أقرأ أيضاً
التاريخ: 16-9-2016
453
التاريخ: 16-9-2016
612
التاريخ: 16-9-2016
630
|
وهي أيضاً من القواعد الفقهيّة المعروفة، ويستند إليها في الفروع المختلفة الفقهية التي سيأتي التعرّض لبعضها إن شاء اللَّه تعالى، والكلام فيها يقع في مواقف:
الموقف الأوّل: في مدركها ومستندها، وما قيل في هذا المجال امور:
الأوّل: قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [التوبة: 91 - 93] .
وقد ذكر المفسّر العظيم القدر صاحب مجمع البيان في شأن نزول الآيات:
قيل: إنّ الآية الاولى نزلت في عبداللَّه بن زائدة- وهو ابن امّ مكتوم وكان ضرير البصر- جاء إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقال: يا نبيّ اللَّه إنّي شيخ ضرير خفيف الحال نحيف الجسم، وليس لي قائد، فهل لي رخصة في التخلّف عن الجهاد؟ فسكت النبيّ صلى الله عليه و آله، فأنزل اللَّه الآية، عن الضحاك. وقيل: نزلت في عائد بن عمرو وأصحابه، عن قتادة.
والآية الثانية نزلت في البكّائين ، وهم سبعة نفر، منهم: عبد الرحمن بن كعب، وعتبة بن زيد، وعمرو بن غنمة، وهؤلاء من بني النّجار، وسالم بن عمير وهرم بن عبداللَّه، وعبداللَّه بن عمرو بن عوف، وعبداللَّه بن معقل من مزينة، جاؤا إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقالوا: يا رسول اللَّه أحملنا؛ فإنّه ليس لنا ما نخرج عليه، فقال: لا أجد ما أحملكم عليه، عن أبي حمزة الثمالي.
وقيل: نزلت في سبعة نفر من قبائل شتّى أتوا النبيّ صلى الله عليه و آله فقالوا له: أحملنا على الخفاف والبغال، عن محمد بن كعب وابن إسحاق. وقيل: كانوا جماعة من مزينة، عن مجاهد. وقيل: سبعة من فقراء الأنصار، فلمّا بكوا حمل عثمان منهم رجلين، والعباس بن عبد المطّلب رجلين، ويامين بن كعب النضري ثلاثة عن الواقدي قال: وكان الناس بتبوك مع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ثلاثين ألفاً، منهم: عشرة آلاف فارس(1).
وعلى ما ذكرنا فالمراد من السبيل المنفي بالإضافة إلى المورد هو العذاب والعقاب الاخروي، كما أنّه المراد بالسبيل المثبت في مورد الآية الثالثة، ولكنّه حيث لا يكون المورد مخصّصاً، وقوله تعالى: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [التوبة: 91] بمنزلة ضابطة كلّية وقاعدة عامّة، لابدّ من الالتزام بعدم اختصاص السبيل بالعقاب، بل له معنى عامّ شامل لكلّ ما يكون بضرر المحسن وموجباً لمؤاخذته والأخذ به؛ سواء كان عقاباً في الآخرة، أو أمراً ضرريا عليه في الدّنيا، كضمانه وتغريمه وتعزيره، فله معنى عامّ يشمل الجميع، وهذا إجمال معنى القاعدة، وسيأتي التفصيل في الموقف الثاني إن شاء اللَّه تعالى.
الثاني: حكم العقل بقبح مؤاخذة المحسن على إحسانه، ولعلّه إليه يشير قوله تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ } [الرحمن: 60] ؛ فإنّ مرجعه إلى أنّ مكافأة الإحسان لا تلائم مع الإساءة بل تنحصر في الإحسان، وبعبارة اخرى: المحسن منعم، والمنعم شكره إنّما هو بالإحسان إليه، ويقبح كفرانه بنظر العقل، فلا معنى للحكم بضمانه في مورد إحسانه.
مثلًا إذا رأى مال الغير في معرض التلف، كما إذا ذهب به السيل أو أطار به الريح مثلًا، فأخذه بقصد حفظه وإيصاله إلى مالكه ليتمكّن من التصرّف فيه والاستفادة منه، فحفظه في محلّ معدّ للحفظ عرفاً، ولكنّه على خلاف الانتظار قد سرق أو خرب السقف مثلًا فتلف المال، فهل الحكم بضمانه في هذه الصورة وأخذ المثل أو القيمة منه ملائم لإحسانه، أو أنّه قبيح عند العقل؟
وهكذا في سائر الموارد المشابهة؛ مثل الوديعة التي أخذها المستودع إحساناً للمودع فحفظها في مكان كذلك، ثمّ عرض لها التلف بمثل ما ذكر، فهل يجوز عند العقل الحكم بتغريمه وتضمينه وأخذ المثل أو القيمة منه؟
وربما يجاب عن هذا الوجه بأنّه صرف استحسان، مع أنّ إثبات الحكم الشرعي على موضوع، أو نفيه عنه لا يجوز بالظنون الاستحسانية، بل لابدّ من قيام دليل وحجّة ثبتت حجيته بالحجية القطعية، فلو وجد سبب الضمان من إتلاف، أو يد غير مأذونة، أو تعدٍّ، أو تفريط من الأمين، أو غير ذلك من أسباب الضمان، لا يصحّ الحكم بعدم الضمان بصرف هذا الاستحسان(2).
وأنت خبير بأنّ اتلاف مال الغير لا يجتمع مع الإحسان. نعم، في ما إذا لم يكن الإتلاف عن عمد والتفات يمكن الاجتماع، وكذلك التعدّي والتفريط لا يجتمعان مع الإحسان، والمراد بالإذن إن كان أعمّ من المالك والشارع لا يتحقّق مورد من موارد الإحسان يكون خالياً عن إذن واحد منهما، كما لا يخفى.
وعلى ما ذكرنا يرد على هذا الوجه أنّ الحكم بعدم الضمان في غير مورد الإتلاف والتعدّي والتفريط لا يكون مستنداً إلى قاعدة الإحسان، بل إلى عدم الدليل على الضمان؛ لاختصاص قاعدة ضمان اليد بغير اليد المأذونة من قبل المالك أو الشارع، ولا دليل على الضمان غير هذه القاعدة.
نعم، لو فرض عنوان موجب للضمان ومجتمع مع عنوان الإحسان كالإتلاف في حال النوم مثلًا في الموارد المذكورة، لا مانع من الحكم فيه بعدم الضمان وإن كان مقتضى قاعدة الإتلاف ثبوته؛ لأنّ حكم العقل بعدم مكافأة الإحسان بالإساءة والتغريم حكم عقليّ قطعي، ولا مجال لدعوى كونه من الظنون الاستحسانية غير القابلة لإثبات الحكم أو نفيه.
الثالث: الإجماع(3) على ثبوت هذه القاعدة على ما يظهر من تتبّع كلمات الأصحاب؛ فإنّ الفقهاء يستدلّون بها في كتبهم وفتاويهم في موارد كثيرة، فتراهم يستدلّون بها على عدم ضمان المستودع إذا كان المال عنده في مكان معدّ للحفظ ومناسب له، ثمّ غيّر مكانه إلى مكان آخر يعتقد أنّه أحفظ من المكان الأوّل، ولكنّه قد انكسرت الوديعة أو تلفت في حال النقل؛ نظراً إلى كونه محسناً في هذا النقل ، ولا معنى لثبوت الضمان عليه للقاعدة (4)، وهكذا الموارد الاخرى الكثيرة التي حكم فيها بعدم الضمان معلّلًا بالقاعدة(5).
ولكنّ الظاهر عدم اتّصاف الإجماع بالأصالة والكاشفية عن رأي المعصوم عليه السلام، بل استناده إلى الآية الشريفة كما يصرّحون به كثيراً، ويؤيّده تعبيراتهم المقتبسة من الآية من الإحسان والسبيل وغيرهما، فالإجماع لا يكون حجّة برأسه في مقابل الآية، كما لا يخفى.
وقد انقدح من جميع ما ذكرنا في هذا الموقف أنّه لا مجال للإشكال في القاعدة من حيث المدرك والمستند.
الموقف الثاني: في بيان المراد من هذه القاعدة وشرح معناها، والعمدة في هذا الموقف أيضاً ترجع إلى توضيح المراد من الآية الشريفة(6)، فنقول: التكلّم في الآية من جهتين:
الجهة الاولى: في بيان المراد من مفردات الآية؛ وهي عنوان الإحسان ومفهوم السبيل، وكلمتا «ما» و «على» فنقول:
لا إشكال في أنّ «ما» نافية، والغرض منها إفادة نفي السبيل وعدم ثبوته على المحسن، كما أنّ كلمة «على» للضرر، ومرجعها إلى عدم ثبوت سبيل وحكم يوجب تضرّر المحسن والإساءة إليه المقابلة للإحسان.
وأمّا «السّبيل» فقد عرفت أنّه بلحاظ موارد الآيات وشأن نزولها يشمل العذاب الاخروي والعقوبة في عالم الآخرة، ولكنّه لا يختصّ بها؛ لأنّ المورد لا يكون مخصّصاً، بل قوله تعالى: مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ واقع في مقام إفادة قاعدة كلّية وضابطة عامّة، غاية الأمر لابدّ وأن يكون شاملًا للمورد؛ وهو العذاب الاخروي لئلّا يلزم الاستهجان، فالسبيل له معنى عامّ يشمل ذلك، والتكاليف الشاقّة، والأحكام الضرريّة الدنيوية، مثل الضمان والتعزير وشبههما.
وأمّا الإحسان، فهل المراد منه خصوص جلب المنفعة، أو خصوص دفع المضرّة، أو يعمّ كلاهما؟ وجوه واحتمالات، ربّما يقال بالثاني كما حكاه صاحب العناوين عن شيخه الاستاذ(7)، ولكنّه اختار نفسه الوجه الثالث؛ نظراً إلى شمول اللفظ لكليهما، بل ربما يكون صدقه على إيصال النفع أوضح وأظهر من صدقه على منع المضرّة ودفعها.
والظاهر أنّه لا مجال للإشكال في العموم والشمول بمقتضى مفهوم اللفظ ومعنى الإحسان، ولكنّه هنا موارد قد حكموا فيها بالضمان؛ وهي من موارد جلب المنفعة؛ كما إذا أخذ دابّته بغير إذنه وذهب بها إلى المرعى لأن ترعى فيه، أو نقل متاعه كذلك إلى مكان للبيع بالثمن الأوفى، أو أخذ ماله كذلك للاسترباح به، ونحو ذلك؛ فإنّه يكون مشتملًا على جلب المنفعة، ومع ذلك قد حكموا فيها بالضمان؛ لأنّ الإستيلاء على مال الغير كان بغير إذنه، فإن قلنا بأنّها من موارد قاعدة الإحسان يلزم الإلتزام بالتخصيص في مفادها، وسياقها آبٍ عن التخصيص، فاللّازم بعد ثبوت الضمان فيها وعدم جريان المناقشة فيه الالتزام بخروجها عن عنوان الإحسان المذكور في الآية الشريفة.
نعم، ربما يقال: إنّ كون وضع اليد على مال الغير إحساناً، إنّما يكون كذلك في صورة دفع المضرّة، أمّا في صورة جلب المنفعة فليس إثبات اليد جلب نفع، بل إيصال النفع إنّما هو بشيء آخر، فيتعلّق الضمان بإثبات اليد، ولا ينفع بعد ذلك الإحسان المتأخّر.
ويرد عليه- مضافاً إلى النقض بدفع المضرّة؛ فإنّ المال قد يؤخذ من يد السارق مثلًا، وقد يؤخذ من مكان يجري فيه احتمال السّرقة بعداً، والفرض الثاني مماثل للأمثلة المذكورة في جلب المنفعة-: أنّ الإثبات بقصد الإحسان المتأخّر نفسه إحسان، كما لا يخفى.
ثمّ إنّه هل يعتبر في مفهوم الإحسان مجرّد القصد إليه واعتقاد كون عمله إحساناً وإن لم يكن في الواقع كذلك، أو يعتبر الواقع؛ بأن يكون العمل بحسب الواقع دفع مضرّة ومنعها، أو يعتبر الأمران معاً، فلا يتحقّق الإحسان إلّا بعد كونه بحسب الواقع كذلك، وكان اعتقاده مطابقاً للواقع، فلو سقى الدابّة بلحاظ كونها عطشى وكانت في الواقع كذلك، يكون هذا السقي متّصفاً بالإحسان، فلو تلفت الدّابة في حال السقي مثلًا لا يكون على الساقي المحسن ضمان، وهذا بخلاف ما لو اختلّ أحد الأمرين من الاعتقاد والواقع؟ وجوه واحتمالات.
يظهر ثالثها من صاحب العناوين(8)، وثانيها من المحقق البجنوردي، وقد استدلّ الأخير بأنّ الظاهر من العناوين والمفاهيم التي اخذت موضوعاً للحكم الشرعي هو واقعها والمعنى الحقيقي لها، ولا شك في أنّ العرف لا يفهم من لفظ الإحسان غير ما هو المعنى الحقيقي له(9).
أقول: لا خفاء في كون الظاهر من العناوين هو المعنى الحقيقي لها، إنّما البحث في ذلك المعنى الحقيقي، وأنّه هل يعتبر فيه القصد والاعتقاد كالعناوين القصدية التي تكون معانيها الحقيقية متقوّمة بالقصد، أو يعتبر فيه واقع دفع المضرّة ومنعها وإن لم يكن مقصوداً بل ولا معتقداً به بوجه، أو يعتبر فيه كلا الأمرين؟ هذا، والظاهر بحسب نظر العرف هو الأخير، أمّا اعتبار مصادفة الواقع فلا شبهة فيه، غاية الأمر أنّه مع عدم المصادفة ربما يكون معذوراً، ولا يعدّ محسناً.
وأمّا اعتبار القصد فالظاهر أنّه أيضاً كذلك؛ لأنّ العرف لا يرى غير القاصد للإحسان، بل القاصد للإساءة محسناً بمجرّد مصادفة الواقع، فلو كان السقي في المثال المذكور دفع مضرّة بحسب الواقع وإساءة بحسب القصد والاعتقاد، هل يكون السّاقي عند العرف محسناً؟ الظاهر لا؛ فالعرف يرى اعتبار كلا الأمرين، ولا يكتفي بوجود واحد منهما، كما لا يخفى.
الجهة الثانية: في بيان المراد من مجموع الجملة الواقعة في الآية.
فنقول: الظاهر أنّ هذه الآية كآية نفي السبيل للكافرين على المؤمنين(10) واقعة في مقام الإنشاء، وحاكية عن عدم جعل السبيل على المحسن في الشريعة وإن كانت خالية عن لفظ الجعل، بخلاف آية نفي السبيل، إلّا أنّ الظاهر اشتراك الآيتين وكون كليهما حاكيتين عن عدم جعل السبيل في الشريعة، وكون مورد الآية في المقام هو العذاب الاخروي ... لا يقتضي أن تكون الآية في مقام الإخبار؛ فإنّ نفي العذاب الاخروي عن المذكورين في الآية الاولى والآية الثانية مرجعه إلى عدم ثبوت التكليف بالجهاد والشركة في الحرب بالإضافة إليهم، فمعنى نفي السبيل خروجهم عن دائرة التكليف بالجهاد.
ولذا سأل ابن امّ مكتوم عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه هل كان لي رخصة في التخلّف عن الجهاد؟ فمعنى نفي السبيل ثبوت الرّخصة والخروج عن دائرة التكليف، ولأجله تكون هذه الآية حاكمة على الأدلّة الأوليّة الظاهرة في ثبوت التكليف بالجهاد، أو التكاليف الاخر والأحكام الوضعيّة كالضمان ونحوه، ودالّة على عدم كون مفاد الأدلّة الأوّلية شاملًا للمحسن وإن كان بحسب الدلالة اللفظية عامّاً، فلا مجال للإشكال في مفاد الآية من هذه الجهة.
وأمّا كلمة «المحسنين» فهي جمع محلّى باللّام مفيدة للعموم، أي جميع أفراد المحسنين ومصاديقهم، كما أنّ «السبيل» نكرة واقعة في سياق النّفي، وهي أيضاً تفيد العموم، وليس السلب الذي تفيده الآية سلب العموم غير المنافي للإثبات الجزئي، بل عموم السلب الذي لا يجتمع مع الموجبة الجزئيّة، ومرجعه إلى انتفاء كلّ فرد أو نوع من أفراد السبيل أو أنواعه عن كلّ فرد من أفراد المحسن، فالإحسان وطبيعته لا يلائم مع السبيل وطبيعته بوجه، وهذا هو المتفاهم العرفي من مثل تعبير الآية، لا سلب العموم الذي لا يصلح للاستدلال به ولو في مورد، بل عموم السلب، وهو صالح للاستدلال به في جميع الموارد؛ لكونه بمنزلة كبرى كليّة وقاعدة عامّة.
ثمّ إنّه فرق بين هذه الآية وبين آية نفي السبيل، من جهة أنّ مقتضى تلك الآية كما ذكرنا في معناها عدم ثبوت السبيل للكافر على المؤمن من ناحية الشرع، وأمّا لو فتح المسلم سبيلًا له عليه، كما إذا أتلف ماله المحترم، فضمانه ثابت عليه، ولا ينافي الآية بوجه، والسرّ فيه أنّ نفي السبيل وقع بلسان نفي جعل اللَّه إيّاه، وهو الظاهر فيما هو من جانب الشرع ابتداءً. وأمّا هذه الآية فلسانها نفي ثبوت السبيل مطلقاً، وهو ينافي الضمان في المورد المزبور ومثله، فتدبّر.
ثمّ إنّ تعليق الحكم على الإحسان ظاهر في ارتباط نفي السبيل بحيثية الإحسان، فمرجعه إلى عدم ثبوت السبيل من ناحية الإحسان، وفي مورده المرتبط به، وأمّا السبيل بلحاظ عنوان آخر موجب للضمان، فلا مانع منه، وإن كان مقروناً بالإحسان، فلو أتلف الودعي الوديعة اختياراً وعمداً يكون ضامناً لها؛ لارتباط الضمان بما هو خارج عن الإحسان، وداخل في عنوان آخر، فلا منافاة بين الأمرين.
الموقف الثالث: في موارد تطبيق هذه القاعدة. فنقول: تارة: تلاحظ القاعدة بالنسبة إلى الإحسان بمعنى دفع الضرر ومنعه عن الغير، واخرى:
بالإضافة إلى الإحسان بمعنى جلب المنفعة وإيصالها إلى الغير على تقدير كونه إحساناً.
أمّا الأوّل: فموارده كثيرة، مثل ما إذا رأى اشتعال النّار في لباس إنسان وتوقّف طريق حفظه عن الهلاك أو الإحتراق على تمزيق لباسه وقطعه، فإنّ الممزّق القاصد للحفظ لا شبهة في كونه محسناً تنطبق عليه القاعدة، فيحكم بعدم ضمانه لذلك اللّباس، ولو خرج عن المالية بالمرّة.
ومثل ما إذا رأى توجّه السيل المخرّب والمعدم إلى منزل شخص، وتوقّف طريق حفظه على جعل بعض أثاث ذلك المنزل في مقابله ليتوجّه عنه إلى غيره، فإنّ هذا الوضع المقرون بقصد حفظ المنزل عن ورود السيل عليه وخرابه يكون إحساناً تجري فيه القاعدة، فلا يكون ضامناً للأثاث المذكور.
ومثل ما إذا ابتلي شخص بنوبة قلبيّة، وكان حفظه متوقفاً على تمزيق بعض ألبسته كذلك، وكذلك لو توقفت نجاة السفينة ومن فيها وما فيها على تخفيفها بإلقاء بعض الأموال في البحر، وفرض كون الأموال لصاحب السفينة، فإنّ هذا الإلقاء إحسان تنطبق على محسنه قاعدة الإحسان.
ومثل ما يكون متداولًا في هذه الأزمنة من توقّف نجاة الطفل الذي في رحم الامّ على إجراء العملية الجراحيّة للُامّ، وقد يترتّب عليها موت الامّ أحياناً، والأمثلة لهذا القسم كثيرة.
ولكنّ الإشكال فيه من جهة أنّ عدم الضمان في هذه الموارد إنّما هو لثبوت الإذن فيها، بل الإيجاب في بعضها من ناحية الشارع، كما في المثال الأوّل؛ فإنّ الشارع أوجب الحفظ، وتمزيق اللباس مقدّمة منحصرة لتحقّق الحفظ، ومع الإذن أو الإيجاب لا معنى لثبوت الضمان، ولو لم يكن هناك قاعدة الإحسان، فعدم ثبوت الضمان لا يكون مستنداً إلى القاعدة، بل إلى قصور دليل الضمان عن الشمول له.
إلّا أن يقال: إنّ عدم الشمول إنّما هو بلحاظ قاعدة ضمان اليد، حيث إنّها قاصرة عن إفادة الضمان في اليد المأذونة من قبل المالك أو الشارع، وأمّا بلحاظ قاعدة الإتلاف فلا مانع من الشمول والدلالة على الضمان وإن كانت اليد مأذونة.
نعم، إذا كان الإتلاف مأذوناً فيه فالظاهر عدم شمول قاعدة الإتلاف كما ذكرنا في البحث عنها ، لكنّ الظاهر أنّ الإتلاف الخارج من القاعدة هو الإتلاف المأذون فيه بعنوانه، كما إذا أذن المالك في الإتلاف.
وأمّا الموارد المتقدّمة فليس عنوان الإتلاف مأذوناً فيه ولو من قبل الشارع؛ فإنّ الشارع إنّما أوجب حفظ النفس في المثال الأوّل، وتوقّف الحفظ على تمزيق الألبسة يوجب عدم كونه متّصفاً بالحرمة مع الانحصار؛ لأنّه لا تجتمع حرمة المقدّمة المنحصرة مع وجوب ذيها، وأمّا كون المقدّمة مأذوناً فيها من قبل الشارع، فلا، إلّا أن يقال: إنّ نفس عدم الحرمة كافية في الخروج عن القاعدة، فتدبّر.
ولكنّه يندفع بأنّ الشارع أوجب حفظ النفس، ومع ذلك حكم بالضمان في ما إذا توقّف حفظها على أكل طعام الغير بدون رضاه.
وأمّا الثاني: فموارده أيضاً كثيرة، مثل الأفعال الصادرة من الأولياء، كالحاكم والأب والجدّ له، لغرض إيصال النفع إلى المولّى عليه، فاتّفق ترتّب الضرر عليه؛ فإنّه حينئذ لا ضمان على الوليّ؛ لكونه محسناً، وقد فعل الفعل باعتقاد حصول مصلحة فيه ونفع عائد إلى المولّى عليه، كما إذا اشتغل في قناة له بالحفر والإصلاح لغرض ازدياد الماء، فصار ذلك سبباً لانهدام القناة بالمرّة أو بالبعض؛ فإنّه لا يكون فيه ضمان، وكما إذا أعطى الحاكم النقود التي عنده لإجراء العبادات؛ كالصلاة للميت والحجّ مطلقاً للأجير الذي يكون ثقة عنده، فاتّفق أنّه لم يأت بتلك العبادة ومات ولم يترك مالًا؛ فإنّه لا ضمان على الحاكم؛ لكونه محسناً.
وكما إذا آجر الأب أو الجدّ له سفينة المولّى عليه أو إبله أو جمله، فغرقت السفينة وهلكت البعير أو الجمل، فلا ضمان عليه، وكذا نظائره من الموارد الكثيرة.
ولهذا القسم موارد حكموا فيها بالضمان؛ كالأمثلة المتقدّمة في معنى الإحسان، التي من جملتها ما إذا أخذ دابّة الغير فذهب بها إلى المرعى لترعى فيه فتلفت؛ فإنّه مع كونه محسناً لكنّهم حكموا فيها بالضمان، والفرق بينها وبين ما لم يحكموا فيه بالضمان هو ثبوت الإذن في التصرّف هناك وعدم ثبوته هنا، ولأجله يشكل الحكم بعدم الضمان فيها مستنداً إلى قاعدة الإحسان؛ لعدم الفرق في جريان القاعدة بين الموردين؛ ضرورة أنّه إن كان الإحسان شاملًا لجلب النفع، فأيّ فرق بين الموردين؟ مع أنّ الظاهر أنّه لا خلاف بينهم في عدم الضمان في تلك الموارد، مع أنّ شمول الإحسان لجلب المنفعة محلّ خلاف، فالإنصاف أنّ عدم الضمان في تلك الموارد لا يكون مستنداً إلى القاعدة، بل إلى عدم شمول قاعدة ضمان اليد لها بعد اختصاص موردها باليد غير المأذونة أو اليد العادية، كما أنّك عرفت أنّ الحكم بعدم الضمان في القسم الأوّل أيضاً إنّما هو لقصور دليل الضمان عن الشمول لمثله؛ سواء كان هي قاعدة ضمان اليد أو قاعدة ضمان الإتلاف، فالباقي أنّ قاعدة الإحسان إمّا تصير بلا مورد، أو يكون لها موارد قليلة على ما عرفت في القسم الأوّل، فتدبر.
تتمّة: ربما يستشكل في القاعدة بأنّ الفقهاء ذكروا في باب اللقطة أنّ الملتقط بعد اليأس عن إيصال المال إلى صاحبه يتصدّق به عنه، ومع ذلك حكموا بأنّه ضامن للمالك إذا ظهر بعد التصدّق وعلم به ولم يرض (11)، مع أنّ الملتقط لا يكون في عمله هذا إلّا محسناً محضاً، فكيف يكون ضامناً؟
واجيب عنه بأنّ الشارع حكم بجواز التصدّق مع الضمان إن ظهر صاحبه، فالتصدّق إحسان مع هذا القيد، فصرف التصدّق بدون هذا القيد لا يكون إحساناً؛ إذ لا يمكن أخذ مال الناس والتصدّق به عنهم استناداً إلى أنّه إحسان، فالتصدّق المقيّد مصداق للإحسان، وهذا الحكم لا يكون مختصّاً باللقطة، بل يجري في كلّ ما هو مجهول المالك، كالأموال المسروقة الواقعة في يده التي لا يعلم صاحبها، والدين المجهول صاحبه، والقُراضة في دكّان الصائغ وأمثالها.
وربما يستشكل فيها أيضاً بحكمهم بضمان الطبيب مطلقاً، أو في خصوص ما إذا باشر العلاج بنفسه(12)، مع أنّه لا شبهة في كونه محسناً وغرضه علاج المريض، فكيف يكون ضامناً؟
إلّا أن يقال بأنّ الحكم بالضمان في مثله مستند إلى الروايات المتعدّدة التي يستفاد منها الضمان (13) ، وهذه الروايات تكون بمنزلة المخصّص لقاعدة الإحسان، وفيه تأمّل؛ لإباء سياقها عن التخصيص، كما لا يخفى.
هذا تمام الكلام في قاعدة الإحسان.
__________________
( 1) مجمع البيان: 5/ 96- 97.
( 2) القواعد الفقهية للمحقق البجنوردي: 4/ 13.
( 3) جواهر الكلام: 27/ 146- 147.
( 4) مسالك الأفهام: 5/ 117- 118.
( 5) جامع المقاصد: 6/ 157، تذكرة الفقهاء: 2/ 256 ط الحجري.
( 6) سورة التوبة 9: 91.
( 7) العناوين: 2/ 477.
( 8) العناوين: 2/ 477- 478.
( 9) القواعد الفقهية للمحقق البجنوردي: 4/ 12.
( 10) سورة النساء 4: 141.
( 11) شرائع الإسلام: 3/ 292، تحرير الأحكام: 4/ 463، مسالك الأفهام: 12/ 517- 518.
( 12) نكت النهاية: 3/ 420- 421، اللمعة الدمشقية: 180، الروضة البهية: 10/ 108- 110، جواهر الكلام: 43/ 46.
( 13) وسائل الشيعة: 29/ 260، كتاب الديات، أبواب موجبات الضمان ب 24.
|
|
مخاطر عدم علاج ارتفاع ضغط الدم
|
|
|
|
|
اختراق جديد في علاج سرطان البروستات العدواني
|
|
|
|
|
مدرسة دار العلم.. صرح علميّ متميز في كربلاء لنشر علوم أهل البيت (عليهم السلام)
|
|
|