بل شأننا أن نغلب الحق الذي من جملته الجد على الباطل الذي من جملته اللهو، وهو خطأ فإن فيه اعترافا بوجود اللهو ولم يرد في سابق الكلام إلا اللهو المنسوب إليه تعالى الذي نفاه الله عن نفسه فالحق أن الآية لا إطلاق لها بالنسبة إلى الجد واللهو إذ لا وجود للهو حتى تشمله الآية وتشمل ما يقابله.

وقوله:{ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} وعيد للناس المنكرين للمعاد والنبوة على ما تقدم من توضيح مقتضى السياق.

ويظهر من الآية حقيقة الرجوع إلى الله تعالى وهو أنه تعالى لا يزال يقذف بالحق على الباطل فيحق الحق ويخلصه من الباطل الذي يشوبه أو يستره حتى لا يبقى إلا الحق المحض وهو الله الحق عز اسمه قال:{ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ:} النور: 25، فيسقط يومئذ ما كان يظن للأسباب من استقلال التأثير ويزعم لغيره من القوة والملك والأمر كما قاللَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ:} الأنعام: 94، وقال:{ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا:} البقرة: 165}، وقال:{لمن الملك اليوم لله الواحد القهار:} المؤمن: 16، وقال:{والأمر يومئذ لله:} الانفطار: 19، والآيات المشيرة إلى هذا المعنى كثيرة.

قوله تعالى:{ وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } دفع لأحد الاحتمالات المنافية للمعاد في الجملة وهو أن لا يتسلط سبحانه على بعض أو كل الناس فينجو من لا يملكه من الرجوع إليه والحساب والجزاء فأجيب بأن ملكه تعالى عام شامل لجميع من في السماوات والأرض فله أن يتصرف فيها أي تصرف أراد.

ومن المعلوم أن هذا الملك حقيقي من لوازم الإيجاد بمعنى قيام الشيء بسببه الموجد له بحيث لا يعصيه في أي تصرف فيه، والإيجاد يختص بالله سبحانه لا يشاركه فيه غيره حتى عند الوثنيين المثبتين لآلهة أخرى للتدبير والعبادة فكل من في السماوات والأرض مملوك لله لا مالك غيره.

قوله تعالى:{ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ } إلى آخر الآية التالية، قال في مجمع البيان،: الاستحسار الانقطاع عن الإعياء يقال: بعير حسير أي معي، وأصله من قولهم: حسر عن ذراعيه، فالمعنى أنه كشف قوته بإعياء انتهى.

والمراد بقوله:{ومن عنده} المخصوصون بموهبة القرب والحضور وربما انطبق على الملائكة المقربين، وقوله:{ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} بمنزلة التفسير لقوله:{ولا يستحسرون} أي لا يأخذهم عي وكلال بل يسبحون الليل والنهار من غير فتور، والتسبيح بالليل والنهار كناية عن دوام التسبيح من غير انقطاع.

يصف تعالى حال المقربين من عباده والمكرمين من ملائكته أنهم مستغرقون في عبوديته مكبون على عبادته لا يشغلهم عن ذلك شاغل ولا يصرفهم صارف، وكأن الكلام مسوق لبيان خصوصية مالكيته وسلطنته المذكورة في صدر الآية.

وذلك أن السنة الجارية بين الموالي وعبيدهم في الملك الاعتباري أن العبد كلما زاد تقربا من مولاه خفف عنه بالإغماض عن كثير من الوظائف والرسوم الجارية على عامة العبيد، وكان معفوا عن الحساب والمؤاخذة، وذلك لكون الاجتماع المدني الإنساني مبنيا على التعاون بمبادلة المنافع بحسب مساس الحاجة، والحاجة قائمة دائما، والمولى أحوج إلى مقربي عبيده من غيرهم كما أن الملك أحوج إلى مقربي حضرته من غيرهم، فإذا كان انتفاع المولى من عبده المقرب أكثر من غيره فليكن ما يبذله من الكرامة بإزاء منافع خدمته كذلك ولذا يرفع عنه كثير مما يوضع لغيره ويعفي عن بعض ما يؤاخذ به غيره فإنما هي معاملة ومبايعة.

وهذا بخلاف ملكه تعالى لعبيده فإنه ملك حقيقي مالكه في غنى مطلق عن مملوكه، ومملوكه في حاجة مطلقة إلى مالكه ولا يختلف الحال فيه بالقرب والبعد وعلو المقام ودنوه بل كلما زاد العبد فيه قربا كانت العظمة والكبرياء والعزة والبهاء عنده أظهر والإحساس بذلة نفسه ومسكنتها وحاجتها أكثر ويلزمها الإمعان في خشوع العبودية وخضوع العبادة.

فكان قوله:{ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ} إلخ إشارة إلى أن ملكه تعالى - وقد أشار قبل إلى أنه مقتض للعبادة والحساب والجزاء - على خلاف الملك الدائر في المجتمع الإنساني، فلا يطمعن طامع أن يعفى عنه العمل أوالحساب والجزاء.

ويمكن أن يكون الجملة في مقام الترقي والمعنى له من في السماوات والأرض فعليهم أن يعبدوا وسيحاسبون من غير استثناء حتى أن من عنده من مقربي عباده وكرام ملائكته لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون بل يسبحونه تسبيحا دائما غير منقطع.

وقد تقدم في آخر سورة الأعراف في تفسير قوله تعالى:{ إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} استفادة أن المراد بقوله:{الذين عند ربك} أعم من الملائكة المقربين فلا تغفل.

قوله تعالى: { أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ } الإنشار إحياء الموتى فالمراد به المعاد، وفي الآية دفع احتمال آخر ينافي المعاد والحساب المذكور سابقا وهو الرجوع إلى الله بأن يقال: إن هناك آلهة أخرى دون الله يبعثون الأموات ويحاسبونهم وليس لله سبحانه من أمر المعاد شيء حتى نخافه ونضطر إلى إجابة رسله واتباعهم في دعوتهم بل نعبدهم ولا جناح؟.

وتقييد قوله:{أم اتخذوا آلهة} بقوله{من الأرض} قيل: ليشير به إلى أنهم إذا كانوا من الأرض كان حكمهم حكم عامة أهل الأرض من الموت ثم البعث فمن الذي يميتهم ثم يبعثهم؟.

ويمكن أن يكون المراد اتخاذ آلهة من جنس الأرض كالأصنام المتخذة من الحجارة والخشب والفلزات فيكون فيه نوع من التهكم والتحقير ويئول المعنى إلى أن الملائكة الذين هم الآلهة عندهم إذا كانوا من عباده تعالى وعباده وانقطع هؤلاء عنهم ويئسوا من ألوهيتهم ليلتجئوا إليهم في أمر المعاد فهل يتخذون أصنامهم وتماثيلهم آلهة من دون الله مكان أرباب الأصنام والتماثيل.

قوله تعالى:{ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} قد تقدم في تفسير سورة هود وتكررت الإشارة إليه بعده أن النزاع بين الوثنيين والموحدين ليس في وحدة الإله وكثرته بمعنى الواجب الوجود الموجود لذاته الموجد لغيره فهذا مما لا نزاع في أنه واحد لا شريك له، وإنما النزاع في الإله بمعنى الرب المعبود والوثنيون على أن تدبير العالم على طبقات أجزائه مفوضة إلى موجودات شريفة مقربين عند الله ينبغي أن يعبدوا حتى يشفعوا لعبادهم عند الله ويقربوهم إليه زلفى كرب السماء ورب الأرض ورب الإنسان وهكذا وهم آلهة من دونهم والله سبحانه إله الآلهة وخالق الكل كما يحكيه عنهم قوله:{ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ:} الزخرف: 87 وقوله:{ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ:} الزخرف: 9.

والآية الكريمة إنما تنفي الآلهة من دون الله في السماء والأرض بهذا المعنى لا بمعنى الصانع الموجد الذي لا قائل بتعدده، والمراد بكون الإله في السماء والأرض تعلق ألوهيته بالسماء والأرض لا سكناه فيهما فهو كقوله تعالى:{ وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ:} الزخرف: 84.

وتقرير حجة الآية أنه لو فرض للعالم آلهة فوق الواحد لكانوا مختلفين ذاتا متباينين حقيقة وتباين حقائقهم يقضي بتباين تدبيرهم فيتفاسد التدبيرات وتفسد السماء والأرض لكن النظام الجاري نظام واحد متلائم الأجزاء في غاياتها فليس للعالم آلهة فوق الواحد وهو المطلوب.

فإن قلت: يكفي في تحقق الفساد ما نشاهده من تزاحم الأسباب والعلل وتزاحمها في تأثيرها في المواد هو التفاسد.

قلت: تفاسد العلتين تحت تدبيرين غير تفاسدهما تحت تدبير واحد، ليحدد بعض إثر بعض وينتج الحاصل من ذلك وما يوجد من تزاحم العلل في النظام من هذا القبيل فإن العلل والأسباب الراسمة لهذا النظام العام على اختلافها وتمانعها وتزاحمها لا يبطل بعضها فعالية بعض بمعنى أن ينتقض بعض القوانين الكلية الحاكمة في النظام ببعض فيختلف عن مورده مع اجتماع الشرائط وارتفاع الموانع فهذا هو المراد من إفساد مدبر عمل مدبر آخر بل السببان المختلفان المتنازعان حالهما في تنازعهما حال كفتي الميزان المتنازعتين بالارتفاع والانخفاض فإنهما في عين اختلافهما متحدان في تحصيل ما يريده صاحب الميزان ويخدمانه في سبيل غرضه وهو تعديل الوزن بواسطة اللسان.

فإن قلت: آثار العلم والشعور مشهودة في النظام الجاري في الكون فالرب المدبر له يدبره عن علم وإذا كان كذلك فلم لا يجوز أن يفرض هناك آلهة فوق الواحد يدبرون أمر الكون تدبيرا تعقليا وقد توافقوا على أن لا يختلفوا ولا يتمانعوا في تدبيرهم حفظا للمصلحة.

قلت: هذا غير معقول، فإن معنى التدبير التعقلي عندنا هوأن نطبق أفعالنا الصادرة منا على ما تقتضيه القوانين العقلية الحافظة لتلائم أجزاء الفعل وانسياقه إلى غايته، وهذه القوانين العقلية مأخوذة من الحقائق الخارجية والنظام الجاري فيها الحاكم عليها فأفعالنا التعقلية تابعة للقوانين العقلية وهي تابعة للنظام الخارجي لكن الرب المدبر للكون فعله نفس النظام الخارجي المتبوع للقوانين العقلية، فمن المحال أن يكون فعله تابعا للقوانين العقلية وهو متبوع، فافهم ذلك.

فهذا تقرير حجة الآية وهي حجة برهانية مؤلفة من مقدمات يقينية تدل على أن التدبير العام الجاري بما يشتمل عليه ويتألف منه من التدابير الخاصة صادر عن مبدإ واحد غير مختلف، لكن المفسرين قرروها حجة على نفي تعدد الصانع واختلفوا في تقريرها وربما أضاف بعضهم إليها من المقدمات ما هو خارج عن منطوق الآية وخاضوا فيها حتى قال القائل منهم إنها حجة إقناعية غير برهانية أوردت إقناعا للعامة.

قوله تعالى:{ فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} تنزيه له تعالى عن وصفهم وهو أن معه آلهة هم ينشرون أو أن هناك آلهة من دونه يملكون التدبير في ملكه فالعرش كناية عن الملك، وقوله:{عما يصفون}{ما} فيه مصدرية والمعنى: عن وصفهم. وللكلام تتمة ستوافيك.

قوله تعالى:{ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} الضمير في{لا يسأل} له تعالى بلا إشكال، والضمير في{وهم يسألون} للآلهة الذين يدعونهم أوللآلهة والناس جميعا أو للناس فقط، وأحسن الوجوه أولها لأن ذلك هو المناسب للسياق والكلام في الآلهة الذين يدعونهم من دونه، فهم المسئولون والله سبحانه لا يسأل عن فعله.

والسؤال عن الفعل هو قولنا لفاعله: لم فعلت كذا؟ وهو سؤال عن جهة المصلحة في الفعل فإن الفعل المقارن للمصلحة لا مؤاخذة عليه عند العقلاء، والله سبحانه لما كان حكيما على الإطلاق كما وصف به نفسه في مواضع من كلامه، والحكيم هو الذي لا يفعل فعلا إلا لمصلحة مرجحة لا جرم لم يكن معنى للسؤال عن فعله بخلاف غيره فإن من الممكن في حقهم أن يفعلوا الحق والباطل وأن يقارن فعلهم المصلحة والمفسدة فجاز في حقهم السؤال حتى يؤاخذوا بالذم العقلي أو العقاب المولوي إن لم يقارن الفعل المصلحة.

هذا ما ذكره جماعة من المفسرين في توجيه الآية وهو معنى صحيح في الجملة لكن يبقى عليه أمران: الأمر الأول: أن الآية مطلقة لا دليل فيها من جهة اللفظ على كون المراد فيها هو هذا المعنى فإن كون المعنى صحيحا في نفسه لا يستلزم كونه هو المراد من الآية.

ولذلك وجه بعضهم عدم السؤال بأنه مبني على كون أفعال الله لا تعلل بالأغراض لأن الغرض ما يبعث الفاعل إلى الفعل ليستكمل به وينتفع به وإذ كان تعالى أجل من أن يحتاج إلى ما هو خارج عن ذاته ويستكمل بالانتفاع من غيره فلا يقال له: لم فعلت كذا سؤالا عن الغرض الذي دعاه إلى الفعل.

وإن رد بأن الفاعل التام الفاعلية إنما يصدر عنه الفعل لذاته فذاته هي غايته وغرضه في فعله من غير حاجة إلى غرض خارج عن ذاته كالإنسان البخيل الذي يكثر الإنفاق ليحصل ملكة الجود حتى إذا حصلت الملكة صدر عنها الإنفاق لذاتها لا لتحصيل ما هو حاصل فنفسها غاية لها في فعلها.

ولذلك أيضا وجه بعض آخر عدم السؤال في الآية بأن عظمته تعالى وكبرياءه وعزته وبهاءه تقهر كل شيء من أن يسأله عن فعله أويعترض له في شيء من شئون إرادته فغيره تعالى أذل وأحقر من أن يجترىء عليه بسؤال أومؤاخذة على فعل لكن له سبحانه أن يسأل كل فاعل عن فعله ويؤاخذ كل من حقت عليه المؤاخذة هذا.

وإن كان مردودا بأن عدم السؤال من جهة أن ليس هناك من يتمكن من سؤاله اتقاء من قهره وسخطه كالملوك الجبارين والطغاة المتفرعنين غير كون الفعل بحيث لا يتسم بسمة النقص والفتور ولا يعتريه عيب وقصور، والذي يدل عليه عامة كلامه تعالى أن فعله من القبيل الثاني دون الأول كقوله:{ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ:} الم السجدة: 7، وقوله:{له الأسماء الحسنى:} الحشر: 24، وقوله:{ إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا:} يونس: 44، إلى غير ذلك من الآيات.

وبالجملة قولهم: إنه تعالى إنما لا يسأل عن فعله لكونه حكيما على الإطلاق يئول إلى أن عدم السؤال عن فعله ليس لذات فعله بما هو فعله بل لأمر خارج عن ذات الفعل وهو كون فاعله حكيما لا يفعل إلا ما فيه مصلحة مرجحة، وقوله: لا يسأل عما يفعل وهم يسألون لا دلالة في لفظه على التقييد بالحكمة فكان عليهم أن يقيموا عليه دليلا.

ولو جاز الخروج في تعليل عدم السؤال في الآية عن لفظها لكان أقرب منه التمسك بقوله - وهو متصل بالآية -:{ سُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ } فإن الآية تثبت له الملك المطلق والملك متبع في إرادته مطاع في أمره لأنه ملك - أي لذاته - لا لأن فعله أو قوله موافق لمصلحة مرجحة وإلا لم يكن فرق بينه وبين أدنى رعيته وكانت المصلحة هي المتبعة ولم تكن طاعته مفترضة في بعض الأحيان، وكذلك المولى متبع ومطاع لعبده فيما له من المولوية من جهة أنه مولى ليس للعبد أن يسأله فيما يريده منه ويأمره به عن وجه الحكمة والمصلحة فالملك على ما له من السعة مبدأ لجواز التصرفات وسلطنة عليها لذاته.

فالله سبحانه ملك ومالك للكل والكل مملوكون له محضا فله أن يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد وليس لغيره ذلك، وله أن يسألهم عما يفعلون وليس لغيره أن يسألوه عما يفعل نعم هو سبحانه أخبرنا أنه حكيم لا يفعل إلا ما فيه مصلحة ولا يريد إلا ذلك فليس لنا أن نسيء به الظن فيما ينسب إليه من الفعل بعد هذا العلم الإجمالي بحكمته المطلقة فضلا عن سؤاله عما يفعل، ومن ألطف الآيات دلالة على هذا الذي ذكرنا قوله حكاية عن عيسى بن مريم:{ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ:} المائدة: 118 حيث يوجه عذابهم بأنهم مملوكون له ويوجه مغفرتهم بكونه حكيما.

ومن هنا يظهر أن الحكمة بوجه ما أعم من قوله:{لا يسأل عما يفعل} بخلاف الملك فالملك أقرب إلى توجيه الآية منها كما أشرنا إليه.

الأمر الثاني: أن الآية على ما وجهوها به خفية الاتصال بالسياق السابق وغاية ما قيل في اتصالها بما قبلها ما في مجمع البيان،: أنه تعالى لما بين التوحيد عطف عليه بيان العدل، وأنت خبير بأن مآله الاستطراد ولا موجب له.

ونظيره ما نقل عن أبي مسلم أنها تتصل بقوله في أول السورة:{اقترب للناس حسابهم} والحساب هو السؤال عما أنعم الله عليهم به، وهل قابلوا نعمه بالشكر أم قابلوها بالكفر؟ وفيه أن للآيات التالية لهذه الآية اتصالا واضحا بما قبلها فلا معنى لاتصالها وحدها بأول السورة.

على أن قوله على تقدير تسليمه يوجه اتصال ذيل الآية والصدر باق على ما كان.

وأنت خبير أن توجيه الآية بالملك دون الحكمة كما قدمناه يكشف عن اتصال الآية بما قبلها من قوله:{ سُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} فالعرش - كما تقدم - كناية عن الملك فتتصل الآيتان ويكون قوله:{ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ } بالحقيقة برهانا على ملكه تعالى كما أن ملكه وعدم مسئوليته برهان على ربوبيته، وبرهانا على مملوكيتهم كما أن مملوكيتهم ومسئوليتهم برهان على عدم ربوبيتهم فإن الفاعل الذي ليس بمسئولين عن فعله بوجه هو الذي يملك الفعل مطلقا لا محالة، والفاعل الذي هو مسئول عن فعله هو الذي لا يملك الفعل إلا إذا كان ذا مصلحة والمصلحة هي التي تملكه وترفع المؤاخذة عنه، ورب العالم أو جزء من أجزائه هو الذي يملك تدبيره باستقلال من ذاته أي لذاته لا بإعطاء من غيره فالله سبحانه هو رب العرش وغيره مربوبون له.

_______________

1- تفسير الميزان ،الطباطبائي،ج14،ص210-221.

تفسير الامثل
- ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذه  الآيات (1) :

خلق السّماء والأرض ليس لهواً:

لمّا كانت الآيات السابقة قد عكست هذه الحقيقة وهي: إنّ الظالمين الذين لا إيمان لهم لا يعتقدون بوجود هدف وغاية من خلقهم إلاّ الأكل والشرب والملذّات، ويظنّون أنّ العالم بلا هدف، القرآن الكريم يقول في الآيات التي نبحثها من أجل إبطال هذا النوع من التفكير، وإثبات وجود هدف عال وسام من وراء خلق كلّ العالم، وخاصّة البشر: { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ}.

إنّ هذه الأرض الواسعة، وهذه السّماء المترامية الأطراف، وكلّ هذه الموجودات المتنوعة البديعة التي توجد في ساحتها تبيّن أنّ هدفاً مهمّاً في خلقها .. نعم، إنّ الهدف هو بيان قدرة الخالق الجليل، وإبراز جانب من عظمته من جهة، ومن جهة أُخرى ليكون دليلا على المعاد، وإلاّ فإنّ كلّ هذه الضجّة والغوغاء إن كانت لبضعة أيّام فلا معنى لها.

هل يمكن أن يبني الإنسان قصراً في وسط صحراء، ويجهّزه بكلّ الوسائل، وذلك من أجل أن يستريح فيه ساعة واحدة ـ طول عمره ـ عند مروره عليه؟

بعبارة موجزة: إذا نظرنا إلى هذا العالم العظيم من منظار الكفّار، فسنراه لا فائدة فيه ولا هدف منه، والإيمان بالمبدأ والمعاد هو الذي يجعل له معنىً وغاية.

ثمّ تقول الآية التالية: الآن وقد ثبت أنّ العالم له هدف فإنّه لا ريب في أنّ الهدف من هذا الخلق لم يكن أن يلهو الله سبحانه وتعالى عن ذلك، فإنّ هذا اللهو غير معقول، فـ{ لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ }.

«اللعب» يعني العمل الغير هادف، و «اللهو» إشارة إلى الأهداف غير المعقولة والملاهي.

هذه الآية تبيّن حقيقتين:

الأُولى: أنّه بملاحظة كلمة (لو)، وهي في لغة العرب للإمتناع، فهي تشير إلى أنّ من المحال أن يكون هدف الله هو اللهو.

والاُخرى: إنّه على فرض أنّ الهدف هو اللهو، فيجب أن يكون لهواً مناسباً لذاته، كأن يكون من عالم المجردات وأمثال ذلك، لا من عالم المادّة المحدود(2).

ثمّ تقول بلهجة قاطعة من أجل إبطال أوهام الجاهلين الذين يظنّون عدم هدفيّة الدنيا، بل هي للهو واللعب فقط: إنّ هذا العالم مجموعة من الحقّ والواقع، ولم يقم أساسه على الباطل { بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ}. وتقول في النهاية: { وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} وتتحدّثون عن عدم هدفية الخلق.

أي إنّنا نجعل الأدلّة العقليّة والإستدلالات الواضحة والمعجزات البيّنة إلى جانب ظنون وأوهام اللاهدفيين، لتتبخّر وتتلاشى هذه الأوهام في نظر العلماء وأصحاب الفكر والرأي.

إنّ أدلّة معرفة الله واضحة، وأدلّة وجود المعاد بيّنة، وبراهين أحقّية الأنبياء جليّة، والحقّ يمكن تمييزه عن الباطل تماماً إذا لم يكن الشخص من المعاندين.

وممّا يستحقّ الإنتباه أنّ جملة «نقذف» من مادّة (قذف) بمعنى الإلقاء، وخاصّةً الإلقاء من طريق بعيد، ولمّا كان للقذف من بعيد سرعة وقوّة أكثر، فإنّ هذا التعبير يبيّن قدرة إنتصار الحقّ على الباطل. وكلمة «على» أيضاً مؤيّدة لهذا المعنى.

وجملة «يدمغه» على قول الراغب كسر «الجمجمة والدماغ»، وتعتبر أكثر نقطة في بدن الإنسان حساسّية، وهو تعبير بليغ عن غلبة جند الحقّ غلبة واضحة قاطعة.

والتعبير بـ (إذا) توحي بأنّا حتّى في الموارد التي لا يُنتظر ولا يُتوقّع إنتصار الحقّ فيها، فإنّنا سنجري هذه السنّة. والتعبير بـ «زاهق» والذي يعني الشيء المضمحل، تأكيد على هذا المقصود.

وأمّا أنّ جملتي (نقذف) و (يدمغ) قد جاءتا بصيغة الفعل المضارع، فهو دليل على إستمرار هذه السنّة.

الشرك ينبع من الظنّ:

كان الكلام في الآيات السابقة عن أنّ عالم الوجود ليس عبثيّاً لا هدف من ورائه، فلا مزاح ولا عبث، ولا لهو ولا لعب، بل له هدف تكاملي دقيق للبشر.

ولمّا كان من الممكن أن يوجد هذا التوهّم، وهو: ما حاجة الله إلى إيماننا وعبادتنا؟

فإنّ الآيات التي نبحثها تجيب أوّلا عن هذا التوهّم، وتقول: { وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ} (أي الملائكة) {لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (3) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ}.

ومع هذا الحال فأي حاجة لطاعتكم وعبادتكم؟ فكلّ هؤلاء الملائكة المقرّبين مشغولون بالتسبيح ليلا ونهاراً، وهو تعالى لا يحتاج حتّى لعبادة هؤلاء، فإذا كنتم قد أُمرتم بالإيمان والعمل الصالح والعبودية فإنّ كلّ ذلك سيعود بالنفع عليكم.

وهنا نقطة تلفت الإنتباه أيضاً، وهي أنّه في نظام العبيد والموالي الظاهري، كلّما تقرّب العبد من مولاه يقلّ خضوعه أمامه، لأن يختصّ به أكثر، فيحتاجه المولى أكثر. أمّا في نظام عبوديّة الخلق والخالق فالأمر على العكس، فكلّما إقتربت الملائكة وأولياء الله من الله سبحانه زادت عبوديتهم(4).

وبعد أن نفت في الآيات السابقة عبثيّة ولا هدفيّة عالم الوجود، وأصبح من المسلّم أنّ لهذا العالم هدفاً مقدّساً، فإنّ هذه الآيات تتطرّق إلى بحث مسألة وحدة المعبود ومدبّر هذا العالم، فتقول: { أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ}(5).

وهذه الجملة في الحقيقة إشارة إلى أنّ المعبود يجب أن يكون خالقاً، وخاصّة خلق الحياة، لأنّها أوضح مظاهر الخلق ومصاديقه. وهذا في الحقيقة يشبه ما نقرؤه في الآية (73) من سورة الحجّ: { إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ } ومع هذا الحال كيف يكون هؤلاء أهلا للعبادة؟

التعبير بـ(آلهة من الأرض) إشارة إلى الأصنام والمعبودات التي كانوا يصنعونها من الحجارة والخشب، وكانوا يظنّونها حاكمة على السماوات.

وتبيّن الآية التالية أحد الأدلّة الواضحة على نفي آلهة وأرباب المشركين، فتقول: { لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ}.

هذه الإدّعاءات غير الصحيحة وهذه الأرباب المصنوعة والآلهة المظنونة ليست إلاّ أوهاماً، وساحة كبرياء ذاته المقدّسة لا تتلوّث بهذه النسب المغلوطة.

وبعد أن ثبت بالإستدلال الذي ورد في الآية توحيد مدبّر ومدير هذا العالم، فتقول الآية التالية: إنّه قد نظّم العالم بحكمة لا مجال فيها للإشكال والإنتقاص ولا أحد يعترض عليه في خلقه: { لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ }.

وبالرغم من أنّ المفسّرين قد تكلّموا كثيراً حول تفسير هذه الآية، إلاّ أنّ ما ذكرناه أعلاه يبدو هو الأقرب.

وتوضيح ذلك: أنّ لدينا نوعين من الأسئلة:

الأوّل: السؤال التوضيحي، وهو أن يكون الإنسان جاهلا ببعض المسائل،ويرغب في أن يدرك حقيقتها، وحتى إذا علم وآمن بأنّ هذا العمل الذي تمّ كان صحيحاً، فإنّه يريد أن يعلم النقطة الأصليّة والهدف الحقيقي منه، ومثل هذا السؤال جائز حتّى حول أفعال الله، بل إنّ هذا السؤال يعتبر أساس ومصدر الفحص والتحقيق في عالم الخلقة والمسائل العلميّة، وقد كان لأصحاب النّبي والأئمّة كثير من هذه الأسئلة سواء فيما يتعلّق بعالم التكوين أو التشريع.

أمّا النوع الثّاني: فهو السؤال الإعتراضي، والذي يعني أنّ العمل الذي تمّ كان خطأً، كأن ينقض إنسان عهده بلا سبب، فنقول: لماذا نقضت عهدك؟ فليس الهدف طلب التوضيح، بل الهدف الإعتراض والتخطئة.

من المسلّم أنّ هذا النوع من السؤال لا معنى له حول أفعال الله الحكيم، وإذا ما اعترض أحد أحياناً فلجهله، إلاّ أنّ مجال هذا السؤال حول أفعال الآخرين واسع.

وفي حديث عن الإمام الباقر (عليه السلام) في جواب سؤال جابر الجعفي عن هذه الآية أنّه قال: «لأنّه لا يفعل إلاّ ما كان حكمة وصواباً»(6).

________________

1- تفسير الامثل ،ناصر مكارم الشيرازي،ج8،ص240-250.

2ـ إعتبر بعض المفسّرين الآيات أعلاه إشارة إلى نفي عقائد المسيحيين، أي اعتقدوا أنّ اللهو بمعنى الزوج والزوجة والولد. وقالوا: إنّ الآية تجيب هؤلاء وتقول: إنّنا إذا كنّا نريد أن نختار الصاحبة والولد فلم نكن ننتخبهما من جنس البشر.

إلاّ أنّ هذا التّفسير لا يبدو مناسباً من عدّة جهات، ومن جملتها أنّ إرتباط الآيات أعلاه بالآيات السابقة سينقطع. والاُخرى أنّ كلمة «اللهو» وخاصة إذا كانت بعد كلمة اللعب، تعني التسلّي لا المرأة والولد.

3ـ «يستحسرون» في الأصل من مادّة حسر، وفي الأصل تعني رفع النقاب والستار عن الشيء المغطّى، ثمّ إستعملت بمعنى التعب والضعف، فكأنّ كلّ قوى الإنسان تصرف في مثل هذه الحالة، ولا يبقى منها شيء مخفي في بدنه.

4ـ الميزان، ذيل الآيات محلّ البحث.

5ـ «ينشرون» من مادّة نشر، أي فكّ الشيء المعقّد الملفوف، وهو كناية عن الخلق وإنتشار المخلوقات في أرجاء الأرض والسّماء. ويصرّ بعض المفسّرين على إعتبار هذه الجملة إشارة إلى المعاد ورجوع الأموات إلى الحياة من جديد، في حين أنّه بملاحظة الآيات التالية سيتّضح أنّ الكلام عن توحيد الله وأنّه المعبود الحقيقي، وليس عن المعاد والحياة بعد الموت.

6-ـ توحيد الصدوق، حسب نقل تفسير نور الثقلين، الجزء3، ص419.




وهو تفسير الآيات القرآنية على أساس الترتيب الزماني للآيات ، واعتبار الهجرة حدّاً زمنيّاً فاصلاً بين مرحلتين ، فكلُّ آيةٍ نزلت قبل الهجرة تُعتبر مكّيّة ، وكلّ آيةٍ نزلت بعد الهجرة فهي مدنيّة وإن كان مكان نزولها (مكّة) ، كالآيات التي نزلت على النبي حين كان في مكّة وقت الفتح ، فالمقياس هو الناحية الزمنيّة لا المكانيّة .

- المحكم هو الآيات التي معناها المقصود واضح لا يشتبه بالمعنى غير المقصود ، فيجب الايمان بمثل هذه الآيات والعمل بها.
- المتشابه هو الآيات التي لا تقصد ظواهرها ، ومعناها الحقيقي الذي يعبر عنه بـ«التأويل» لا يعلمه الا الله تعالى فيجب الايمان بمثل هذه الآيات ولكن لا يعمل بها.

النسخ في اللغة والقاموس هو بمعنى الإزالة والتغيير والتبديل والتحوير وابطال الشي‏ء ورفعه واقامة شي‏ء مقام شي‏ء، فيقال نسخت الشمس الظل : أي ازالته.
وتعريفه هو رفع حكم شرعي سابق بنص شرعي لا حق مع التراخي والزمان بينهما ، أي يكون بين الناسخ والمنسوخ زمن يكون المنسوخ ثابتا وملزما بحيث لو لم يكن النص الناسخ لاستمر العمل بالسابق وكان حكمه قائما .
وباختصار النسخ هو رفع الحكم الشرعي بخطاب قطعي للدلالة ومتأخر عنه أو هو بيان انتهاء امده والنسخ «جائز عقلا وواقع سمعا في شرائع ينسخ اللاحق منها السابق وفي شريعة واحدة» .