أقرأ أيضاً
التاريخ: 2-4-2017
2978
التاريخ: 2024-10-17
1269
التاريخ: 5-7-2017
3691
التاريخ: 23-3-2022
1779
|
1 . نجران العاصمة الدينية للمسيحية في الجزيرة
كانت نجران ولاية تابعة للدولة الرومانية ، يحكمها أسقف من قِبل هرقل مع رؤساء قبائلها ، والمشهور فيهم بنو عبد المدان . وكان ارتباطهم بهرقل وثيقاً فهو يدافع عنهم وينفق عليهم ، وقد بعث لهم بصليب كبير من ذهب .
وفى نجران كانت قصة أصحاب الأخدود التي ذكرها الله تعالى في سورة البروج فقال : وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ . وَالْيوْمِ الْمَوْعُودِ . وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ . قُتِلَ أَصْحَابُ الآخْدُودِ . النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ . إِذْ هُمْ عَلَيهَا قُعُودٌ . وَهُمْ عَلَى مَا يفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ .
قال القمي في تفسيره : 2 / 413 : « كان سببهم أن الذي هيج الحبشة على غزو اليمن ذو نواس ، وهو آخر من ملك من حمير ، تهوَّد واجتمعت معه حمير على اليهودية وسمى نفسه يوسف ، وأقام على ذلك حيناً من الدهر ، ثم أُخبر أن بنجران بقايا قوم على دين النصرانية ، وكانوا على دين عيسى وعلى حكم الإنجيل ، ورأس ذلك الدين عبد الله بن بريا ، فحمله أهل دينه على أن يسير إليهم ويحملهم على اليهودية ويدخلهم فيها ، فسار حتى قدم نجران فجمع من كان بها على دين النصرانية ثم عرض عليهم دين اليهودية والدخول فيها فأبوا عليه ، فجادلهم وعرض عليهم وحرص الحرص كله ، فأبوا عليه وامتنعوا من اليهودية والدخول فيها واختاروا القتل ، فخد لهم أخدوداً جمع فيه الحطب وأشعل فيه النار ، فمنهم من أحرق بالنار ، ومنهم من قتل بالسيف ، ومثَّل بهم كل مثلة ! فبلغ عدد من قتل وأحرق بالنار عشرين ألفاً ، وأفلت رجل منهم يدعى دوس ذو ثعلبان على فرس له وركضه واتبعوه حتى أعجزهم في الرمل ، ورجع ذو نواس إلى ضيعته في جنوده فقال الله : قُتِلَ أَصْحَابُ الأخْدُودِ » .
فأمر هرقل عامله ملك الحبشة أن يغزو اليمن ثأراً لشهداء نجران ، فغزا اليمن وهزم ذا نواس الذي ألقى نفسه في البحر وغرق ، وحكموا اليمن إلى زمن سيف بن ذي يزن . قال المسعودي في مروج الذهب : 1 / 89 إن المسيحيين أصحاب الأخدود « كانوا مؤمنين موحِّدين ، لا على رأى النصرانية في هذا الوقت » . لكن أهل نجران تبنوا بعد ذلك عقيدة هرقل في أن المسيح ابن الله .
2 . رسالة النبي « صلى الله عليه وآله » إلى أسقف نجران وأهلها
لما كتب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى ملوك العالم بعد الحديبية ، أرسل عتبة بن غزوان ، وعبد الله بن أبي أمية ، والهدير بن عبد الله ، وصهيب بن سنان ، إلى نجران وحواشيها ، وكتب معهم إلى أساقفة نجران يدعوهم إلى رفض الأقانيم والأنداد والالتزام بالتوحيد وعبادة الله تعالى . ونص كتابه ( صلى الله عليه وآله ) كما يلي : « باسم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب . من محمد النبي رسول الله إلى أسقف نجران وأهل نجران : أسلمٌ أنتم ، فإني أحمد إليكم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، أما بعد فإني أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد ، وأدعوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد ، وإن أبيتم فالجزية ، فإن أبيتم آذنتكم بحرب ، والسلام . وقيل : كتب لهم آية : قُلْ يا أَهْلَ الْكتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كلِمَةٍ سَوَاءٍ بَينَنَا وَبَينَكمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللهَ وَلا نُشْرِك بِهِ شَيئًا وَلا يتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ » . آل عمران : 64 .
والأسقف أصلها أبيسكوبوس يونانية بمعنى الناظر ، وكان الأسقف أبو حارثة بن علقمة ، الشخص الأول ، والباقون دون رتبته . فلما قرأ الأسقف الكتاب فزع وارتاع وقام وقعد ، وشاور أهل الحجى والرأي منهم ، فقال شرحبيل وكان ذا لب ورأى بنجران : قد علمت ما وعد الله إبراهيم في ذرية إسماعيل من النبوة ، فما يؤمنك أن يكون هذا الرجل وليس لي في النبوة رأي ، ولو كان أمر من أمور الدنيا أشرت عليك فيه وجهدت لك .
فبعث الأسقف إلى كل واحد واحد من أهل نجران ، فتشاوروا وكثر اللغط وطال الحوار والجدال ، فاجتمع رأيهم على أن يبعثوا وفداً يأتي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فيرجع بخبره . فوفدوا إليه في ستين راكباً وفيهم ثلاثة عشر رجلاً من أشرافهم وذوى الرأي والحجى منهم ، وثلاثة يتولون أمرهم : العاقب واسمه عبد المسيح أمير الوفد وصاحب مشورتهم الذي لا يصدرون إلا عن رأيه ، والسيد واسمه الأيهم ، وهو ثمالهم وصاحب رحلهم ، وأبو حارثة بن علقمة أسقفهم الأول وحبرهم وإمامهم وصاحب مدراسهم ، وهو الأسقف الأعظم ، قد شرفه ملك الروم ومولوه وبنوا له الكنائس وبسطوا له الكرامات ، لما بلغهم من علمه واجتهاده في دينه . فلما توجهوا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) جلس أبو حارثة على بغلة وإلى جنبه أخ له يقال له كرز إذ عثرت بغلته ، قال : تعس الأبعد يريد محمداً ( صلى الله عليه وآله ) ! فقال له أبو حارثة : بل أنت تعست ! فقال له : ولم يا أخ ؟ فقال : والله إنه النبي الذي كنا ننتظره ! فقال كرز : فما يمنعك وأنت تعلم هذا أن تتبعه ؟ فقال : ما صنع بنا هؤلاء القوم شرفونا ومولونا وأكرمونا وقد أبوا إلا خلافه ، ولو فعلت نزعوا كل ما تري ! فأضمر عليه منه أخوه كرز حتى أسلم بعد ذلك وكان كرز يرتجز ويقول :
إليك يغدو قلقاً وضينها * معترضاً في بطنها جنينها
مخالفاً دين النصارى دينها
مكاتيب الرسول « صلى الله عليه وآله » 2 / 489 ملخصاً .
3 . أمهل النبي « صلى الله عليه وآله » وفدهم ثلاثاً ثم ناظرهم
في الإختصاص للمفيد « رحمه الله » / 112 ، عن محمد بن المنكدر عن أبيه قال : « لما قدم السيد والعاقب أسقفا نجران في سبعين راكباً وافداً على النبي ( صلى الله عليه وآله ) كنت معهم فبينا كرز يسير وكرز صاحب نفقاتهم ، إذ عثرت بغلته فقال : تعس من نأتيه الأبعد يعنى النبي ( صلى الله عليه وآله ) ! فقال له صاحبه وهو العاقب : بل تعست وانتكست ! فقال : ولم ذلك ؟ قال : لأنك أتعست النبي الأمى أحمد ، قال : وما علمك بذلك ؟ قال : أما تقرأ من المفتاح الرابع من الوحي إلى المسيح : أن قل لبنى إسرائيل : ما أجهلكم تتطيبون بالطيب لتطيبوا به في الدنيا عند أهلها وأهلكم وأجوافكم عندي كالجيفة المنتنة ! يا بني إسرائيل ، آمنوا برسولي النبي الأمى الذي يكون في آخر الزمان ، صاحب الوجه الأقمر والجمل الأحمر ، المشرب بالنور ، ذي الجناب الحسن والثياب الخشن ، سيد الماضين عندي وأكرم الباقين عَلَي ، المستن بسنتي ، والصائر في دارجتي ، والمجاهد بيده المشركين من أجلي ، فبشر به بني إسرائيل ومر بني إسرائيل أن يعزروه وأن ينصروه .
قال عيسى صلى الله عليه : قدوس قدوس ، من هذا العبد الصالح الذي قد أحبه قلبي ولم تره عيني ؟ قال : هو منك وأنت منه وهو صهرك على أمك ، قليل الأولاد كثير الأزواج ، يسكن مكة من موضع أساس وطى إبراهيم ، نسله من مباركة ، وهى ضرة أمك في الجنة ، له شأن من الشأن ، تنام عيناه ولا ينام قلبه ، يأكل الهدية ولا يقبل الصدقة ، له حوض من شفير زمزم إلى مغيب الشمس حيث يغرب ، فيه شرابان من الرحيق والتسنيم ، فيه أكاويب عدد نجوم السماء ، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبداوذلك بتفضيلى إياه على سائر المرسلين ، يوافق قوله فعله وسريرته علانيته ، فطوبى له وطوبى لأمته ، الذين على ملته يحيون وعلى سنته يموتون ومع أهل بيته يميلون ، آمنين مؤمنين مطمئنين مباركين ويظهر في زمن قحط وجدب فيدعوني ، فترخى السماء عزاليها حتى يرى أثر بركاتها في أكنافها ، وأبارك فيما يضع فيه يده .
قال : إلهي سمه ، قال : نعم هو أحمد وهو محمد رسولي إلى الخلق كافة ، وأقربهم منى منزلة وأحضرهم عندي شفاعة ، لا يأمر إلا بما أحب وينهى لما أكره . قال له صاحبه : فأنى تقدم بنا على من هذه صفته ؟
قال : نشهد أحواله وننظر آياته فإن يكن هو هو ساعدناه بالمسالمة ، ونكفه بأموالنا عن أهل ديننا من حيث لا يشعر بنا ، وإن يكن كاذباً كفيناه بكذبه على الله عز وجل !
قال : ولم إذا رأيت العلامة لا تتبعه ؟ قال : أما رأيت ما فعل بنا هؤلاء القوم أكرمونا ، ومولونا ونصبوا لنا الكنائس وأعلوا فيه ذكرنا ، فكيف تطيب النفس بالدخول في دين يستوى فيه الشريف والوضيع .
فلما قدموا المدينة قال من رآهم من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : ما رأينا وفداً من وفود العرب كانوا أجمل منهم ، لهم شعور وعليهم ثياب الحبر ، وكان رسول الله متنائياً عن المسجد ، فحضرت صلاتهم فقاموا فصلوا في مسجد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) تلقاء المشرق فهمَّ بهم رجال من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فمنعهم ، فأقبل رسول الله فقال : دعوهم فلما قضوا صلاتهم جلسوا إليه وناظروه ، فقالوا : يا أبا القاسم حاجنا في عيسى ، قال : هو عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ، فقال أحدهما : بل هو ولده وثاني اثنين . وقال آخر : بل هو ثالث ثلاثة : أب وابن وروح القدس ، وقد سمعناه في قرآن نزل عليك يقول : فعلنا وجعلنا وخلقنا ولو كان واحداً لقال : خلقت وجعلت وفعلت !
فتغشى النبي ( صلى الله عليه وآله ) الوحي فنزل عليه صدر سورة آل عمران إلى قوله رأس الستين ، منها : فَمَنْ حَاجَّك فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَك مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ . آل عمران : 61 .
فقص عليهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) القصة وتلا عليهم القرآن ، فقال بعضهم : لبعض : قد والله أتاكم بالفصل من خبر صاحبكم . فقال لهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : إن الله عز وجل قد أمرني بمباهلتكم ، فقالوا : إذا كان غداً باهلناك . فقال القوم بعضهم لبعض : حتى ننظر بما يباهلنا غداً بكثرة أتباعه من أوباش الناس أم بأهله من أهل الصفوة والطهارة ، فإنهم وشيج الأنبياء وموضع نهلهم .
فلما كان من غد غدا النبي ( صلى الله عليه وآله ) بيمينه على وبيساره الحسن والحسين « عليهم السلام » ومن ورائهم فاطمة صلى الله عليها ، عليهم النمار النجرانية ، وعلى كتف رسول الله كساء قطوانى رقيق خشن ليس بكثيف ولا لين ، فأمر بشجرتين فكسح ما بينهما ونشر الكساء عليهما وأدخلهم تحت الكساء وأدخل منكبه الأيسر معهم تحت الكساء ، معتمداً على قوسه النبع ، ورفع يده اليمنى إلى السماء للمباهلة ، واشرأب الناس ينظرون ، واصفرَّ لون السيد والعاقب وكرَّا حتى كادت أن تطيش عقولهما فقال أحدهما لصاحبه : أنباهله ؟ قال : أوَما علمت أنه ما باهل قوم قط نبياً فنشأ صغيرهم وبقى كبيرهم ؟ ! ولكن أره أنك غير مكترث وأعطه من المال والسلاح ما أراد ، فإن الرجل محارب ، وقل له : أبهؤلاء تباهلنا لئلا يرى أنه قد تقدمت معرفتنا بفضله وفضل أهل بيته .
فلما رفع النبي ( صلى الله عليه وآله ) يده إلى السماء للمباهلة قال أحدهما لصاحبه : وأي رهبانية ! دارك الرجل فإنه إن فاه ببهلة لم نرجع إلى أهل ولا مال ! فقالا : يا أبا القاسم أبهؤلاء تباهلنا ؟ قال : نعم ، هؤلاء أوجه من على وجه الأرض بعدى إلى الله عز وجل وجهة وأقربهم إليه وسيلة ، قال : فبصبصا يعنى ارتعدا وكرَّا وقالا له : يا أبا القاسم نعطيك ألف سيف وألف درع وألف حجفة وألف دينار كل عام ، على أن الدرع والسيف والحجفة عندك إعارة حتى يأتي من وراءنا من قومنا فنعلمهم بالذي رأينا وشاهدنا فيكون الأمر على ملأ منهم ، فإما الإسلام وإما الجزية وإما المقاطعة في كل عام . فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : قد قبلت ذلك منكما . أما والذي بعثني بالكرامة لو باهلتمونى بمن تحت الكساء لأضرم الله عز وجل عليكم الوادي ناراً تأجج ، حتى يساقها إلى من وراءكم في أسرع من طرفة العين فأحرقتم تأججاً ! فهبط عليه جبرئيل الروح الأمين ( عليه السلام ) فقال : يا محمد الله يقرؤك السلام ويقول لك : وعزتي وجلالي وارتفاع مكاني لو باهلت بمن تحت الكساء أهل السماوات وأهل الأرض لتساقطت السماء كسفاً متهافتة ، ولتقطعت الأرضون زبراً سائحة ، فلم تستقر عليها بعد ذلك ! فرفع النبي ( صلى الله عليه وآله ) يديه حتى رئى بياض إبطيه ، ثم قال : وعلى من ظلمكم حقكم ، وبخسنى الأجر الذي افترضه الله فيكم عليهم بهلة الله تتابع إلى يوم القيامة » .
أقول : هذه الرواية من أقوى الرويات في المباهلة ، ولعلها أقواها على الإطلاق .
وفى الإرشاد : 1 / 168 : « فقال الأسقف : يا أبا القاسم إنا لا نباهلك ولكنا نصالحك ، فصالحنا على ما ننهض به . فصالحهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) على ألفي حلة من حلل الأواقي ، قيمة كل حلة أربعون درهماً جياداً ، فما زاد أو نقص كان بحساب ذلك ، وكتب لهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) كتاباً بما صالحهم عليه وكان الكتاب : بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من محمد النبي رسول الله لنجران وحاشيتها في كل صفراء وبيضاء وثمرة ورقيق ، لا يؤخذ منهم شئ غير ألفي حلة من حلل الأواقى ثمن كل حلة أربعون درهماً ، فما زاد أو نقص فبحساب ذلك ، يؤدون ألفاً منها في صفر وألفاً منها في رجب ، وعليهم أربعون ديناراً مثواة رسولي فما فوق ذلك وعليهم في كل حدث يكون باليمن من كل ذي عدن عارية مضمونة ثلاثون درعاً وثلاثون فرساً وثلاثون جملاً مضمونة ، لهم بذلك جوار الله وذمة محمد بن عبد الله ، فمن أكل الربا منهم بعد عامهم هذا فذمتى منه بريئة » . مكاتيب الرسول ( صلى الله عليه وآله ) 2 / 489 و 494 .
وفى رواية الإقبال / 343 : « أمهلهم وأمهلوه ثلاثاً ، فلم يدعهم ولم يسألوه ، لينظروا إلى هديه ويعتبروا ما يشاهدون منه مما يجدون من صفته . فلما كان بعد ثالثة دعاهم إلى الإسلام فقالوا : يا أبا القاسم ما أخبرتنا كتب الله عز وجل بشئ من صفة النبي المبعوث بعد الروح عيسى ( عليه السلام ) إلا وقد تعرفناه فيك إلا خلة هي أعظم الخلال آية ومنزلة وأجلاها أمارة ودلالة . قال ( صلى الله عليه وآله ) : وما هي ؟ قالوا : إنا نجد في الإنجيل من صفة النبي الغابر من بعد المسيح أنه يصدق به ويؤمن به وأنت تسبه وتكذب به وتزعم أنه عبد ! قال : فلم تكن خصومتهم ولامنازعتهم للنبي إلا في عيسى ( عليه السلام ) . فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : لا ، بل أصدقه وأصدق به وأؤمن به ، وأشهد أنه النبي المرسل من ربه عز وجل وأقول : إنه عبد لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً . قالوا : وهل يستطيع العبد أن يفعل ما كان يفعل ؟ وهل جاءت الأنبياء بما جاء به من القدرة القاهرة ؟ ألم يكن يحيى الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص ، وينبئهم بما يكنون في صدورهم وما يدخرون في بيوتهم ؟ فهل يستطيع هذا إلا الله عزو جل أو ابن الله ؟ وقالوا في الغلو فيه وأكثروا تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً ! فقال ( صلى الله عليه وآله ) : قد كان عيسى أخي كما قلتم يحيى الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص ويخبر قومه بما في نفوسهم ، وبما يدخرون في بيوتهم ، وكل ذلك بإذن الله عز وجل ، وهو لله عز وجل عبد ، وذلك عليه غير عار ، وهو منه غير مستنكف ، فقد كان لحماً ودماً وشعرًا وعظماً وعصباً وأمشاجاً ، يأكل الطعام ويظمأ وينصب . بارؤه وربه الأحد الحق الذي ليس كمثله شئ وليس له ند . قالوا : فأرنا مثله من جاء من غير فحل ولا أب ؟ قال : هذا آدم ( عليه السلام ) أعجب منه خلقاً جاء من غير أب ولا أم ! وتلا عليهم : إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كنْ فَيكونُ . آل عمران : 59 .
4 . كتاب الصلح مع أهل نجران
وفى مكاتيب الرسول : 3 / 152 : « كتابه ( صلى الله عليه وآله ) لأهل نجران : بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما كتب النبي رسول الله محمد لنجران ، إذ كان له عليهم حكمه في كل ثمرة وصفراء وبيضاء وسوداء ورقيق ، فأفضل عليهم وترك ذلك : ألفي حلة حلل الأواقى في كل رجب ألف حلة ، وفى كل صفر ألف حلة ، كل حلة أوقية وما زادت حلل الخراج أو نقصت عن الأواقى فبالحساب ، وما قصوا من درع أو خيل أو ركاب أو عرض أخذ منهم بالحساب . وعلى نجران مثواة رسلي شهراً فدونه ، ولا يحبس رسلي فوق شهر ، وعليهم عارية ثلاثين درعاً ، وثلاثين فرساً ، وثلاثين بعيراً إذا كان كيد باليمن ذو مغدرة ، وما هلك مما أعاروا رسلي من خيل أو ركاب فهم ضمن يردوه إليهم ، ولنجران وحاشيتها جوار الله وذمة محمد النبي رسول الله على أنفسهم وملتهم وأرضهم ، وأموالهم ، وبيعهم ، ورهبانيتهم وأساقفتهم ، وغائبهم وشاهدهم ، وكلما تحت أيديهم من قليل أو كثير ، وعيرهم وبعثهم ، وأمثلتهم ، لا يغير ما كانوا عليه ، ولا يغير حق من حقوقهم وأمثلتهم » . ثم أورد نصوصه بفروقاتها ، ومنها نص المفيد المتقدم . راجع : تفسير العياشي : 1 / 175 ، ابن هشام : 2 / 412 وتفسير القمي : 1 / 104 .
5 . سمع اليهود بمجيئ وفد النصارى فحضروا معهم
في الإرشاد : 1 / 166 : « فقدموا المدينة وقت صلاة العصر ، وعليهم لباس الديباج والصلب ، فصار إليهم اليهود وتساءلوا بينهم فقالت النصارى لهم : لستم على شئ وقالت لهم اليهود : لستم على شئ ! وفى ذلك أنزل الله سبحانه : وَقَالَتِ الْيهُودُ لَيسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَئْ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيسَتِ الْيهُودُ عَلَى شَئٍْ وَهُمْ يتْلُونَ الْكتَابَ كذَلِك قَالَ الَّذِينَ لايعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللهُ يحْكمُ بَينَهُمْ يوْمَ الْقِيامَةِ فِيمَا كانُوا فِيهِ يخْتَلِفُون » .
وفى تفسير فرات / 89 ، عن علي ( عليه السلام ) قال : « لما قدم وفد نجران على النبي ( صلى الله عليه وآله ) قدم فيهم ثلاثة من النصارى من كبارهم : العاقب وقيس والأسقف ، فجاؤوا إلى اليهود وهم في بيت المدارس ، فصاحوا بهم : ياإخوة القردة والخنازير هذا الرجل بين ظهرانيكم قد غلبكم ، إنزلوا إلينا . فنزل إليهم ابن صوريا اليهودي وكعب بن الأشرف اليهودي ، فقالوا لهم : احضروا غداً نمتحنه . قال : وكان النبي ( صلى الله عليه وآله ) إذا صلى الصبح قال : هاهنا من الممتحنة أحد ؟ فإن وجد أحداً أجابه وإن لم يجد أحداً قرأ على أصحابه ما نزل عليه في تلك الليلة . فلما صلى الصبح جلسوا بين يديه فقال له الأسقف : يا أبا القاسم فداك أبي : موسى من أبوه ؟ قال : عمران . قال : فيوسف من أبوه ؟ قال : يعقوب . قال : فأنت فداك أبي وأمي من أبوك ؟ قال : عبد الله بن عبد المطلب . قال : فعيسى من أبوه ؟ قال : فسكت النبي ( صلى الله عليه وآله ) وكان رسول الله ربما احتاج إلى شئ من المنطق فينقض عليه جبرئيل ( عليه السلام ) من السماء السابعة فيصل له منطقه في أسرع من طرفة عين ، فذاك قول الله تعالى : وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر . قال : فجاء جبرئيل ( عليه السلام ) فقال : هو روح الله وكلمته فقال له الأسقف : يكون روح بلا جسد ؟ قال : فسكت النبي ( صلى الله عليه وآله ) . قال : فأوحى إليه : إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كنْ فَيكونُ . . قال : فنزا الأسقف نزوةً إعظاماً لعيسى ( عليه السلام ) أن يقال له : من تراب . ثم قال : ما نجد هذا يا محمد في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا نجد هذا إلاعندك ! قال : فأوحى الله إليه : فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ . . فقالوا : أنصفتنا يا أبا القاسم فمتى موعدك ؟ قال : بالغداة
إن شاء الله . قال : فانصرف اليهود وهم يقولون : لا إله إلا الله ، ما نبالى أيهما أهلك الله : النصرانية أو الحنيفية » .
وفى سيرة ابن هشام : 2 / 390 : « قال ابن إسحاق : ولما قدم أهل نجران من النصارى على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أتتهم أحبار اليهود فتنازعوا عند رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال رافع بن حريملة : ما أنتم على شئ ، وكفروا بعيسى وبالإنجيل ، فقال رجل من أهل نجران من النصارى لليهود : ما أنتم على شئ ، وجحد نبوة موسى وكفر بالتوراة . فأنزل الله تعالى في ذلك من قولهم : وَقَالَتِ الْيهُودُ لَيسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَئٍْ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيسَتِ الْيهُودُ عَلَى شَئٍْ وَهُمْ يتْلُونَ الْكتَابَ كذَلِك قَالَ الَّذِينَ لا يعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللهُ يحْكمُ بَينَهُمْ يوْمَ الْقِيامَةِ فِى مَا كانُوا فِيهِ يخْتَلِفُونَ . أي كل يتلو في كتابه تصديق ما كفر به أي يكفر اليهود بعيسى وعندهم التوراة فيها ما أخذ الله عليهم على لسان موسى ( عليه السلام ) بالتصديق بعيسى ( عليه السلام ) وفى الإنجيل ما جاء به عيسى ( عليه السلام ) ، من تصديق موسى ( عليه السلام ) ، وما جاء به من التوراة من عند الله ، وكل يكفر بما في يد صاحبه » .
وفى سيرة ابن هشام : 2 / 35 : « وقال أبو رافع القرظي : حين اجتمعت الأحبار من يهود والنصارى من أهل نجران ، عند رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ودعاهم إلى الإسلام : أتريد منا يا محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى بن مريم ؟ وقال رجل من أهل نجران نصراني ، يقال له : الرئيس : أو ذاك تريد منا يا محمد وإليه تدعونا ؟ أو كما قال . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : معاذ الله أن أعبد غير الله أو آمر بعبادة غيره ، فما بذلك بعثني الله ولا أمرني ، أو كما قال . فأنزل الله تعالى في ذلك من قولهما : مَا كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يؤْتِيهُ اللهُ الْكتَابَ وَالْحُكمَ وَالنُّبُوَةَ ثُمَّ يقُولَ لِلنَّاسِ كونُوا عِبَادًا لِى مِنْ دُونِ اللهِ وَلَكنْ كونُوا رَبَّانِيينَ بِمَا كنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكتَابَ وَبِمَا كنْتُمْ تَدْرُسُونَ . وَلا يأمُرَكمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكةَ وَالنَّبِيينَ أَرْبَابًا أَيامُرُكمْ بِالْكفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ » .
6 . مستحبات يوم المباهلة
قال في الجواهر : 17 / 109 : « وهو اليوم الرابع والعشرين من ذي الحجة ، قيل وهو الذي تصدق فيه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بخاتمه في ركوعه فنزل قوله تعالي : إِنَّمَا وَلِيكمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يقِيمُونَ الصَّلَوةَ وَيؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ رَاكعُونَ . وأظهر الله فيه نبيه ( صلى الله عليه وآله ) على خصمه . فهو حينئذ أشرف الأيام الذي ينبغي فيه الصيام شكراً لهذه النعم الجسام والمنن العظام » .
وفى مصباح المتهجد / 764 : « عن الإمام الكاظم ( عليه السلام ) قال : يوم المباهلة اليوم الرابع والعشرون من ذي الحجة ، تصلى في ذلك اليوم ما أردت من الصلاة ، فكلما صليت ركعتين استغفرت الله تعالى بعقبها سبعين مرة ، ثم تقوم قائماً وترمى بطرفك في موضع سجودك وتقول وأنت على غسل : الحمد لله رب العالمين ، الحمد لله فاطر السماوات والأرض . . . » .
7 . مسائل في المباهلة
المسألة الأولي : المباهلة ابتكار إسلامي ، معناها أن الله تعالى تكفل بنصرة صاحب الحق وخذلان صاحب الباطل ، فهي ميزان مهم إذا أحسن الناس استعماله .
وآيتها نزلت في محاجة النبي ( صلى الله عليه وآله ) لعلماء النصاري : إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيكُونُ . الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ . فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ . « آل عمران : 59 - 61 » لكنها لا تختص بالنبي ( صلى الله عليه وآله ) ولابألوهية المسيح ( عليه السلام ) بل تصح من كل الناس في مسائل العقيدة .
وقد أفتى الفقهاء بجواز مباهلة المعاند ، وعقد في الكافي : 2 / 513 باباً بعنوان : باب المباهلة ، روى فيه خمسة أحاديث ، منها بسند صحيح عن أبي مسروق عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « قلت : إنا نكلم الناس فنحتج عليهم بقول الله عز وجل : أطِيعُوا الله وأطِيعُوا الرَّسُولَ وأُولى الأمْرِ مِنْكُم ، فيقولون : نزلت في أمراء السرايا ، فنحتج عليهم بقوله عز وجل : إنما وليكم الله ورسوله إلى آخر ، الآية فيقولون : نزلت في المؤمنين ، ونحتج عليهم بقول الله عز وجل : قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى ، فيقولون نزلت في قربى المسلمين ! قال : فلم أدع شيئاً مما حضرني ذكره من هذه وشبهه إلا ذكرته . فقال لي : إذا كان ذلك فادعهم إلى المباهلة ، قلت : وكيف أصنع ؟ قال : أصلح نفسك ثلاثاً ، وأظنه قال وصم واغتسل ، وابرز أنت وهو إلى الجبان ، فشبك أصابعك من يدك اليمنى في أصابعه ، ثم أنصفه وابدأ بنفسك وقل : اللهم رب السماوات السبع ورب الأرضين السبع ، عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم ، إن كان أبو مسروق جحد حقاً وادعى باطلاً ، فأنزل عليه حسباناً من السماء أو عذاباً أليماً . ثم رد الدعوة عليه فقل : وإن كان فلان جحد حقاً وادعى باطلاً فأنزل عليه حسباناً من السماء أو عذاباً أليماً . ثم قال لي : فإنك لاتلبث أن ترى ذلك فيه ! فوالله ما وجدت خلقاً يجيبني إليه » !
وقال المفيد في تصحيح اعتقادات الإمامية / 71 : « وقال ( عليه السلام ) لطائفة من أصحابه : بينوا للناس الهدى الذي أنتم عليه ، وبينوا لهم ضلالهم الذي هم عليه ، وباهلوهم في علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، فأمر بالكلام ودعا إليه وحث عليه » .
وقال الحر العاملي في هداية الأمة 3 / 121 : « تستحب مباهلة العدو والخصم . . . يستحب غسل المباهلة . . يستحب الصوم قبلها والخروج إلى الجبان . . دعاء كل منهما على نفسه سبعين مرة ثم على خصمه سبعين مرة . . أن يشبك كل منهما أصابعه في أصابع الآخر ويدعو بالمأثور . . يستحب كونها بين طلوع الفجر وطلوع الشمس » .
وقال السيد السبزواري في تفسيره : مواهب الرحمن 6 / 31 : « المباهلة نوع من الدعاء والابتهال والتضرع والتبتل إلى الله تعالى لإثبات حق عَلم به . وهى عادة جارية بين الناس في جميع الملل والأقوام ممن يعتقد بوجود عالم الغيب وراء هذا العالم المادي ، فتكون نظير صلاة الاستسقاء أو الاستخارة ونحوهما .
والمستفاد من الآيات الشريفة وما ورد في شأنها من السنة المقدسة أنها تتقوم بأمرين : الأول : ثبوت حق علم بأنه حق قد سبق الإعلام به بالحجة والبيان ، وبعد اليأس عن الفائدة فيهما يرجع بالدعاء واللعان واللجوء إلى الأمرالغيبى الذي يعترف به الخصمان ، وهذا يدل عليه قوله تعالي : فَمَنْ حَاجَّكَ فيه ، أي في الحق المعلوم . الثاني : وجود الرابط بين عالم الغيب وعالم المادة ، إما في شخص الرسول أو من يقوم مقامه علماً وعملاً ، أو حالة الإنكسار والخضوع والتضرع التي تكون رابطة حالية ، فإذا تحقق هذان الأمران تجوز المباهلة لإثبات الحق بالتماس من عالم الغيب ، فلا تختص المباهلة بمورد خاص . . .
وللمباهلة آداب خاصة مذكورة في أبواب الدعاء ، ولا ريب في تقومها بمن يقوم به الإحتجاج وإظهار الحق وهو في المقام نفس رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) .
وحيث إنها تدل على الملاعنة والهلاك يكون إحضار من يريده صاحب الحق أولى في الإحتجاج وأثبت للمدعى وأقطع لدعوى الخصم ، ولأن الاجتماع في الدعاء والتأمين عليه مرغوب اليه كثيراً في السنة المقدسة » .
المسألة الثانية : قوله تعالي : فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَاجَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ . أي جاءك العلم من الله بأمرعيسى ( عليه السلام ) ، فصار عندك حجة من الله وبينتها للناس فتمت عليهم الحجة ، فمن جادلك ليبطل حجتك بزعمه فهو مكابر ، فلا تجادله بل ادعه إلى المباهلة . فطالب الحق يبين له وتُقام عليه الحجة ، لكن المُحَاجّ مجادل ، يعرض عنه ، أو يدعى إلى المباهلة .
المسألة الثالثة : المباهلة دعاء ، وهى بنفس الوقت منازلة وتوسل . والمنازلة تقتضى أن تضرب الخصم بأقوى أسلحتك . والتوسل إلى الله تعالى في المنازلة يقتضى أن تتقرب إلى الله بأقوى الناس وسيلة عنده ليستجيب دعاءك على خصمك .
ولما قال الله لرسوله ( صلى الله عليه وآله ) : فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ . واختار ( صلى الله عليه وآله ) للمباهلة بأمر ربه خاصة عترته ، فمعناه أنهم أقوى سلاح رباني ، لا يخطئ ولا ينهزم ، وأنهم أقرب الناس وسيلة إلى الله تعالى ، فلا يخيب من توسل بهم ، ولا يرد دعاءه .
المسألة الرابعة : تدل المباهلة على أن الذين باهل الله بهم أفضل أهل الأرض ، وكل كلام في تفضيل غيرهم عليهم ، أو مساواته بهم ، ردٌّ عملي على الله تعالى وعلى رسوله ( صلى الله عليه وآله ) ، وصاحبه ذو غرض وذو مرض ، وانقطع الخطاب .
المسألة الخامسة : يمثل المباهَل بهم الأمة كلها : المباهل ونفسه والأبناء والنساء . فهم القيادة النبوية وورثتها ، وهم البنت والأم والزوجة والأبناء ، وهم مكونات المجتمع الإنساني ، يباهل بهم قيادة المسيحيين وأبناءهم ونساءهم ، ويباهل من ادعى للأم مريم وابنها عيسى ألوهيةً ومقاماً غير صحيح .
المسألة السادسة : قوله : تعَالوا نَدْعُ . معناه : اُحضروا أنتم إلى مكان المنازلة والمباهلة ، وأحضروا مكونات دينكم ومجتمعكم . وروى أن كبيرالقساوسة ومعاونه أحضرا ولديهما : ( وغدا العاقب والسيد بابنين لهما ، عليهما الدر والحلى وقد حفوا بأبى حارثة ) اليعقوبي 2 / 82 . ولم يقل تعالوا نحضرهم ، بل قال ادعوهم للحضور ، لأنهم حسب المفروض شخصيات مستقلة يدعون دعوةً .
المسألة السابعة : تعالوا ندعوهم الحضور في المكان المحدد للمباهلة ، وقبلها كانت المناظرة في المسجد ، لكن المباهلة ينبغي أن تكون تحت السماء ، في مكان اختاره النبي ( صلى الله عليه وآله ) يقع اليوم في شارع الستين ، ومشى ( صلى الله عليه وآله ) أمام المسلمين مسافة ، حتى وصلوا إلى قرب المكان فقال لهم قفوا أنتم هنا ، وتقدم المباهلون معه فقط !
المسألة الثامنة : قال بعضهم إن المباهلة الملاعنة ، فجعل الدعاء على الخصم بمعنى ملاعنته ، تشبيهاً بملاعنة الزوج إذا تبرأ من ولده ولاعنَ زوجته . ويصح ذلك مجازاً لأنها دعاء يترتب عليه جعل اللعنة على المبطل . لكن الآية قالت : فنبتهل ولم تقل فنتباهل ، أي فندعو ، وينتج عنه أن تكون اللعنة على الكاذب .
قال ابن فارس في المقاييس 1 / 311 : ( أصول ثلاثة : أحدها التخلية ، والثاني جنس من الدعاء ، والثالث قلة في الماء . . وأما الآخر فالإبتهال والتضرع في الدعاء . والمباهلة ترجع إلى هذا فإن المتباهلين يدعو كل واحد منهما على صاحبه ) .
فمعنى تعالوا نبتهل : تعالوا ندعوأن يظهرالله الحق وينتقم من المبطل . وجزم فنبتهل لأنه جواب تعالوا مثل ندعو ، وجزم نجعل لأنه جواب نبتهل ، وهو يدل على أن الله تعالى جعل اللعنة مترتبة على المباهلة ومحققة بها .
المسألة التاسعة : ذكرت الآية أبناءنا بصيغة الجمع ، والمقصود بهم الحسن والحسين « عليهما السلام » فقط ، وهما مثني ، وذكرت نساءنا بالجمع والمقصود فاطمة ( عليها السلام ) فقط ، وهى مفرد . ومثله كثير في القرآن وفى لغة العرب حيث يذكر الجمع ويقصد به المفرد أوالمثني .
وذكرت الآية أنفسنا بالجمع ، والمقصود بها شخص واحد هو أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، ولا يصح أن تشمل النبي ( صلى الله عليه وآله ) لأنه الداعي ولا يدعو نفسه .
قال الشيخ المفيد « رحمه الله » في الفصول المختارة / 38 : ( قال المأمون يوماً للرضا ( عليه السلام ) : أخبرني بأكبر فضيلة لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) يدل عليها القرآن .
قال فقال له الرضا ( عليه السلام ) : فضيلته في المباهلة ، قال الله جل جلاله : فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ . فدعا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الحسن والحسين « عليهما السلام » فكانا ابنيه ودعا فاطمة ( عليها السلام ) فكانت في هذا الموضع نساءه ، ودعا أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فكان نفسه بحكم الله عز وجل ، وقد ثبت أنه ليس أحد من خلق الله سبحانه أجل من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأفضل فوجب أن لا يكون أحد أفضل من نفس رسول الله ( صلى الله عليه وآله )
بحكم الله عز وجل .
قال فقال له المأمون : أليس قد ذكر الله الأبناء بلفظ الجمع وإنما دعا رسول الله ابنيه خاصة وذكر النساء بلفظ الجمع وإنما دعا رسول الله ابنته وحدها ، فلم لا جاز أن يذكر الدعاء لمن هو نفسه ويكون المراد نفسه في الحقيقة دون غيره فلا يكون لأمير المؤمنين ما ذكرت من الفضل ؟
قال فقال له الرضا ( عليه السلام ) : ليس بصحيح ما ذكرت يا أمير المؤمنين وذلك أن الداعي إنا يكون داعياً لغيره كما يكون الأمر آمراً لغيره ، ولا يصح أن يكون داعياً لنفسه في الحقيقة ، كما لا يكون آمراً لها في الحقيقة ، وإذا لم يدع رسول الله رجلاً في المباهلة إلا أمير المؤمنين فقد ثبت أنه نفسه التي عناها الله تعالى في كتابه وجعل حكمه ذلك في تنزيله . قال فقال المأمون : إذا ورد الجواب سقط السؤال ) .
وتعبير أنفسنا في الآية ، يعنى أنه نفس النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلا ما اختص به من نبوة ، وهو يشرح المقصود من أقوال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : على منى وأنا منه ، ومَن أطاعه أطاعني ومن عصاه عصاني ، ومَن سبه سبني ، ومَن كنت مولاه فعلى مولاه ، وأنا وعلى من شجرة واحدة والناس من شجر شتي ، وأنا وعلى كالضوء من الضوء ، وكنت وعلياً نوراً قبل أن يخلق الله الخلق ، وأنت منى بمنزلة هارون من موسي . .
إلى آخر كلماته المضيئة التي تبين مكانة على ( عليه السلام ) وأنه بحكم نفسه إلا ما استثني .
فلا يبقى مجال لتفضيل غيره عليه ، ولا لتقديم غيره عليه في الفضائل ، ولا في قيادة الأمة وإمامتها ، ولا في الموالاة والمودة ولا في تلقى علم النبي ( صلى الله عليه وآله ) ؟ !
المسألة العاشرة : « الحسنان « عليهما السلام » أبناء النبي ( صلى الله عليه وآله ) بحكم الآية ، ولقوله ( صلى الله عليه وآله ) : يا علي ، ما بعث الله عز وجل نبياً إلا وجعل ذريته من صلبه ، وجعل ذريتي من صلبك ، ولولاك ما كانت لي ذرية » . الفقيه 4 / 365 .
وقال الإمام الباقر ( عليه السلام ) الكافي 8 / 318 في قوله تعالي : حُرِّمَتْ عَلَيكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ . . وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ : فسلهم يا أبا الجارود : هل كان يحل لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) نكاح حليلتيهما ؟ فإن قالوا : نعم كذبوا وفجروا ، وإن قالوا : لا ، فهما ابناه لصلبه » .
وروى مخالفونا قول النبي ( صلى الله عليه وآله ) : « كل ولد أم فإن عصبتهم لأبيهم ، ما خلا ولد فاطمة فإني أنا أبوهم وعصبتهم » . كبير الطبراني 3 / 44 ، الزوائد 4 / 224 و 6 / 301 .
وقال علماؤهم : « وأولاد بناته ينسبون إليه لحديث : إن ابني هذا سيد مشيراً إلى الحسن . وفى حديث : إن الله لم يبعث نبياً قط إلا جعل ذريته من صلبه غيري ، فإن الله جعل ذريتي من صلب علي . دون أولاد بنات غيره فينسبون إلى آبائهم . قال تعالي : أُدْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ » . كشاف القناع 5 / 31 .
وقال الشوكاني في نيل الأوطار 6 / 139 : « قال السخاوي : وقد كنت سئلت عن هذا الحديث وبسطت الكلام عليه ، وبينت أنه صالح للحجة » .
المسألة الحادية عشرة : الآية نص في التوسل ، حتى بالأقل درجة من المتوسِّل : « ثم جثى ( صلى الله عليه وآله ) بركبتيه وجعل علياً أمامه بين يديه وفاطمة بين كتفيه والحسن عن يمينه والحسين عن يساره ، وهو يقول لهم : إذا دعوت فأمِّنوا ، فقال الأسقف : جثى والله محمد كما يجثو الأنبياء للمباهلة » . مناقب آل أبي طالب 3 / 144 .
ومعني : إذا دعوت فأمنوا : أن تأمينهم جزء من الابتهال ، وهو توسل بهم .
هذا ، وفى الآية مسائل أخرى مهمة ، اكتفينا بما تقدم .
|
|
للحفاظ على صحة العين.. تناول هذا النوع من المكسرات
|
|
|
|
|
COP29.. رئيس الإمارات يؤكد أهمية تسريع العمل المناخي
|
|
|
|
|
المجمع العلمي يختتم دورته التطويرية الثانية للمؤسسات القرآنية
|
|
|