المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

الفقه الاسلامي واصوله
عدد المواضيع في هذا القسم 7457 موضوعاً
المسائل الفقهية
علم اصول الفقه
القواعد الفقهية
المصطلحات الفقهية
الفقه المقارن

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر
{ربنا وآتنا ما وعدتنا على‏ رسلك}
2024-04-28
ان الذي يؤمن بالله يغفر له ويكفر عنه
2024-04-28
معنى الخزي
2024-04-28
شروط المعجزة
2024-04-28
أنواع المعجزة
2024-04-28
شطب العلامة التجارية لعدم الاستعمال
2024-04-28

الأفعال التي تنصب مفعولين
23-12-2014
صيغ المبالغة
18-02-2015
الجملة الإنشائية وأقسامها
26-03-2015
اولاد الامام الحسين (عليه السلام)
3-04-2015
معاني صيغ الزيادة
17-02-2015
انواع التمور في العراق
27-5-2016


أدلّة القائلين بحجّية خبر الواحد  
  
2111   08:42 صباحاً   التاريخ: 5-9-2016
المؤلف : ناصر مكارم الشيرازي
الكتاب أو المصدر : أنوَار الاُصُول
الجزء والصفحة : ج 2 ص 401.
القسم : الفقه الاسلامي واصوله / علم اصول الفقه / مباحث الحجة /


أقرأ أيضاً
التاريخ: 5-9-2016 2327
التاريخ: 18-8-2016 898
التاريخ: 18-8-2016 1061
التاريخ: 5-9-2016 635

...[استدلّ القائلون بحجّية خبر الواحد] بالأدلّة الأربعة:

الدليل الأول: الكتاب:

فاستدلّوا منه بآيات:

1 ـ آية النبأ

قال الله تعالى: { إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6].

قال الطبرسي (رحمه الله) في مجمع البيان: «قوله «إن جاءكم فاسق» نزل في الوليد بن عقبة بن أبي معيط بعثه رسول الله (صلى الله عليه وآله) في صدقات بني المصطلق فخرجوا يتلقّونه فرحاً به وكانت بينهم عداوة في الجاهلية فظنّ أنّهم همّوا بقتله فرجع إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقال إنّهم منعوا صدقاتهم، وكان الأمر بخلافه، فغضب النبي (صلى الله عليه وآله)وهمّ أن يغزوهم فنزلت الآية»(1).

ثمّ قال: «عن ابن عبّاس ومجاهد وقتادة» ثمّ ذكر قولا آخر في شأن نزول الآية وهو لا يناسب مضمون الآية وكلمة القوم المذكورة فيها.

وقد إستشكل بعض العامّة في شأن النزول المذكور بأنّ الوليد آمن يوم فتح مكّة وكان صبيّاً.

ومن المحتمل جدّاً كون الخبر مجعولا لتنزيه الوليد وتبرئته من ناحية بعض من له صلة بالخلفاء لكونه أخاً لعثمان من جانب الاُمّ.

إن قلت: فكيف أرسله الرسول (صلى الله عليه وآله) لأخذ الزكوات مع أنّه كان فاسقاً؟

قلنا: لعلّ الوليد كان ظاهر الصلاح وكان فسقه أمراً مخفيّاً مستتراً وكان الرسول (صلى الله عليه وآله)أيضاً يعمل بحسب الظاهر ولم يكن بنائه على العمل بالغيب.

هذا مضافاً إلى أنّه يمكن أن يقال: إنّ معنى علمه (صلى الله عليه وآله) وعلم الأئمّة (عليهم السلام)بالغيب إنّهم «إذا شاؤوا أن يعلموا علموا» كما ورد في الحديث المشهور.

وأمّا الاستدلال بالآية فله ثلاثة وجوه: أحدها: الاستدلال بمفهوم الشرط ، والثاني : بمفهوم الوصف، والثالث : بمناسبة الحكم والموضوع.

وقبل ذكر هذه الوجوه ونقدها نقول: لو اُعطيت هذه الآية بيد العرف يفهم منها حجّية خبر العادل وأنّه لا ندامة في العمل به ولو لم يعلم منشأ هذه الدلالة.

ثمّ نقول: أمّا مفهوم الوصف: فإن قلنا بكبرى مفهوم الوصف فلا إشكال في مفهوم كلمة الفاسق في الآية، فتدلّ على عدم لزوم التبيّن في خبر العادل وحجّيته، لكن المشهور عدم حجّية مفهوم الوصف خصوصاً في الوصف غير المعتمد على الموصوف كما في المقام فإنّه حينئذ أشبه بمفهوم اللقب عندهم.

لا يقال: فما هو الفائدة في ذكر هذا الوصف، ولماذا لم يرد في الآية هكذا: «إذا جاءك إنسان بنبأ ... الخ»؟ لأنّه يقال: إنّه ورد للتنبيه على فسق الوليد.

لكن الإنصاف أنّ للوصف مفهوماً كما مرّ في مبحث المفاهيم خصوصاً في مثل ما نحن فيه حيث يكون في مقام إعطاء ضابطة كلّية بملاحظة صدر الآية (وهو قوله تعالى: (يا أيّها الذين آمنوا...).

والقول بكونه تنبيهاً على فسق الوليد كلام غير وجيه لأنّ الآيات لا تكون مختصّة بعصر دون عصر وبشخص دون شخص بل إنّها هدى للناس في جميع الأعصار، ولعلّ هذا هو منشأ الفهم العرفي المذكور آنفاً.

وأمّا مفهوم الشرط: فللقائلين به بيانات مختلفة:

الأوّل: أنّه تعالى علّق وجوب التبيّن على مجيء الفاسق بالنبأ، فإذا انتفى ذلك سواء انتفى بانتفاء الموضوع أي «إذا لم يجيء أحد بخبر» أو انتفى بانتفاء المحمول أي «إذا جاء شخص بخبر وكان عادلاً» ينتفي وجوب التبيّن فيستدلّ بإطلاق المفهوم لعدم وجوب التبيّن في خبر العادل وأنّه حجّة.

لكن يرد عليه: أنّ القضيّة الشرطيّة هيهنا ليس لها مفهوم لأنّها سيقت لبيان تحقّق الموضوع مثل قولك: «إن رزقت ولداً فسمّه محمّداً» بمعنى أنّ الجزاء موقوف على الشرط عقلا لا شرعاً وبجعل الشارع من دون توقّف عقلي في البين، فعند انتفاء الشرط حينئذ انتفاء الجزاء عقلي من قبيل قضيّة السالبة بانتفاء الموضوع لا السالبة بانتفاء المحمول مع وجود موضوعه (وانتفاء المحمول والحكم يكون بواسطة انتفاء ما علّق عليه من شرط أو وصف).

الثاني: ما أفاده المحقّق الخراساني (رحمه الله) وحاصله: أنّ الحكم بوجوب التبيّن عن النبأ الذي جيء به معلّق على كون الجائي به فاسقاً (لا على نفس مجيء الفاسق بالنبأ) بحيث يكون المفهوم هكذا: «إن لم يكن الجائي بالنبأ فاسقاً بل كان عادلا فلا يجب التبيّن عنه».

ويمكن الجواب عنه: بأنّه كذلك لو كانت الآية هكذا: «النبأ إن جاء به الفاسق فتبيّنوا» بأن يكون الموضوع القدر المطلق المشترك بين نبأ الفاسق والعادل لأنّ القضيّة حينئذ ليست مسوّقة لبيان تحقّق الموضوع، لكن الإشكال في أنّ مفاد الآية ليس كذلك كما هو ظاهر فالإشكال بعدم المفهوم وارد.

الثالث: ما أشار إليه المحقّق الخراساني (رحمه الله)أيضاً بقوله: «مع أنّه يمكن أن يقال: إنّ القضيّة ولو كانت مسوقة لذلك إلاّ أنّها ظاهرة في انحصار موضوع وجوب التبيّن في النبأ الذي جاء به الفاسق ...».

وحاصله: أنّ القضيّة الشرطيّة في الآية وإن كانت مسوقة لبيان تحقّق الموضوع ولكنّها ظاهرة في انحصار موضوع وجوب التبيّن بنبأ الفاسق فقط، ومقتضاه أنّه إذا انتفى نبأ الفاسق وتحقّق موضوع آخر مكانه كنبأ العادل لم يجب التبيّن عنه.

وهذا البيان والبيان السابق في مخالفتهما لظاهر الآية سيّان.

وأمّا مناسبة الحكم والموضوع: فقد اُشير إليها في كلمات الشيخ الأعظم(رحمه الله)وغيره وتوضيحها: أنّ ظاهر الآية كون الفسق موجباً لعدم الاعتماد والاعتبار، أي أنّ التبيّن يناسب عدم الاعتبار، وهذه المناسبة تقتضي عرفاً عدم وجوب التبيّن في خبر العادل المعتبر المعتمد.

هذا كلّه هو طرق الاستدلال بآية النبأ، وقد ظهر أنّ الطريق الأوّل والثالث تامّ خلافاً للطريق الثاني.

لكن قد أورد على الآية إشكالات كثيرة ربّما تبلغ إلى نيف وعشرين كما قال به الشيخ الأعظم (رحمه الله) وقال أيضاً: «إلاّ أنّ كثيراً منها قابلة للدفع»، واختار المحقّق الخراساني (رحمه الله) أربعة منها وذكرها في تعليقته على الرسائل وقد أضاف إليها بعض المعاصرين عدّة اُخرى، ونحن نذكر هنا أهمّها وهي خمسة:

الإشكال الأوّل: ما يرتبط بالتعليل الوارد في ذيل الآية، وهو أنّ مقتضى عموم التعليل وجوب التبيّن في كلّ خبر ظنّي لا يؤمن الوقوع في الندم من العمل به وإنّ كان المخبر عادلا فيعارض المفهوم، والترجيح مع ظهور التعليل.

بيانه: لو قلنا أنّ الآية الشريفة تدلّ مفهوماً على أنّ خبر العادل حجّة مطلقاً ولو لم يفد العلم لكن التعليل بقوله تعالى: {نْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ } [الحجرات: 6] دليل على أنّ الخبر الذي لا يؤمن الوقوع في الندم من العمل به ليس بحجّة، ولو كان المخبر عادلا (لأنّ العلّة قد تعمّم كما أنّها قد تخصّص) وحينئذ الترجيح مع ظهوره التعليل لكونه أقوى وآبياً عن التخصيص مضافاً إلى كونه منطوقاً لا مفهوماً.

واُجيب عنه بوجوه:

الوجه الأول: أنّ مقتضى التعليل ليس هو عدم جواز الاقدام على ما هو مخالف للواقع مطلقاً، لأنّ المراد بالجهالة هنا السفاهة وفعل ما لا يجوز فعله، لا ما يقابل العلم، ولا شبهة في أنّه لا سفاهة في الركون إلى خبر العدل والاعتماد عليه.

إن قلت: يستلزم هذا كون اعتماد الصحابة على خبر الوليد الفاسق سفيهاً، وهو كما ترى.

قلنا: قد أجاب عن هذا المحقّق النائيني (رحمه الله) بأنّه ربّما يركن الشخص إلى ما لا ينبغي الركون إليه غفلةً أو لاعتقاده عدالة المخبر، والآية هنا نزلت للتنبيه على غفلة الصحابة أو لسلب اعتقادهم عن عدالة الوليد، أي ركون الصحابة إلى خبر الوليد لم يكن من باب الإقدام على أمر سفهي بل من جهة عدم علمهم بفسق الوليد.

أقول: الجهالة في لغة العرب وإن كان قد تأتي بمعنى السفاهة ولكن الأصل في معناها هو ضدّ العلم كما نطقت به كتب اللغة، فحينئذ حمل الآية على المعنى الأوّل مشكل جدّاً، ويؤيّد ما ذكرنا ملاحظة موارد استعمال هذه الكلمة في القرآن الكريم.

الوجه الثاني: «أنّه على فرض أن يكون معنى الجهالة عدم العلم بمطابقة الخبر للواقع لا يعارض عموم التعليل للمفهوم، بل المفهوم يكون حاكماً على العموم لأنّه يقتضي إلغاء احتمال مخالفة خبر العادل للواقع وجعله محرزاً له وكاشفاً عنه، وكأنّه يقول: «نزّل خبر العادل بمنزلة العلم» فلا يشمله عموم التعليل لا لأجل تخصيصه بالمفهوم لكي يقال: إنّه يأبى عن التخصيص بل لحكومة المفهوم عليه»(2).

ويرد عليه: إنّ لسان الآية ليس لسان الدليل الحاكم ولا يساوق مفهومها قولك: «الغ احتمال الخلاف» بل تدلّ على أنّه إذا جاءكم عادل بنبأ فلا يجب التبيّن بل يجب القبول.

نعم هذا صادق بالنسبة إلى جملة من سائر الأدلّة لحجّية خبر الواحد كقوله(عليه السلام): «ما أدّيا عنّي فعنّي يؤدّيان».

الوجه الثالث: ما أجاب به شيخنا العلاّمة(رحمه الله) في الدرر وهو: «أنّ التعليل لا يدلّ على عدم جواز الاقدام بغير العلم مطلقاً بل يدلّ على عدم الجواز فيما إذا كان الاقدام في معرض حصول الندامة، واحتماله منحصر فيما لم يكن الاقدام عن حجّة فلو دلّت الآية بمفهومها على حجّية خبر العادل فلا يحتمل أن يكون الإقدام على العمل به مؤدّياً إلى الندم فلا منافاة بين التعليل ومفهوم الآية أصلا»(3).

ويمكن أن يقال في توضيح ما أفاده بأنّ الموجب للندم هو ما كان معرضاً للندامة غالباً وخبر العادل ليس كذلك، ووقوع الخطأ فيه أحياناً كوقوع الخطأ في العلم لا يوجب الندم ولا ترك العمل به.

الوجه الرابع: أنّه فرق بين الجهل والعلم في مصطلح المنطق وفي العرف واللغة فالعلم المصطلح في المنطق هو درجة المائة في المائة من اليقين، وفي مقابله الجهل المصطلح، وأمّا العلم العرفي الاُصولي فليس بتلك الدرجة بل يعدّ العمل بالظواهر وما أشبهها من العمل بالعلم عند العرف وإن لم يكن علماً قطعيّاً.

هذا كلّه بالنسبة إلى الإشكال الأوّل الوارد على الاستدلال بالآية.

الإشكال الثاني: أنّه على تقدير دلالة الآية على المفهوم يلزم خروج المورد عن مفهوم الآية لأنّ موردها وهو الإخبار عن ارتداد جماعة (وهم بنو المصطلق) من الموضوعات فلا يثبت بخبر العدل الواحد، وخروج المورد أمر مستهجن عند العرف فيكشف عن عدم المفهوم للآية المباركة.

وفيه: أوّلا: نحن في فسحة عن هذا الإشكال، لأنّ المختار حجّية خبر الواحد حتّى في الموضوعات، (إلاّ في باب القضاء لما ورد فيه من دليل خاصّ بل لابدّ فيه في بعض الموارد من قيام أكثر من اثنين من الشهود).

ثانياً: أنّ هذا ينافي إطلاق المفهوم لا أصله حيث إنّه يدلّ على حجّية خبر العادل مطلقاً، وقد قيّد هذا الإطلاق في موارد الموضوعات بضمّ عدل آخر وعدم الاكتفاء بعدل واحد، وهذا لا ينافي حجّية أصل المفهوم، فلو دلّت عليها الآية الشريفة لم يكن تقييد إطلاقه بالنسبة إلى مورده مانعاً عن تحقّقه، والذي لا يجوز في الكلام إنّما هو خروج المورد برأسه لا ما إذا كان داخلا مع قيد أو شرط.

الإشكال الثالث: أنّه لو دلّت الآية على حجّية خبر الواحد لكان الإجماع الذي إدّعاه السيّد (رحمه الله) على عدم حجّية خبر الواحد أيضاً حجّة لأنّه من مصاديق خبر الواحد، فيلزم من حجّية خبر الواحد عدم حجّيته، وهو من قبيل ما يلزم من وجوده عدمه وهو محال.

والجواب عن هذا واضح صغرى وكبرى، أمّا الكبرى: فلما مرّ من أنّ خبر الواحد لا يعمّ هذا القبيل من الإجماعات لأنّها من أقسام الإجماع الحدسي لا الحسّي.

وأمّا الصغرى: فلأنّا نعلم بأنّ ما إدّعاه السيّد المرتضى (رحمه الله) من الإجماعات مبنيّة على أصل أو قاعدة، وليست بمعنى الإجماع على مسألة خاصّة.

الإشكال الرابع: تعارض هذه الآية مع الآيات الناهيّة عن العمل بغير علم، والنسبة بينهما العموم من وجه فتتعارضان في مورد الاجتماع وهو خبر العادل الذي يوجب الظنّ بالحكم فتقدّم الآيات الناهيّة على هذه الآية لكونها أقوى ظهوراً.

والجواب عن هذا ظهر ممّا سبق في مقام التعرّض للآيات الناهيّة، فقد قلنا هناك أنّ المقصود من الظنّ الوارد في تلك الآيات هو الأوهام والخرافات التي لا أساس لها وعليه لا تعارض بينهما.

الإشكال الخامس: (وهو المهمّ) ما لا يختصّ بآية النبأ بل يرد على جميع أدلّة حجّية خبر الواحد، وهو عدم شمول أدلّة الحجّية للأخبار مع الواسطة مع أنّ المقصود من حجّية خبر الواحد هو إثبات السنّة بالأخبار التي وصلت إلينا مع الواسطة عن الحجج المعصومين (عليهم السلام).

ويمكن بيانه بوجوه:

الوجه الأوّل: دعوى انصراف الأدلّة عن الإخبار مع الواسطة.

الوجه الثاني: اتّحاد الحكم والموضوع ببيان: أنّ حجّية الخبر التي يعبّر عنها بوجوب تصديق العادل إنّما هي بلحاظ الأثر الشرعي الذي يترتّب على المخبر به، إذ لو لم يكن له أثر شرعي كانت الحجّية لغواً ولا يصحّ التعبّد به، ومن المعلوم لزوم تغاير كلّ حكم مع موضوعه فإذا لم يكن في مورد أثر شرعي للخبر إلاّ نفس وجوب التصديق الثابت بدليل حجّية الخبر لم يمكن ترتيب هذا الأثر، لما سبق من وحدة الحكم والموضوع وهو محال والمقام من هذا القبيل لأنّه إذا أخبرنا الصدوق (رحمه الله)مثلا بقوله: «قال الصفّار قال: «الإمام العسكري (عليه السلام) ...» لم يترتّب على إخبار الصدوق سوى وجوب تصديق قول الصفّار لأنّ الأثر العملي إنّما يترتّب على قول المعصوم فقط لا غير. وحينئذ فوجوب تصديق الصدوق بمقتضى آية النبأ حكم وموضوعه (أي الأثر المترتّب على خبر الصدوق) أيضاً وجوب تصديق الصفّار، فيلزم اتّحاد الحكم والموضوع، وهو محال.

وإن شئت قلت: يلزم اتّحاد الحكم والموضوع أو كون الحكم ناظراً إلى نفسه.

توضيحه: إذا قلنا بدلالة الآية على حجّية خبر الواحد يلزم أن يكون الأثر الذي بلحاظه وجب تصديق العادل (أي الأثر الذي يكون موضوعاً لحكم وجوب التصديق) نفس تصديقه من دون أن يكون في البين أثر آخر كان وجوب التصديق بلحاظه، مع أنّ وجوب التعبّد بالشيء لابدّ وأن يكون بلحاظ ما يترتّب على الشيء من الآثار الشرعيّة، وإلاّ فلو فرضنا خلوّ الشيء عن الأثر الشرعي لما صحّ إيجاب التعبّد الشرعي به، وعليه فلو كان الراوي حاكياً قول الإمام فوجوب التصديق بلحاظ ما يترتّب على قول الإمام (عليه السلام) من الآثار، كحرمة الشيء ووجوبه، ولو كان المحكي قول غيره كحكاية الصدوق (رحمه الله) قول الصفّار فالأثر المترتّب على قول الصفّار ليس إلاّ وجوب تصديقه، فيلزم اتّحاد الحكم (وجوب التصديق) والموضوع (الأثر الشرعي) وكون الحكم ناظراً إلى نفسه.

الوجه الثالث: لزوم إيجاد الحكم لموضوعه مع أنّه لابدّ من وجود الموضوع في الرتبة السابقة على الحكم، فإنّ الشيخ إذا أخبر عن المفيد(رحمه الله) وهو عن الصدوق(رحمه الله) فالمصداق الوجداني لنا هو قول الشيخ، فيجب تصديقه، وأمّا قول المفيد(رحمه الله) إلى أن ينتهي إلى الإمام فإنّما يصير مصداقاً لموضوع قولنا: «صدق العادل» بعد تصديق الشيخ (قدس سره) فيلزم إثبات الموضوع بالحكم، وهو محال.

وقد اُجيب عن هذا الإشكال: تارةً بأنّ لزوم وجود الموضوع في الرتبة السابقة على الحكم إنّما هو في القضايا الخارجيّة مع أنّ أدلّة الحجّية من القضايا الحقيقيّة الشاملة للموضوعات المحقّقة والمقدّرة، ولا مانع فيها من تحقّق الموضوع بها وشمولها لنفسها.

واُخرى بأنّه سلّمنا كون منصرف الآية الإخبار بلا واسطة إلاّ أنّ العرف يلغي الخصوصيّة.

وثالثة: بأنّ الإجماع المركّب قام على أنّ خبر الواحد إمّا حجّة مطلقاً (سواء كان مع الواسطة أو بلا واسطة) أو ليس بحجّة كذلك.

وفيه: بما أن هذه المسألة معلومة المدرك فلا فائدة في الإجماع البسيط فيها فضلا عن الإجماع المركّب.

ورابعة: بأنّ المحال إنّما هو إثبات الحكم موضوع شخص الحكم لا إثباته موضوع فرد آخر من الحكم، فإنّ خبر الشيخ المحرز بالوجدان يجب تصديقه وبتصديقه يحصل لنا موضوع آخر، وهو خبر المفيد(رحمه الله)، وله وجوب تصديق آخر وهكذا.

وخامسة: بأنّه يكفي في صحّة التعبّد كون المتعبّد به ممّا له دخل في موضوع الحكم ولا دليل على لزوم ترتّب تمام الأثر عليه، ففي ما نحن فيه حيث تنتهي سلسلة الأخبار إلى قوله (عليه السلام)فلكلّ واحد منها دخل في إثبات قوله الذي له الأثر الشرعي، وهذا المقدار كاف في صحّة التعبّد به، فليس هنا أحكام متعدّدة حتّى يستشكل باتّحاد الحكم والموضوع وغير ذلك بل هنا حكم واحد، وكلّ ما في سلسلة السند من الرجال جزء لموضوعه.

2 ـ آية النفر:

قوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } [التوبة: 122]وقد وقع البحث عنها في ثلاث مقامات: الأوّل: في تفسير الآية، الثاني: في كيفية الاستدلال بها، الثالث: في الإشكالات الواردة عليها والجواب عنها.

أمّا المقام الأوّل: فقد ذكر في تفسيرها وجوه خمسة:

الوجه الأوّل: أن يكون المراد من النفر فيها الخروج إلى الجهاد غاية الأمر إنّها تنهى

المؤمنين أن ينفروا إلى الجهاد كافّة وتأمرهم بالانقسام إلى طائفتين: فطائفة منهم تنفر إلى الجهاد، وطائفة اُخرى تبقى عند الرسول للتفقّه في الدين.

والقائلون بهذا الوجه استشهدوا له بصدر الآية وهو قوله تعالى: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً) فإنّه يدلّ على أنّهم كانوا ينفرون كافّة إلى الجهاد وذلك لكي لا تشملهم الآيات النازلة في المنافقين القاعدين، فتنهيهم الآية عن هذا النحو من الخروج وتقول: الجهاد مع الجهل واجب كالجهاد مع العدوّ.

وهذا الوجه مخالف لظاهر الآية من بعض الجهات: أوّلا: أنّه يحتاج إلى تقدير جملة «وتبقى طائفة» وثانياً: لابدّ من رجوع الضمير في قوله «ليتفقّهوا» إلى الطائفة الباقية مع أنّ الظاهر رجوعه إلى الفرقة النافرة المذكورة في الآية، وثالثاً: من ناحية رجوع الضمير في «ولينذروا» إلى الطائفة الباقية أيضاً مع أنّ ظاهره أيضاً الرجوع إلى النافرة.

الوجه الثاني: أن يكون المراد من النفر النفر إلى الجهاد أيضاً مع عدم التقدير المذكور في الوجه الأوّل، فيرجع الضميران إلى الطائفة النافرة، أي التفقّه والإنذار يرجعان إليهم، والله تعالى حثّهم على التفقه في ميدان الحرب لترجع إلى الفرقة المتخلّفة فتحذّرها.

إن قلت: كيف يمكن التفقّه في ميدان الجهاد.

قلت: يحصل التفقّه هناك بالتبصّر والتيقّن بما يريهم الله من الظهور على المشركين ونصرة الدين وظهور صدق قوله تعالى: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 249] وكذلك قوله تعالى: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الأنفال: 65] وهذا الوجه أيضاً مخالف للظاهر من وجهين:

الوجه الأوّل أنّه خلاف ظاهر التفقّه في الدين وخلاف قوله: «ليتفقّهوا» بصيغة المضارع، فإنّه ظاهر في الاستمرار لا في التفقّه في مقطع خاصّ وزمان معيّن (هو زمان الجهاد) كما أنّ كلمة الدين أيضاً ظاهرة في جمّ غفير من المسائل والمعارف الدينيّة لا في خصوص صفة من صفات الباري تعالى كقدرته ونصرته.

الوجه الثاني: أنّه يبقى السؤال في الآية بعدُ من أنّه لماذا منع من نفر الجميع للتفقّه في الدين؟

لأنّ المفروض عدم وجود تقدير في الآية، فالواجب على الجميع النفر للتفقّه هناك.

الوجه الثالث: أن يكون المراد من النفر النفر إلى محضر الرسول (صلى الله عليه وآله) لتحصيل الدين، ومعنى الآية: لا يجوز لمؤمني البلاد أن يخرجوا كافّة من أوطانهم إلى المدينة للتفقّه للزوم اختلال النظام.

وهذا الوجه وإن يوجب التخلّص من إشكال التقدير ولكن يرد عليه:

أوّلا: أنّ النهي عن شيء إنّما يصحّ فيما إذا كان الشخص في معرض إرتكاب ذلك الشيء، وهو ممنوع في مورد الآية، لأنّا لا نرى من نفر جميع المسلمين إلى محضر الرسول للتفقّه أثراً في الأخبار والتاريخ.

ثانياً: أنّه خلاف اتّحاد سياق هذه الآية مع الآية السابقة واللاحقة لأنّ موردها هو الجهاد.

الوجه الرابع: أن تكون الآية ناظرة إلى جماعة من الصحابة كانوا يتوجّهون من المدينة إلى القبائل لتبليغ الأحكام والناس يهدون إليهم هدايا وعطايا، وصار هذا الأمر سبباً لإتّهامهم بعدم الخلوص في نيّاتهم فتركوا هذه الرسالة، فنزلت الآية.

ويرد على هذا الوجه أيضاً أنّه لا يساعد صدر الآية الظاهر في أنّ جميع المؤمنون كانوا يخرجون من المدينة، بينما المفروض في هذا الوجه خروج جماعة منهم، هذا أوّلا.

وثانياً: لازم هذا الوجه أن يكون النفر للتعليم لا للتفقّه.

الوجه الخامس: أن نلتزم بالتفكيك بين النفر الأوّل وبين النفر الثاني، فيكون الأوّل بمعنى النفر إلى الجهاد، والثاني بمعنى النفر إلى التفقّه، فمعنى الآية: أيّها المؤمنون لا يخرج جميعكم إلى الجهاد بل تخرج طائفة إليه وطائفة إلى التعلّم والتفقّه.

وفيه: أنّه خلاف وحدة السياق فإنّها تقتضي أن يكون النفر في الآية بمعنى واحد.

فقد ظهر من جميع ما ذكرنا أنّه يلزم إرتكاب خلاف الظاهر على كلّ حال.

لكن الإنصاف أنّ أخفّها مؤونة وأقلّها محذوراً هو التفسير الأوّل كما يؤيّده ما ورد في ذيل الآية من شأن النزول فإنّها وردت بعد نزول آيات الجهاد وذمّ المنافقين لأجل تركهم الجهاد، فكان المؤمنون يخرجون إلى الجهاد جميعاً لئلا يعمّهم ذمّ الآيات، فنزلت الآية ونهت عن خروج الجميع، هذا أوّلا.

ويؤيّده ثانياً: ما رواه الشيخ الطبرسي (رحمه الله) في مجمع البيان (وأسنده إلى الإمام الباقر (عليه السلام) مباشرةً وبقوله: «قال الباقر (عليه السلام)» مع أنّه ممّن لا يقول بحجّية خبر الواحد) قال: قال الباقر (عليه السلام): «كان هذا حين كثر الناس فأمرهم الله سبحانه أن تنفر منهم طائفة وتقيم طائفة للتفقّه وأن يكون الغزو نوباً»(4).

فقد صرّحت هذه الرّواية بما قدّرت في الآية بناءً على هذا التفسير، أي قوله(عليه السلام): «وتقيم طائفة» وقد اختار هذا التفسير كثير من المفسّرين.

هذا كلّه بالنسبة إلى نفس الآية مع قطع النظر عن الرّوايات الواردة في ذيلها.

وهنا إشكال مهمّ ينشأ من روايات كثيرة تبلغ اثنتا عشرة رواية تشهد بأنّ النفر في الآية بمعنى النفر إلى التفقّه لا الجهاد، وأكثرها واردة في مورد قوم أخبروا بموت إمامهم المعصوم فيسأل الراوي عن أنّهم كيف يصنعون؟ فيتلو الإمام في الجواب هذه الآية لبيان أنّ الوظيفة حينئذ هي الخروج في الطلب والنفر إلى التفقّه في معرفة الإمام اللاحق.

منها: ما رواه يعقوب بن شعيب عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قلت: ليسوا إذا هلك الإمام فبلغ قوماً له بحضرته؟ قال: «يخرجون في الطلب فإنّهم لا يزالون في عذر ما داموا في الطلب، قلت: يخرجون كلّهم أو يكفيهم أن يخرجوا بعضهم؟ قال إنّ الله عزّ وجلّ يقول: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } [التوبة: 122] قال هؤلاء المقيمون في السعة حتّى يرجع إليهم أصحابهم»(5).

ومنها: ما رواه عبد الأعلى قال: قلت: لأبي عبدالله (عليه السلام) بلغنا وفاة الإمام؟ وقال: «عليكم النفر. قلت: جميعاً؟ قال: إنّ الله يقول: (فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَة مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ) الآية. قلت: نفرنا فمات بعضنا في الطريق؟ قال فقال: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ } [النساء: 100] قلت: فقدمنا المدينة فوجدنا صاحب هذا الأمر ... الخ»(6).

إلى غير ذلك ممّا ورد في هذا المعنى.

ويمكن الجواب عنه بأنّ استدلال الإمام (عليه السلام) في هذه الرّوايات ربّما يكون بما يستنتج من الآية وبملاك يستفاد منها، وهو أنّ تحصيل العلم والتفقّه في الدين واجب كفائي (كما أنّ الجهاد واجب كفائي والنفر مقدّمة له) فالرواية تقول حينئذ: إذا كان التعلّم واجباً ووجب امتثال هذا الوجوب فلا فرق بين الإقامة والخروج لأجل تحقّق الامتثال، ولا يخفى أنّ هذا لا ينافي التفسير الأوّل وكون النفر بمعنى النفر إلى الجهاد، هذا أوّلا.

وثانياً: غاية ما تقتضيه هذه الرّوايات كونها قرينة على أنّ النفر في الآية استعمل في النفر إلى الجهاد والنفر إلى التفقّه معاً، أي أنّه استعمل في أكثر من معنى، وهو جائز على المختار عند وجود القرينة أو استعمل في معنى جامع بينهما.

هذا كلّه في تفسير الآية، أي المقام الأوّل من البحث، وستعرف إن شاء الله أنّ الاختلاف في هذا المقام ليس له أثر كثير في ما نحن بصدده.

أمّا المقام الثاني: فهو في كيفية الاستدلال بهذه الآية لحجّية خبر الواحد...

فنقول: الاستدلال بها يكون منّا يقوم على أساس دلالة قوله تعالى: {لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} على وجوب الحذر عند إنذار المتفقّه في الدين مطلقاً سواء حصل منه العلم أو لا، وهو معنى حجّية خبر الواحد تعبّداً.

وأمّا كيفية دلالة كلمة «لعلّ» على الوجوب فهي من وجوه شتّى:

الوجه الأول: أن يقال: إنّ كلمة «لعلّ» وإن كانت مستعملة في معناها الحقيقي، وهو إنشاء الترجّي حتّى فيما إذا وقعت في كلامه تعالى، ولكن بما أن الداعي إلى الترجّي يستحيل في حقّه تعالى لأنّ منشأه عبارة عن الجهل والعجز فلا محالة تكون مستعملة بداعي طلب الحذر، وإذا ثبت كون الحذر مطلوباً ثبت وجوبه لأنّه لا معنى لحسن الحذر ورجحانه بدون وجوبه، فإنّ المقتضي للحذر إن كان موجوداً فقد وجب الحذر وإلاّ فلا يحسن من أصله.

أقول: إنّ هذا الوجه تامّ إلاّ من ناحية ما ذكر في مقدّمته من استحالة الترجّي في حقّه تعالى لأنّ المأخوذ في مادّة الترجّي هو الحاجة إلى شرائط غير حاصلة، وعدم حصول الشرائط تارةً يكون من جانب المتكلّم وهو الله تعالى في الآية، واُخرى من ناحية المخاطب وهو الناس فيها، ففي ما نحن فيه وإن كانت الشرائط حاصلة من جانبه تعالى إلاّ أنّها غير حاصلة من جانب الناس، فاستعملت «لعلّ» في معناها الحقيقي.

وعلى كلّ حال يستفاد من كلمة «لعلّ» في الآية مطلوبيّة الحذر (وهي مساوقة مع الوجوب) سواء كانت مستعملة في معناها الحقيقي أو في معناها المجازي.

الوجه الثاني: أنّ الحذر جعل غاية للإنذار الواجب (لظهور الأمر بالإنذار في قوله تعالى (وَلِيُنذِرُوا) في الوجوب) وغاية الواجب إذا كانت من الأفعال الاختياريّة واجبة كما أنّ مقدّمة الواجب واجبة لوجوب الملازمة بينهما.

الوجه الثالث: أنّ وجوب الإنذار والتفقّه مع عدم وجوب الحذر يستلزم اللغو.

الوجه الرابع: الإجماع المركّب، فإنّ الاُمّة بين من لا يقول بحجّية خبر الواحد أصلا، وبين من يقول بوجوب العمل به، فالقول برجحان العمل به دون وجوبه قول بالفصل.

أقول: لا إشكال في بطلان بعض هذه الوجوه أو كونها قابلة للمناقشة، وهو الوجه الثالث والرابع، أمّا الرابع فلعدم حجّية الإجماع البسيط في مثل المقام الذي يكون ـ على الأقل ـ محتمل المدرك فضلا عن الإجماع المركّب.

وأمّا الوجه الثالث: فلعدم لزوم اللغويّة لإمكان أن يكون وجوب الإنذار لغاية حصول العلم، ويكفي، في نفي اللغوية ترتّب الأثر في الجملة فيبقى الوجه الأوّل والثاني، ولا بأس بهما.

لكن يرد على الاستدلال بهذه الآية إشكالات عديدة لا يتمّ الاستدلال بها من دون دفعها:

الأوّل: أنّ الآية وردت في مقام بيان وظيفة المتفقّهين النافرين لا وظيفة قومهم بعد الرجوع إليهم.

ويمكن الذبّ عنه مضافاً إلى عدم وروده على الوجه الثاني من الوجوه المذكورة في تفسيرها (لأنّ غاية الواجب واجبة على الباقين) بأنّ ظاهر الآية أنّها في مقام بيان وظيفة كلتا الطائفتين طائفة المنذرين بالكسر وطائفة المنذرين بالفتح، فتطلب من الاُولى الإنذار لظهور الأمر (ولينذروا) في الوجوب ومن الثانية القبول لما مرّ في الوجه الأوّل من دلالة كلمة «لعلّ» على معنى الطلب.

الثاني: أنّ الظاهر من الآية هو حجّية قول المجتهد بالنسبة إلى مقلّديه، لأنّ التفقّه والإنذار بما تفقّه من وظيفة المجتهد لا الناقل للرواية، لأنّ وظيفة الناقل النقل والإخبار لا تعيين تكليف المخبر به، فلا ربط للآية بحجّية خبر الواحد الذي هو محلّ الكلام.

إن قلت: كيف، مع أنّه لم يكن للفقه والاجتهاد بالمعنى المصطلح في عصر الأئمّة عين ولا أثر؟

قلنا: لا إشكال في وجود هذا المعنى في ذلك الزمان على حدّه البسيط وفي دائرة تخصيص العام وتقييد المطلق وتقديم النصّ على الظاهر وشبه ذلك، والإنصاف أنّ مفاد الآية ليس على حدّ الاجتهاد المصطلح ولا على حدّ البيان الساذج للخبر، بل المستفاد منها عرفاً كون الناقلين للأخبار من قبيل ناقلي فتاوي المجتهدين والمنصوبين من قبلهم لنقل المسائل العمليّة وتوضيحها لمقلّديهم في يومنا هذا، ولا إشكال في قابليتهم للإنذار ولا إشكال أيضاً في تحقّق الإنذار بتوسّطهم أي يتحقّق الإنذار بمجرّد نقل الرواة عن الأئمّة (عليهم السلام) ولا يشترط فيه التفقّه بالمعنى المصطلح كما لا يشترط في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بلا ريب.

الثالث: أنّ المأخوذ في التفقّه والإنذار في الآية عنوان الطائفة، وهي عبارة عن الجماعة وإخبار الجماعة يوجب العلم، فتكون الآية خارجة عن محلّ البحث.

والجواب عنه واضح، لأنّ المقصود من الطائفة هو معناها الحقيقي نظير المراد في قوله تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ) وفي قولك: «سل العلماء ما جهلت» وقولك: «راجع الأطباء في مرضك» وقوله تعالى: {وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ } [الشعراء: 151] وقوله تعالى: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا } [هود: 113] ونظيرها ممّا لا شكّ في أنّ المخاطب فيه كلّ واحد من الأفراد والمصاديق مستقلا لا الجماعة بما هي جماعة.

الرابع: أنّ الآية ناظرة إلى اُصول الدين وتحصيل المعارف الدينيّة بقرينة الرّوايات التي وردت في ذيلها الدالّة على وظيفة المؤمنين في تعيين الإمام اللاحق بعد وفاة الإمام السابق، وقد مرّ بعضها في البحث عن المقام الأوّل، ولا إشكال في اعتبار حصول العلم في الاُصول، فتكون الآية خارجة عن محلّ البحث.

والجواب عنه: أنّ الآية عامّة تعمّ الفروع أيضاً لأنّه لا وجه لتخصيصها بالأصول، أمّا الرّوايات فإنّها غاية ما تثبته أنّ اُصول الدين مشمولة للآية ولا تدلّ على انحصارها بها.

3 ـ آية الكتمان

وهي قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة: 159] وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ...} [البقرة: 174]

وتقريب الاستدلال بهما: أنّ حرمة الكتمان ووجوب الإظهار يلازم وجوب القبول وألاّ يكون لغواً.

نعم إنّه تامّ بالنسبة إلى الآية الاُولى، لأنّ الموضوع فيها هو مجرّد الكتمان، وأمّا الآية الثانية فيمكن الإشكال فيها بأنّ مجرّد الكتمان فيها ليس موضوعاً للحرمة بل أخذ في الموضوع أنّهم يشترون بكتمان الحقّ ثمناً قليلا، فالصالح للاستدلال هو الآية الاُولى فقط.

 

واستشكل فيها أوّلا: بأنّها واردة في اُصول العقائد كما يشهد به شأن نزولهما.

واُجيب عنه: بأنّها مطلقة تعمّ الفروع والاُصول معاً لأنّ الآية تشمل ما إذا كتم فقيه حرمة الربا مثلا بالوجدان، ولا دخل لخصوصيّة المورد لأنّ المورد ليس مخصّصاً.

وثانياً: أنّه من الممكن أن تكون فائدة حرمة الكتمان ووجوب الإظهار هو حصول العلم من قولهم لأجل تعدّدهم لا العمل بقولهم وإن لم يحصل العلم من إخبارهم.

وإن شئت قلت: إنّا فهمنا وجوب القبول من برهان اللغويّة لا من اللفظ حتّى يدّعي الإطلاق بالنسبة إلى مورد عدم حصول العلم.

4 - آية أهل الذكر

وهي قوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } [النحل: 43] وقد وردت في موضعين من الكتاب الكريم: أحدهما: سورة النحل {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] والثاني: سورة الأنبياء {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } [الأنبياء: 7] (والفرق بين الآيتين منحصر في كلمة «من» فإنّها وردت في الاُولى لا الثانية).

وهاتان الآيتان بشهادة صدرهما نزلتا في من كانوا يعترضون على النبي(صلى الله عليه وآله)بأنّه لِمَ خلق بشراً أو لا يكون معه ملك، فأجابتا عن هذا الإشكال بأنّ هذا ليس أمراً جديداً بل كان الأمر كذلك في الأنبياء السلف، وإن أردتم شاهداً على هذا فاسألوا أهل الذكر، فمورد الآية مسألة من مسائل أصل النبوّة (الذي هو من جملة اُصول الدين) وهي أنّه هل يمكن أن يكون النبي (صلى الله عليه وآله) بشراً أو لا؟

والاستدلال بهذه الآية لحجّية خبر الواحد يرجع أيضاً إلى برهان اللغويّة، وتقريبه: أنّ ظاهر الأمر بالسؤال هو وجوبه، ووجوبه ملازم لوجوب القبول، وإلاّ يكون وجوب السؤال لغواً، وإطلاقه يشمل السؤال الذي يحصل من جوابه العلم وما يحصل من جوابه الظنّ، أي يجب القبول سواء حصل العلم أم لا؟

ولكن يرد عليه:

أوّلا: ما أورده كثير من الأعلام وهو أنّه يمكن أن تكون فائدة وجوب السؤال هي حصول العلم بالسؤال فيخرج عن اللغويّة.

ويمكن دفع هذا الإشكال بإطلاق وجوب السؤال، لأنّ لازمه إطلاق وجوب القبول.

وثانياً: أنّ مفادها أخصّ من المدّعى، لأنّها تدلّ على وجوب القبول في خصوص مورد السؤال، بينما محلّ النزاع مطلق أخبار الثقة سواء كان في قبال سؤال أم لم يكن.

والجواب عنه واضح وهو أنّ الفهم العرفي يوجب إلغاء الخصوصيّة عن مورد السؤال.

وثالثاً: أنّ قوله تعالى «أهل الذكر» ظاهر في أهل الخبرة، فيدلّ على حجّية قول أهل الخبرة لوجود تفاسير مختلفة لأهل الذكر في كلمات المفسّرين فبعضهم فسّره بالقرآن لأنّ من أسامي القرآن الذكر كما ورد في قوله تعالى: {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ } [الأنبياء: 50] وبعضهم فسّره بأهل الكتاب من علماء اليهود والنصارى، والمقصود من السؤال منهم حينئذ هو السؤال عن علائم النبوّة الموجودة في التوراة والإنجيل، وثالث فسّره بأهل العلم بأخبار الماضين، ورابع فسّره بالأئمّة صلوات الله عليهم لأنّ من أسامي الرسول أيضاً الذكر كما ورد في قوله تعالى:

{قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا * رَسُولًا} [الطلاق: 10، 11] وقد أُيّد هذا التفسير بروايات وردت في هذا المعنى.

لكن الصحيح أنّ المراد منه أهل العلم عامّة وأنّ كلّ واحد من هذه الاحتمالات بيان لمصداق من المصاديق وتفسير للآية بالمصداق كما هو المتداول في كثير من كتب التفسير وكذا الرّوايات، وذلك باعتبار أنّ الذكر في اللغة بمعنى العلم مطلقاً ومن دون تقيّد وخصوصيّة، ويشهد عليه ملاحظة موارد استعمال هذه المادّة ومشتقّاتها في القرآن الكريم كقوله تعالى:

{لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} فيكون المراد من كلمة «الأهل» كلّ من كان عالماً وخبيراً في موضوع من الموضوعات ومسألة من المسائل، ولا وجه لتخصيصه بمصداق دون مصداق.

وعليه يكون الاستدلال بهذه الآية في باب التقليد أولى ممّا نحن فيه.

لكن المحقّق الخراساني (رحمه الله) حاول الجواب عن هذا الإشكال بأنّ مثل زرارة ومحمّد بن مسلم وغيرهما من أجلاّء الرواة كانوا من أهل العلم، فيجب قبول روايتهم، وإذا وجب قبول روايتهم وجب قبول رواية من ليس من أهل العلم بالإجماع المركّب.

والإنصاف أنّه غير تامّ، لأنّ المستفاد من الآية وجوب السؤال عن مثل زرارة وقبول روايته من حيث إنّه من أهل العلم والخبروية لا بما أنّه راو وناقل للرواية حتّى يتعدّى عنه إلى سائر الرواة.

وإن شئت قلت: هو دليل على جواز رجوع الجاهل إلى العالم وإمضاء لبناء العقلاء في هذا الأمر، وأمّا الإجماع المركّب فلا إشكال في عدم حجّيته في مثل هذه المسألة.

ورابعاً: أنّ الآية وردت في اُصول العقائد ولا كلام في عدم حجّية خبر الواحد فيها.

ويمكن الجواب عن هذا أيضاً بأنّ الآية مطلقة تشمل الاُصول والفروع، غاية الأمر لابدّ في الاُصول من إضافة قيد من الخارج وهو اعتبار حصول العلم.

فقد ظهر أنّ جميع ما اُورد على الاستدلال بهذه الآية مدفوعة إلاّ الإشكال الثالث، وهو أنّها واردة في حجّية قول أهل الخبرة، ولهذا استدلّ كثير من العلماء بها في باب الاجتهاد والتقليد بل هي من أهمّ أدلّة ذلك الباب.

هذا كلّه في الإستدلال لحجّية خبر الواحد بالكتاب، وهو الدليل الأوّل.

الدليل الثاني: السنّة:

ويتضمّن الاستدلال بروايات متواترة وردت أكثرها في الباب التاسع والباب الحادي عشر من أبواب صفات القاضي في الوسائل، إلاّ أنّ مضامينها مختلفة، وهي طوائف:

الطائفة الاُولى: الأخبار الآمرة بالرجوع إلى أشخاص معينين من الرواة والأصحاب أو إلى كتبهم:

منها: ما رواه شعيب العقرقوفي قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ربّما إحتجنا أن نسأل عن الشيء فمن نسأل؟ قال: «عليك بالأسدي يعني أبا بصير»(7).

ومنها: ما رواه يونس بن عمّار عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال له في حديث: «أمّا ما رواه زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) فلا يجوز لك أن تردّه»(8).

ومنها: ما رواه المفضّل بن عمر أنّ أبا عبدالله (عليه السلام) قال للفيض بن المختار في حديث: «فإذا أردت حديثنا فعليك بهذا الجالس، وأومى إلى رجل من أصحابه فسألت أصحابنا عنه. فقالوا: زرارة بن أعين»(9).

وتقريب الاستدلال بهذه الطائفة أنّها وإن لم تصرّح بحجّية خبر الثقة بنحو الكبرى الكلّية ولكن يستفاد ذلك من مجموعها بل من كلّ فرد منها لضرورة عدم خصوصيّة لأشخاصهم فلم توجب حجّية كلامهم إلاّ وثاقتهم وأمانتهم على الدين والدنيا، فمن كان من غير هؤلاء وكان بصفاتهم كان خبره حجّة ومعتبراً.

الطائفة الثانية: الأخبار التي تدلّ على حجّية خبر الثقات بنحو الكبرى الكلّية من دون اختصاص بأشخاص معينين:

منها: ما جاء في مقبولة عمر بن حنظلة من قوله (عليه السلام): «الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما، ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر»(10).

فيستفاد من تعبيره بـ «أصدقهما» أنّ الصدق يوجب الحجّية ولذلك يكون مرجّحاً عند التعارض.

ومنها: ما رواه محمّد بن مسلم عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قلت له: ما بال أقوام يروون عن فلان وفلان عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لا يتّهمون بالكذب فيجيء منكم خلافه؟ قال: «إنّ الحديث ينسخ كما ينسخ القرآن»(11).

ومنها: ما رواه الحسن بن الجهم عن الرضا (عليه السلام) قال: قلت له: تجيئنا الأحاديث عنكم مختلفة، فقال: «ما جاءك عنّا فقس على كتاب الله عزّ وجلّ وأحاديثنا، فإن كان يشبههما فهو منّا وإن لم يكن يشبههما فليس منّا»، قلت: يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين ولا نعلم أيّهما الحقّ، قال: «فإذا لم تعلم فموسّع عليك بأيّهما أخذت»(12).

فلا يخفى أنّ الحكم في هذه الرّوايات تعلّق بعناوين كلّية وهي: «الصادق في الخبر» في الرّواية الاُولى، و «غير المتّهم بالكذب» في الرّواية الثانية، و «الثقة» في الرّواية الثالثة، فصدر الحكم على نهج القضيّة الحقيقيّة.

ومنها: ما رواه عبدالعزيز بن المهتدي والحسن بن علي بن يقطين جميعاً عن الرضا (عليه السلام): قال: قلت: لا أكاد أصل إليك أسألك عن كلّ ما أحتاج إليه من معالم ديني، أفيونس بن عبدالرحمن ثقة آخذ عنه ما أحتاج إليه من معالم ديني؟ فقال: «نعم»(13).

فقد أمضى الإمام في هذه الرّواية ما كان مرتكزاً في ذهن الراوي من حجّية قول الثقة لأنّ الراوي سأل عن وثاقة يونس بن عبدالرحمن وعن أخذ معالم دينه منه لكونه ثقة، والإمام (عليه السلام)أجاب عن كلا السؤالين بقوله «نعم»، فكأنّه أمضى الصغرى والكبرى جميعاً.

ومنها: ما ورد في التوقيع الشريف الوارد على القاسم بن العلاء: «فإنّه لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك فما يرويه عنّا ثقاتنا، قد عرفوا بأنّا نفاوضهم سرّنا ونحملهم إيّاه إليهم»(14).

فإنّ الحكم فيها بعدم جواز التشكيك أيضاً تعلّق بموضوع الثقة.

ومنها: ما رواه أحمد بن إسحاق عن أبي الحسن (عليه السلام) سألته وقلت: من اُعامل؟ وعمّن آخذ؟ وقول من أقبل؟ فقال: «العمري ثقتي فما أدّى إليك عنّي فعنّي يؤدّي وما قال لك عنّي

فعنّي يقول، فاسمع له وأطع فإنّه الثقة المأمون» قال: وسألت أبا محمّد (عليه السلام) عن مثل ذلك فقال: «العمري وابنه ثقتان فما أدّيا إليك عنّي فعنّي يؤدّيان، وما قالا لك فعنّي يقولان، فاسمع لهما وأطعهما فإنّهما الثقتان المأمونان»(15).

الإنصاف أنّ قوله (عليه السلام): «فإنّه الثقة المأمون» أو قوله (عليه السلام) في ذيل الحديث: «فإنّهما الثقتان المأمونان» بمنزلة تعليق حرمة الخمر بقولك: «لأنّه مسكر» فيدلّ على أنّ الميزان في حجّية خبر الواحد كون المخبر ثقة.

الطائفة الثالثة: روايات اُخرى ذات تعابير مختلفة تدلّ على كلّ حال على حجّية خبر الثقة:

منها: ما رواه إسحاق بن يعقوب قال: سألت محمّد بن عثمان العمري أن يوصل لي كتاباً قد سألت فيه عن مسائل أشكلت عليّ، فورد التوقيع بخطّ مولانا صاحب الزمان (عليه السلام): «أمّا ما سألت عنه أرشدك الله وثبّتك ـ إلى أن قال ـ : وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا فإنّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة الله وأمّا محمّد بن عثمان العمري فرضى الله عنه وعن أبيه من قبل، فإنّه ثقتي وكتابه كتابي»(16).

فهذه الرّواية وإن استدلّ بها في باب التقليد وباب ولاية الفقيه لكن يمكن أن يستدلّ بها أيضاً في باب الحديث والأخبار بالأحاديث خصوصاً مع ملاحظة التعبير الوارد فيها بـ «رواة أحاديثنا»، فإنّها في الجملة تدلّ على حجّية خبر الواحد وإن اعتبرنا فيها شرائط وخصوصيّات، ولا يخفى أنّ محلّ النزاع حجّية خبر الواحد في الجملة، كما يمكن إدراج هذه الرّواية في الطائفة الثانية لما ورد في ذيلها: «فإنّه ثقتي وكتابه كتابي».

ومنها: ما رواه أبو العبّاس الفضل بن عبدالملك قال سمعت أبا عبدالله (عليه السلام)يقول: «أحبّ الناس إليّ أحياءً وأمواتاً أربعة: يزيد بن معاوية الجبلي، وزرارة، ومحمّد بن مسلم، والأحول وهم أحبّ الناس إليّ أحياءً وأمواتاً»(17).

فإنّها تدلّ على حجّية خبر الثقة في الجملة بالدلالة الالتزاميّة كما لا يخفى.

ومنها: ما رواه علي بن مهزيار قال: قرأت في كتاب لعبدالله بن محمّد إلى أبي الحسن (عليه السلام)اختلف أصحابنا في رواياتهم عن أبي عبدالله (عليه السلام) في ركعتي الفجر في السفر فروى بعضهم صلّها في المحمل وروى بعضهم لا تصلّها إلاّ على الأرض، فوقّع (عليه السلام): «موسّع عليك بأيّة عملت»(18).

هذه هي الطوائف الثلاثة من الأخبار الدالّة على حجّية خبر الواحد.

واستشكل فيها أوّلا: بإمكان المنع عن كونها متواترة لأنها مع كثرتها منقولة عن عدّة كتب خاصّة لا تبلغ حدّ التواتر مع أنّ الشرط في تحقّق التواتر كونها متواترة في جميع الطبقات، والتواتر في جميعها ممنوع مع ما عرفت.

وثانياً: بأنّه لو سلّمنا كونها متواترة إلاّ أنّه لا يوجد بين الأخبار خبر يكون جامعاً لعامّة الشرائط، أي دالا على حجّية قول مطلق الثقة، لأنّ القدر المتيقّن من تلك الأخبار هو الخبر الحاكي من الإمام بلا واسطة مع كون الراوي من الفقهاء نظراء زرارة ومحمّد بن مسلم وأبي بصير، ومعلوم أنّه ليس بينها خبر واجد لجميع الشرائط حتّى شرط عدم الواسطة.

ولكن يمكن الجواب عن كلا الإشكالين: أمّا عن الأوّل: فبأنّه لو لم تكن الأخبار متواترة فلا أقلّ من وجود خبر بينها محفوف بالقرائن القطعيّة أو الاطمئنانيّة يدلّ على حجّية خبر مطلق الثقة، وهذا المقدار لا يضرّنا ولا بأس به لأنّ المهمّ هو القطع بالصدور.

وأمّا عن الثاني: فبأنّه أوّلا: كلّ واحدة من الطوائف الثلاثة للأخبار قطعية الصدور وإن لم يكن بينها مصداق للخبر المتواتر في المصطلح، ولا إشكال في دلالة بعض هذه الطوائف على حجّية خبر الثقة مطلقاً.

ثانياً: أنّ جميع الرّوايات (باستثناء روايتين أو ثلاث روايات ممّا ورد فيها نظير مضمون: «ما أدّيا عنّي فعنّي يؤدّيان») ظاهرة في الأعمّ من الأخبار مع الواسطة ويكون القدر المتيقّن حينئذ ما كانت سلسلة الرواة فيها من الفقهاء نظراء زرارة من دون فرق بين كونها مع الواسطة أو بلا واسطة، فلو ظفرنا على رواية جامعة لهذه الشرائط ويكون مفادها حجّية خبر الثقة مطلقاً يثبت المطلوب سواء كانت مع الواسطة أو بدون الواسطة.

ويمكن أن تكون من هذا القبيل رواية أحمد بن إسحاق المذكورة آنفاً، لأنّ رجال السند فيها كلّهم من أجلاّء الأصحاب الذين يعتنى بشأنهم، ولا إشكال أيضاً أنّ قوله (عليه السلام): «فإنّه الثقة المأمون» وما ورد في ذيل هذا الحديث من قوله (عليه السلام): «فإنّهما الثقتان المأمونان» بمنزلة الكبرى الكلّية يدلّ على حجّية خبر الثقة مطلقاً.

فقد ثبت من جميع ما ذكرنا أنّ الاستدلال على حجّية خبر الثقة بالسنّة في محلّه.

الدليل الثالث: الإجماع:

وتارةً يراد به الإجماع القولي من العلماء، واُخرى الإجماع العملي منهم بل من كافّة المسلمين ويمكن التعبير عنه بسيرة المسلمين أيضاً، وثالثة السيرة العقلائيّة.

أمّا الإجماع بالمعنى الأوّل فهو ممنوع لكون المسألة خلافيّة، وكذا الإجماع بالمعنى الثاني، ولو سلّمنا تحقّق صغرى الإجماع لكنّه ليس بحجّة لأنّ مدارك المسألة معلومة، فطائفة منهم تمسّكوا بالدليل العقلي، واُخرى بالأدلّة النقليّة من الآيات والرّوايات.

أمّا الإجماع بمعنى السيرة العقلائيّة: فهو استقرار طريقة العقلاء طرّاً على الرجوع إلى خبر الثقة مطلقاً، وهو حجّة ما لم يردع عنه الشارع.

إن قلت: يكفي في الردع الآيات الناهيّة عن اتّباع غير العلم.

قلنا: قد مرّ جوابنا عن هذه الآيات بأنّ المقصود من الظنّ الوارد فيها الوهم والخرافة.

إن قلت: إنّ استقرار سيرة العقلاء على العمل بخبر الثقة إنّما هو من جهة حصول الوثوق والاطمئنان منه نوعاً وإلاّ فلا خصوصيّة لخبر الثقة ولا لغيره أصلا فعملهم بخبر الثقة خصوصاً في الاُمور المهمّة إنّما يكون فيما إذا أفاد الوثوق والاطمئنان لا بما هو هو، فلا يثبت بها حجّية الظنّ مطلقاً ولو لم يحصل إلى حدّ الوثوق، ولو سلّمنا شمولها لمطلق الظنّ إلاّ أنّ دائرتها تختصّ بالأخبار بلا واسطة، ولو فرضنا شمولها للأخبار مع الواسطة أيضاً في زماننا هذا، إلاّ أنّ رجوعها إلى عصر الأئمّة المعصومين (عليهم السلام) غير ثابت.

قلنا: لو راجعنا سيرة العقلاء في اُمورهم العامّة غير الشخصية كتقسيم ضريبة ماليّة وتوزيعها بين الفقراء ونحو ذلك ممّا يصنع به في دائرة واسعة لعلمنا أنّهم يكتفون في تعيين الفقراء وتشخيص الموضوعات والمصاديق بأخبار الثقات مطلقاً ولو لم يحصل الاطمئنان المقارب للعلم، بل ولو كان الخبر مع الواسطة فيكتفي مثلا بوثيقة لتعيين الفقير الفلاني التي اُرسلت من جانب شخص موثّق، كما أنّه المتعارف في الحوالات البنكيّة فإنّها تقبل من حامليها بمجرّد كونهم موثّقين مع أنّ احتمال مجعوليتها موجود، بل على هذا يدور رحى الحياة الاعتياديّة اليوميّة، وعليه أيضاً مدار المراجعات إلى التاريخ والأخبار الماضية فيكتفي فيها بتأليفات الموثّقين والكتب المعتبرة الموجودة من دون الإتّكاء على حصول يقين أو اطمئنان وإلاّ لا طريق لنا للوصول إلى أخبار الماضين والاعتبار منها أصلا.

وإن شئت فاختبر نفسك فيما إذا أردت تقسيم غلّة الأوقاف أو سهم الإمام وشبهها في مصارفها لا سيّما إذا كانت كثيرة فإنّك سوف تعرف أنّه لا مناصّ لك من قبول خبر الثقات في هذه الاُمور ولو لم يحصل العلم أو الاطمئنان.

وأمّا وجود هذه السيرة في عصر الأئمّة (عليهم السلام) فيشهد له ملاحظة الأسئلة الواردة من الرواة وتقريرات الأئمّة لهم التي مرّت جملة منها ضمن نقل الأخبار الدالّة على حجّية خبر الثقة.

ثمّ إنّ مخالفة أمثال السيّد المرتضى(رحمه الله) لا تضرّنا في المقام، أي ليست مضرّة بالإجماع المصطلح وذلك لجهتين:

الاُولى: لعلّ مخالفتهم كانت من ناحية الضغط الوارد من جانب المخالفين واعتراضهم بأنّه لو كان خبر الواحد حجّة عندكم فكيف لا تعملون بأخبار الآحاد الواردة من طرقنا مع عدم إمكان جرح رواتهم من جانب هؤلاء؟

الثانية: أنّه يمكن حمل مخالفتهم بالنسبة للأخبار غير نقيّة السند المرويّة من غير الثقات من أصحاب الأئمّة أو في الكتب غير المعتمدة، لأنّه لا شكّ في أنّهم كانوا يعملون بالأخبار الموجودة في الكتب المعتبرة للشيعة ويستندون إليها في فتاويهم، نعم كان وجه عملهم بها اعتقادهم بأنّها محفوفة بقرائن قطعية أو اطمئنانيّة وهي ممنوعة عندنا فهم مشتركون معنا في أصل حجّية أخبار الثقات الموجودة في الكتب المعتبرة المعتمدة عليها للشيعة (التي هي محلّ الكلام في ما نحن فيه) إنّما الاختلاف في وجه الحجّية فمخالفتهم ليست مضرّة بثبوت الإجماع على العمل بها.

ثمّ إنّ المهمّ في الجواب عن الآيات الناهيّة التي قد يتوهّم رادعيتها للسيرة العقلائيّة هو ما

مرّ من أنّ المراد من الظنّ الوارد فيها هو الوهم والخرافة التي ليست مبنية على أساس برهاني متين.

وأجاب عنه المحقّق الخراساني (رحمه الله) بوجوه كلّها غير تامّة:

أحدها: أنّها واردة إرشاداً إلى عدم كفاية الظنّ في اُصول الدين.

وقد مرّ سابقاً أنّ هذا الجواب صحيح بالنسبة إلى بعض الآيات لا جميعها.

ثانيها: أنّها منصرفة عن الظنّ الذي قام الدليل على حجّيته.

وفيه: أنّه مجرّد دعوى بلا شاهد.

ثالثها: أنّ رادعيّة الآيات عن سيرة العقلاء دوريّة لأنّ رادعيّة الآيات بعمومها متوقّفة على حجّية هذا العموم، وحجّيته موقوفة على عدم كون السيرة مخصّصة له إذ لو كانت مخصّصة له لم يبق لها عموم حتّى تكون بعمومها حجّة رادعة عن السيرة، وعدم كون السيرة مخصّصة لعموم الآيات أيضاً موقوف على عموميتها فكون الآيات رادعة عن السيرة متوقّف على عدم كون السيرة مخصّصة، بينما عدم كون السيرة مخصّصة لها أيضاً متوقّف على كون الآيات رادعة عنها، وهو دور محال.

أقول: العجب من هذا البيان لأنّ القضيّة على العكس فإنّ المقتضى لحجّية العمومات والإطلاقات خصوصاً في المخصّص المنفصل موجود والمانع عنها يحتاج إلى دليل بخلاف السيرة لأنّها ليست حجّة في حدّ ذاتها بل يتحقّق المقتضي لحجّيتها بإمضاء الشارع وعدم ردعها.

وإن شئت قلت: السيرة العقلائيّة في حدّ ذاتها ناقصة من حيث الحجّية لا تتمّ إلاّ بإمضاء الشارع ولكن ظهور العام حجّة تامّة إلاّ أن يمنع عنه مانع، فما دام لم يثبت المانع نأخذ بهذا الظهور، وأمّا السيرة فليست كذلك، فإنّها إذا لم يثبت إمضاء الشارع بقيت غير حجّة، فحجّية العمومات ليست متوقّفة على إثبات عدم كون السيرة مخصّصة، ولكن حجّية السيرة تتوقّف على إثبات إمضاء الشارع وعدم كون الآيات رادعة.

الدليل الرابع: العقل:

وتقريره من وجوه:

الوجه الأوّل: العلم الإجمالي بصدور جملة كثيرة من الأخبار الموجودة في الكتب المعتبرة المشتملة على الأحكام الإلزاميّة الوافية بمعظم الفقه بحيث لو علم تفصيلا ذاك المقدار لأنحلّ علمنا الإجمالي بثبوت التكاليف بين الرّوايات وسائر الأمارات إلى العلم التفصيلي بالتكاليف في مضامين الأخبار الصادرة المعتبرة والشكّ البدوي في ثبوت التكليف في مورد سائر الأمارات غير المعتبرة، ولازم ذلك وجوب العمل على وفق جميع الأخبار المثبتة وجواز العمل على طبق النافيّة منها فيما إذا لم يكن في المسألة أصل مثبت للتكليف من قاعدة الاشتغال أو الاستصحاب.

ويرد على هذا الوجه:

أوّلا: أنّ مقتضى هذا الوجه هو الأخذ بالأخبار احتياطاً لا حجّيتها بالخصوص وأنّ العلم الإجمالي يقتضي هذا المقدار من العمل، ومن المعلوم أنّ الأخذ من باب الاحتياط يختلف عن الأخذ بها من باب الحجّية فإنّ الحجّة تخصّص وتقيّد وتقدّم على معارضها مع الرجحان وتوجب جواز إسناد الحكم إلى الشارع وجواز قصد الورود، بخلاف الأخذ بها احتياطاً فإنّه لا يترتّب عليه هذه الآثار.

وثانياً: أنّه يقتضي حجّية أخبار الثقات وغير الثقات جميعاً مع أنّ المدّعى هو حجّية خبر الثقة فقط.

ولكن يمكن الجواب عن هذا الإشكال بأنّ هنا دائرتين من العلم الإجمالي الكبير والصغير، وإذا ظفرنا بالمقدار المعلوم بالإجمال في الدائرة الصغيرة لأنحلّ العلم الإجمالي من دائرته الكبيرة إلى الدائرة الصغيرة، نظير ما إذا علمنا إجمالا بوجود شاة محرّمة في خصوص السود من الغنم، وعلمنا أيضاً بوجود شاة محرّمة في مجموع القطيع من السود والبيض جميعاً، فإذا عزلنا الشاة المحرّمة من السود تنحلّ دائرة العلم الإجمالي من مجموع القطيع إلى مقدار السود منها.

وقد يتوهّم انحلال هذا العلم الإجمالي الكبير بالعلم الإجمالي الصغير، أي بالظفر على القدر المتيقّن والمعلوم بالإجمال في أخبار الثقات.

وأجاب عنه شيخنا الأعظم الأنصاري(رحمه الله) بدعوى أنّه لو عزلنا بمقدار المعلوم بالإجمال من أطراف الصغير، أي الأخبار الموجودة في الكتب المعتبرة، وضممنا الباقي إلى باقي الأطراف من العلم الإجمالي الكبير (أي سائر الأمارات الظنّية) لكان العلم الإجمالي باقياً، وهذا دليل على عدم انحلاله.

ولكن شيخنا العلاّمة الحائري(رحمه الله) في الدرر قال: بعدم صحّة هذه الدعوى (دعوى الشيخ (رحمه الله)) واعتبر لعدم الانحلال المذكور وجود علم إجمالي آخر بالنسبة إلى سائر الأمارات وإليك نصّ كلامه: «ومن المعلوم عدم صحّة هذه الدعوى إلاّ بعد العلم بالتكاليف زائدة على المقدار المعلوم في الأخبار الصادرة إذ لولا ذلك لما حصل العلم بعد عزل طائفة من الأخبار لإمكان كون المعلوم بتمامه في تلك الطائفة التي عزلناها ... إلى أن قال: نعم يمكن منع العلم زائداً على ما حصل لنا من الأخبار الصادرة»(19).

أقول: الإنصاف صحّة دعوى الشيخ (رحمه الله) في بيان ما هو المعيار في تشخيص ما هو من أطراف العلم الإجمالي والمعرفة بعدم انحلاله، إذ لا حاجة إلى ملاحظة سائر الأمارات مستقلا وعلى حدّها بل يمكن أن لا يحصل العلم الإجمالي بملاحظتها مستقلا ولكنّه يحصل بعد الضمّ من باب تراكم الظنون وعدم كونه من قبيل ضمّ العدم إلى العدم.

ويؤيّد هذا ما أفاده المحقّق النائيني (رحمه الله) في المقام وحاصله: إنّ هيهنا علوم إجماليّة ثلاثة: العلم الإجمالي الأكبر، والعلم الإجمالي الكبير، والعلم الإجمالي الصغير، والمراد بالعلم الإجمالي الأكبر ما كان دائرة احتمال انطباق المعلوم بالإجمال مطلق مظنون التكليف الإلزامي ومشكوكه وموهومه سواء كان منشأ هذه الاحتمالات هي الأخبار الموجودة في الكتب المعتبرة أو سائر الأمارات الظنّية أو شيء آخر، والمراد بالعلم الإجمالي الكبير هو ما كان أطرافه خصوص الأمارات الظنّية، والمراد بالعلم الإجمالي الصغير هو خصوص ما كان أطرافه موجودة في الكتب المعتبرة، والصحيح هو أنّ الإجمالي الأكبر ينحلّ بالكبير لأنّه لو عزلنا بمقدار المعلوم بالإجمال عن أطراف العلم الإجمالي الكبير وضممنا الباقي إلى باقي أطراف العلم الإجمالي الأكبر الذي أطرافه عبارة عن جميع ما هو مظنون الحرمة والوجوب ومشكوكهما وموهومهما سواء كان من الأخبار أو من سائر الأمارات الظنّية أو من أي سبب آخر لا يبقى علم إجمالي آخر في البين وينعدم، وهذا علامة انحلال العلم الإجمالي الأكبر بالكبير، وأمّا الكبير فلا ينحلّ بالصغير، لأنّه لو عزلنا بمقدار المعلوم بالإجمال من أطراف العلم الإجمالي الصغير ـ أي الأخبار الموجودة في الكتب المعتبرة ـ وضممنا الباقي إلى باقي الأطراف من العلم الإجمالي الكبير، أي سائر الأمارات الظنّية، لكان العلم الإجمالي باقياً، وهذا علامة عدم انحلاله(20).

الوجه الثاني: وهو ما حكي عن صاحب الوافية من أنّه لا شكّ في تكليفنا بالأحكام الشرعيّة وخصوصاً الواجبات الضروريّة مثل الصّلاة والصّوم والحجّ والزّكاة وغير ذلك من الضروريات، ولا شكّ أيضاً في بقاء التكليف بهذه الاُمور إلى قيام يوم القيامة، ومن المعلوم أنّ أجزاء هذه الاُمور وشرائطها وموانعها لا تثبت إلاّ بالخبر الواحد الموجود في الكتب، ولو لم يكن حجّة وجاز ترك العمل به لخرجت هذه الاُمور عن حقائقها وما كنّا نعرف أنّ هذه الاُمور ما هي؟ وهذا ينافي كونها ضروريّة وبقاء التكليف بها إلى يوم القيامة.

أقول: إنّ كلامه هذا مشتمل على مقدّمتين: الاُولى: كون سلسلة من العبادات واجبة بضرورة من الدين إلى يوم القيامة، الثانية: أنّ لها أجزاء وشرائط مبثوثة في كتب الأخبار.

ويرد عليه:

أوّلا: أنّه لا فرق بينه وبين الوجه السابق إلاّ أنّ دائرته أضيق منه مع أنّه لا دليل على هذا التضييق لأنّا نعلم بدخول غير العبادات أيضاً في أطراف العلم الإجمالي.

وإن شئت قلت: لازم كلامه انحصار حجّية خبر الواحد بالعبادات وعدم حجّيته في مثل المعاملات والحدود والديّات، وهو كما ترى.

وثانياً: ما مرّ في الجواب عن الوجه الأوّل من أنّ هذا الدليل لا يثبت إلاّ لزوم الأخذ بخبر الواحد من باب الإحتياط لا الحجّية بالمعنى الذي يكون مخصّصاً للعمومات ومقيّداً للمطلقات والذي لأجله يكون الإسناد إلى الله تعالى جائزاً.

وثالثاً: عدم شمولها للأخبار النافيّة واختصاصها بالمثبتة.

ورابعاً: حجّية أخبار غير الثقات وعدم اعتبار الوثاقة مع أنّ كلّ من قال بحجّية خبر الواحد اعتبر، قيوداً مثل قيد الوثاقة أو كون الخبر في الكتب المعتبرة، اللهمّ إلاّ أن يقال بانحلال العلم الإجمالي بخصوص أخبار الثقات أو ما في الكتب المعتبرة.

وخامساً: ما مرّ أيضاً في الوجه الأوّل من أنّ دائرة العلم الإجمالي أوسع من هذا المقدار لكون جميع الأمارات الظنّية من الشهرات والإجماعات المنقولة داخلة فيها.

الوجه الثالث: ما ذكره المحقّق النحرير صاحب الحاشية (الشيخ محمّد تقي(رحمه الله)أخو صاحب الفصول) في حاشيته على المعالم وهو أنّ وجوب العمل بالكتاب والسنّة ثابت بالإجماع والضرورة والأخبار المتواترة، ولا شكّ في بقاء هذا التكليف بالنسبة إلينا أيضاً بنفس الأدلّة المذكورة، وحينئذ فإن أمكن الرجوع إليهما على نحو يحصل منهما العلم بالحكم أو الظنّ الخاصّ به فهو، وإلاّ فالمتّبع هو الرجوع إليهما على وجه يحصل الظنّ بالطريق أو بالحكم، وإذاً يجب العمل بالروايات التي يظنّ بصدورها للظنّ بوجود السنّة فيها(21).

والفرق بين هذا الوجه والوجهين السابقين أنّ متعلّق العلم الإجمالي في هذا الوجه هو ما ورد في الكتاب والسنّة، وفي الوجهين السابقين هو الأحكام الواقعيّة.

والصحيح في الجواب عنه أن يقال: إن كان المراد من السنّة هذه الأخبار الحاكيّة لقول المعصوم (عليه السلام) أو فعله أو تقريره الموجودة في كتب الحديث بما هي هي، أي أنّ لهذه الأخبار موضوعيّة فوجوب الرجوع إليها بهذا الوجه أوّل الكلام، وإن كان المراد أنّها بما هي طريق إلى أحكام الله الواقعيّة وبما أنّا نعلم بصدور كثير منها فإن أمكن الاحتياط والإتيان بجميع الأخبار فيرجع إلى الوجه الأوّل ويكون الجواب هو الجواب، وإن لم يمكن الاحتياط فيرجع إلى دليل الانسداد ..

نتيجة البحث في حجّية خبر الواحد:

قد تلخّص من جميع ما ذكرنا من أدلّة حجّية خبر الواحد أنّ الأدلّة التامّة الدلالة أو المقبولة عندنا أربعة:

أحدها: آية النبأ حيث تدلّ على حجّية خبر العادل من باب مفهوم الوصف بل تدلّ على حجّية خبر الثقة بقرينة التعليل الوارد فيها.

ثانيها: آية النفر، وهي منصرفة إلى حجّة خبر الثقة.

ثالثها: الأخبار التي إن لم نقل بتواترها فلا أقلّ من كونها محفوفة بالقرائن القطعيّة، وهي تدلّ على حجّية مطلق خبر الثقة أيضاً.

رابعها: (وهو العمدة) بناء العقلاء، فإنّه قائم على حجّية الأخبار الموثوق بها وإن لم يكن المخبر ثقة، أي الملاك عندهم هو الوثوق بالمخبر به لا المخبر، وهذا الوثوق يثبت تارةً من طريق وثاقة المخبر، واُخرى من طريق وثاقة الكتب، وثالثة يحصل من عمل المشهور (الشهرة الفتوائيّة أو الروائيّة)، ورابعة من طريق علوّ المضامين كما في الصحيفة السجّاديّة ونهج البلاغة، وخامسة من طريق أنّ الخبر يكون من الأخبار التي لا داعي فيها على الكذب.

ثمّ إنّه هل الملاك عندهم هو الوثوق الشخصي أو النوعي؟

لا إشكال في أنّ الميزان في الاحتجاجات والمسائل الاجتماعيّة هو الوثوق النوعي، وأمّا المسائل الشخصية فيكون الملاك فيها هو الوثوق الشخصي.

______________

1. مجمع البيان: ج 9، ص 132.

2. راجع فوائد الاُصول: ج 3، ص 172.

3. راجع فوائد الأصول، ج 2، ص 385 ـ 386، طبع جماعة المدرّسين.

4. مجمع البيان: ج 3، ص 83.

5. البرهان: ج 2، ص 172.

6. المصدر السابق: ص 173.

7. وسائل الشيعة: الباب 11، من أبواب صفات القاضي، ح 15.

8. المصدر السابق: ح17.

9. المصدر السابق: ح19.

10. المصدر السابق: الباب 9، من أبواب صفات القاضي، ح 1.

11. وسائل الشيعة: ح 4، الباب 9 من أبواب صفات القاضي.

12. المصدر السابق: ح 40.

13. المصدر السابق: الباب 11، من أبواب صفات القاضي، ح 33.

14. المصدر السابق: ح 40.

15. وسائل الشيعة: ح 4، الباب 11، من أبواب صفات القاضي.

16. المصدر السابق: ح 9.

17. المصدر السابق: ح 18.

18. وسائل الشيعة: ح 44، الباب 9، من أبواب صفات القاضي.

19. درر الفوائد: ج 2، ص 396، طبع جماعة المدرّسين.

20. فوائد الاُصول: ج 3، ص 199 ـ 200، طبع جماعة المدرّسين

21. هداية المسترشدين: ص 391، (حكى عنه في فرائد الاُصول: ج 1، ص 172، طبع جماعة المدرّسين).




قواعد تقع في طريق استفادة الأحكام الشرعية الإلهية وهذه القواعد هي أحكام عامّة فقهية تجري في أبواب مختلفة، و موضوعاتها و إن كانت أخصّ من المسائل الأصوليّة إلاّ أنّها أعمّ من المسائل الفقهيّة. فهي كالبرزخ بين الأصول و الفقه، حيث إنّها إمّا تختص بعدّة من أبواب الفقه لا جميعها، كقاعدة الطهارة الجارية في أبواب الطهارة و النّجاسة فقط، و قاعدة لاتعاد الجارية في أبواب الصلاة فحسب، و قاعدة ما يضمن و ما لا يضمن الجارية في أبواب المعاملات بالمعنى الأخصّ دون غيرها; و إمّا مختصة بموضوعات معيّنة خارجية و إن عمّت أبواب الفقه كلّها، كقاعدتي لا ضرر و لا حرج; فإنّهما و إن كانتا تجريان في جلّ أبواب الفقه أو كلّها، إلاّ أنّهما تدوران حول موضوعات خاصة، و هي الموضوعات الضرريّة و الحرجية وبرزت القواعد في الكتب الفقهية الا ان الاعلام فيما بعد جعلوها في مصنفات خاصة بها، واشتهرت عند الفرق الاسلامية ايضاً، (واما المنطلق في تأسيس القواعد الفقهية لدى الشيعة ، فهو أن الأئمة عليهم السلام وضعوا أصولا كلية وأمروا الفقهاء بالتفريع عليها " علينا إلقاء الأصول وعليكم التفريع " ويعتبر هذا الامر واضحا في الآثار الفقهية الامامية ، وقد تزايد الاهتمام بجمع القواعد الفقهية واستخراجها من التراث الفقهي وصياغتها بصورة مستقلة في القرن الثامن الهجري ، عندما صنف الشهيد الأول قدس سره كتاب القواعد والفوائد وقد سبق الشهيد الأول في هذا المضمار الفقيه يحيى بن سعيد الحلي )


آخر مرحلة يصل اليها طالب العلوم الدينية بعد سنوات من الجد والاجتهاد ولا ينالها الا ذو حظ عظيم، فلا يكتفي الطالب بالتحصيل ما لم تكن ملكة الاجتهاد عنده، وقد عرفه العلماء بتعاريف مختلفة منها: (فهو في الاصطلاح تحصيل الحجة على الأحكام الشرعية الفرعية عن ملكة واستعداد ، والمراد من تحصيل الحجة أعم من اقامتها على اثبات الاحكام أو على اسقاطها ، وتقييد الاحكام بالفرعية لإخراج تحصيل الحجة على الاحكام الأصولية الاعتقادية ، كوجوب الاعتقاد بالمبدء تعالى وصفاته والاعتقاد بالنبوة والإمامة والمعاد ، فتحصيل الدليل على تلك الأحكام كما يتمكن منه غالب العامة ولو بأقل مراتبه لا يسمى اجتهادا في الاصطلاح) (فالاجتهاد المطلق هو ما يقتدر به على استنباط الاحكام الفعلية من أمارة معتبرة أو أصل معتبر عقلا أو نقلا في المورد التي لم يظفر فيها بها) وهذه المرتبة تؤهل الفقيه للافتاء ورجوع الناس اليه في الاحكام الفقهية، فهو يعتبر متخصص بشكل دقيق فيها يتوصل الى ما لا يمكن ان يتوصل اليه غيره.


احد اهم العلوم الدينية التي ظهرت بوادر تأسيسه منذ زمن النبي والائمة (عليهم السلام)، اذ تتوقف عليه مسائل جمة، فهو قانون الانسان المؤمن في الحياة، والذي يحوي الاحكام الالهية كلها، يقول العلامة الحلي : (وأفضل العلم بعد المعرفة بالله تعالى علم الفقه ، فإنّه الناظم لأُمور المعاش والمعاد ، وبه يتم كمال نوع الإنسان ، وهو الكاسب لكيفيّة شرع الله تعالى ، وبه يحصل المعرفة بأوامر الله تعالى ونواهيه الّتي هي سبب النجاة ، وبها يستحق الثواب ، فهو أفضل من غيره) وقال المقداد السيوري: (فان علم الفقه لا يخفى بلوغه الغاية شرفا وفضلا ، ولا يجهل احتياج الكل اليه وكفى بذلك نبلا) ومر هذا المعنى حسب الفترة الزمنية فـ(الفقه كان في الصدر الأول يستعمل في فهم أحكام الدين جميعها ، سواء كانت متعلقة بالإيمان والعقائد وما يتصل بها ، أم كانت أحكام الفروج والحدود والصلاة والصيام وبعد فترة تخصص استعماله فصار يعرف بأنه علم الأحكام من الصلاة والصيام والفروض والحدود وقد استقر تعريف الفقه - اصطلاحا كما يقول الشهيد - على ( العلم بالأحكام الشرعية العملية عن أدلتها التفصيلية لتحصيل السعادة الأخروية )) وتطور علم الفقه في المدرسة الشيعية تطوراً كبيراً اذ تعج المكتبات الدينية اليوم بمئات المصادر الفقهية وبأساليب مختلفة التنوع والعرض، كل ذلك خدمة لدين الاسلام وتراث الائمة الاطهار.


لأعضاء مدوّنة الكفيل السيد الصافي يؤكّد على تفعيل القصة والرواية المجسّدة للمبادئ الإسلامية والموجدة لحلول المشاكل المجتمعية
قسم الشؤون الفكرية يناقش سبل تعزيز التعاون المشترك مع المؤسّسات الأكاديمية في نيجيريا
ضمن برنامج عُرفاء المنصّة قسم التطوير يقيم ورشة في (فنّ الٕالقاء) لمنتسبي العتبة العباسية
وفد نيجيري يُشيد بمشروع المجمع العلمي لحفظ القرآن الكريم