أقرأ أيضاً
التاريخ: 26-8-2017
642
التاريخ: 26-8-2017
885
التاريخ: 23-5-2018
1690
التاريخ: 26-8-2017
1042
|
اعتراف المأمون
جلس « الفضل بن سهل » (1) مسترخياً بين الارائك الوثيرة مستمتعاً بدفء شمس خريفية ، ويحتسى على مهل وتلذذ عصير الرّمان بعد تلك الرحلة الممتعة في مراعي « مرو » مرو التي غدت عاصمة الدولة المترامية الأطراف.
وفي كل مرّة يتناول فيها عصير الرمّان يشعر بحيوية شاب في الثلاثين بالرغم من اطلالته على الستين.
أوقد خادم تركي النار في الموقد لاشاعة الدفء ، فنسائم الخريف تبشّر بشتاء قارس.
راح الفضل يحدّق في ألسنة النار ، وداخله شعور بالرهبة والخضوع!
أعاده صوت الحارس الى نفسه :
ـ إنّ أمير المؤمنين ينتظر.
نهض بسرعة لا يريد أن يتأخر ، فالمأمون ينوي الذهاب الى الحمام على التقاليد الفارسية ، وقد تقرّر أن يتخلّى المأمون اليوم عن الزيّ الأسود مستبدلاً اياه بالأخضر وسيكون لهذه الخطوة صداها ليس في مرو بل في البلاد من أقصاها الى أقصاها ؛ وقد يبقى صداها في التاريخ أيضاً!
شعر بالغرور وهو يلقي نظرة على صفّين من الحرس وقفوا كالتماثيل ، سوف يضرب ضربته بهؤلاء الذين لا يعرفون سوى الطاعة .. السمع والطاعة. ان الفشل البرمكي لن يتكرر هذه المرّة ... مرو ليست بغداد.
والفضل بن يحيى (2) ليس كالفضل بن سهل ...
في الطريق كان يفكر في المناسبة التي يمكنه أن يثير فيها الحديث عن فكرة المعتزلة في خلق القرآن (3) التي بدأت افكارها تهبّ شرقاً وغرباً.
إن الهاء الأمّة بمعارك فكرية يسهل في السيطرة عليها واقتيادها.
غادر المأمون الحمام في موكب مهيب ، وبدا بزيّه الاخضر ملكاً فارسياً جليلاً ، واحتفت الجماهير حوله تتطلع.
كان الفضل يتطّلع الى الخليفة السابع كما يتطلّع الصائغ الى قلادة ذهبية صاغها قبل قليل ، أو نحات الى تمثال ربّما سيُبعد غداً!
كل شيء يمضي على ما يرام ان طائر السعد قد حطّ على كتفه سوف تسقط الدولة كلّها في قبضته كتفاحة ناضجة.
وفي تلك الليلة وقد مضى شطر من الليل جلس المأمون مجلسه المسائي مع وزيره ذي الرئاستين.
أحضر خادم صندوقاً من خشب الاپنوس ، يحوي بيادق مصنوعة من عاج فيلة هندية.
كان المأمون يراقب الخادم وهو يصفّ الجنود والقلاع والفيلة وقد انتصب الملكان والوزيران استعداداً للمواجهة.
وبدا واضحاً منذ البداية أن الفضل كان يجنب الوزير المواجهة المباشرة ، وكان يكتفي بتحريك بيادقة من فيلة وقلاع والجنود.
سعى المأمون أن تبدو لهجته عادية عندما قال :
ـ هل من أخبار جديدة.
قال الفضل متصنّعاً ابتسامه :
ـ ليس هناك الا الخير يا أمير المؤمنين .. لقد استقوت لك الخلافة .. كل شيء يمضي على ما يرام.
رمق المأمون بطرف عينيه :
ـ أنت لا تنظر الا الى بغداد.
ـ إذا دانت لك بغداد يا سيدي دانت لك الدنيا.
ـ أنا لا أخشى بني العباس .. كل ما أخشاه هم أبناء علي.
ـ لقد أخمد الرشيد أنفاسهم .. وبالأمس رأيت محمد بن جعفر كيف يخلع نفسه ذليلاً في مكة ويعترف لك بالفضل.
ـ والمدينة؟!
ـ ليس فيها أحد!
ـ وعلي بن موسى؟!
ـ لم اسمعه يتحدّث بشأن يخيفنا .. إنّه ساكت.
قال المأمون وهو يحرّك وزيره :
ـ ان سكوته يرعبني!
ـ لا أفهم ما تقول!
ـ أنت لا تدري من هو! .. ما زلت اتذكّر كيف هبّ الرشيد لاستقبال أبيه .. لقد اعترف لي بأنه أحق بالخلافة والملك منّا.
ـ ولكن هذا لا يعرف أحد!
ـ كثيرون يعرفون ذلك نحن وهم وكثير من الناس .. حتى هؤلاء المعتزلة الذي تطريهم ... يتقربون يوماً بعد يوم من القول بأفضلية علي بن أبي طالب وحقّه وهذا يعني الكثير.
انتهت اللعبة كالعادة لا غالب ولا مغلوب ، تثاءب المأمون ونهض الفضل مستأذناً ، خمد بريق عينيه ، لكأن شيئاً يتهاوى في أعماقه إن هذا الشاب الذي أعدّه سُلماً لمجده يفاجئه هذه الليلة بعقل جبّار ودهاء أين منه دهاء أبيه الرشيد وجدّه المنصور؟!
المأمون ونقل الخلافة لخراسان
لم ينم المأمون تلك الليلة، كان يفكّر .. يفكّر في أولئك المشرّدين من ابناء علي وفاطمة (عليهم السلام)، كل رجل منهم يحمل مشروعاً للثورة ، لكأنهم شظايا ملتهبة ، تتناثر من بركان خفي .. بركان يشبه قلب يتفجّر بعواطف لا نهاية لها ..
ما يزال يتذكر ثورة « ابن طباطبا » (4) ، التي كادت تطوي بساط العباسيين الى الأبد.
هتف المأمون من أعماق نفسه :
ـ النار تحت الرماد!! ما ذا أفعل .. يا للقدر .. يا للقدر السابع من « ولد العباس »!.
من يرى المأمون تلك الليلة وهو يطلّ من خلال النافذة على حدائق القصر يحسبه شبحاً من أشباح الليل .. كان يفرغ كأساً من النبيذ في أعماقه ، وقد سرى دبيب خدر كقوافل من النمل لا نهاية لها ...
تمتم كأنه يحدّث نفسه ، ولعلّه كان يخاطب شخصاً يتخيّله :
ـ هؤلاء الحمقى لا يفهمون ما أفعله .. يظنون بغداد كل الدنيا لا يعرفون ماذا يجري في المدينة ومكّة والبصرة والكوفة وفي خراسان!!
لا أحد يعرف ماذا يموج في قلب المأمون ... ذلك الشاب الذي وجد نفسه بالرغم من كثرة جيوشه وحيداً ، لقد خسر الفوز بثقة العرب بعد مقتل الأمين ، فالناس لا يغفرون لقاتل الأخ فكيف اذا كان المقتول ابن زبيدة العربية العباسية؟!
كان يعاني هواجس مدمّرة ، فالبرغم من مصرع الأمين ولكن أحداً لا يعترف به خليفة ، بغداد ما تزال غاضبة والكوفة ترنو الى ثائر علوي آخر والمدينة ومكة والبصرة مترددة والشام يترقّب.
لقد اهتز الحق العباسي في الحكم وارتفعت همسات تدعو الى أهل البيت (عليهم السلام) ... في ظلّهم تتحقق عزّة الاسلام والعرب.
لم تبق سوى خراسان أملاً ، فهذا النسب الضعيف من أمّه قد ينفع في وقوف خراسان الى جانبه ..
خراسان مخزن الرجال الاشدّاء.
ولكنّ هؤلاء الفرس ذائبين في حبّ آل بيت الرسول ، وقد بدأوا يدركون أكثر فأكثرهم من هم آل الرسول؟ ولد العباس عم النبي بفضائحهم ؛ أم أبناء علي وفاطمة ابنة النبي عليهالسلام؟
ما تزال ذاكرة الأبناء عن الأجداد تحمل صوراً مشرقة عن رحمة علي (عليه السلام) وعدله .. عن انسانيته .. وهاهم أولاده يحملون تراثه الانساني .. أفكاره نبله وشجاعته.
وما تزال دعوة « الرضا من آل محمد » تلوّن أحلام المقهورين في كلِّ شبر من الأرض الاسلامية.
فحبّ علي وابنائه (عليهم السلام) أضحى عاطفة اسلامية ، حتى زبيدة كانت تتعاطف معهم فاقسم الرشيد أن يطلقها (5)!
نهض متجها الى خزانة خاصة لا يفتحها غيره ولا يعرف ما فيها أحد سواه .. أخرج دواة وقرطاساً ليكتب .. لا يدري أحد لمن يكتب؟!
ـ « اخبرني الرشيد عن آبائه ، وعمّا وجده في كتاب الدولة إنّ السابع من الولد العباس ، لا تقوم لبني العباس بعده قائمة ، ولا تزال النعمة متعلقة عليهم بحياته » (6).
وفي تلك الليلة الطويلة وعندما أغمض المأمون عينيه رأى في عالم الرموز والأطياف كثيراً من الأشياء تخطف أمامه كالأشباح الغامضة أمّا هو فكان يهودي في متاهات غارقة في ظلمة كثيفة ... ظلمة تشبه بحراً لا قرار له ولا انتهاء.
ورأى نفسه في قارب متهرئ الأشرعة تعصف به الريح من كل مكان ورأى حبلاً ممدوداً من السماء الى الأرض فتعلّق به ليتجه به لا إلى السماء ولكن الى الشاطئ الصخري القريب ... وانتبه من نومه على شمس أيلول ترسل اشعتها من وراء التلال البعيدة.
فكان أول شيء خطر في ذهنه المتيقظ وهو يحشر نفسه في عالم يضجّ بالوقائع اسم علي .. علي بن موسى ..
هتف المأمون بصوت فيه آثار سهر طويل :
ـ ألم يحضر هرثمة بعد؟
وجاء جواب حارس من وراء ستائر مخملية:
ـ هو يتنظر منذ الفجر.
ـ عليَّ به!
ـ الآن يا سيّدي؟!
صرخ متضايقاً :
ـ أجل الآن!
وبرقت عينا المأمون حتى شعر هرثمة أن أشعة نفّاذة إن تغوص في عظامه قال متخاذلاً :
ـ السلام على أمير المؤمنين عبدالله المأمون ...
ـ ... ماذا يغضب سيدي؟
ـ كفى هراءً .. إنّني اعرف كل الاعيبك.
ـ لا أدري ماذا تقول؟
ـ تظنّني غافلاً عنك .. ان لي عيوناً تبحلق في الظلام .. أم تظنني لا أعرف ما قلته للمخلوع (7)؟ وهل أن أبا السرايا قد ثار لوحده .. إنّها دسيستك (8).
شعر هرثمة أن وراء هذه الإتهامات مؤامرة يحوكها الفضل بن سهل فقال مدافعاً.
ـ أن لهذه الاتهامات جواباً يا سيّدي.
صرخ وهو يشير الى الحرس :
ـ لا أريد أن اسمع كلمة واحدة .. خذوه.
سقطت الذبابة في بيت العنكبوت ليس هناك من أمل في الخلاص ، سار هرثمة في خطى متخاذلة الى سجن حقير في مرو ليقضي في زواياه المظلمة آخر أيام حياته.
وبرقت في خاطره صوراً ملوّنة يوم كان حاكماً في افريقيا ويوم كان أميراً للخراسان ، ويوم وقف الخليفة الأمين أمامه بخضوع يطلب منه التوسط لدى أخيه في انقاذ حياته .. وها هو الآن اسيرٌ في بيت العنكبوت .. لن يهبّ لنجدته أحد ولن ينقذه أحد ..
وصادفه الفضل في طريقه الى قصر المأمون فأراد أن يبصق في وجهه ولكنه تظاهر بالشجاعة فرفع رأسه عالياً.
دخل الفضل قصر الخليفة السابع وقلبه يرقص فرحاً لقد انتهى أمر هرثمة وبقي طاهر بن الحسين أن له يوماً ليس ببعيد وبعدها يضرب ضربته القاضية.
منذ شهور وهو يفكر في خطّة سرّية لا يعرفها حتى أخيه « الحسن » (9) وها هو المأمون يفكّر فيما يسهل عليه مهمته ..
انبعث بريق مخيف من عينيه سرعان ما تبدد مع أول ابتسامة يتصنّعها أمام المأمون.
هبّ الخليفة الشابّ لاستقباله بابتسامه متصنّعة أيضاً لا تقل عن ابتسامة الوزير مكراً.
وعندما أخذ الفضل مجلسه قرب الخليفة بدأت اللعبة، وكلاهما ماهر فيها.
قال المأمون لينفذ في قلب وزيره :
ـ كيفتك امر هرثمة وهو الآن في السجن.
ـ انه لا يخلص لك كما قلت .. أعرف نوايا هؤلاء القادة.
ـ ولكنّ العلويين لا يكفون عن اثارة القلاقل .. وقد سمعت أن أبراهيم بن موسى الكاظم قد ثار بمكة ، ونقل لي الجواسيس أنه في طريقه الى اليمن.
وبعد صمت استأنف المأمون حديثه حذراً:
ـ لقد فكرت كثيراً في الأمر.. ان الخطر الحقيقي يكمن هنا.. في هؤلاء العلويين.. الناس يحسبونهم انبياء ويتناقلون قصصاً عجيبة عن زهدهم .. اتعرف لماذا يا فضل؟
ـ لأنهم يعيشون في الخفاء .. لأنهم يعيشون بعيداً عن الانظار ... فلو ظهروا اكتشف الناس عيوبهم ، ولعرفوا أنهم لم يرفضوا الدنيا الا لأن الدنيا رفضتهم.
تظاهر الوزير بالبراءة :
ـ ولكن يا أمير المؤمنين انهم لم يظهروا ، وكيف يظهرون وقد فعل الرشيد بهم ما فعل .. شرّدهم في بقاع الأرض وها نحن نحصد ما زرعه الآباء.
ركز المأمون نظره :
ـ أعرف كيف اجعلهم يظهرون .. أمنحهم الأمان.
ـ أنهم لن ينخدعوا بذلك ولن يصدّقوا أبداً.
ـ فاذا جعلت أحدهم وليّ عهدي.
انتفض الوزير كمن لسعته عقرب.
ـ ماذا؟! ماذا أسمع؟
ـ أجل لقد قررت أن اجعل أحدهم وليّاً لعهدي فاذا فعلت ذلك اطمأنوا وظهروا.
ـ ولكن هذا يا سيدي ينطوي على كثير من المخاطرة ان بني العباس لم يغفروا لك قتلك أخيك فكيف تريد أن تقضي على ملكهم وخلافتهم؟!!
ـ أنني افعل ذلك من أجلهم .. ألا ترى العلويين يثورون في كل مكان .. الناس معهم .. ثم ألا ترى عواطف أهل الخراسان؟ انهم يحبوننا لأنهم لا يفرقون بيننا وبين بني عمّنا ... أتنسى مناحات خراسان على يحيى بن زيد؟ ألم تستمر سبعة أيام بلياليها ولم يلد مولود ذكر ذلك العام الا سموه يحيى (10)!!
سكت الفضل فيما كان المأمون يتحدث بلا انقطاع :
ـ أنني اصطاد عشرة غزلان بسهم واحد .. وهذا يتوقف أيضاً على فطنتك.
تطلّع الفضل حذراً :
ـ؟!!
ـ ألا ترى الخليفة كيف يزهد في الدنيا .. يسند ولاية العهد الى أحد أبناء علي؟! ..
أجاب الفضل وقد اكتشف خطته :
ـ أجل أرى ذلك!
ـ ثم ألا ترى كيف أن الخليفة عرف الحق وهو يريد إعادته لأهله؟!
ـ أجل ارى ذلك!!
توقف عقل سهل لكأنما اصيب بشلل مفاجئ لم يعد يبرق ذهنه .. انطفأت افكاره في حفرة ابن الرشيد وحفيد المنصور .. ولكنه قال حتى لا يظهره بصورة الاحمق :
ـ ومن سينتخب الخليفة لولاية عهده يا ترى؟!
ـ علي بن موسى بن جعفر الصادق بن ...
انتفض ملدوغاً :
ـ ماذا؟؟ علي بن موسى؟! الرجل الذي قتل أبوك أباه؟!
ـ وما في ذلك؟
اعتصم الفضل فوجئ ... أنه لا يعرف ماذا يقول ... كان يودّ لو أن المأمون نفذ خطته مع غير علي بن موسى ، صحيح أنه لا يعرف عنه شيئاً ولكن جهله بهذا الرجل جعله يتوجس مما يقدم عليه المأمون.
قال الخليفة قاطعاً خيوط افكاره :
ـ اذا لم نفعل ذلك فان كثيراً من آباء السرايا سيظهرون هنا وهناك مادام يوجد علويّ يرفع راية الثورة.
ـ!!!
ـ ماذا يا فضل ما عهدت عنك السكوت؟!
ـ الخليفة المأمون يعرف ماذا يفعل!!
ـ وإذن فأنت موافق يا وزيري العزيز؟!
ـ أن هذا يثقل أوزاري عند أهل بيتك في بغداد!
ـ ولكنّه يزيد في شأنك لدى أهل خراسان.. لا تنسى هذا يا ابن سهل!
استغرق المأمون في بحر من أفكار لا نهاية له ، فاطرق ينظر الى سجّاده فارسية زاخرة بالنقوش والألوان وأدرك الفضل أن عليه أن ينسحب تاركاً الخليفة مع غزله الجديد!.
ولم ينقض ذلك اليوم حتى أدرك رجاء بن الضحاك (11) طبيعة مهمته القادمة في المدينة المنورة!
منذ مصرع « الجعد » (12) الذي ذُبح في عيد الاضحى ، وحركة التأويل والتفسير تأخذ طريقاً جديداً .. طريقاً بعيداً عن روح الكلمات ... وراح الذين جاءوا ببعده يستنطقون ظاهر القرآن وحده أمّا روحه .. أما الاعماق ... فقد ظلت بعيدة عمّن يسبرها ، ويغوص فيها .. وتلك محنة النص القرآني ان الذين تلقوا كلمات الله تلقّوها شرارة للروح وجمرة متوقدة في الذهن ، ومضت أجيال وأجيال ، وجاء جيل لم ير من القرآن سوى كلمات وحروف ، لا روح ، ولا جوهر ولا مكنون.
الامام واسألة العامة:
وجاء ابن الجهم (13) ذلك المساء الخريفي الى منزل في المدينة جاء يحمل اسئلة العصر الجديد ، وقد سطع نجم المعتزلة في سماء الفكر حيث التفسير بالرأي والاستناد إلى الاعتبارات العقلية (14) والاستنطاق الظاهري هو القاعدة.
الحجرة الطينية تفوح برائحة الأرض المرشوشة بمطر ربيعي ، وفي زاوية من الحجرة جلس علي بن موسى وقد أطلّ وجهه الاسمر الوضيء كقمر في ليلة صيفية ... وفي الحجرة رجال عديدون جاءوا من أصقاع متعددة وكل يحمل اسئلته واسئلة غيره.
ونظر الامام الى رجل قادم من الحدود مع الروم ، اعتدل الرجل في جلسته وسأل :
ـ قوم من العدوّ صالحوا ثم نقضوا الصلح ، فهاجمهم حرس الحدود ، وسبوا نساءهم وأطفالهم هل يجوز شراءهم؟
سأل الامام عن بواعث نقضهم الصلح :
ـ ولم نقضوا؟ أحقداً وعداءً للاسلام ، أم انهم ظُلموا وقُهروا فثاروا؟
« إن كان من عدو قد استبان عداوتهم فاشتر منه وإن كان قد نفروا وظُلموا فلا يباع من سبيهم » (15).
وسأل آخر ربما كان قادماً من بغداد :
ـ ان اختي أوصت قبل موتها بمال أقسمه على قوم من النصارى ، فأردت أن أصرف ذلك الى قوم المسلمين؟
أجاب الامام:
ـ امض وصيتك على ما أوصت به ، قال الله تعالى : {فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) } [البقرة: 181] (16).
وسأل شاب :
ـ أيّ الاوقات أنسب في التزويج؟
ـ « من السنّة التزويج بالليل ، لان الله جعل الليل سكناً والنساء انما هنّ سكن » (17).
وسأل رجل متوسط العمر :
ـ هل يجوز للرجل أن ينظر الى شعر أخت زوجته؟
ـ لا ، الا أن تكون من القواعد.
ـ أخت امرأته والغريبة سواء؟!!
ـ نعم (18).
وسأل رجل من الكوفة :
ـ هل يحلّ للرجل التمتع باليهودية والنصرانية؟
ـ يتمتع الحرّة المؤمنة وهي أعظم حرمة.
وسأل آخر :
لص دخل على امرأة وهي حبلى ، فعمدت المرأة الى سكين فوجأته فقتلته؟
ـ هدرٌ دمُ اللص (19).
وقال آخر :
ـ ايجوز التعرّب بعد الهجرة للرجوع عن الدين ، وترك المؤازرة للأنبياء والحجج ، وما في ذلك من الفساد وابطال حق كل ذي حق لعلّة سكن البدو ، ولذلك لو عرف الرجل الدين كاملاً لم يجز له مساكنة أهل الجهل ، والخوف عليه لأنه لا يؤمن أن يقع منه ترك العلم والدخول مع أهل الجهل والتمادي في ذلك (20).
ونهض رجل ليقدّم اليه سؤاله مكتوباً على رقعة :
ونظر الامام لحظات ثم التفت الى السائل الذي عاد الى مكانه قائلاً.
ـ إنّ ذلك عديل للكفر .. الا اذا واسيت الفقراء ، ودفعت الظلم عن المظلومين (21).
وهيمن صمت مهيب والعيون تتجه الى وجه تتألق فيه أنوار النبوّات.
ونطق الامام دون سؤال فقال :
ـ « إنّ رجلاً سأل أبي : ما بال القرآن لا يزداد عند النشر والدراسة الا غضاضة؟
فقال : لانّ الله لم ينزله لزمان دون زمان ، ولا لناس دون ناس ، فهو في كل زمان جديد ، وعند كل قوم غض الى يوم القيامة » (22).
تنحنح ابن الجهم وغيّر من جلسته استعداداً لجدل طويل قال متسائلاً :
ـ يا بن رسول الله أتقول بعصمة الانبياء؟
ـ نعم.
ـ كيف نفهم قول الله : « وعصى آدم ربّه فغوى »؟ انهم كسائر البشر في عصيانهم لله ، فهذا آدم قد عصى ربّه ، وذك يونس يظن أن الله لن يقدر عليه ، ويوسف يهمّ بامرأة العزيز ، وهذا نبيه محمد يخفى في نفسه ما الله يبديه ، أليس هذه كلمات الله تحكي ذلك؟
بدت غيمة حزن فوق الجبين الاسمر وانسابت كلمات الامام هادئة مؤثرة مفعمة بحزن سماوي:
ـ لا تنسب الى انبياء الله الفواحش ، ولا تتأول كتاب الله برأيك ان الله عز وجل يقول : {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران: 7] ... ان للقرآن ظاهر وباطن ، فامّا قوله تعالى : {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه: 121] خلق آدم ليكون حجة في أرضه ، وخليفة ، لم يخلقه للجنة وكانت المعصية من آدم في الجنة لا في الأرض ، وعصمته يجب أن تكون في الأرض ليتم أمر الله ، فلما هبط الى الارض عُصم من الخطأ بقوله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ } [آل عمران: 33].
وأمّا قوله عز وجل : { وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} [الأنبياء: 87] (23) فهو انما ظن بمعنى استيقن ان الله لن يضيق عليه رزقه ، أما قرأت قوله تعالى : ( وأما اذا ابتلاه ربه فقدر عليه رزقه )؟ أي ضيّق عليه رزقه ، ولو ظن أن الله لا يقدر عليه فقد كفر ، وأمّا قوله تعالى في يوسف : ( ولقد همّت به وهمّ بها ) (24) فانها همّت بالمعصية وهم يوسف بقتلها ان اجبرته لعظم ما تداخله ، فصرف الله عنه قتلها والفاحشة وهو قوله عز وجل : ( وكذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء ) (25) يعني القتل والزنا.
أطرق ابن الجهم كأنه يعالج همّاً ثم رفع رأسه قائلاً :
ـ فما تقول في داود وقوله تعالى : ( وظنّ داود إنا فتنّاه ) ، والمفسرون يقولون : انه كان في محرابه يصلّي فتصوّر له ابليس على صورة طير ، أحسن ما يكون للطيور فقطع داود صلاته ، وقام ليأخذ الطير ، فخرج الطير الى الدار ثم الى السطح ، فصعد في طلبه ، فسقط في دار « أوريا » فاذا بامرأة أوريا تغتسل فلما نظر اليها هواها ، وكان أوريا في بعض غزواته فكتب الى صاحبه ان قدم أوريا الى التابوت فقدّمه فقتل أوريا ، فتزوّج داود بامرأته ».
وتأثر الامام بشدّة وتألقت في عينيه الدموع:
ـ انا لله وانا اليه راجعون، لقد نسبتم الى نبي من أنبياء الله الاستخفاف بصلاته حتى خرج في إثر طير، ثم بالفاحشة، ثم بالقتل؟!!
ـ فما كانت خطيئة يابن رسول الله؟
ـ ان داود ظن انه ما خلق الله عز وجل خلقاً هو أعلم منه، فبعث الله اليه ملكين فتسوّرا المحراب فقالا: « خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم فبيننا بالحق ولا تشطط ، واهدنا الى سواء الصراط ، ان هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ، ولي نعجة واحدة فقال اكفلنيها وعزّني في الخطاب » فعجّل داود على المدعى عليه بالحكم فقال : « لقد ظلمك بسؤال نعجتك الى نعاجه » ولم يسأل المدعي البينة على ذلك ولم يسأل المدّعى عليه فيقول له : ما تقول؟ فكان هذا خطيئة رسم الحكم ، ألم تسمع قوله تعالى : « يا داود إن جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى »؟
ـ فما قصته مع أوريا؟!
ـ ان المرأة في أيام داود كانت اذا مات زوجها لا تتزوج بعده أبداً ، وأول من أباح الله له أن يتزوج بامرأة قتل زوجها كان داود ، فتزوج بامرأة أوريا لما قتل وانقضت عدّتها ، فذلك الذي شق على الناس من مثل أوريا.
ـ يا سيّدي فما معنى قوله تعالى يخاطب فيه محمد (صلى الله عليه وآله) : « وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه »؟
ـ ان الله سبحانه عرّف نبيّه اسماء أزواجه في دار الدنيا وأسماء ازواجه في دار الآخرة ، وانهن امهات المؤمنين ، واحداهن من سمى له زينب بنت جحش وهي يومئذ تحت زيد بن حارثة ، فأخفى اسمها في نفسه ولم يبده لكيلا يقول أحد المنافقين : انه قال في بيت رجل انها احدى ازواجه من امهات المؤمنين ، وخشى قول المنافقين ، فقال الله عز وجل : ( وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه ) يعني في نفسك. وان الله عز وجل ما تولّى تزويج أحد من خلقه الا تزويج حوّاء من آدم ، وزينب من رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، بقوله : « فلما قضى زيد منها وطراً زوجناكها » (26) ، وفاطمة من علي.
واجتاحت اعماق ابن الجهم مشاعر شفافة ، الحقائق تشرق كشموس باهرة ، وامتلأت عيناه بدموع لا يعرف سرّها إن الكلمات التي يسمعها تغسل قلبه وتطهر روحه:
ـ يا بن رسول الله أنا تائب الى الله من أنطق في أنبياء الله بعد يومي هذا الا بما ذكرته.
وكانت فاطمة تصغي من وراء حجاب الى كلمات أخيها فتتشرب روحها آيات السماء كزهرة تغمرها أنوار دافئة.
الطريق الى مرو:
بدا في تلك اللحظات سماءً مثقلة بمطر حزين.
كانت الرسالة التي استلمها الامام اشبه شيئاً بعسل مداف بسم ، ملساء كأفعى مترعة بسموم قاتلة.
الفضل بن سهل يعرف كيف يروغ بين السطور ورسالة محيّرة من أكبر مسؤول في الدولة تطلب منه مغادرة يثرب على وجه السرعة لتسلّم مسؤوليته في الخلافة (27)!
وتساءلت فاطمة عن سرّ هذا الحزن؟ كانت تعي لواعج الانسان الذي يفكّر في المديات البعيدة حيث تتجسد كل آلام الانبياء وأحلامهم. ان المأمون ولا شك قد عرف مصدر التحدّي الحقيقي، فوجد في شخصية مثل الامام سوف تكشف للرأي العام مدى الانحطاط الاخلاقي للحاكمين، كما ان بعد المدينة المنورة عن «مرو» سيوفر للامام قدراً من الحرّية ، وفي هذا خطر على مؤسسات الحكم القلقة التي ما تزال تهتز تحت وقع الاضطرابات والثورات.
فاستدعاء الامام الى مرو يعني أن المأمون يضرب عشرات العصافير بحجر واحد.
تمتم الامام بصوت فيه حزن الميازيب في مواسم المطر :
ـ ان المأمون يريد أن يقول للناس أن علي بن موسى لم يزهد بالدنيا ، وانما الدنيا هي التي زهدت به أرأيتم كيف يسرع الى « مرو » لما عرضت عليه الدنيا؟!
ولكن هيهات لا أقبل شيئاً من عروضه!
ادركت فاطمة أن أخاها يواجه ثعلب بني عباس ، ليس هناك من يفوقه مراوغة ومكراً .. عرفت ذلك من حزن الامام ، ومما تسمعه من الأخبار.
ان لأخيها من المحبة في خراسان وأطرافها ما ليست لغيره ، فلو جعله المأمون في الحكم فان ذلك سيضمن له ولاء كثير من الاقاليم ؛ وسيكون المأمون قد اثبت للأمّة أنه قد حقق أعزّ أمانيها.
وطرق خادم باب الحجرة :
ـ ان رجلاً يقول انه رجاء بن الضحاك يروم لقاءك الساعة.
التفت الامام الى اخته :
ـ هذا رجل بعثه المأمون فيما لا أحب .. انا لله وانا اليه راجعون.
ونهض الامام لاستقباله ونهضت فاطمة لتغادر حجرة تفوح فيها رائحة الفردوس.
لم يكد رجاء يستوي في جلسته حتى قدّم رسالة مختومة من المأمون ، فضها الامام والقى نظرة وعلت جبينه مسحة من الحزن ، كان ضوء القنديل كافياً لكي يكتشف رجاء في وجه علي عمق محنته ، تظاهر بالبشر :
ـ هنيئاً لك يا سيدي.
أجاب الامام وهو ينظر الى الأفق البعيد :
ـ لا تفرح إنّه شيء لا يتم!
واعتصم رجاء بالصمت فهذا العلوي يختلف كثيراً عما صادفه من أولئك الثائرين إنّه أمام رجل يقرأ صفحات غامضة من المستقبل بل لعلّه يدرك ما يموج في نفسه ، فرجاء يعرف نوايا المأمون وأسراراً كثيرةً من خطّته! من أجل هذا نهض على عجل متظاهراً بالارتياح لأدائه مهمّته.
قال وهو ينحني اجلالاً :
ـ كل شيء سيكون جاهزاً بعد غد.
ـ اذا كان ولابدّ ، فمكّة أولاً ثم مرو!
ـ كما تشاء يا سيدي!
واكتسى الوجه الاسمر مسحة من حزن سماوي ، ان شيئاً ما يضطرم في أعماقه ... شيء ينبيء عن تمزّق جذور وردة في أعماق تربة طيّبة.
ليس هناك ما هو أكثر مرارة من اجتثاث شجرة من جذورها ... هكذا كان حزن الرجل الذي مسّته السماء ، ان جذوره في هذه الأرض الطيبة تمتد الى عشرات السنين الى تلك اللحظة التي حطّ رسول السماء قدمه في يثرب ..
ما تزال آثار جبريل في هذه الربوع .. مبارك نخلها ، ومسجدها وجبلها الحبيب (28).
وانطوى علي على فجيعته ، وكان قنديل يلفظ آخر أنواره الواهنة.
لم يكن الرجل المدني قد انتبه من استغراق عميقة عندما ولج الحجرة صبي في السابعة من عمره (29)؛ كان يحمل إناءً فيه زيت فالقنديل على وشك أن يخبو وينطفئ ، وراح « محمد » يسكب الزيت في القنديل ... وتنفس الضوء ، واتسعت دائرة النور أكثر فأكثر.
وانتبه الأب الى وجود ابنه ، الذي ولج الحجرة على اطراف اصابعه احتراماً لاستغراقة والده.
نهض الأب وقد تألفت في سماء عينيه عشرات النجوم.
ـ مرحباً بأبي جعفر. وانحنى الإبن مقبّلاً يد والده ، الذي لم يترك له الفرصة فاحتضنه كما تحتضن الأوراق برعماً يستقبل الربيع.
كان القنديل قد استعاد شبابه وراح يرسل نوره ويشيع قدراً من الدفء في الحجرة الصغيرة.
قال الأب وقد مضى شطر من الليل :
ـ تهيّأ يا ولدي للرحيل.
ـ الى أين يا أبي؟!
ـ الى البيت العتيق.
وأراد الصبي أن يبدد عن قلب أبيه همّاً يعتصره :
ـ أحج أم عمرة؟
ـ يا أبي افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين.
ونهض محمد كما دخل على أطراف أصابعه تاركاً أباه الذي عاد الى استغراقته مرّة أخرى. من يراقب عينيه المتألقتين ، ويلاحق في غوريهما تكسّرات النور سيدرك سرّ ذلك الحزن السماوي ؛ لكأن ذهنه المتوقد يسبح في الآفاق البعيدة ، الى طوس حيث يستنشق « جابر » بن حيان الكوفي (30) آخر انفاسه في المساء ، والى حيث صلب « أبي السرايا » على الجسر ببغداد ، والى ضفاف دجلة حيث جلس « معروف الكرخي » (31) يتأمل الأمواج المتدافعة ويودّع الدنيا.
بل لعلّه يراقب «معركة النهر» على شواطئ «أرون» أو يهوي في بطون الأدوية مع أخيه «إبراهيم» الذي فرّ الى اليمن وانقطعت أخباره.
إنّ أحداً لا يعرف هموم الرجل المدني ... هموم بثقل جبال «تهامة» و«الحجاز» و« نجد ».
فهناك في مرو تنسج العنكبوت بيتاً هو أوهن البيوت (32).
..........
مكة مهوى الأفئدة تستقبل حفيد محمد ذلك الصباح المشرق ، وشمّت النوق رائحة وطن قريب.
مثلما تطفو الفقاعات كانت الاسئلة تظهر على الشفاه فلم يكن الموسم عمرة ولا حجاً ، ولم تكن القافلة قادمة من اليمن ولا من الشام ... ولم يكن رجاء بن الضحّاك الذي أمر بمرافقة القافلة حتى مرو ، ليتحدث الى أحد ، ولم تكن مهمة الجنود وهم لا يتعدون عدد الاصابع لتعدو الحراسة من بعيد!!
اتجه الامام فور وصوله الى الكعبة وتبعه معظم افراد القافلة.
للكعبة في نفوس المؤمنين منزل في القلوب ، تكفى طلعتها البهية في تفجير مخزون الحبّ والشوق ، وعاطفة الايمان حتى اذا وقعت الابصار عليها ، تجمعت في العيون دموع شوق يكاد يطير بالمرء الى سماوات بعيدة.
وطاف الامام حول البيت العتيق الذي بدا في تلك اللحظات المفعمة بالايمان مركزاً للوجود بأسره.
وكان ابنه الذي بلغ السعي يطوف معه ، حتى إذا اتجه الأب الى مقام ابراهيم ليتخذه مصلّى ، كان محمد ابنه ينطلق الى حجر اسماعيل ليجلس هناك ... في ذلك المكان المفعم بالذكريات القديمة.
راح الصبي يراقب أباه وقد غمرته الفجيعة ، مثل حمامة تبحث عن عش آمن بدا علي بن موسى وهو يطوف حول الكعبة ... وكان الصبي الذي أدرك برغم سنواته السبع كل معاناة أهل البيت منذ قرنين من الزمن ، قد تيقن بان أباه لن يعود من سفره ، انه يودّع الكعبة الوداع الأخير ، انه لن يعود اليها كما لن يعود الى مدينته في الشمال.
وطال جلوس الصبي في حجر اسماعيل ، لكأنه يجلس في مأتم أبدي ... إنه لا يريد أن يفارق مكانه.
وجاء « موفّق » الخادم ليطلب منه النهوض ، فقد توسطت الشمس كبد السماء وراحت تصبّ اشعتها اللاهبة في واد غير ذي زرع.
ويرفض الصبي كعصفور كسير الجناح لا يريد مغادرة عشّه ولم يكن أمام موفّق الا أن يتجه الى سيّده ويطلعه على الأمر ... وجاء الأب يتفقد ابنه ويطلب منه النهوض فقال الصبي وهو يختنق بعبرته :
ـ كيف أقوم وقد ودّعت يا أبتي البيت وداعاً لا رجوع بعده؟!
وأراد الأب مواساة ابنه ولكنه اختنق هو الآخر بما انفجر في اعماقه من ألم مكبوت.
وكأن منظرهما يذكر بمأساة ابراهيم الخليل يوم ودّع إبنه الوحيد في الوادي المقفر.
وتحوّل المكان الى مناحة جماعية شارك فيها معظم أفراد القافلة ، واجتمع بعض أهل مكّة ، واصبح سفر الامام الى مرو مقهوراً خبراً على الشفاه في كلِّ مكان.
وعندما أراد بعضهم وقف المناحة فقال الامام :
ـ دعوهم ينوحوا فإنني لن أعود وسأموت غريباً بعيداً عن احبتي.
وعندما كان الامام يستعد لمغادرة المسجد الحرام تقدم اليه رجل يدعى ابراهيم وقال :
ـ تاهت بي السبل يا بن رسول الله فأين الطريق؟
قال الامام وهو يضيء قنديل في قلب الرجل الحائر :
ـ اخبرني أبي عن آبائه عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال :
« من اصغى الى ناطق فقد عبده ، فان كان الناطق عن الله فقد عبد الله ، وإن كان الناطق عن ابليس فقد عبد ابليس ».
يا بن أبي محمود إذا أخذ الناس يميناً وشمالاً ، فالزم طريقنا فانه من لزمنا لزمناه ، ومن فارقنا فارقناه ، فانّ أدنى ما يخرج به الرجل من الايمان أن يقول للحصاة : هذه نواة ثم يدين بذلك ويبرأ ممن خالفه.
يا بن أبي محمود احفظ ما حدثتك به فقد جمعت لك فيه خير الدنيا والآخرة (33).
وانطلق ابراهيم وقد اشرقت في قلبه أنوار المحبّة ، للجميع انه لن يؤمن بشيء حتى يعرفه على حقيقته.
اين المرجئة؟ وأين المعتزلة ، وأين الخوارج عن هذه الكلمات؟ كلمات تضيء كقناديل في ظلمة الطريق البهيم.
وتقدّم رجاء من الامام ليطلعه على جانب من مهمته :
ـ ان معي أوامر من الخليفة بالسفر وحدك الى مرو ، وأن يكون الطريق على البصرة فشيراز.
نظر الامام الى الكعبة نظرة أخيرة ، وكان سرب من الحمام يحلّق بسلام وتمتم في نفسه :
ـ « الغوغاء قتلة الانبياء » (34).
ومرّ يومان آخران وقد أزفت ساعة الرحيل ، وآن للرجل المكي المدني أن يودّع ربوع طفولته في الأرض السمراء الى الارض التي تطلع منها الشمس.
وقف الامام يودّع أسرته ، وقد أطال حديثه مع شقيقته فاطمة لكأنه يودعها أسراراً غاية في الأهمية ، وكان الاطفال اكثر فجيعة ، وانبعث بكاء يشبه نشيج الميازيب في مواسم المطر.
وأدرك الذي حضروا المشهد أن علي بن موسى يعيش مأساةً لا يعرفون أسرارها ... إنّ جُلّ ما فهموه أن هذا الرجل لا يرغب بما يعرضه المأمون خليفة العصر.
يا لمجد الانسان عندما يرى نفسه أكرم من كلِّ بهارج دنيا زائفة ... ولو سئل الامام عن سرّ موقفه لقال لهم سمعت أبي يقول :
ـ « ما فائدة أن يربح الانسان العالم ويخسر نفسه؟! ».
وسيطر رغاء الجمال على مشهد يضجّ بالرحيل ، وبدت مكّة في تلك اللحظات ميناءً هجرته النوارس البيضاء دون عودة.
____________
(1) من مدينة سرخس الايرانية إقليم خراسان.. اتصل بالمأمون سنة 190 هـ واسلم على يديه ، وكان مجوسياً..
عينه المأمون بعد احتدام الصراع مع أخيه الامين وزيراً له ( رئيساً للوزراء ) وقائداً عاماً لجيوشه ، ومنحه لقب « ذي الرياستين » رئاسة الديوان ورئاسة الحرب..
ويظن بعض أن فضل كان يخطط للاستيلاء على السلطة ، وقد أقنع المأمون في البقاء في مدينة « مرو » واتخاذها عاصمة للدولة ، كما اقنعه بالتخلّي عن الزي الاسود شعار العباسيين واستبداله بالاخضر وهو زي فارسي .
موسوعة أحداث التاريخ الاسلامي 1/161 .
وبعد تدهور الاوضاع في بغداد وقرار المأمون بالعودة اليها تمت تصفية الفضل في الطريق حيث اغتيل في حمام بمدينة سرخس مسقط رأسه .
مروج الذهب 3/441 ، الأعلام 5/354 ، تاريخ ابن الوردي 2/319 ، تاريخ بغداد 12/339
(2) البرمكي وزير الرشيد وأخوه من الرضاع ، كان الرشيد يدعوه يا أخي ، أقصي عن الوزارة سنة 177 ، ألف جيشاً من نصف مليون جندي لأهداف غامضة واتخذ من خراسان مقراً لقيادته.. القي القبض عليه سنة 187 هـ في وزارة أخيه جعفر الذي لقي مصرعه بأوامر شخصية من الرشيد..
توفى الفضل في سجنه بالرقة سنة 193 هـ في نفس السنة التي توفى فيها الرشيد اشتهر عنه دوره في انهاء ثورة يحيى بن عبد الله الحسن بعد مباحثات طويلة وكان الأخير قد ثار في بلاد الديلم ( اقليم الشمال الايراني ) .
ويبدو أن موقفه من العلويين وعدم التّورّط بالمذابح التي كانت تنفذ بحقهم قد دفع الرشيد الى اقصائه عن الوزارة واسنادها الى أخيه جعفر حتى مصرعه سنة 187 هـ
الاعلام 5/358 ، الطبري 8/242 ، تاريخ بغداد 12/334 .
(3) تبنى المأمون وبحماس فكرة خلق القرآن التي اعلنها المعتزلة وبلغ من شدّة حماسه انه جعلها أساساً في تقييم الفقهاء ، واوصى خليفته المعتصم بالاستمرار في اجراء المحاكمات وامتحان الفقهاء ، وعرفت في وقتها بـ « محنة خلق القرآن » وقد لقي كثير من الابرياء مصرعهم بسببها وفي طليعتهم المحدث أحمد بن نصر الخزاعي .
د. الترمانيني موسوعة أحداث التاريخ الاسلامي 1/162 ، الطبراني 8/645 ، تاريخ الخلفاء /335 ـ340 .
(4) بدأ التحضير للثورة منذ سنة 196 بعد انفجار الازمة بين الأمين والمأمون ، واندلعت الثورة سنة 198 ، وابن طباطبا هو محمد بن إبراهيم بن اسماعيل بن إبراهيم بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب .
وكانت الفوضى والسياسية وتردي الاوضاع الاقتصادية والحرمان الذي منيت به قطاعات واسعة من المجتمع في طليعة الاسباب التي دفعت بالشاب العلوي (24 سنة) الى طريق الثورة. ويعدّ لقاؤه بالزعيم العربي نصر بن شيث منعطفاً ودافعاً في التعجيل بالثورة والاحاطة بالطغمة العباسية .
وتزامنت مع ثورة ابن طباطبا ثورة القائد المنشق السرّي بن منصور الشيباني المعروف بـ « ابي السرايا »، وقد احدث انضمام الأخير مع قوّاته الى ألوية الثورة دوّياً كبيراً وقلب موازين القوى لصالح الثوّار .
وقد منيت الجيوش العباسية بهزيمة ساحقة في أول اصطدام عسكري مصيري ؛ كما اعقب ذلك انتصارات باهرة لقوّات الثورة ، حتى ايقن العباسيون بانها النهاية . وقد بسط الثائرون نفوذهم على أرض واسعة من الدولة الاسلامية شملت : الكوفة ، اليمن ، الأهواز ، البصرة ، واسط ، ومكة المكرّمة .
وعين ولاة جدد للأقاليم والولايات المحرّرة وضربت نقود جديدة حملت الآية الكريمة : « ان الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص » شعاراً .
وانتخب مدينة الكوفة عاصمة ومعقلاً للثورة لزخمها التاريخي وثقلها العلمي ومواردها الاقتصادية ، غير أن وفاة الزعيم العلوي ابن طباطبا قد اضعف فيما يبدو من قوى الثورة اضافة الى قيام العباسيين في تعبئة جيش جرار .
احداث التاريخ الاسلامي 2/1146 ، مقاتل الطالبيين /518 ـ533 .
(5) وبسبب ذلك أحرق قبرها وقبور آل بويه اضافة الى مرقد الامام الكاظم عليه السّلام خلال الفتنة الطائفية الكبرى التي عصفت بغداد سنة 443 هـ وذهب ضحيتها عشرات الابرياء واحراق مكتبات تضم آلاف الكتب .
الكنى والألقاب 2/289 .
(6) قاموس الرجال 10/357 ، ينابيع المودّة /484 .
(7) الخليفة الامين .
(8) يعتقد المأمون ان هرثمة بن أعين يقف يتعاطف مع ثورة أبي السرايا أو هكذا صوّر له الفضل بن سهل ، ومن المعروف ان الفضل كان يتآمر على هرثمة وعلى طاهر بن الحسين .
الطبري 8/479 ، ابن خلدون 3/521 .
(9) احداث التاريخ الاسلامي 1/160ـ161 .
(10) يحيى بن زيد الشهيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب أحد أبرز الثوّار فجّر الثورة بعد مصرع والده الشهيد سنة 122 هـ ، ظل مطارداً حتى سنة 125 واستشهد بعد معركة غير متكافئة دارت بين قوّاته (70 مقاتلاً) والجيش الأموي (عشرة آلاف مقاتل) ، حيث صلب جسده وظل مصلوبا حتى سنة 132 وانتصار الثورة العباسية .
مقاتل الطالبييّن /152 ، الأعلام 9/179 .
(11) من قادة المأمون .
(12) الجعد بن درهم من اصول فارسية (خراسان) سكن حرّان في سوريا ، قال بخلق القرآن ، ونسب الفعل الانساني الى الله وهي عقيدة الجبر التي تنفي الحريّة عن الانسان .
تبنّى تربية مروان بن محمد الحمار آخر خلفاء بني أمية ومن أجل هذا يعرف مروان بالجعدي .
القي القبض عليه ولقي حتفه على يد جلاد العراق خالد القسري في عيد الأضحى سنة 118 هـ
الاعلام 2/114 ، ابن الاثير 5/160 .
(13) الميزان 11/166 ، عيون أخبار الرضا 1/192 .
(14) حياة الامام الباقر 1/181 باقر شريف .
(15) التهذيب 2/53 وفي موقفه الفقهي يفصل الامام بين الثائرين على الحكومة بسبب الظلم وبين الخارجين على أساس عدائي للاسلام .
(16) فروع الكافي 2/238 .
(17) وسائل الشيعة 14/62 .
(18) المصدر السابق 14/415 .
(19) من لا يحضره الفقيه 4/122 .
(20) المصدر السابق 2/188 .
(21) وكان السؤال عن جواز العمل في المؤسسات الحكومية مع الاعتقاد بعدم شريعتها .
فروع الكافي 1/359 .
(22) حياة الامام الرضا 2/62 .
(23) طه : الآية 121 .
(24) الأنبياء : الآية 187 .
(25) يوسف : الآية 24 .
(26) الاحزاب : الآية 37 .
(27) نص الرسالة : كما وردت في كتب التاريخ :
بسم الله الرحمن الرحيم
لعلي بن موسى الرضا وابن رسول الله المصطفى ، المهتدى بهديه ، المقتدى بفعله الحافظ لدين الله ، الخازن لوحي الله..
من وليه الفضل بن سهل الذي بذل في ردّ حقه إليه مهجته ووصل ليله فيه بنهاره..
سلام عليك ايها المهتدي ورحمة الله وبركاته..
فإني أحمد إليك الله لا إله الا هو ، وأسأله أن يصلّي على محمد عبده ورسوله .
اما بعد..
فإني أرجو أن الله قد أدّى لك ، وأذن لك في ارتجاع حقك ممن استضعفك ، وأن يعظم مننه عليك ، وأن يجعلك الامام الوارث ، ويري أعداءك ومن رغب عنك ،
منك ما كانوا يحذرون..
وإن كتابي هذا عن إزماع من أمير المؤمنين عبد الله الامام المأمون ومني.. على ردّ مظلمتك عليك ، واثبات حقوقك في يديك والتخلّي منها اليك ، على ما أسال الله الذي وقف عليه : أن تبلغني ما أكون بها اسعد العالمين ، وعند الله من الفائزين ، ولحق رسول الله من المؤدّين ، ولك من عليه من المعاونين ، حتى ابلغ في توليتك ودولتك كلتا الحسنتين .
فإذا أتاك كتابي ـ جعلت فداك ـ وأمكنك أن لا تضعه من يدك حتى تسير الى باب أمير المؤمنين ، الذي يراك شريكاً في أمره ، وشفيعاً في نسبه ، وأولى الناس بما تحت يده.. فعلت ما أنا بخيرة الله محفوفاً ، وبملائكته محفوظاً وبكلائته محروساً..
وإن الله كفيل لك بكل ما يجمع حسن العائدة عليك ، وصلاح الامّة بك..
وحسبنا الله ونعم الوكيل ، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته .
الحياة السياسية للامام الرضا /446 ، حياة الامام الرضا 2/284 .
(28) ورد في الحديث الشريف : « أحد جبل يحبّنا ونحبّه » .
رسالة الاسلام / ك (1) ، محمد رسول الله / 261 ، مصطفى طلاس .
(29) حياة الامام علي بن موسى 2/278 .
(30) جابر بن حيان الكوفي ولد في طوس وقيل في طرسوس في حدود سنة 128 هـ برع في الكيمياء وتلقى علومها من استاذه الامام جعفر بن محمد الصادق عليه السّلام ، وكان يبدأ مقالاته وكتبه وتجاربه في هذا المضمار بقوله : أمرني سيدي جعفر بن محمد ففي كتابه « الحاصل » وهو كتاب فلسفي يقول جابر : « .. انه من كتب الموازين ، وهو من الكتب الموسومة بكتب الفلسفة وقد سميته : كتاب الحاصل ، وذلك ان سيدي جعفر بن محمد صلوات الله عليه قال لي : فما الحاصل الآن بعد هذه الكتب في الموازين وما المنفعة بها ؟ فقلت المنفعة علم التراكيب الكبار التي تنوب بقرب مدتها عن طول مدّة التدبر وعملت كتابي هذا فسماه سيدي بكتاب الحاصل ، وهو من علم الموازين مشروح لا يحتاج الى غيره وبذلك أمرني سيدي صلوات الله عليه » . ويبدو أنه غادر الكوفة في الأعوام بين سنة (180ـ186) وهي الفترة التي شهد العراق فيها وأقاليم أخرى حملة اضطهاد طالت العلويين وقواعدهم الشعبية .
توفى جابر في مدينة طوس في تاريخ غير معروف ولكن بعض المصادر ذكرت وفاته سنة 200 هـ.
وقد أورد « ابن النديم » حوله ما يلي : « .. فقالت الشيعة انه من كبارهم وأحد الابواب وزعموا أنه كان صاحب جعفر الصادق رضي الله عنه ، وكان من أهل الكوفة ، وزعم قوم من الفلاسفة انه كان منهم ، وله في المنطق والفلسفة مصنفّات ، وزعم أهل صناعة الذهب والفضة إن الرئاسة انتهت اليه في عصره ، وان أمره كان مكتوماً » .
الفهرست لابن النديم /513 ، الذريعة الى تصانيف الشيعة آغا بزرگ الطهراني 2/55 ، 6 راسات في تاريخ العلوم عند العرب /249ـ252 .
(31) ابو محفوظ معروف بن فيروز الكرخي نسبة الى كرخ بغداد كان نصرانياً فأسلم على يد الامام علي بن موسى الرضا عليه السّلام ، ثم اسلم أبواه ، اشتهر بزهده وصلاحه ، فكان الناس يقصدونه للتبرك به وكان أحمد بن حنبل في جملة من كان يزوره تبركاً .
الاعلام 8/185 ، وفيات الاعيان 5/ 231 ، تاريخ بغداد 13/ 199 .
(32) لم يرجع أي من العلويين الذين ذهبوا الى مرو ، ولقوا حتفهم في ظروف غامضة !
(33) اعيان الشيعة 4 ق 2/122 .
(34) حياة الامام الرضا 2/ 287 .
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مدرسة دار العلم.. صرح علميّ متميز في كربلاء لنشر علوم أهل البيت (عليهم السلام)
|
|
|