يواصل ممثل المرجعية العليا والمتولي الشرعي للعتبة الحسينية المقدسة الشيخ عبد المهدي الكربلائي بحثه الأسبوعي، عبر خطب الجمعة، في شرح خطبة المتقين لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب، عليه السلام.
وفي ما يلي النص الكامل للخطبة الأولى:
الخطبة الاولى لصلاة الجمعة بإمامة الشيخ المهدي الكربلائي في 26/جمادى الاولى/1438هـ الموافق 24 /2 /2017م:
ورد في خطبة المتقين لأمير المؤمنين (عليه السلام):
(بَعِيداً فُحْشُهُ لَيِّناً قَوْلُهُ غَائِباً مُنْكَرُهُ حَاضِراً مَعْرُوفُهُ مُقْبِلًا خَيْرُهُ مُدْبِراً شَرُّهُ فِي الزَّلَازِلِ وَقُورٌ وَفِي الْمَكَارِهِ صَبُورٌ وَفِي الرَّخَاءِ شَكُورٌ لَا يَحِيفُ عَلَى مَنْ يُبْغِضُ وَلَا يَأْثَمُ فِيمَنْ يُحِبُّ يَعْتَرِفُ بِالْحَقِّ قَبْلَ أَنْ يُشْهَدَ عَلَيْهِ لَا يُضِيعُ مَا اسْتُحْفِظَ وَلَا يَنْسَى مَا ذُكِّرَ).
(بَعِيداً فُحْشُهُ)
قال الشارح حبيب الله الخوئي (قده) في شرح هذه العبارة:
ان اريد بالفحش معناه الظاهر أي السب وبذاءة اللسان فلابد من صرف لفظ البعيد عن ظاهره وجعله كناية عن العدم – وان أبقى البعد على ظاهره المفيد لاقدامه على الفحش احياناً فلابد من ارتكاب التأويل في لفظ الفحش وجعل المراد به فضول الكلام والقول القبيح الغير البالغ الى حدّ الحرام لئلا ينافي ملكة العدالة والتقوى التي للمتقي.
وقال الشارح محمد تقي النقوي في (مفتاح السعادة في شرح نهج البلاغة):
الفُحش بضم الفاء فعل الفحشاء يقال (تفحش عليهم بلسانه أسمعهم القبيح من القول والغرض ان المتقي يكون بعيد الفحش أي لا يفحش الا قليلا ً وانما لم يقل (عليه السلام) لا يفحش اصلا ً لأنه غير معصوم والذي بمعزل عنه اصلا ً هو الامام المعصوم (عليه السلام) واما غيره فلا، نعم يتفاوت الامر فيه قلة وكثرة وكيف كان فلا شك في قبحه وذمه قال الله تعالى: (ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن) – الانعام 151-.
ثم قال: (ثم ان كان المراد به ما ذكروه من السب باللسان كما هو المصطلح المتعارف بين الناس من لفظة الفُحش فيقال فلان فحّاش أي سيء اللسان فلا شك ايضاً في ذمه لكونه احد مصاديقه بل لا يبعد كونه أكبرها واعظمها وقد ورد في الاحاديث في ذمّه ما ورد:
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ليس المؤمن بالطعّان ولا اللعّان ولا الفاحش ولا البذيء....
عن الصادق (عليه السلام): من علامات شِرْكِ الشيطان الذي لا يشك فيه، ان يكون فَحّاشا لا يبالي بما قال ولا بما قيل له.
وفي نفحات الولاية في شرح نهج البلاغة لسماحة اية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي – حفظه الله تعالى- (بعيداً فحشه ليناً قوله) اشارة الى ان معاملتهم لجميع الناس تنطلق من اللسان الجميل والكلمات المفعمة بالخير والمحبة وليس في اقوالهم واعمالهم أي نوع من العنف والغلظة، فهم ليسوا بعيدين غاية البعد عن الفاحش من القول فحسب بل هم ابعد ما يكونون عن الفاحشين..
قوله (عليه السلام): (لَيِّناً قَوْلُهُ)
أي يتكلم بالرفق ولا يغلط في كلامه، فان الرفق في القول يوجب المحبة ويجلب الألفة ويدعو الى الاجابة عند الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ولذلك أمر الله عزوجل بنبيه موسى (عليه السلام) واخيه هارون (عليه السلام) عند بعثهما الى فرعون بأن يقولا له قولا ً ليناً ليكون اسرع الى القبول وابعد من النفور..
قال تعالى مخاطباً موسى وهارون عليهما السلام حيث بعثهما الى فرعون: (فقولا له قولا ً ليناً لعلّه يتذكر أو يخشى) – طه 44-.
قوله (عليه السلام): (غائباً منكره حاضراً معروفه)
أي مفقوداً اعماله القبيحة المحرّمة موجوداً أعماله الحسنة المتضمنة للرجحان الشرعي من الواجبات والمندوبات..
قال الشارح النقوي في (مفتاح السعادة): معناه ان المتقي من شأنه ان تكون الاعمال القبيحة عنه مفقودة والاعمال الحسنة الممدوحة المعروفة لديه حاضرة موجودة والحاصل ان يفعل المعروف ويترك المنكر وانما قال (غائباً منكره) ولم يقل فاقداً منكره مثلاً للاشارة الى ان الانسان اذا لم يكن معصوماً لا يخلو عن فعل المنكر الا ان المتقي لا يتظاهر به والفاسق يتظاهر به فغيبة المنكر أعم من فقده وعدمه بل الحق ان يقال ان الغيبة لا تكون إلا فيما هو غائب عن الحواس موجود واقعاً..
قوله (عليه السلام): (مُقْبِلًا خَيْرُهُ مُدْبِراً شَرُّهُ)
فالمتقون خيرهم في إقبال يزيد شيئاً فشيئاً وقسرهم في إدبار ينقص شيئاً فشيئاً اذ بقدر الزيادة في طلب الخير يحصل النقيصة في جانب الشر لان كثرة احد المتضادين توجب بمقتضى التضاد قلة الاخر كما هو الظاهر..
قوله (عليه السلام): (فِي الزَّلَازِلِ وَقُورٌ وَفِي الْمَكَارِهِ صَبُورٌ وَفِي الرَّخَاءِ شَكُورٌ)
يعني انه في النوازل والشدايد والحوادث العظيمة الموجبة لاضطراب الناس متصف بشدّة الوقار والرزانة والسكينة والثبات لا تحركه العواصف، والوقار من جنود العقل ويقابله الخفّة وهي الطيش والعجلة من جنود الجهل..
فالمتقون يربطون جأشهم ازاء الحوادث الاليمة والفتن العظيمة التي تهز القلوب ولا يفقدون معنوياتهم ويقفون ازاءها كالجبل الاصم الذي لا تحركه الرياح العاتية..
والصبر على المكاره يمثل احد فروع الصبر الذي يشمل كل مصيبة وحادثة اليمة..
وشكرهم عند النعمة ناشيء من تواضعهم لله تعالى والخلق، فهم ليسوا على غرار المتكبرين الذين تنسيهم النعمة والمال والمقام والثروة كل شيء فيتمردون على الخالق والمخلوق..
قوله (عليه السلام): (لَا يَحِيفُ عَلَى مَنْ يُبْغِضُ وَلَا يَأْثَمُ فِيمَنْ يُحِبُّ)
ان الانسان لا يخلو عن حب بعض الاشخاص كالاصدقاء والاقارب والاولاد والقريبين منه في عقيدة واتباع وولاء كما انه لا يخلو عن بغض عدوه ومن يخالفه او يسيء اليه ويؤذيه او يأخذ حقه..
وهذا الحب والبغض امر طبيعي في جلبّة الانسان وطبعه بحيث لا يخلو منهما احد.. والمشكلة في تجاوز الحب والبغض حد الاعتدال ووصولهما الى حد الافراط بحيث يوجبان خروج الانسان عن الميزان الشرعي والعقلي ودخوله في اطفاء الغضب والشهوة بهما فهما حينئذ مذمومان وان كانا على حد الاعتدال فهما ممدوحان.. فالانسان يبغض عدوه والمسيء اليه ولكن لا يجوز له ان يفرط في بغضه بحيث يوقعه في الظلم والحيف له ولا ان يغالي في حب صديقه واولاده بحيث يقع في المعصية والاثم فالمتقي يكون منصفاً وعادلا ً حتى مع عدوه ويوصل حقه – ان كان له حق- اليه..
قوله (عليه السلام): (يَعْتَرِفُ بِالْحَقِّ قَبْلَ أَنْ يُشْهَدَ عَلَيْهِ لَا يُضِيعُ مَا اسْتُحْفِظَ وَلَا يَنْسَى مَا ذُكِّرَ).
ومن اوصاف المتقي اعترافه بالحق ولو كان على ضرره قبل شهادة الشهود عليه بمعنى انه يقرّ ويعترف بذنبه وخطأه ولا يحتاج الى اثباته في حقه بسبب الشهود فان الحاجة الى الاشهاد تنتفي في صورة الاقرار.. وهذا هو سر اعترافهم بالحق قبل اقامة الشهود عليه.. ذلك لأن الذين يسلمون ازاء الشهود لا يعتبرون ممن يسلم للحق، واقامة الشهود هي التي اضطرتهم للتسليم امّا من ينشد الحق والعدل فهو ذلك الفرد الذي ينطلق الى صاحب الحق ليعثر عليه ويؤدى حقه ويفك رقبته من ظلم الاخرين..
فالمتقون لا يقصرون في اداء الحقوق وليسوا بحاجة للقضاء والمحاكم كما ان العداوة والصداقة لا تخرجهم من حدود الحق والعدل.
قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (أتقى الناس من قال الحقّ فيما لَهُ وعَليهِ).