المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

الفقه الاسلامي واصوله
عدد المواضيع في هذا القسم 8127 موضوعاً
المسائل الفقهية
علم اصول الفقه
القواعد الفقهية
المصطلحات الفقهية
الفقه المقارن

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر

دموع اليتيم في كف الرحمن
21-7-2021
التعليم البيئي
2023-10-26
صلاة العيدين‌
18-10-2016
مصادر المياة ونظام ري الفراولة
25-5-2016
اصناف الذرة البيضاء
4-4-2016
ماكميلان، ادوين ماتياس
30-11-2015


قاعدة « الإحسان » (*)  
  
453   08:53 صباحاً   التاريخ: 16-9-2016
المؤلف : اية الله العظمى السيد محمد حسن البجنوردي
الكتاب أو المصدر : القواعد الفقهية
الجزء والصفحة : ج4 ص9 - 20.
القسم : الفقه الاسلامي واصوله / القواعد الفقهية / الإحسان /


أقرأ أيضاً
التاريخ: 16-9-2016 613
التاريخ: 16-9-2016 630
التاريخ: 16-9-2016 454

ومن جملة القواعد الفقهيّة المشهورة « قاعدة الإحسان ».

وفيها جهات من البحث :

الجهة الأولى

في مدركها‌ :

وهو أمور :

الأوّل : قوله تعالى {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة: 91]والآية وإن كانت واردة في مورد قعود العاجزين عن الجهاد لفقرهم ، وعدم تمكّنهم من تحصيل الزاد والراحلة‌ للسفر مع رسول الله صلى الله عليه واله في غزوة تبوك ، حتّى أنّ بعضهم لم يجدوا نعلا ، فسألوا النبي صلى الله عليه واله أن يحملهم على الخفاف المدبوغة ، والنعال المخصوفة ، فقال صلى الله عليه واله : « لا أجد ما أحملكم عليه ، فتولّوا وهم يبكون ، وهم ثلاثة إخوة : معقل ، وسويد ، والنعمان بنو مقرن ، فأنزل الله تعالى في حقّهم {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 91].

فظاهر الآية بناء على هذا نفي السبيل ، أي العقاب الأخروي ، والعتاب من المجاهدين عليهم لتخلّفهم عن الجهاد عن هؤلاء المتخلّفين العاجزين ، مقيّدا بنصحهم لله ورسوله ، ولكنّ العبرة بعموم الآية من حيث المفاد لفظا ، ولا اعتبار بخصوصيّة المورد.

وكثير من الآيات القرآنيّة واردة في موارد خاصّة ، ولكنّ الفقهاء يستدلّون بعمومها فيما هو خارج عن المورد. نعم لا بدّ وأن يكون العموم يشمل المورد ، لأنّ تخصيص المورد مستهجن.

فلا بدّ لنا من شرح هذا الكلام الشريف والجملة المباركة ، أي قوله تعالى { مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ}  وأنّه ما هو الظاهر والمتفاهم العرفي منها.

فنقول : أما كلمة « المحسنين » فهو جمع معرّف باللام يفيد العموم ، وأمّا « الإحسان » هو صدور الجميل من قول أو فعل بالنسبة إلى غيره ، وذلك قد يكون بإيصال نفع إليه مالي أو اعتباري ، وقد يكون بدفع ضرر مالي أو اعتباري عنه.

والسبيل المنفي حيث أنّه نكرة واقعة في سياق النفي يفيد العموم ، لأنّ انتفاء الطبيعة لا يتحقّق إلاّ بانتفاء جميع أفرادها ، وإلاّ يلزم اجتماع النقيضين. فإذا كان مفاد الآية عموم النفي ، أي كون السبيل منفيّا بطور العموم ، ويكون السلب كليّا لا‌ المسلوب فقط ، فوجوده ولو كان في مورد واحد نقيضه ، لأنّ الموجبة الجزئيّة نقيض السالبة الكليّة.

فالآية بظاهرها تدلّ على نفي كلّ ما يصدق عليه أنّه سبيل عن كلّ من هو محسن ، فهذه كبرى ثابتة من الآية الشريفة تكون دليلا وحجّة لجميع مواردها في الفقه ، ولا يزال الفقهاء يستدلون بها على نفي الضمان في موارد الإحسان.

والسبيل جاء بمعنى : السبّ ، والشتم ، والحرج ، والحجّة ، والطريق.

والظاهر أنّه في الآية بمعنى الحجّة والحرج.

وإن شئت قلت : بمعنى المؤاخذة ، أي ليس على المحسن مؤاخذة فيما تسبب عن إحسانه.

ولا شكّ في أنّ الضمان سبيل بأيّ معنى كان من المعاني المذكورة ، فتدلّ الآية على أنّ الفعل الذي صدر من المحسن وإن كان ذلك الفعل في حدّ نفسه سبب وموجب للضمان ، ولكن إذا كان محسنا فلا يوجب الضمان.

مثلا لو كان حيوانا جائعا صاحبه غائب ، وليس من يعلفه ، فأخذه وعلفه ، فصار سببا لتلفه من باب الاتّفاق ، فلا ضمان على المحسن. أو أدخله في اصطبله لحفظه عن البرد أو السبع ، ثمَّ وقع عليه البناء وتلف ، فليس عليه سبيل ، لأنّه محسن. أو الطبيب الذي أخذ المريض الفقير إلى داره ليعالجه ويعطيه الدواء والغذاء ، ولكن من باب الاتّفاق لدغته حيّة أو عقرب فمات فلا سبيل عليه ، لأنّه محسن.

وخلاصة الكلام : أنّ هذه الجملة كبرى كلّية تنطبق على جميع موارده ، إلاّ أن يأتي دليل مخصّص ويخصّصه ، فهو عامّ شرعي ، كسائر العمومات الشرعيّة قابلة لورود التخصيص عليه ، وما لم يكن مخصّصا في البين يؤخذ بعمومه.

وان شئت قلت : إنّ هذه الجملة تنحلّ من ناحية الموضوع إلى قضايا متعدّدة بعد أفراد الموضوع ، فيكون مفادها أنّ كلّ واحد من أفراد المحسنين ليس عليه كلّ ما‌ يصدق عليه السبيل.

نعم بقي شي‌ء : وهو أنّه موضوع الحكم هل هو الإحسان في قصده واعتقاده وإن كان إساءة في الواقع؟ أو هو الإحسان واقعا وإن لم يعلم أنّه إحسان ، بل وإن قصد به الإساءة ، أو كلاهما؟ أي يكون إحسانا واقعا وهو أيضا يكون قاصدا للإحسان؟ وجوه.

والظاهر أنّه دائر مدار الإحسان الواقعي وإن لم يقصد به الإحسان ، لأنّ الظاهر من العناوين والمفاهيم ـ الذي أخذ موضوعا للحكم الشرعي ـ هو واقعها والمعنى الحقيقي لها ، إلاّ أن يكون المتفاهم العرفي معنى آخر غير المعنى الحقيقي ، ولا شكّ في أنّ العرف لا يفهم من لفظ « الإحسان » غير ما هو المعنى الحقيقي له. نعم هذا بحسب ما يستفاد من هذه الجملة.

وأمّا الدليل العقلي والإجماع فسترى ما يكون مفادهما.

الثاني : حكم العقل بقبح مؤاخذة المحسن على إحسانه ولعلّ إلى هذا يشير بطور الاستفهام الإنكاري قوله تعالى {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرحمن: 60] أي مكافاة الإحسان يكون بالإحسان إلي المحسن ، لا الإساءة إليه.

وبعبارة أخرى : شكر المنعم حسن بحكم العقل وعند العقلاء ، ولا شكّ في أنّ المحسن منعم ، فشكره ، أي جزاءه بالإحسان إليه قولا أو عملا حسن ، كما أنّ كفران نعمته قبيح.

ومعلوم أنّ تغريم المحسن وتضمينه فيما أحسن إليه كفران لما أنعم عليه ، وذلك كما في المثال الذي ذكرنا أنّه لو رأى غنم شخص صاحبه غائب عنه ، فأدخله في داره للحفظ عن التلف وأن لا يفترسه السباع ، فانهدم البناء وتلف ، فتغريم هذا الشخص وتضمينه قبيح بحكم العقل ، ويكون إساءة في مقابل جميلة وإحسانه ، لأنّه وإن وضع‌ يده عليه بدون إذن صاحبه ، إلاّ أنّه كان بقصد الإحسان وحفظ ذلك الحيوان عن التلف ، وفي الواقع كان إحسانا من جهة حفظه عن السباع ، لا أنّه صرف قصد الإحسان ، وإنّما وقع عليه التلف بجهة أخرى غير جهة إحسانه ، وهو انهدام البناء من باب الاتّفاق.

 

فتغريمه في مثل هذه الصورة قبيح ، فيستكشف من هذا الحكم العقلي ملاك حرمة تغريم المحسن وتضمينه في الفعل الذي صدر عنه بقصد الإحسان وكان واقعا إحسانا ، وإن تضرّر صاحب الحيوان من ناحية أخرى وتلف ماله.

هذا غاية ما يمكن أن يقال في تقريب حكم العقل بقبح تغريم المحسن وتضمينه.

ولكن أنت خبير بأنّ هذا صرف استحسان ، وإثبات الحكم الشرعي أو نفيه عن موضوعه لا يجوز بالظنون الاستحسانيّة ، بل لا بدّ من قيام دليل وحجّة ثبت حجّيته بالحجّة القطعيّة على ثبوته أو نفيه ، فلو وجد سبب الضمان من إتلاف ، أو يد غير مأذونه ، أو تعدّ ، أو تفريط من الأمين ، أو غير ذلك من أسباب الضمان لا يصحّ الحكم بعدم الضمان بصرف هذا الاستحسان.

الثالث : من أدلّة هذه القاعدة هو الإجماع ، فإنّ الفقهاء يستدلّون بها في كتبهم وفتاويهم على عدم ضمان المحسن من نكير منهم ، مثلا إذا كان المال الذي أودعه المودع عند شخص ، وكان ذلك الشخص غيّر مكان الوديعة لاعتقاده أنّه أحفظ ، وكان ذلك المكان واقعا أحفظ ، وكانت الوديعة من الأحجار الكريمة فانكسر ، فلا ضمان على الودعي ، لأنّه محسن في هذا النقل ، وإن كان بغير إذن المودع.

حتّى قال بعضهم : أنّه يجوز النقل إلى مكان أحرز ولو مع نهي المالك المودع عن النقل ، بل ادّعى الإجماع على عدم الضمان فيما نقل مع خوف التلف ، معلّلا بأنّه محسن في هذا الفعل و {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ}.

والحاصل : أنّ استدلالهم على عدم الضمان بهذه القاعدة وإن كان من المسلّمات ، فهذا صاحب الجواهر يستدلّ على قبول قول الودعي إن ادّعى التلف بالإجماع ، وبأنّه محسن قابض لمصلحة المالك (1).

ولكن استدلالهم بهذه القاعدة في عدم الضمان لعلّه مستند إلى الآية الشريفة ، بل الظاهر أنّه كذلك ، لا أنّه صرف الاحتمال ، ومع هذا كيف يمكن أن يكون من الإجماع المصطلح الذي بنينا في الأصول على حجّيته.

فظهر من جميع ما ذكرنا أنّ عمدة المدرك لهذه القاعدة هو عموم الآية الشريفة (2) بناء على إلقاء خصوصيّة المورد ، كما بيّنّا وتقدّم مفصّلا.

الجهة الثانية

في بيان المراد من هذه القاعدة‌ :

فنقول : المراد منها ـ وإن ظهر ممّا بيّنّا في شرح أدلّتها ، خصوصا ما ذكرنا في شرح الآية المباركة ، ولكن نبيّن توضيحا لما سبق ـ أنّ الذي يفعل فعلا يكون موجبا للضمان والتغريم في حدّ نفسه ، كما أنّ الولي أو القيّم على الصغير لو صدر فعل عنه في مال الصغير من باب الإحسان إليه ، وكان ذلك الفعل في الواقع إحسانا ، لا أنّه اعتقد أنّه إحسان وفي الواقع لم يكن إحسانا ، لأنّ موضوع القاعدة هو الإحسان الواقعي لا تخيّل الإحسان ، ولكن اتّفق أنّه ترتّب على ذلك الفعل ضرر. كما أنّه لو نقل متاعه في البحر لانتفاع أكثر فغرق ، أو في البرّ فسرق ، فليس عليه الضمان ، لأنّه كان محسنا في هذه الفعل ، وهذا الفعل في حدّ نفسه إحسان إليه ، والغرق والحرق والسرقة أمر اتّفاقي.

ووجود هذه الأمور من باب الاتّفاق لا يمنع التجّار عن تجاراتهم ومكاسبهم ، كما أنّه لا يمنع عن صدق الإحسان إلى القصر إذا صدر عن الأولياء.

وخلاصة الكلام : أنّ مفاد هذه القاعدة ففي السبيل مطلقا على كلّ واحد من أفراد المحسنين ، فهذه قضيّة حقيقيّة تنحلّ إلى قضايا متعدّدة ، مثل قوله تعالى {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ } [المائدة: 90] حيث أنّه تنحلّ إلى قضايا متعدّدة بعدد أفراد الموضوع ، أي اجتنبوا عن هذا الخمر وذاك وهكذا.

وحاصل معناها : أنّ كلّ ما وجد في الخارج وصدق عليه أنّه خمر يجب الاجتناب عنه ، وهذا هو معنى الانحلال ، وفيما نحن فيه أيضا معنى الانحلال هو أنّ كلّ من وجد في الخارج وكان محسنا فلا سبيل عليه ، ولا شك أنّ الضمان والتغريم سبيل عليه ، فيرجع المعنى إلى أنّه لا ضمان ولا غرامة في الفعل الذي صدر عن كلّ محسن بجهة الإحسان وكان في الواقع إحسانا ، لا ما تخيّل أنّه إحسان مع أنّه ليس بإحسان.

وبعبارة أخرى : نفي السبيل على المحسن باعتبار إحسانه ، فإنّ تعليق الحكم على الوصف وجعله موضوعا مشعر بهذا المعنى ، فيفيد أنّ الفعل الذي صدر بعنوان الإحسان وكان إحسانا واقعا ، ولكن من باب الاتّفاق ترتّب عليه ما يوجب الضمان لا يضمن ولا يغرم ، لأنّه محسن.

ثمَّ إنّه لا فرق في صدق الإحسان بين أن يكون فعل المحسن لجلب المنفعة لذلك الذي يريد الإحسان إليه ، أو يكون لدفع المضرّة عنه ، فكلاهما إحسان ، فكما أنّ جلب المنفعة له إحسان إليه ، كذلك دفع الضرر عن نفسه أو عن ماله إحسان إليه ، وربما يكون صدق الإحسان على دفع الضرر في بعض المصاديق والموارد أولى بنظر العرف من صدقه على جلب المنفعة ، خصوصا إذا كان دفع الضرر لحفظ النفس عن الهلاك ، فأيّ إحسان أعظم من هذا.

الجهة الثالثة

في موارد تطبيق هذه القاعدة‌ :

فنقول : تارة : يكون إحسانه إلى صاحب المال باعتبار دفع الضرر المالي أو النفسي عنه ، وأخرى : باعتبار جلب المنفعة له.

فمن الأوّل : لو رأى اشتعال النار في لباسه بحيث لا طريق إلى حفظ نفس ذلك الشخص عن الاحتراق إلاّ بتمزيق ألبسته ، فمزّقها ، فحيث أنّه محسن إليه في هذا الفعل فلا يضمن.

وكذلك لو كان البزّاز اشتعل النار في دكّانه ، فهو لدفع الضرر عنه وعدم احتراق أجناسه الغالية القيّمة هدم مقدارا من الدكّان، لعدم وصول النار إلى تلك الأجناس ، فلا ضمان عليه ، لأجل أنّه محسن إليه في هذا الفعل فلا سبيل عليه.

أو أخرج الأجناس من دكّانه مع العجلة والسرعة خوفا من احتراقها في أثناء اشتغاله بتفريق المحلّ عن الأجناس ، ووقع التلف على بعضها فلا يضمن ، لأنّه محسن في هذا الفعل.

وكذلك الأمر لو أشرف شخص على الغرق ، ولم يمكن نجاته إلاّ بأن يتلف بعض ما معه من الأموال من الألبسة وغيرها ، فأتلفها لاستخلاصه فلا ضمان عليه ، لأنّه محسن في هذا الفعل الذي صدر عنه لدفع الضرر عن صاحب المال التالف.

وكذلك لو رأى ربّان السفينة أنّ السفينة مع الأموال الكثيرة التي فيها أشرفت على الغرق لثقلها ، والمفروض أنّ السفينة وجميع الأموال لمالك واحد ، فألقى مقدارا من تلك الأموال في البحر لحفظ السفينة وباقي الأموال فلا يضمن ، لأنّه محسن في هذا الفعل.

وكذلك لو كان السيل متوجّها إلى داره ، أو خانه الذي محلّ تجارته وفيهما أموال كثيرة ، فسدّ السيل عنهما ببعض فروش داره أو أثاث بيته من الأجناس والأنواع‌ الآخر ، أو غيّر مجرى السيل منهما إلى مزرعته ، فوقع التلف على فروشه وأثاث بيته أو على زرعه فلا يضمن ، لأنّه محسن في هذا الفعل.

ولا يخفى أنّ ما قلنا من عدم الضمان ، يصحّ فيما إذا كان الضرر الذي يرد عليه أقلّ من الضرر الذي يدفع عنه إذا كان الذي يدفع عنه ماليّا ، لأنّه لو كان أكثر بل ولو كان مساويا لا يعدّ هذا الفعل إحسانا إليه ، بل إذا كان الضرر الذي يدفع عنه أقلّ من الضرر الذي يرد عليه يكون هذا إساءة لا إحسانا ، وإذا كان مساويا يكون لغوا لا إحسانا ، إلاّ أن يكون جهة أخرى غير الماليّة ، فيخرج عن اللغويّة ، بل ربما يوجب صيرورته إحسانا وإن كان مساويا مع الضرر الذي يدفعه عنه من حيث الماليّة.

وكذلك الودعي لو أراد المسافرة التي لا يمكن له تركها ، ولا يمكن له الوصول إلى مالك الوديعة كي يردّها ، فيجوز له دفنها في محلّ الأمن إن لم يأمن ـ مع كونه ظاهرا بارزا ـ عن سرقته أو غصبه أو تلفه بشكل. فلو دفنه مع هذا الخوف ، فوقع عليه التلف من باب الاتّفاق فلا يضمن ، لأنّه محسن في هذا الفعل.

قال في الجواهر : كما أنّه لو خشي المعاجلة ، أو خاف عليها من معاجلة السارق أو الظالم لم يضمن حينئذ بالدفن المراعى مقدار ما يتمكّن منه من الحرزيّة والأعلام ونحوهما ، لانحصار طريق حفظها حينئذ بذلك ، وكذا لو كان السفر ضروريّا له ، وخاف معاجلة الرفقة ، فدفنها مراعيا ما سمعت بعد تعذّر ما وجب عليه من الردّ على الوجه المزبور (3). انتهى كلامه.

والحاصل أنّ موارد تطبيق على قاعدة الإحسان في هذا القسم ـ أي : فيما إذا كان الإحسان باعتبار دفع الضرر عمّن يحسن إليه ـ كثيرة لا يمكن في هذا المختصر استيفاؤها واستقصاؤها.

وأمّا موارد تطبيق هذه القاعدة في القسم الثاني ، أي فيما إذا كان الإحسان باعتبار‌ جلب المنفعة وإيصالها إلى الذي يريد أن يحسن إليه فكثيرة أيضا.

فمنها : الأفعال الكثيرة التي تصدر من الأولياء لإيصال النفع إلى المولّين عليهم ، فاتّفق ترتّب الضرر على تلك الأفعال ، فلا ضمان لهم ، لأنّهم محسنون في تلك الأفعال إليهم. مثلا أحد الأولياء هو الحاكم ، فلو تصرّف في مال المولّى عليه لإيصال النفع إليه ، كما أنّه اشتغل في قناة له بالحفر والإصلاح لازدياد الماء ، فصار سببا لانهدام القناة ، فلا ضمان عليه ، لأنّه كان محسنا إليه. أو فتح طريق السيل إلى مزرعته أو بستانه لشرب الماء ونموّ زرعها ، أو نموّ أشجار البستان فاتّفق أنّ ذلك السيل أفسد تلك المزرعة وذلك البستان ، فلا ضمان عليه.

وكذلك لو أعطى الحاكم النقود التي عنده لأجرة العبادات للأجير الذي ثقة عنده فاتّفق أنّه لم يأت بتلك العبادة ومرض ومات ، ولم يترك مالا كي يؤخذ ما أعطاه الحاكم عن تركته ، فلا ضمان على الحاكم ، لأنّه محسن إلى صاحب المال.

وكذلك الحال في الأب والجدّ من طرف الأب بالنسبة إلى أموال صغيرهما ، فلو حبسوا طعامه ومتاعه ولم يبيعاه التماس زيادة الثمن ، فنزل السعر أو فسد الطعام والمتاع ، فلا ضمان عليهما ، لأنّهما محسنان في تأخير البيع.

وهذا فيما إذا كان نزول السعر أو فساد المتاع من باب الاتّفاق ، وإلاّ لو كان النزول أو فساد المتاع غالبيّا ، فتأخير البيع ليس إحسانا ، بل ربما يكون إساءة ، وذلك كالمنسوجات التي مادّتها صوف أو وبر ، فإبقاؤها وتأخير بيعها خصوصا في الصيف يوجب غالبا فسادها وإتلافها ، بواسطة أنّه غالبا تلك المنسوجات في الصيف في معرض أكل العثة.

وهكذا تأخير بيع الفواكه التماس زيادة الثمن ، لأنّ إبقاء الفواكه وتأخير بيعها غالبا ممّا يوجب فسادها ، فالتأخير في أمثال هذه لطلب زيادة الثمن وإيصال النفع ليس إحسانا ، بل يكون في بعض الصور إساءة.

وكذلك الأمر فيما لو زرع زرعا للمولّى عليه لإيصال النفع إليه ، ولكن من باب الاتّفاق بواسطة حوادث الجوّ فسد ذلك الزرع، أو صار حاصل ذلك الزرع رخيصا وقليل الفائدة ، بحيث لم يف بنصف ما صرف في ذلك الزرع ، فلا ضمان على الوليّ ، لأنّه كان محسنا في ذلك الفعل.

وكذلك لو أجر سفينته أو أباعرة وجماله للركوب أو للحمل ونقل المتاع من مكان إلى مكان آخر ، فغرقت السفينة ، أو تلفت الأباعر والجمال ، فلا ضمان على الوليّ ، كما ذكرنا من أنّه محسن في هذا الفعل ، وقد نفى الله سبحانه وتعالى السبيل على المحسنين ، وقد تقدّم أنّ موارد تطبيق هذه القاعدة كثيرة ، ولا يمكن استقصاؤها واستيفاؤها تماما.

وقد أورد بعضهم ها هنا إيرادا ، وهو أنّ الفقهاء ـ قدّس الله أسرارهم ـ ذكروا في باب اللقطة أنّ الملتقط بعد اليأس عن إيصال المال إلى صاحبه يتصدّق بذلك المال عن طرف صاحبه المجهول ، لأنّ هذا أيضا نحو إيصال إلى المالك وإحسان إليه ، ومع ذلك حكموا بأنّه ضامن للمالك إن ظهر وعلم به بعد أن تصدّق ، وهذا الحكم منهم مناف لعموم هذه القاعدة.

ولكن يمكن أن يجاب عنه بأنّ الشارع حكم بجواز التصدّق مع الضمان إن ظهر صاحبه ، والتصدّق إحسان بهذا القيد ، وإلاّ فصرف التصدّق بدون أن يكون في البين ضمان ـ على تقدير ظهور صاحبه وتبيّنه ـ يكون إحسانا مشكل.

وهذا الحكم ليس مختصّا باللقطة ، بل قالوا به في كلّ ما هو مجهول المالك ، كما لو وقعت في يده الأموال المسروقة أو المغصوبة التي لا يعلم صاحبها ، فبعد اليأس عن الإيصال إلى صاحبها يجب عليه أن يعطيها صدقة بشرط ضمانها لو ظهر صاحبها أو أصحابها.

والحمد لله أوّلا وآخرا ، وظاهرا وباطنا.

____________

(*) « الحق المبين » ص 125 ، « عناوين الأصول » عنوان 64 ، « مجموعه رسائل » ص 479 ، « دلائل السداد وقواعد فقه واجتهاد » ص 170 ، « مجموعه قواعد فقه » ص 9 ، « قواعد فقه » ص 264 ، « القواعد » ص 27 ، « قواعد فقه » ج 2 ، ص 264 ، « قواعد فقهي » ص 41 ، « قواعد فقهية » ص 273 ، « القواعد الفقهيّة » ( فاضل اللنكرانى ) ج 1 ، ص 281 ، « القواعد الفقهية » ( مكارم الشيرازي ) ج 4‌ .

(1) « جواهر الكلام » ج 27 ، ص 147.

(2) التوبة (9) : 91.

(3) « جواهر الكلام » ج 27 ، ص 145.

 

 




قواعد تقع في طريق استفادة الأحكام الشرعية الإلهية وهذه القواعد هي أحكام عامّة فقهية تجري في أبواب مختلفة، و موضوعاتها و إن كانت أخصّ من المسائل الأصوليّة إلاّ أنّها أعمّ من المسائل الفقهيّة. فهي كالبرزخ بين الأصول و الفقه، حيث إنّها إمّا تختص بعدّة من أبواب الفقه لا جميعها، كقاعدة الطهارة الجارية في أبواب الطهارة و النّجاسة فقط، و قاعدة لاتعاد الجارية في أبواب الصلاة فحسب، و قاعدة ما يضمن و ما لا يضمن الجارية في أبواب المعاملات بالمعنى الأخصّ دون غيرها; و إمّا مختصة بموضوعات معيّنة خارجية و إن عمّت أبواب الفقه كلّها، كقاعدتي لا ضرر و لا حرج; فإنّهما و إن كانتا تجريان في جلّ أبواب الفقه أو كلّها، إلاّ أنّهما تدوران حول موضوعات خاصة، و هي الموضوعات الضرريّة و الحرجية وبرزت القواعد في الكتب الفقهية الا ان الاعلام فيما بعد جعلوها في مصنفات خاصة بها، واشتهرت عند الفرق الاسلامية ايضاً، (واما المنطلق في تأسيس القواعد الفقهية لدى الشيعة ، فهو أن الأئمة عليهم السلام وضعوا أصولا كلية وأمروا الفقهاء بالتفريع عليها " علينا إلقاء الأصول وعليكم التفريع " ويعتبر هذا الامر واضحا في الآثار الفقهية الامامية ، وقد تزايد الاهتمام بجمع القواعد الفقهية واستخراجها من التراث الفقهي وصياغتها بصورة مستقلة في القرن الثامن الهجري ، عندما صنف الشهيد الأول قدس سره كتاب القواعد والفوائد وقد سبق الشهيد الأول في هذا المضمار الفقيه يحيى بن سعيد الحلي )


آخر مرحلة يصل اليها طالب العلوم الدينية بعد سنوات من الجد والاجتهاد ولا ينالها الا ذو حظ عظيم، فلا يكتفي الطالب بالتحصيل ما لم تكن ملكة الاجتهاد عنده، وقد عرفه العلماء بتعاريف مختلفة منها: (فهو في الاصطلاح تحصيل الحجة على الأحكام الشرعية الفرعية عن ملكة واستعداد ، والمراد من تحصيل الحجة أعم من اقامتها على اثبات الاحكام أو على اسقاطها ، وتقييد الاحكام بالفرعية لإخراج تحصيل الحجة على الاحكام الأصولية الاعتقادية ، كوجوب الاعتقاد بالمبدء تعالى وصفاته والاعتقاد بالنبوة والإمامة والمعاد ، فتحصيل الدليل على تلك الأحكام كما يتمكن منه غالب العامة ولو بأقل مراتبه لا يسمى اجتهادا في الاصطلاح) (فالاجتهاد المطلق هو ما يقتدر به على استنباط الاحكام الفعلية من أمارة معتبرة أو أصل معتبر عقلا أو نقلا في المورد التي لم يظفر فيها بها) وهذه المرتبة تؤهل الفقيه للافتاء ورجوع الناس اليه في الاحكام الفقهية، فهو يعتبر متخصص بشكل دقيق فيها يتوصل الى ما لا يمكن ان يتوصل اليه غيره.


احد اهم العلوم الدينية التي ظهرت بوادر تأسيسه منذ زمن النبي والائمة (عليهم السلام)، اذ تتوقف عليه مسائل جمة، فهو قانون الانسان المؤمن في الحياة، والذي يحوي الاحكام الالهية كلها، يقول العلامة الحلي : (وأفضل العلم بعد المعرفة بالله تعالى علم الفقه ، فإنّه الناظم لأُمور المعاش والمعاد ، وبه يتم كمال نوع الإنسان ، وهو الكاسب لكيفيّة شرع الله تعالى ، وبه يحصل المعرفة بأوامر الله تعالى ونواهيه الّتي هي سبب النجاة ، وبها يستحق الثواب ، فهو أفضل من غيره) وقال المقداد السيوري: (فان علم الفقه لا يخفى بلوغه الغاية شرفا وفضلا ، ولا يجهل احتياج الكل اليه وكفى بذلك نبلا) ومر هذا المعنى حسب الفترة الزمنية فـ(الفقه كان في الصدر الأول يستعمل في فهم أحكام الدين جميعها ، سواء كانت متعلقة بالإيمان والعقائد وما يتصل بها ، أم كانت أحكام الفروج والحدود والصلاة والصيام وبعد فترة تخصص استعماله فصار يعرف بأنه علم الأحكام من الصلاة والصيام والفروض والحدود وقد استقر تعريف الفقه - اصطلاحا كما يقول الشهيد - على ( العلم بالأحكام الشرعية العملية عن أدلتها التفصيلية لتحصيل السعادة الأخروية )) وتطور علم الفقه في المدرسة الشيعية تطوراً كبيراً اذ تعج المكتبات الدينية اليوم بمئات المصادر الفقهية وبأساليب مختلفة التنوع والعرض، كل ذلك خدمة لدين الاسلام وتراث الائمة الاطهار.