أقرأ أيضاً
التاريخ: 31-3-2016
2035
التاريخ: 10-10-2014
1718
التاريخ: 4-2-2016
2145
التاريخ: 10-10-2014
1669
|
بناء الاقصوصة :
قلنا : إن حكايات سليمان ـ في سورة النمل ـ تتضمن موقفين أو حادثتين ، تبدوان وكأنهما منفصلتان ، أومتداخلتان من حيث العنصر الرابط بينهما .
فالحكاية الاولى تتصل بجنود سليمان من الجن والإنس والطير ، حيث يشير النص القصصي إلى أنه :
{وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ}
ويشير بعد ذلك إلى الحادثة الآتية :
{حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ}
{قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ}
{لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ}
{فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ}
{رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ}
{الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ}
{وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ}
هذه هي الحكاية الاولى من حكايات سليمان .
وقد مهد لها النص بفقرة تحدثنا عن قول سليمان (عليه السلام) على النحو الآتي :
{قَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ}
{إن هذا لهو الفضل المبين}
هذه الفقرة التي تلخص موقفا من المواقف ، هي التي تشكل عصبا فنيا لقصتين متداخلتين ، لكنهما تنشطران إلى واقعتين : إحداهما تبدو منفصلة عن الاخرى :
واقعة الجيش الزاحف على واد النمل . وواقعة الطير أو الهدهد الذي تفقده سليمان ، وما استتلاه من القصة المتصلة بالملكة بلقيس ، وإسلامها في نهاية المطاف .
إن الترابط الفني القائم بين حكايتي النمل والهدهد في قصة سليمان يتمثل في :
أ ـ إن الحكايتين تتعاملان مع أبطال ثانويين من غير الآدميين : النملو الهدهد .
ب ـ إن الحكايتين يجمعهما بطل رئيس واحد هو : سليمان (عليه السلام) .
ج ـ إن الحكايتين يتم التعامل بين أبطالهما بلغة خاصة يتقنها سليمان (عليه السلام) بحسب منطق البطل غير الآدمي الذي يتعامل معه .
دـ إن الحكايتين تطرحان ـ من خلال تعقيب النص عليهما ـ مفهوم الشكر على عطاء السماء الذي أشرنا إلى أ نه يمثل أفكار القصة قصة سليمان ، ففي حكاية النمل عقب سليمان على إدراكه لمنطق النملة ، قائلا :
{رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى ...}
وفي حكاية الهدهد عقب سليمان على واقعة العرش الذي أحضره أحد الأبطال ونعني به عرش بلقيس ، قائلا :
{هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ}
{وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ...}
وأخيراً ، فإن التمهيد الذي تصدر الحكايتين يشكل وحده عنصرا رابطا بينهما من خلال إشارة سليمان نفسه إلى أ نه علم منطق الطير ، وإشارته ـ وهذا هو الخيط الرابط ـ إلى أ نه اوتي من كل شيء ، وإلى أن هذا هو الفضل المبين .
إذن الترابط الفني القائم بين حكايتي النمل والهدهد في حكايات سليمان ، يبدو من الوضوح بمكان كبير ، مادامت الحكايتان تخضعان لقيم فكرية متماثلة ، ... ومادامت عناصر القص ، من وحدة الشخصية في الحكايتين ، ومن تماثل الأبطال الثانويين في انتسابهم للجنس غير البشري ، وانبثاق لغة التفاهم بين سليمان والأبطال الثانويين ... كل ذلك يمثل عنصرا رابطا بين الحكايتين ، بحيث يمكن القول إلى أنهما قصة واحدة ، أوقصتان متداخلتان ـ قصة داخل قصة ـ .
وهذا كله من حيث البناء أو الهيكل القصصي ، لقصة سليمان بعامة .
حكاية النمل
هذه الحكاية تجسد حادثة مفردة بسيطة ، حسب المصطلح القصصي ، كما تحوم على موقف مفرد بسيط قد ترتب على الحادثة المذكورة .
أما الحادثة فهي : جيش سليمان الذي زحف على واد النمل .
يقول النص القصصي :
{وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ}
{حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ ...}
هذه هي الحادثة ، وهي كما قلنا بسيطة مفردة تتمثل في جيش مجهز زاحف ، قد مر خلال زحفه على واد النمل .
ولقد أبهم النص تفصيلات هذه الحادثة ، فلم يذكر لنا أسباب الزحف ، كما لم يذكر لنا الجهة التي يستهدفها الجيش من وراء زحفه ... وإنما اكتفى من التفصيلات بوصف قوى الجيش فحسب من حيث تشكيلته ، فيما بين لنا أ نه قد تشكل من أصناف متنوعة هي : الجن والإنس والطير .
كما اكتفى من التفصيلات بوصف سمة واحدة من تحركاته ، هي أن قوى الجيش قد انتظمت بنحو يرد أولهم على آخرهم ، بحيث تدفع المؤخرة وتوقف المقدمة ، بغية الحفاظ على تجمعه من خلال تلاحق وحداته . وهذا ما عبر عنه النص القصصي بقوله : {فَهُمْ يُوزَعُونَ}
ونتساءل الآن عن السر الفني الكامن وراء إبهام النص لتفصيلات الحادثة ، من حيث اختزاله لسبب الزحف ، والجهة التي يقصدها .
ونتساءل أيضا عن السر الفني الكامن وراء تفصيله لتشكيلة الجيش أولا ، ولانتظام وحداته ثانيا ، ومروره على واد النمل ، ثالثا .
ولكن الإجابة عن هذه التساؤلات ينبغي ألا نعزلها عن التمهيد أو المقدمة القصصية التي تصدرت قصة سليمان (عليه السلام) ، وحيث قالت المقدمة على لسان سليمان (عليه السلام) :
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ}
{وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ}
{إن هذا لهو الفضل المبين}
هذا التمهيد القصصي يفسر لنا كل الأسرار الفنية وراء عمليات الاختزال أوالتفصيل للحادثة .
فكل ما يلقي الضوء على لغة التفاهم بين سليمان والأبطال من غير الجنس البشري سيجد له تفصيلا ، وما عداه سيختزل . وهكذا كل ما يلقي الضوء على ما وهبته السماء لسليمان {وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} سيجد له تفصيلا ، وما عداه سيختزل . والأمر نفسه فيما يتصل بالشكر على هذه النعم .
لقد اقتصر النص القصصي في حكاية النمل على وصف تشكيلة الجيش : جيش سليمان وانتظام وحداته . واختزل كل تفصيل يتصل بسبب تحركاته والجهة التي يقصدها .
والسر في ذلك ـ من حيث البعد الفني ـ أن النص في صدد سرد النعم التي وهبتها السماء لسليمان ، وتسخيرها كل القوى البشرية وغير البشرية لسليمان (عليه السلام) يدلنا على هذا التمهيد الذي أشار إلى أن سليمان (عليه السلام) : (قد اوتي من كل شيء)
وطبيعيا أن يكون تشدد النص قائما على إبراز هذا الجانب . ولذلك أبرز النص في حكاية النمل هذا الجانب ، وسرد لنا تفصيلات الجيش الذي (اوتي من كل شيء) بحيث تشكل من كل الأصناف من جن وإنس وطير .
فالمألوف عادة أن الجيوش تتألف من قوى بشرية فحسب ، إلا في نطاق خاص يتصل بالمعجز وما تستهدفه السماء من التعريف بتدخلها في المعارك لصالح عبيدها المؤمنين ، كما نعرف ذلك على سبيل المثال في المعارك الاسلامية التي حاربت الملائكة فيها إلى جانب القوى البشرية المؤمنة ، مع ملاحظة أن هذا التدخل لم يتم إلا من وراء حجاب .
وخارجا عن ذلك ، فإن تشكيلة الجيوش تظل منحصرة في القوى البشرية .
هنا في حكاية النمل نجد أن تشكيلة الجيش قد أخذت طابعا غير مألوف ، هو : اشتراك الجن والطير إلى جانب القوى البشرية .
وهذا يعني أن سليمان (عليه السلام) (قد اوتي من كل شىء) كما صرحت المقدمة القصصية بذلك .
ومن هنا يجيء التشدد والتركيز من حيث البعد الفني على إبراز التفصيلات التي تتصل بهذا الجانب ، وهو : الإيتاء من كل شيء ، ويختزل ما عداه من التفصيلات التي تتصل بسبب الزحف والجهة التي يقصدها ، لأن النص ليس في صدد سرد أسباب الزحف وهدفه ، وإنما في صدد توضيح القوى التي سخرتها السماء لسليمان (عليه السلام) .
وبهذا ينسجم التمهيد القصصي مع تفصيلات حادثة الزحف واختزالاتها .
والأمر نفسه فيما يتصل بانتظام الجيش في وحداته المتماسكة ، حيث شدد النص على إبراز هذا الجانب أيضا .
والسر ـ فنياً ـ من الوضوح بمكان كبير وراء هذا التشدد .
فالجيش المؤلف من قوى متنوعة : بشر ، جن ، طير ، لا مناص من تنسيق وحداته بنحو يحافظ من خلاله على تماسك الجيش . وهو أمر شدد النص عليه ، حتى يحيط المتلقي علما بمساندة السماء لسليمان في جيشه الذي يتطلب لغة خاصة من التفاهم بين أصناف لا تجمعها وحدة اللغة ولا التعامل المطلق أساساً .
فالجن له لغته الخاصة ، وسلوكه الخاص ، والطير أيضا له لغته الخاصة وسلوكه المتميز ، والبشر أيضا له لغته وسلوكه . أما أن يجمع هؤلاء في تشكيلة متماسكة متفاهمة متعاونة ، فأمر يدعو إلى الدهشة والعجب . وهو أمر يحرص النص القصصي على إبرازه حتى يجسد فنيا ذلك الجانب الذي شدد عليه ونعني به : أن سليمان (قد اوتي من كل شىء)
إذن قد اتضح السر الفني وراء السرد القصصي لبعض التفصيلات في حكاية النمل ، واختزاله لغيرها من تفصيلات الحادثة .
ولكننا خارجا عن الأسرار الفنية وراء عمليات التفصيل والاختزال ، يمكننا أن نستعين بالتفسيرات المأثورة في سردها لتفصيلات قد اختزلها النص أو أبهمها للأسباب التي ذكرناها قبل قليل .
فالنصوص المفسرة تسرد لنا ـ مثلا ـ تفصيلات متنوعة عن طبيعة التعامل بين هذه القوى الثلاث : الإنس ، الجن ، الطير . فسليمان حينما يعتزم سفرا من الأسفار ، كان يجمع ـ كما تقول النصوص المفسرة ـ جنوده من الطوائف المتنوعة على بساط تحمله الريح . وهذه الواسطة كما هو بين تختصر كل الصعوبات التي تواجه الزاحف مثلا .
وتضيف هذه النصوص ، إلى أن معسكر سليمان (عليه السلام) قد انتظمته مساحة مائة فرسخ ، قد توزع في أربعة أماكن بالتساوي ، بحيث خصص واحد للإنس ، وثان للجن ، وثالث للوحش ، ورابع للطير .
وهناك تفصيلات اخرى نقف عليها في حينه ، عندما نتحدث عن البيئة التي تحركت القصة فيها .
ولكن ما يعنينا الآن ، هو أن نعيد التأكيد على توضيح الأسرار الفنية وراء سرد النص القصصي لبعض التفصيلات ، وإبهامه أو اختزاله لغيرها من التفصيلات ... وهو أمر تحدثنا به ، فيما قلنا : إن النص يشدد على ما هو مذكور في المقدمة أو التمهيد القصصي ويدع ما سواه ، بغية أن يبلور لدى المتلقي الهدف الفكري وراء القص ، ... وبغية أن يتحقق التلاحم الفني بين أجزاء القصة ، بحيث يكون كل جزء منها متصلا بالجزء الآخر . وبمثل هذا التلاحم يحقق النص إمتاعا فكريا وجماليا للمتلقي .
قلنا : إن حكاية النمل تشتمل على حادثة مفردة بسيطة هي جيش سليمان (عليه السلام) المجهز ، الزاحف ... وقلنا أيضا : إنها تشتمل على موقف مفرد بسيط ... وقد تحدثنا مفصلا عن الحادثة ، وصلتها فنيا بالمقدمة القصصية التي أشارت إلى أن سليمان (عليه السلام) (قد اوتي من كل شىء) وموقع عمليات التفصيل والاختزال من المقدمة القصصية المذكورة .
أما الآن فنتجه إلى الموقف المفرد البسيط في هذه الحكاية ، لنرى موقعها الفني من القصة .
إن الموقف يتمثل في طبيعة الاستجابة الصادرة من النملة عندما مر سليمان (عليه السلام)على واد النمل . ثم في استجابة سليمان (عليه السلام) لهذا الموقف .
لقد مر سليمان (عليه السلام) على واد النمل .
أما لماذا مر سليمان (عليه السلام) على الواد المذكور ؟ فهذا أمر قد أبهمه النص أيضا ، واكتفى السرد بذكر موقف النملة من زحف الجيش ، وموقف سليمان (عليه السلام) من ذلك .
هنا نكرر أن النص يستهدف إنارة موقف محدد قد ذكرته المقدمة القصصية عندما أشارت إلى أن سليمان قد اوتي كل شيء وإلى أنه علم منطق الطير ، وإلى أن هذا فضل أو عطاء وهبته السماء لسليمان (عليه السلام) .
ومما لا شك فيه أن إدراك منطق النمل ، يظل متصلا بتلك المقدمة التي قالت بتعلم منطق الطير .
وبالرغم من أن التعلم المذكور سيلقي بإنارته الكبيرة على حكاية الهدهد ، وهي الحكاية الثانية من حكايات سليمان ... بالرغم من ذلك ، فإن الإنارة تلقي بظلالها على حكاية النمل أيضا مادام الجنس غير البشري يمثل عنصرا مشتركا في عملية التفاهم اللغوي .
يضاف إلى ذلك ، أن سليمان (عليه السلام) قد عقب على موقف النملة التي حذرت رفيقاتها من تحطيم سليمان (عليه السلام) للنمل وأمرت بدخولها إلى مساكنها ... قد عقب سليمان (عليه السلام)على ذلك بقوله :
{رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ ... }
ومما لا شك فيه ، أن هذا الشكر للسماء له صلته بالمقدمة القصصية التي ألمحت إلى الفضل المبين من السماء لسليمان (عليه السلام) .
إذن الموقف الذي تضمنته حكاية النمل ، يظل من حيث التفصيل أوالاختزال على علاقة فنية بالتمهيد القصصي ، تماما كما لحظنا ذلك في حادثة زحف الجيش وتشكيلته وتماسك وحداته المنتظمة .
وخارجا عن البناء الفني المذكور لكل من الحادثة والموقف اللذين تضمنتهما حكاية النمل ، فإن متابعتنا لملابسات الموقف تكشف عن مزيد من الإمتاع الفني والفكري لهذا الموقف ، وبخاصة إذا انسقنا مع التفصيلات التي ذكرتها نصوص التفسير .
إن المرور على الوادي نفسه ، يظل حادثة ممتعة فنيا ، إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن النص في صدد تعريف المتلقي بأن سليمان (عليه السلام) قد علم منطق كل شيء .
وفي تصورنا أن انتقاء النمل دون غيره من الدواب على الأرض ، يفصح عن إمتاع له قيمته ، إذا أدركنا أن هذا الحيوان قد انتقي وهو بحجمه الصغير جدا ، لكي تتعمق قناعة المتلقي بأن تعلم منطق كل شيء ، قد استغرق حتى منطق النمل . هذا فضلا عن أن النمل نفسه ـ فيما يحدثنا علم النفس الحيواني ـ له سلوكه المتميز ، المدهش ، المثير في تحركاته ، وإدراكه ، والتقاطه للطعام ، وبناء مساكنه وما إلى ذلك .
المهم أن انتقاء النمل نفسه ، يظل مصحوبا بإمتاع يتحسسه المتلقي دون أدنى شك .
كما أن الاستجابة التي صدرت منه تفصح عن قيمة فكرية تلفت انتباه المتلقي أيضا .
فمن المعروف أن الحيوانات تفترق عن الآدميين في استجابتها للدوافع الحيوية الموروثة بنحو أشد من استجابتها للدوافع النفسية .
ولعل أبرز دوافعها الحيوية ـ كما لاحظ ذلك المعنيون بعلم النفس الحيواني ـ هي دوافع الطعام والجنس والدفاع .
وقد أبرز النص القصصي الدافع الأخير لدى النمل ونعني به : غريزة الدفاع ، متمثلا في تحذير النملة رفيقاتها من الهلاك . كما أبرز في الآن ذاته عنصرا نفسيا لدى الحيوان ، هو : عاطفته الجمعية ، ... متمثلة في تحذير النمل بأجمعه ، وليس في عاطفة فردية تخص الذات وحدها .
ومما لا شك فيه أن إبراز مثل هذه العناصر ، فضلا عما يصاحبه من إمتاع جمالي ونفسي ، من حيث كونه يشبع الدافع إلى الاستطلاع ، فإنه ينطوي أيضا على قيم فكرية تتصل بغريزة الدفاع عن الذات ، وبأهمية التعاطف بين النوع .
وقبل أن نغادر حكاية النمل إلى الحكاية الثانية في قصة سليمان (عليه السلام) ، نود أن نلفت انتباه المتلقي إلى ظاهرة فنية قد استوقفت بعض المفسرين ، حينما ألمح إلى أن جنود سليمان كانوا ركبانا ومشاة ، لا أن الريح كانت تحملهم ، لأن السمة الأخيرة لا تستتلي الحذر من الجنود ما داموا في الجو .
وفي تصورنا أن النص لم يكن في صدد تحديد الجو أو الأرض ، بقدر ما هو في صدد الحديث عن تنويع القوى وانتظامها ، مع أن طبيعة القوى المشتركة في الجيش من جن وطير تتطلب تحركا في الجو وفي الأرض ، ... هذا إلى أن بعض النصوص المفسرة أشارت إلى المساحة التي انتظمت معسكر سليمان (عليه السلام) ، ...
ولابد أن تكون هذه المساحة أرضية وليست جوية .
ومع أن بعض أنماط النمل يطير بجناحين أيضا ، مما يعزز إمكان التحذير ، ... إلا أن الذهاب إلى تحركات الجنود جوا وأرضا ، يظل أقرب إلى طبيعة الحادثة من التحرك في الأرض فحسب ، سواء أكان التحرك دائميا أم مؤقتا يتراوح بين الأرض والجو من حين لحين .
حكاية الطائر
قلنا : إن قصة سليمان يمكن شطرها إلى قصتين متداخلتين : إحداهما ترتبط فيها شخصية سليمان (عليه السلام) بالنمل وسائر الطير ، والاخرى بتعاملها مع شخصية بلقيس .
كانت الحكاية الاولى في قصة سليمان (عليه السلام) هي حكاية النمل ، وقد أوضحنا في حينه تداخل هذه الحكاية مع الحكاية الجديدة التي نعتزم الآن الحديث عنها ، ونعني بها حكاية بلقيس ، أوحكاية الهدهد الذي كان السبب وراء اكتشاف هذه الشخصية النسوية .
ولا حاجة بنا إلى توضيح البناء الفني لهذه الاقصوصة من حيث صلتها بالمقدمة أو التمهيد القصصي الذي تصدر قصة سليمان (عليه السلام) ، ما دمنا نتذكر جيدا أن ذلك التمهيد قد طرح ثلاثة مفاهيم هي : تعلم منطق الطير ، وإيتاء سليمان من كل شيء ، والإلماح إلى نعم السماء على سليمان : إن هذا لهو الفضل المبين .
هذه المفهومات الثلاثة قد بينا صلتها بحكاية النمل . وأما صلتها بحكاية الهدهد فمن الوضوح بمكان كبير .
فتعلم منطق الطير له علاقته الكبيرة بفهم الهدهد الذي دل سليمان (عليه السلام) على بلقيس . وإيتاء سليمان من كل شيء ، ثم الإقرار بهذا الفضل سيحدثنا سليمان نفسه بذلك ، حيث يعقب بقوله : {هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي ...} ، عندما يستقر عرش بلقيس عند سليمان (عليه السلام) .
إن الجديد الذي ينبغي أن نقف عنده الآن ، هو بناء هذه الاقصوصة من حيث معماريتها الداخلية وخطوطها المتنوعة التي قام عليها هيكل الاقصوصة .
ولكن قبل ذلك يتعين علينا أن نشير إلى أن هذه الحكاية تفترق عن سابقتها من حيث كبر حجمها ، وتنوع المواقف والأبطال فيها ، واشتمالها على ما فيه المزيد من الدهشة ، والطرافة ، والإثارة ، والإعجاز .
تبدأ الاقصوصة على النحو الآتي :
{وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ}
{مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ}
{لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ}
هذه البداية تشبه البداية التي لحظناها في حكاية النمل ، من حيث أن النص قد أبهم السبب الكامن وراء عملية التفقد فحسب مع الاستجابة الغاضبة لدى سليمان (عليه السلام) .
وما قلناه هناك ، نقوله هنا من أن عملية اختزال السبب وراء التفقد ليست مستهدفة لدى النص بقدر ما يستهدف النص إبراز الحادثة ذاتها ، ثم الموقف الذي استجاب له سليمان (عليه السلام) ثانيا . وذلك لأسباب فكرية أوضحناها في حينه .
غير أن المتلقي بمقدوره أن يستخلص من أن سبب تفقد الطير قد يعود إلى طبيعة تحركات سليمان الذي سخرت السماء له : الجن والإنس والطير ، وكل شيء ، وإلى أن ظاهرة الأسفار تشكل طابعا مميزا لتحركات سليمان ، بخاصة أن حكاية النمل التي صاحبها زحف الجنود قد غلفتها ظاهرة السفر كما لحظنا .
على أن النصوص المفسرة قد أوضحت هذا الطابع حينما ألمحت إلى أن سبب تفقد سليمان للطير عائد إلى أ نه احتاج إلى الهدهد ليدله على الماء في سفره .
وقد روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) ـ عبر تعقيبه على هذا الجانب ـ : «إن الهدهد يرى الماء في بطن الأرض»
وهذا يعني أن عملية التفقد لها سماتها الجمالية والموضوعية التي تفتح أمام المتلقي آفاقا جديدة من التذوق الفني للنص واستثمار قيمه الفكرية .
المهم أن سليمان (عليه السلام) يبدأ بتفقد الطير الذي سخرته السماء لهذه الشخصية .
ويبدأ بتفقد الهدهد بالذات ، مادام الموقف يتطلب هذا النمط من الطيور .
لكن المتلقي يتساءل من جديد : لماذا أبهم النص هذه الخصيصة التي يتميز الهدهد بها ؟
ومن جديد نجيب : إن هدف الحكاية هو إبراز عملية التسخير وليس خصائص البطل الذي سخرته السماء . مضافا إلى ذلك أن السماء تعتزم لفت الإنتباه إلى أنها ـ أي السماء ـ قد أتاحت لسليمان من عمليات التسخير ما لم يحلم بها سليمان (عليه السلام) نفسه . فلسوف نرى في الجزء الآتي من الاقصوصة أن الهدهد الذي تفقده سليمان وهدده بالعذاب أو الذبح ... هذا الهدهد قد سخرته السماء لسليمان (عليه السلام) ـ من دون علمه ـ ليقوم بمهمة ضخمة يتطلع إليها سليمان كل التطلع ، ألا وهي عثوره على مدينة سبأ وملكتها بلقيس .
ومن الواضح ـ من حيث البعد الفني لهذه الحادثة ـ أن النص عندما أبهم مهمة الهدهد ، إنما جعلنا ـ نحن المتلقين ـ ندرك القيمة الكبيرة لعطاء السماء ، بحيث أنها لم تسخر لسليمان كل القوى فحسب ، بل إنها سخرت له ما لم يفكر هو بتسخيره .
وهذا الهدف الفكري يشدد النص عليه كل التشدد ، مادام النص أساسا قد وظف القصة بأكملها ـ وبشطريها : حكاية النمل وحكاية الطير ـ لهذا الهدف كما لحظنا .
ويضاف إلى ذلك كله أيضا ، أن النص بإبهامه حادثة السفر وخصيصة الطائر ، إنما ترك للمتلقي بأن يستخدم ذائقته الفنية في اكتشاف الدلالة واستخلاص الظواهر حتى يحقق بذلك قدرا أكبر من الإمتاع الجمالي .
لقد بدأت حكاية الهدهد بتفقد سليمان (عليه السلام) لهذا الطائر ، حيث أوضحنا خصائص هذه البداية القصصية .
والآن لنتابع عملية التفقد المذكورة ، وما سحبته من الاستجابة لدى سليمان (عليه السلام) .
لقد تساءل سليمان أولا :
{مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ ؟}
ثم تساءل :
{أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ ؟}
ثم توعده ـ ثالثا ـ فقال :
{لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا}
ثم توعده بنحو أشد حينما هدده بالذبح ، عندما قال :
{أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ}
ثم استدرك ذلك ، فقال :
{أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ}
إن هذه الاستجابة لدى سليمان (عليه السلام) مرت بمراحل خمس من الاستجابة ،
متراوحة بين الاستجابة المتفقدة ، والمتوعدة ، والمستدركة .
والآن ، ماذا نستخلص من هذه المراحل المستجبية لدى سليمان (عليه السلام) ؟
وصلة ذلك بشخصيته ؟
ثم صلة ذلك بمهمة التسخير التي هيأتها السماء لسليمان (عليه السلام) ؟
وصلة ذلك أخيرا بالهيكل الهندسي للاقصوصة ؟ .
مما لا شك فيه ، أن سليمان (عليه السلام) كان على صواب تام في كل مراحل الاستجابة التي اجتازها .
بيد أن عملية التهديد التي صدرت منه ، من الممكن أن تثير تساؤل المتلقي في هذا الصدد .
لكننا نجيب : إن السماء ـ وهي تسرد لنا قصص الصفوة من عبادها ـ تدلنا من حين لآخر إلى أن هذه الشخصيات المصطفاة لا تصوغها السماء إلا في نطاق محدد بحيث لا تطلعها كل ملامح الغيب ، بل تخفي عليها بعض الملامح وتبرز بعضا آخر ، لحكمة يتطلبها الموقف .
وحينئذ من الطبيعي أن تكون استجابة البطل محددة بقدر حجم الغيب الذي أطلعته السماء عليه .
ومن هنا قلنا : إن استجابة سليمان (عليه السلام) في مراحلها الخمس المذكورة قد اتسمت بالسوية بما في ذلك سمة التوعد .
ويمكننا ملاحظة ذلك بوضوح ، إذا تابعنا هذه المراحل من الاستجابة :
1ـ الاستجابة الاولى :
وتتمثل في عملية
{وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ}
وهذه العملية لها مسوغاتها الطبيعية دون أدنى شك . فما دام سليمان في صدد السفر ، وفي صدد معرفة الأرض التي يقطعها فيما يتصل بالماء ومعرفة مكانه من الأرض لأسباب تتطلبها تحركاته التي عهدتها السماء إليه .
2ـ الاستجابة الثانية :
وتتمثل في قوله :
{أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ}
وواضح أن هذا التساؤل له مسوغاته أيضا .
فما دامت السماء قد أمرت الطير بأن يخدم سليمان ، حينئذ من حق سليمان أن يتساءل عن سبب غيابه وتمرده على الطاعة .
3 ـ 4 ـ الاستجابة الثالثة والرابعة :
وتتمثلان في قوله :
{لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا}
وفي قوله :
{أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ}
وبين أيضا أن هذا التهديد يترتب على تصور سليمان (عليه السلام) بأن الطائر قد تمرد على أوامر السماء . ومن يتمرد على مثل هذه الأوامر يستحق العقاب دون أدنى شك .
أما تراوح الاستجابة المهددة بين العذاب والقتل ، فواضح أيضا من حيث طبيعة التركيب الآدمي في الاستجابة . فالشخصية عندما تلحظ مفارقة من المفارقات عند الآخرين ، حينئذ تبدأ باستجابة تتوعد على ذلك بحسب حجم المفارقة وانعكاسها على شخصية المستجيب ، فقد تبدأ باستجابة غاضبة إلى حد ما ، ثم يتضاعف إحساسها بعظم المفارقة فتستجيب بنحوأشد ... وهذا ما طبع سلوك سليمان عندما غضب إلى حد ما فتوعد بالعذاب ، ثم تضاعف إحساسه بعظم المفارقة لدى الطائر ، فتوعده بالذبح .
5ـ الاستجابة الخامسة :
وتتمثل في قوله :
{أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ}
ومما لا ريب فيه أن هذه الاستجابة تلخص لنا موضوعية سليمان (عليه السلام) في موقفه من الطائر ، فهو في زحمة غضبه على تمرد الطائر ، لم يخرجه هذا الغضب من الحق ، بل ترك لتأملاته الموضوعية بشق طريقها إلى الأمام ، حيث احتمل أن يكون للطائر عذر مقبول في تخلفه عن الركب ، ولذلك استدرك سليمان (عليه السلام) ، وقال : {أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ}
وهذا الاستدراك من حيث معمارية القصة له أهميته الفنية الكبيرة في صياغة النص القصصي الذي نحن في صدده . فقد جعله النص آخر مراحل الاستجابة لدى سليمان . ثم جعل الاستدراك مبهما بحيث لا يستطيع المتلقي أن يحكم الصالح أحد الطرفين . فقد يكون للطائر عذره فعلا ، وقد لا يكون له العذر .
بيد أنه في الآن ذاته عندما يجعل النص هذه النهاية مفتوحة ، حينئذ فإن الأجزاء اللاحقة من القصة هي التي تتكفل بتقديم الجواب .
وفعلا سنلحظ أن هذه الاستجابة الأخيرة ـ أي استدراك سليمان ـ ومطالبته بتقديم العذر من قبل الطائر سيلقي بإنارته على الجزء اللاحق من القصة ، بحيث سيتبين للمتلقي بأن الطائر كان معذورا كل العذر في غيابه .
لقد بدأت حكاية الطائر بتفقد سليمان(عليه السلام) وتوعده للهدهد ، ثم استدراكه هذا التوعد بقوله : {أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} .
وبهذا الاستدراك ينتهي القسم الأول من الاقصوصة ، ويبدأ قسمها الآخر .
ومثلما قلنا : فإن القسم الأول من الاقصوصة علق تنفيذ التهديد على تقديم عذر يبينه الطائر لسليمان .
وها هو الطائر يتقدم فعلا بعذر مشروع ، لا أ نه يقنع سليمان فحسب ، بل إنه يدخل في الصميم من تطلعات سليمان وآماله التي يصبو إلى تحقيقها .
وها نحن نلحظ أن الطائر قد تقدم بنبأ خطير كل الخطورة ، على هذا النحو الذي يسرده النص :
{فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ}
{فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ ...}
إن الطائر يتقدم إلى سليمان (عليه السلام) بنبأ لم يعلن عنه مباشرة ، بل جعله مسبوقا بأنه ينطوي على إحاطة بشيء لم يحط حتى سليمان (عليه السلام) به .
وواضح أن مثل هذا التمهيد للنبأ وتحسيس سليمان بأنه نفسه لم يحط علما بالنبأ ... هذا النحو من الإخبار له أهميته الفنية في الإجابة على موقف سليمان ، بحيث يتوافق والتهديد الذي صدر منه ، أي أن الإجابة ستنصب ماء على اللهيب الذي أفرزه الغضب .
وقبل أن نتابع تفصيلات النبأ الذي قدمه الطائر ، لا مناص لنا من تذكير المتلقي بالأهمية الفنية أيضا لهذه الظاهرة ظاهرة إحاطة الطائر علما لم يحط به حتى سليمان ، حيث سبق أن أوضحنا أن هذه الظاهرة تنطوي ـ فضلا عما تقدم ـ على تحسيسنا بعظم العطاء الذي منحته السماء لسليمان ، بحيث تدفقت عليه بنحو لم يحتسبه ، فمادامت السماء قد سخرت له كل شيء . إذن فلتسخر له ما لم يخطر بباله ، لتسخر له الطائر الذي تطوع بمهمة لم يكلف سليمان بها الطائر ...
حكاية بلقيس هذه الحكاية بدأت على هذا النحو الذي ينقله الطائر لنا :
قال الطائر ، مخاطبا سليمان :
{وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ}
{إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ}
{وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ}
{وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ}
{وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ}
إن البطل الذي ستحوم عليه أحداث الاقصوصة ومواقفها هو : بلقيس التي أبهم النص اسمها ، وفصل ملكها وعقيدتها .
هذه الملكة تقيم في مدينة سبأ وقد اوتيت من كل شيء .
هنا ينبغي أن نلتفت إلى أحد الخطوط الهندسية لبناء الاقصوصة . فقد سبق للنص أن أخبرنا أن سليمان (عليه السلام) قد اوتي من كل شيء ... وها هو الطائر يخبرنا أن بلقيس قد اوتيت من كل شيء ...
ترى ، هل إن الأشياء التي اوتي بها سليمان هي ذاتها التي اوتيت بلقيس بها ؟
إن الأشياء التي تملكها سليمان قد سخرتها السماء بنحو معجز ... في حين أن الأشياء التي تملكتها بلقيس يسمها طابع الالفة ... وهذا الفارق بينهما سيستخلص بوضوح ما بعده وضوح . إنه عملية تذكير للمتلقي بقيمة الشخصية التي تتعامل مع السماء ، وافتراقها عن الشخصية التي تتعامل مع الأرض .
إن سليمان (عليه السلام) يتعامل مع الله فيؤتى من كل شيء .
وبلقيس تتعامل مع الأرض فتوتى من كل شيء أيضا . ولكن كم هو الفارق بين الشيء الذي اتيح لسليمان (عليه السلام) ، والشيء الذي اتيح لبلقيس ؟
على أية حال ، أن الطائر رسم لسليمان (عليه السلام) شخصية بلقيس من أنها ملكة قد اوتيت من كل شيء وشدد على وصف العرش الذي تملكه قائلا عنه : إنه عرش عظيم .
وهذا من حيث السمة الخارجية للبيئة التي تتحرك الملكة فيها .
أما من حيث السمة الداخلية ، فقد غلفتها أحط السمات ، ألا وهي : عبادة الشمس .
إذن لا قيمة ألبتة لهذا الملك الذي يجسد حياة عابرة ، ما دامت غير مرتبطة بالتعامل مع الله .
والطائر نفسه قد أدرك تفاهة هذا الملك ... مثلما أدرك مدى المفارقة التي تنطوي عليها عقيدة الملكة ، ومدى الضلال الذي غلفها وقومها ...
لقد أدرك الطائر هذه المفارقات الضخمة ، مستنكرا إياها كل الاستنكار ...
حيث نسب سلوك الملكة وقومها إلى الشيطان ، فقال :
{وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ}
وأوضح أنه سلوك مجانب للحقيقة ، لسبيل الحق ، فقال :
{فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ}
وأوضح أنه سلوك لا يهتدي إلى الحق ، فقال :
{فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ}
إن ما يهمنا التعقيب عليه الآن ، هو أن النص قد أوكل مهمة التعريف بشخصية الملكة وقومها ـ من حيث ضلالهم ـ أوكل ذلك إلى شخصية اخرى هي الطائر دون أن يتدخل النص بهذه المهمة مباشرة ، ودون أن يجعل مهمة التعريف لشخصية آدمية ...
والدلالة الفنية لمثل هذا التعريف واضحة تماما ، إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن إدراك حتى الشخصية الحيوانية لمفارقة السلوك غير المرتبط بالسماء ، إنما يكشف عن مدى التخلف الذهني لدى هؤلاء الذين لم يعوا الحقيقة . مضافا إلى ذلك أن إجراء الحق على لسان أحد الأبطال ، أشد تأثيرا في حالات خاصة من المباشرة .
عندما أخبر الطائر سليمان (عليه السلام) بنبأ ملكة سبأ وما هي عليه وقومها من الضلال ... عندها خاطب سليمان (عليه السلام) الطائر ، قائلا :
{سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ}
وإلى هنا لا تزال قصة الملكة بلقيس محفوفة بعنصر التشكيك بالنسبة إلى سليمان (عليه السلام) وموقفه من الطائر الذي تفقده ، وطالبه بإقامة الدليل على صحة دعواه في غيابه عن جند سليمان (عليه السلام) .
أما وقد قدم الطائر عذره في الغياب ، فحينئذ لا يزال سليمان متحفظا في تصديقه لهذه الدعوى .
وتبعا لذلك يقدم سليمان للطائر اقتراحا يستكشف من خلاله صحة الأنباء التي زوده الطائر بها .
والاقتراح الذي قدمه سليمان (عليه السلام) ، يمثله الحوار الآتي ، حيث خاطب سليمان الطائر ، بقوله :
{اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ}
هنا ينبغي أن نقف على الأسرار الفنية لهذا الحوار ، وما انطوى عليه من وظائف في عملية تطوير الأحداث وفي استثارة عنصر التشويق والمماطلة في استكشاف ما أبهمه النص .
فالملاحظ أن اقتراح سليمان محفوف بضبابية كثيفة لا يكاد يبين للمتلقي أي خط محدد فيها . فالمتلقي يتساءل : ترى ما هو محتوى الكتاب الذي أرسله سليمان بوساطة الطائر ؟ هل أن الكتاب له علاقة بسلوك الطائر من حيث كونه كاذبا أو صادقا في دعواه ؟ وإذا كان الأمر كذلك ، فما هو ياترى مضمون الكتاب ، وبأية لغة صيغت فقراته ؟
ومما لا شك فيه ، أن المتلقي على حق في تساؤله المذكور ، لأن النص القصصي نفسه وضعه في هذا الموقف المتساءل ، لسبب واضح كل الوضوح ، وهو أن سليمان (عليه السلام) خاطب الطائر بقوله : {سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ...} وهذا يعني أن مضمون الكتاب سيحوم على استكشاف السلوك الصادق أو الكاذب لدى الطائر .
وتوقعات المتلقي ـ تبعا لما تقدم ـ ستحوم على جملة من الافتراضات ، منها :
أن الكتاب موجه إلى الملكة وقومها ، وإلى أنه يتضمن أسئلة ما تتطلب مجرد إجابة عليها ، حيث يكشف الجواب عن وجود مثل هذه الدعوى التي ادعاها الطائر ... غير أن الغموض يظل يلف الموقف بالنسبة إلى مضمون الكتاب وليس مجرد إرساله .
وعلى أية حال ، فإن النص بهذه الصياغة من الحوار حقق جملة من الاستجابات الفنية في عملية التذوق القصصي :
منها : حمل المتلقي على المساهمة في عملية الاستكشاف بنفسه .
ومنها : تفجير عنصر المماطلة والتشويق في أعماقه لمتابعة مصير الطائر ودعواه في عملية الصدق والكذب ، وفي عملية التعرف على الأحداث نفسها .
ومنها : تحقيق عنصر الاقتصاد اللغوي في عملية القص الذي تتطلبه طبيعة الاقصوصة ، من حيث كونها تعتمد التركيز واختزال التفصيلات .
على أية حال ، أن النص القصصي سرعان ما يحيط المتلقي بمحتويات الكتاب ولكن من خلال حوار آخر وليس من خلال السرد القصصي .
وهذا الحوار الجديد يجريه النص على لسان الملكة بلقيس ...
من خلال حوار يقوم بينها وبين مستشاريها على النحو الآتي :
{قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ}
{إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}
{ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين}
{قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ}
إن هذا الحوار حافل بدوره بأسرار فنية بالغة الخطورة في عملية الاستكشاف لطبيعة الأحداث التي أبهمها الحوار السابق : خطاب سليمان . و في عملية استكشاف محتوياته التي تشوق المتلقي إلى معرفتها .
فقد عرف المتلقي أن الكتاب يتصل بمهمة الرسالة التي اضطلع سليمان بحملها إلى الآدميين ، ألا و هي : الدعوة إلى الإقرار بوحدانية الله .
كما عرف المتلقي أن مسألة صدق الطائر أو كذبه قد تجووزت إلى حقيقة ما أخبر به الطائر ، أي أدرك تماما صدق الطائر ، و تجاوزها إلى معرفة طبيعة الاستجابة التي صدرت عن بلقيس .
وبين أن النص قد استغنى عن إقحام هذه التفصيلات في كتاب سليمان ، أو في صياغة سرد يتضمنها ، ليس في تحقيق عملية التركيز القصصي فحسب ، بل في عملية تحقيق عنصر المماطلة والتشويق ، وفي عملية استكشاف المتلقي بنفسه ملابسات الموقف وتفصيلاته .
والحق أن المتلقي مدعو من جديد إلى تأمل هذين الحوارين : كتاب سليمان وتشاور بلقيس مع قومها ، . . مدعو إلى تأملهما بدقة ، لاستكشاف ما ينطويان عليه من أسرار فنية في عملية لهما لجملة من الوظائف التي تتطلب أكثر من سرد وأكثر من حوار وأكثر من تعقيب بغية إنارة الموقف ، لكن النص أنار كل تلكم المواقف والأحداث بحوارين تطورت الأحداث من خلالهما ، واستكشفت دعوى الطائر من خلالهما ، واستكشف مضمون الكتاب ، وموقف بلقيس من خلالهما .
عندما تسلمت بلقيس ملكة سبأ كتاب سليمان (عليه السلام) جمعت مستشاريها وأخبرتهم بذلك :
{إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ}
{وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ}
ثم طلبت منهم أن يتخذوا قرارا في هذا الصدد :
{قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ}
ويلاحظ هنا : أن الملكة لم تتسرع في رفض الدعوة أو تقبلها ، وإنما طلبت المشورة من القوم .
ويلاحظ ثانيا : أن مستشاريها أنفسهم لم يجرأوا على الرفض المباشر ، بل قالوا :
{نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ}
ويلاحظ ثالثا : أن الملكة في ردها على القوم لم تجرأ أيضا على الرفض ، بل التجأت إلى عملية اختبار قبل أن تتخذ قرارا حاسما ، ولذلك قالت :
{إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ}
{وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ}
إن ما يهمنا الآن ، هو أن نشير إلى أن عملية التردد تفرضها طبيعة الكتاب الذي أرسله سليمان (عليه السلام) وطبيعة الموقف الذي تصاحبه ملابسات يبدو أنها على صلة بالتعرف المسبق على شخصية سليمان .
أما الكتاب ، فبغض النظر عن الاستجابة التي يمكن أن تصدر حياله عند القوم ، فإن تصديره بسمة الرحمن الرحيم ، كاف في التحسيس بأن الدعوة إلى وحدانية الله تقترن بما هو في صالح الآدميين ، لأنه مصحوب بسمة الرحمة التي يتطلع إليها البشر في كل أنماط سلوكهم .
ومن هنا ، فإن أي رد على الكتاب لابد أن يتسم بالتحفظ في عملية الرفض ، إذا كان صاحب الرد قد غلفه سلوك متمرد كعبادة الشمس ونحوها .
مضافا إلى ذلك ، فإن لغة التهديد التي طبعت الكتاب قد غلفت بغلالة لا تصاحبها القسوة أو العنف الذي يلجأ إليه الأرضيون عادة .
هذا إلى أن الكتاب يتحدث بلغة العارف بأعماق النفوس وأمراضها ، حيث طالبهم سليمان بعدم العلو وركوب الرأس .
ثم طالبهم ـ وهذه سمة رابعة ـ بلغة الواثق بالانتصار «وأتوني مسلمين» .
لهذه الأسباب مجتمعة ، لابد ـ في تصورنا ـ أن تتحفظ الشخصية المتمردة في الرفض ، لأنها حيال حقائق تفرض واقعها على الشخصية .
وهذا ما حدث فعلا في استجابة الملكة ومستشاريها ، ومع أن مستشاريها قد لمـحوا لها باستعراض قوتهم ، إلا أنه في الواقع تلميح مفتعل مصحوب بالتردد ، لأنه لو لم يكن مصحوبا بالتردد المذكور ، لما تركوا الأمر في نهاية المطاف لرأي الملكة ، بل لزينوا لها الرفض .
وهذا كله من حيث محتوى الكتاب .
وأما من حيث الموقف وملابساته ، فإن النصوص المأثورة في التفسير تذكر لنا أن الملكة كانت مسبوقة بالتعرف على شخصية سليمان ، حيث سمعت بأنه ممن يملك الجن والإنس والطير ...
ومع مثل هذا التعرف ، فإن التردد في الرفض ، لابد أن يسم سلوك الملكة وقومها ، ما داموا أمام شخصية قد سخرت لها القوى ما لم تسخر لسواها .
والآن وقد تعرفنا على البعد النفسي لهذه الواقعة وما رافقتها من الاستجابة لدى الملكة وقومها ، يحسن بنا أن نتعرف على البعد الفني لها .
لقد قدمت الملكة بلقيس اختبارا متمثلا في إرسالها هدية إلى سليمان تصانعه بها على ملكها .
وقبل ذلك قالت لمستشاريها :
{إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً}
وهذا القول وما تبعه من الاقتراح بإرسال الهدية إلى سليمان ، سنجد له صدى في الجزء اللاحق من الاقصوصة ، حيث سيقدم سليمان (عليه السلام) بدوره عملية اختبار من جانبه متمثلا في تنكيره لعرشها على نحو ما سنتحدث عنه لاحقا . فيما يحقق النص القصصي بهذا الاختبار توازنا هندسيا في بناء الاقصوصة .
بيد أن ما نعتزم التلميح إليه الآن في هذا الجزء من الاقصوصة ، هو تحديد اختبارها ومدى الفارق بينه وبين الاختبار الذي سيقدمه سليمان (عليه السلام) جوابا على ذلك .
لكننا قبل كل شيء ينبغي أن نتعرف على دوافع اقتراحها المتقدم .
إن النص القصصي أبهم إلى حد ما دوافع هذه العملية ، بحيث يمكننا أن نتساءل :
هل إن جوابها لمستشاريها من أن الملوك سيبيدون المدينة التي يحتلونها ، ويذلون أشرافها ، هل إن هذا الجواب مفتعل أم إنه عفوي يعبر عن رد فعل طبيعي لدى الملكة ؟
إن المتلقي من الممكن أن يستخلص من الجواب المذكور ، أن هذا الجواب مفتعل تستهدف الملكة من ورائه أن تحيط قومها علما بأن سليمان على حق ، لكنها لاتستطيع تمرير هذه الحقيقة بجواب مباشر ، ولذلك تتقدم بالاختبار مفصحة بهذا عن تحذيرهم من سليمان ، وموحية إليهم بضرورة الاستسلام .
ويمكن للمتلقي أيضا أن يستخلص خلاف هذا ، بأن يرى إلى هذا الجواب رد فعل طبيعي لخبراتها عن الملوك وسلوكهم في عمليات الفتح .
وواضح أن كلا من هذين الاستخلاصين مفتوح للمتلقي ، وسيظل كذلك حتى بعد تعرفه على جواب سليمان (عليه السلام) ، كما سنرى .
لقد أرسلت ملكة سبأ بهدية إلى سليمان (عليه السلام) ...
وهذه الهدية تحتل من بناء القصة موقعا جماليا وفكريا لا ينبغي أن نقف عليه عابرا دون التعرف على خصائص موقعه المذكور .
وأهمية هذه الهدية تتمثل في انطوائها على جواب لتساؤلات المتلقي ، فيما قلنا إنه من الممكن أن يستخلص من سلوك الملكة مجرد افتعال أو عفوية . فضلا عن إننا لابد أن نتساءل أيضا خارجا عن الاستخلاص المذكور ، ترى ما هي أبعاد هذه الهدية التي تبدووكأنها تحمل فاعلية سحرية ـ في تصور الملكة ـ بحيث تستطيع أن تكشف عن حقائق السلوك الإنساني ، وتبين الفارقية بين سلوك مرتبط بالأرض وسلوك مرتبط بالسماء ؟
وإذا كان الفارق بين السلوكين ، من الممكن أن نتبينه بوضوح من خلال طريقة الفتح ، بحيث نستكشف ـ كما قالت الملكة ـ من أن السلوك مرتبط بالأرض في حالة ما إذا أفسد الملوك دار الفتح وأهانوا أشرافها ، ومن أن السلوك مرتبط بالسماء إذا كان الأمر خلاف ذلك ...
أقول : إذا كان من الممكن تبيين الفارقية من خلال السلوكين المذكورين واضحا في الأذهان ، فهل إن إرسال هدية ما ، بمقدورها أن تكشف عن الفارقية بين السلوكين أيضا ؟
إن الجواب على هذا السؤال ، هو الذي يحملنا على أن نتعرف على نمط الهدية وموقعها الجمالي والفكري من الاقصوصة نظرا للأهمية الكبيرة التي تعلقها الملكة على هذا الاختبار ، وملاحظة ما إذا كانت الملكة صائبة في تصورها للموقف أم لا .
إن الاحتمالات التي يمكن أن يستخلصها المتلقي في محاولته التعرف على نمط الهدية ، تتمثل في جملة من الاحتمالات ، منها :
1 ـ أن تكون الهدية ذات قيمة مالية كبيرة ، بحيث تحمل الملوك على تقبلها مادامت عائدة بفائدة اقتصادية ضخمة لهم ، أو لشعوبهم .
2 ـ أن تكون الهدية إفصاحا عن نوع من المساومة بحيث تحقق إنجازا نفسيا له قيمته لدى ملوك الأرض ، سواء أكان هذا الإنجاز النفسي مرتبطا بكبر حجم الهدية أو لمجرد كونه هدية تعورف على أن تقديمها يظل نوعا من الاعتراف أوالتقاليد ، يكون لها ـ عادة ـ موضع تقدير لدى الملوك .
3 ـ أن تكون الهدية مصحوبة بنمط من الإختبار ، أي : لم تكن مجرد عينة مادية تقدم إلى الملوك ، بل يصحبها نوع من التوصية ، بحيث يكون التعامل مع هذه التوصية ، كاشفا عن معرفة ما إذا كان سليمان (عليه السلام) شخصية أرضية تماثل الآخرين في سلوكها المألوف ، أو ما إذا كان سليمان (عليه السلام) شخصية أرسلتها السماء فعلا إلى الآدميين ، أي إذا كان نبيا .
ومما لا شك فيه ، أن الاحتمالين الأولين لا يمكنهما أن يكشفا تماما عن الفارقية بين ملوك الأرض وبين الأنبياء ، لبداهة أن بعض ملوك الأرض من الممكن أن يتعاملوا في عمليات الفتح وفق سلوك غير متسم بالعنف وإهانة الأشراف ، ومن الممكن أيضا أن لا يساوموا في أفكارهم بحيث يبيعونها لقاء هدية تقدم إليهم .
وحينئذ فإن الاحتمال الثالث فحسب ، هو الذي يستطيع أن يكشف الفارقية بين ملوك الأرض والأنبياء ، ونعني به الاحتمال الذاهب إلى أن الهدية كانت مصحوبة بنمط من التوصية ، بحيث يفصح التعامل معها عن كون الشخصية عادية ، أم أنها شخصية تتعامل مع الوحي ، ... مع الإعجاز ...
وهذا الاحتمال هو الذي اضطلعت النصوص المفسرة بتحديد أبعاده فعلا .
إن النصوص المفسرة لم تتفق على تحديد نمط الهدية ، لكنها اتفقت على أنها قد صحبت بتوصية ذات اختبار لإمكانيات سليمان (عليه السلام) وصلة ذلك بسلوك النبوة أو عدمه .
فهناك من النصوص ما يذهب إلى أن الهدية كانت عبارة عن حقة فيها جوهرة ضخمة أوصت الملكة رسولها أن يقول لسليمان (عليه السلام) : اثقب الجوهرة بلا حديد أو نار .
ويضيف هذا النص : أن سليمان (عليه السلام) أمر بعض جنوده من الديدان ، فتناول خيطا بفمه فثقب الجوهرة ، وأخرج الخيط من جانبها الآخر .
وهناك نصوص متنوعة ، يذهب بعضها إلى أن الهدية كانت : وصفاء ووصائف ، البسوا لباسا واحدا ، وأوصت الملكة بالتمييز بين الذكور والاناث ، مضافا إلى الحقة أيضا ...
وأيا كان الأمر ، فإن سليمان (عليه السلام) بتسخيره للجنود من جن وإنس وطير ، سيكون بمقدوره أن يتجاوز هذا الاختبار بدون صعوبة ، كما حدثتنا النصوص المفسرة بذلك . حيث قدمت أجوبة الاختبارات بتفصيلات متنوعة في هذا الصدد لا يعنينا أن نذكرها بقدر ما يعنينا التلميح إلى أن نجاح سليمان في الاختبار لا يحتاج إلى التعقيب ما دامت القصة منذ بدايتها تحوم على إبراز البعد المعجز في سلوك سليمان .
هذا إلى أن بعض النصوص المفسرة أضافت إلى عملية الاختبار وصفا للبيئة التي هيأها سليمان (عليه السلام) قبل استلامه الهدية ، وهي بيئة إعجازية رهيبة من حيث حشد الجنود وترصيع الأرض بالمجوهرات ، فيما استهدف سليمان من ذلك تحسيس الرسول مسبقا بحقيقة الأمر .
نتجه الآن إلى مقطع جديد من اقصوصة بلقيس ، حيث يبدأ هذا الجزء من الاقصوصة مع رد الفعل الذي سيحدثه جواب بلقيس على رسالة سليمان .
لقد تقدمت بلقيس بهدية إلى سليمان بغية اختباره ومعرفة ما إذا كان منتسبا إلى السماء في سلوكه أو ما إذا كان منتسبا إلى الأرض ، على نحو ما فصلنا الحديث عنه .
والآن ، ما هو رد الفعل على عملية الاختبار المذكورة ؟
قال سليمان (عليه السلام) لرسول الملكة بلقيس :
{أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ}
{ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ}
{وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ}
إن هذا الرد من الفعل يجيبنا على الأسئلة التي سبق أن طرحها المتلقي متمثلة في جملة من الاحتمالات ، حيث قوينا الاحتمال الذاهب إلى أن الهدية لابد أن تكون مصحوبة بتوصية ما ، لاختبار سليمان .
ومع أن جواب سليمان لا يكاد يشف عن عملية الاختبار ، إلا أن النصوص المفسرة ـ كما سبق القول ـ قد عززت الاحتمال المذكور ، فضلا عن أن طبيعة النبوة تعزز مثل هذا الاحتمال الذي لابد أن يقوم على تمييز الفارقية بين ملك عادي ينتسب إلى الأرض ، وبين نبي يتلقى تعليماته من السماء .
وفي تصورنا أن النص القصصي في تضبيبه لهذا الجانب وإبرازه الجانب المادي من الهدية ، إنما وظف هذا العنصر من أجل حقيقة فنية تتمثل في إجابة القوم بلغتهم وأفكارهم وسلوكهم الأرضي الذي اعتادوا عليه .
أما الجانب الاختباري فلا ضرورة فنية لإبرازه مادامت الأحداث اللاحقة من القصة ستكشف عن ظواهر إعجازية لم تدر ببال الدنيا كلها ، حيث ستتلاشى قيمة الاختبار أمام ضخامة المعجز الذي ستشاهده بلقيس ، ونعني بذلك ، المعجز الذي سيأتي بعرش بلقيس إلى مقر سليمان في لحظات معدودة من الزمن .
وإذن إبراز الجانب المادي من الهدية واختزال جانبها الاختباري ، قد انطوى على خصيصة فنية في عملية التذوق للنص القصصي .
والآن ما هي تفصيلات رد الفعل المذكور ، أي : إبراز الجانب المادي ، وكيف تعامل سليمان مع القوم ورسولهم ؟
إن النصوص المفسرة تنهض بتقديم بعض التفصيلات التي تشكل قبل الجواب الرسمي جوابا غير مباشر للقوم .
إن الجواب الرسمي والجواب المباشر على رسول بلقيس ، هو قول سليمان :
{أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ}
هذا هو بعض رد الفعل الرسمي والمباشر .
ولكن سليمان (عليه السلام) قبل هذا الرد عمد إلى رد غير مباشر ، لتحسيس القوم بضخامة المال الذي يتملكه ، قبال ضآلة المال الذي تمتلكه بلقيس .
فالنصوص المفسرة تذكر لنا على سبيل المثال النص الآتي :
فأمر سليمان الجن أن يضربوا لبنات الذهب ولبنات الفضة ، ففعلوا .
ثم أمرهم أن يبسطوا من موضعه الذي هو فيه إلى بضع فراسخ ميدانا واحدا بلبنات الذهب والفضة . وأن يجعلوا حول الميدان حائطا ، شرفه من الذهب والفضة ، ففعلوا .
ثم قال للجن : علي بأولادكم ، فاجتمع خلق كثير ، فأقامهم على يمين الميدان ويساره .
ثم قعد سليمان في مجلسه على سريره ، ووضع له أربعة آلاف كرسي عن يمينه ، ومثلها عن يساره ، وأمر الشياطين أن يصطفوا صفوفا فراسخ . وأمر الإنس فاصطفوا فراسخ . وأمر الوحش والسباع والهوام والطير ، فاصطفوا فراسخ عن يمينه ويساره . فلما دنا القوم من الميدان ونظروا إلى ملك سليمان تقاصرت إليه أنفسهم ورموا بما معهم من الهدايا .
إن هذا النص التفسيري يلخص لنا كل شيء ، يلخص لنا رد سليمان غير الرسمي على القوم الكافرين . إذ أنـه من الواضح ، أن مثل هذا الرد ينطوي على حقيقة نفسية بالغة الأهمية . فالموكب الرهيب ، والمدهش ، والمعجز ، والمرعب ، والمثير ... هذا الموكب الذي يفترش مساحات واسعة من لبنات المال الضخم :
الذهب والفضة ، ... ثم هذا الموكب الذي يصطف مساحات واسعة من الجن والإنس والطير والوحش والسباع والهوام فيه ، ثم انتظام اولئك في صفوف وخطوط وميادين منتظمة غاية الانتظام ... كل ذلك كاف في تحسيس القوم ، ليس بتحقير الهدية التي حملوها من الملكة فحسب ، بل بإدخال الرعب المدمر في نفوسهم .
والمهم بعد ذلك كله ، أن هذا الرد غير المباشر قد أردفه سليمان برد رسمي مباشر هو قوله :
{أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ}
وهنا ينبغي أن ننتبه إلى المهمة الفنية لهذا الرد الرسمي وصلته بالرد غير المباشر ، من جديد .
فسليمان (عليه السلام) عندما يخاطب القوم بأن ما آتاه الله خير مما آتاهم ، لابد أن يقدم إلى القوم دليلا ماديا على أن ما آتاه الله خير مما آتاهم ... وكم يكون هذا الدليل المادي ذا قيمة عندما يلحظه القوم بأنفسهم قبل أن يتسلموا ردا رسميا بذلك!
إذن القيمة الفنية للرد الرسمي وصلتها بالرد غير المباشر ، قد اتضحت تماما في هذه الجزئية من القصة .
وأخيرا كم تكون القيمة النفسية كبيرة لهذا الرد الرسمي ، حينما يخاطبهم سليمان بقوله :
{بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ}
فبهذا الختام في رده يكون قد وجه لطمة كبيرة لهم من خلال تزهيده وتحقيره لهديتهم ، ... من خلال كشفه لنفوسهم المتهافتة التي تفرح بما هو زهيد وحقير وتافه من المتاع الدنيوي .
لقد كان رد سليمان لهدية بلقيس ، وتتويجه بتلك الفقرة العاصفة التي حسس فيها رسول الملكة بتفاهة هديتها ، وإلى أن الأرضيين هم الذين يفرحون بأمثال تلك الهدية ...
بعد هذا الرد الذي سبقه رد غير مباشر في عملية العرض العسكري والمالي ...
بعد اولئك جميعا تهيأ سليمان (عليه السلام) للزحف على القوم ، مؤكدا ذلك من خلال قراره الآتي :
{فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا}
{وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ}
هنا يتساءل المتلقي : ترى ، أن سليمان (عليه السلام) لم يتسلم بعد ردا رسميا أو غير رسمي على إرجاعه لهدية القوم . فما هو الدافع إلى قراره العسكري في الزحف عليهم ؟
إن النص القصصي قد أبهم هذا الجانب ولم يسرد لنا فيما إذا كانت الملكة قد اقتنعت بنبوة سليمان (عليه السلام) أم إنها مترددة ، أم رافضة .
لا شك أن المتلقي مادام قد أدرك أن بلقيس قد تقدمت بعملية اختبار ، حينئذ فإن نتائج الاختبار أوضحت لها بما لا لبس فيه أن سليمان قد اوتي من القوة ما لم يؤت سواه في هذا الصدد ، وإلى أن ذلك فوق الحسبان والتخيل . وبخاصة أن رسولها لابد أن أخبرها بالعرض العسكري والمالي الذي شاهده عيانا .
وتبعا لذلك فإن احتمال يقينها بصدق الدعوة التي وجهها إليها ، يظل قويا لا تردد فيه . وهذا يعني أنها ستأتي إليه مسلمة طائعة ، ما دام سليمان في كتابه قد خاطب القوم :
{أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ}
وبالفعل فإن الجزء اللاحق من القصة يدلنا على أن القوم سيأتونه طائعين مسلمين .
يقول النص القصصي ـ على لسان سليمان (عليه السلام) ـ :
{يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ}
وهذا يعني أن سليمان (عليه السلام) قد احيط علما بأن رد الفعل على جوابه للملكة ، سيكون إيجابيا ، وإلى أن القوم سيأتونه طائعين مسلمين .
لكن المتلقي يتساءل من جديد : إذا كان الأمر كذلك ، فلماذا قرر أولا أن يتجه بالزحف عليهم ، ولماذا قرر أن يأتوه بعرش بلقيس قبل أن يأتيه القوم طائعين ، مسلمين ؟
إن المبنى الفني للقصة حينما يتأدى بهذا النحو ، فلأنه يثير لدى المتلقي تذوقا جماليا يدعه يتحسس بخطورة هذا الأداء الفني لعملية القص ، بعد أن يكون قد قطع أكثر من رحلة في عملية التأمل والاستخلاص والكشف .
فالقصة سرعان ما تلفت انتباهنا إلى أن القوم سيستسلمون .
لم تقل القصة هذا مباشرة ...
لم تقله على لسانهم من خلال الحوار ...
ولم تقله من خلال السرد ...
وإنما قالته على لسان سليمان (عليه السلام} حينما قال :
{أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ}
وعندها استخلص المتلقي أن القوم قد استسلموا .
ولكن مع ذلك كله لا يزال المتلقي يلفه الغموض حول الأسباب التي حملت سليمان على اتخاذ قراره العسكري في الزحف ، ما دام قد احيط علما بأن القوم سيأتونه طائعين .
إن هذا النمط من الغموض ، مقابلا للغموض الذي سرعان ما اكتشفه المتلقي ...
يظل خصيصة فنية لا يدركها بوضوح إلا من خبر أسرار الاستجابة الفنية وطرائقها . فالنص بدأ واضحا في عملية رد سليمان على القوم ، واتجه إلى الغموض التام في عملية التهديد العسكري ، واتجه إلى غموض نسبي في عملية الكشف عن استسلام القوم ...
هذه المستويات من الوضوح والغموض والتراوح بينهما ، يظل على صلة بطرائق التوصيل الفني إلى الآخرين .
والمهم أن الاستخلاص والكشف وخضوعهما لأكثر من احتمال ، يظل واحدا من المعطيات التي تصاحب تذوق أي نص فني له خطورته .
وتبعا لذلك فإن المتلقي قبال ما تقدم لايزال يقطع دروبا مختلفة في عملية استخلاصه وكشفه للأحداث وتفسيرها ، وفي مقدمتها تساؤله عن السبب الذي حمل سليمان على اتخاذ قراره العسكري في الزحف . ثم تساؤله عن السبب الذي حمل سليمان أن يطالب بإتيان عرش بلقيس قبل أن يأتيه القوم طائعين ، مسلمين .
من الممكن أن يكون اتخاذ القرار العسكري المذكور ـ في تصور المتلقي ـ حوارا توجه به سليمان (عليه السلام) إلى رسول بلقيس كرد فعل على الهدية . وهذا الاحتمال سيكون صائبا في حالة ما إذا افترضنا أن سليمان قد احيط علما فيما بعد ، بأن القوم سيأتونه طائعين وإلى أن القرار المذكور قد اتخذ قبل أن يحاط سليمان علما بذلك . وسيكون هذا الاحتمال صائبا أيضا إذا افترضنا بأن سليمان (عليه السلام) قد تعمد اتخاذ القرار المذكور وتوصيله عن طريق رسول الملكة ، ليحمل القوم على الاستسلام . وفعلا فإن القوم عندما اخبروا بواقع القضية من خلال الاختبار ، والعرض العسكري ، والتهديد أخيرا ، حينئذ فإن الاحتمال سيكون قويا في استسلام القوم على النحو الذي أخبرنا سليمان نفسه بذلك عبر مطالبته بعرش بلقيس .
لكن المطالبة بالعرش قبل أن تأتي بلقيس مستسلمة ، هذه المطالبة ذاتها تظل محفوفة بغموض وضبابية لدى المتلقي .
وإذا كانت الضبابية التي غلفت الظواهر السابقة قد أماط المتلقي بعض الستار عنها ، فإن وقوفه على الظاهرة الأخيرة ، ونعني بها سبب المطالبة بالعرش قبل أن تأتي بلقيس ... هذه الظاهرة لاتزال محفوفة بشيء من الغموض الفني الممتع .
وقبل أن نتحدث عن تصورنا الفني الخاص لهذه الظاهرة ، لا مناص من الإشارة إلى استخلاص المفسرين في هذا الصدد ، حيث ذهب بعضهم إلى أن سليمان أراد أن يتملك العرش قبل استسلام بلقيس ، حيث يحرم عليه بعد الاستسلام .
وذهب آخر إلى أن تسلمه العرش سيكون دليلا إعجازيا آخر يعزز إيمان بلقيس بنبوة سليمان (عليه السلام) .
وذهب ثالث إلى أن القضية قضية اختبار لعقل الملكة ، وهكذا .
يخيل إلي أن السبب الذي دعا سليمان (عليه السلام) إلى أن يطالب بعرش بلقيس قبل أن تأتيه طائعة مسلمة يعود إلى أكثر من مسوغ نفسي وفني :
منها : أن سليمان من الممكن أن يكون قد استهدف تعميق قناعتها ويقينها بالسماء حتى تستكمل معالم إيمانها الجديد ، وتمسح كل آثار العقيدة السابقة ، فهي عندما ستفاجأ بمثل هذا المعجز الذي يفوق سائر ما سمعت به ، ستتعمق دون أدنى شك قناعتها بالاتجاه الجديد .
ومما يعزز هذا الذهاب أن الأجزاء اللاحقة من القصة ، أي التفصيلات التي سترافق تنكير العرش ـ كما سنرى ـ تصب في هذا المنحى ، وكلها نماذج من المعجز الذي حرص سليمان على إظهاره أمام بلقيس .
ومنها : أي من المسوغات الفكرية التي دعت سليمان (عليه السلام) إلى المطالبة بعرش بلقيس قبل أن تأتيه مسلمة ، هو : تحسيس الملكة بأن التعامل مع الله من شأنه أن يتيح للشخصية إمكانات لم تحلم بها ، إلى الحد الذي يفوق التصور ، بحيث تسخر السماء كل شيء لعبيدها الطائعين .
ومما لا شك فيه أن تحسيس الملكة بهذه الظاهرة سيكون له أثر أشد من الأثر الذي ينسحب على شخصية عادية لم تحي حياة الملوك والسلطة وامتيازاتها المتنوعة . فما دامت بلقيس قد خبرت مثل هذه الحياة وامتيازاتها ... حينئذ عندما تشاهد تفاهة امتيازاتها الأرضية قبال خطورة الامتيازات التي تهبها السماء لعبيدها المؤمنين ، حينئذ سيكون لهذا التحسيس أثره المتميز ، وفاعليته المتميزة لدى الشخصيات الأرضية التي خبرت حياة لم يخبرها العاديون .
ومنها : أي من المسوغات التي دعت سليمان إلى المطالبة بالعرش قبل أن تجيء بلقيس مسلمة ، ... من هذه المسوغات : مسوغ فني عائد إلى البناء الهندسي للقصة .
فهذه القصة وهي تحفل بأبنية ممتعة ، متنوعة الأشكال كما لحظنا ، تواجهنا الآن بنمط آخر من عمليات التوازن أوالتوازي أو التقابل الهندسي بين المواقف والأحداث ، مما تضفي على النص معمارية جميلة نتذوقها بكل خطوطها بوضوح .
ومن جملة هذه العمليات القائمة على التوازي أو التوازن أو التقابل الهندسي بين المواقف والأحداث ، هو هذا التقابل بين صنيع الملكة وصنيع سليمان .
فالملكة قامت بعملية اختبار كما لحظنا ، حيث أرسلت مع الهدية رسولا تختبر من خلاله مدى قدرة سليمان (عليه السلام) على التعامل مع تلك الحقة التي كانت الجوهرة في داخلها ، فيما طولب سليمان بإخراجها من الحقة .
وها هو سليمان (عليه السلام) يقابل ذلك الاختبار الذي اجتازه بسهولة عندما أمر إحدى الديدان بانجاز المهمة المذكورة ...
وها هو سليمان (عليه السلام) يقابل ذلك الاختبار الذي اجتازه بنجاح ، ... يقابله باختبار مذهل ، مدهش ، يصعق العقل حينما يفاجئ بلقيس بعرشها وهو ماثل بين يديه ، ويختبرها بذلك الصرح الذي حسبته لجة ، كما سنرى تفصيلاته لاحقا .
إذن من حيث البناء المعماري للقصة ، يمكننا أن نلحظ بوضوح جمالية هذا البناء القائم على عملية التوازن أو التوازي أو التقابل الهندسي بين المواقف والأحداث ، مما يفسر لنا واحدا من الأسرار الفنية الكامنة وراء مطالبة سليمان بعرش بلقيس قبل أن تأتيه مسلمة ، طائعة . مضافا إلى الأسرار الفكرية والنفسية التي سبق أن أوضحناها قبل قليل .
والآن بعد أن أوضحنا طبيعة الأسرار الفنية وراء المطالبة بعرش بلقيس ...
يحسن بنا أن نتابع تفصيلات هذه المطالبة ، وكيف تجسدت واقعة صاحبتها وقائع مثيرة تحوم بأكملها على ما هو معجز وطريف ومدهش ، إتساقا مع مبنى القصة القائم بأكمله على ما هو معجز وطريف ومدهش .
إذن فلنتابع التفصيلات .
يقول النص القصصي ـ بعد مطالبة سليمان بإتيان العرش وتساؤله عمن سيقوم بهذه المهمة ـ :
{قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ :}
{أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ}
{وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ}
{قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ :}
{أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ...}
إن هذا الموقف الذي نقله النص القصصي إلينا يحفل ببعد جديد من الإثارة الفنية في طبيعة ما ينطوي عليه من إجابات مذهلة ، مصعقة ، تطير بالألباب .
فنحن الآن أمام إجابتين ، أو أمام شخصيتين ، تقول اولاهما : إنها مستعدة بأن تقلع عرش بلقيس من مدينة سبأ وتنقله إلى مقر سليمان في مدة هي : قبل أن يقوم سليمان من مجلسه الذي يتشاور فيه مع القوم .
وهذه المدة قد تكون دقائق ، وقد تكون ساعات محدودة لا تتجاوز في الحالين الزمن الذي تستغرقه جلسة قد اعتادها سليمان ، إلى نصف النهار .
أما الثانية : أي الإجابة أو الشخصية الاخرى ، فقد تطوعت بانجاز المهمة المذكورة بمدة أقل من الشخصية الاولى ، حيث قالت أنها مستعدة لأن تقلع عرش بلقيس وتنقله إلى سليمان بأقل من طرفة عين ، أي في مدة قد لا تتجاوز الثانية أوالثانيتين أو الثلاث ثوان ...
من الممكن أن نتساءل عن السر الفني الكامن وراء مطالبة سليمان (عليه السلام) بعرش بلقيس ، من حيث عدم تكليفه شخصية محددة من جنوده ، بل ترك ذلك إلى اختيارهم . ثم ماذا يمكن للمتلقي أن يستخلصه من وراء تقديم عرضين :
أحدهما يبدي استعدادا لجلب العرش خلال ساعات .
والآخر يبدي استعدادا لجلبه خلال ثوان !
الملاحظ ـ إجابة عن السؤال الأول ـ أن سليمان لم يتخذ قرارا محددا في تعامله مع الجنود التي سخرتها السماء له . ففي قضية الهدهد وجد سليمان (عليه السلام) أ نه بحاجة إلى من يدله على الماء في أعماق الأرض ، واتجه مباشرة إلى الهدهد ليكلفه بهذه المهمة ، فيما لم يعثر عليه على نحو ما تقدم الحديث عنه .
وهنا في قضية جلب عرش بلقيس لم يتجه إلى جندي خاص ، بل ترك ذلك لاختيارات الجنود أنفسهم .
طبيعيا قد يستخلص المتلقي أن القضية متيسرة لدى الجنود المخاطبين على اختلاف أجناسهم من بشر وجن وطير .
وقد يستخلص أن مثل هذا النمط من المطالبة يكشف عن مدى تسخير السماء الجنود لسليمان ، بحيث تجعلهم يتبارون في السبق إلى تنفيذ أوامره . يستوي في ذلك أن يكون التنفيذ نتيجة تكليف إجباري مباشر ، كما هو الحال في قضية الطائر الهدهد ، أو نتيجة تكليف اختياري ، كما هو الحال في قضية جلب العرش .
ومن الواضح أن مثل هذا الاستخلاص يكشف عن بعد جديد من معمارية القصة التي تقدم في كل جزء من أجزاءها بناء هندسيا جديدا في هذا الصدد .
فالقصة تشدد على قضية التسخير بكل مستوياتها ...
وقد لحظنا جانبا من التسخير يتمثل في حشد كل الأجناس من طير وإنس وجن ...
ولحظنا جانبا يتمثل في اقتدار سليمان على تسخيرهم في كل شيء ...
ونلحظ الآن جانبا يتمثل في تنويع الأساليب التي يستخدمها في التسخير ، وسهولة الإجابة إلى طلبه وإلى أن السماء ـ وهذا مبدأ عام ـ تقف وراء ذلك حتى وإن كان الأمر خافيا على سليمان في بعض جوانبه .
وإذا كان النص القصصي في قضية الطائر قد سخر لسليمان ما كان خافيا عليه ... فإنه في القضية الجديدة ـ جلب عرش بلقيس ـ يسخر نمطا آخر يتصل بتحقيق أشد الرغبات إلحاحا عليه .
فالنصوص المفسرة تذكر لنا أن سليمان عندما رغب بجلب العرش قبل إتيان بلقيس طائعة مسلمة ، كانت رغبته ملحة في الإسراع بجلب العرش . وهنا تأتي الإجابة أيضا على السؤال الآخر الذي أثاره المتلقي حول الاستفهام عن سبب تقديم عرضين : أحدهما بمقدوره أن يحقق المهمة بسويعات ، والآخر بثوان .
المهم أن سليمان (عليه السلام) عندما رغب بشدة أن يسرع في الإتيان بالعرش ، فحينئذ كان من الطبيعي أن ينقل رغبته إلى الجنود كافة ، لا أن يخصصها لجندي محدد ، كما هو الحال في قضية الطائر .
ومن هنا عندما أعلن «عفريت من الجن» عن استعداده لجلب العرش في سويعات ، قال له سليمان (عليه السلام) ـ حسب بعض النصوص المفسرة ـ : اريد أسرع من ذلك ، مفصحا بهذا عن رغبته الملحة في الاسراع بإتيان العرش .
ومن هنا أيضا جاء المسوغ الفني والفكري لأن تبرز القصة عرضا آخر يتقدم به {الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ} فيما أعلن عن استعداده بجلب العرش قبل أن يرتد الطرف ، أي في لحظات لا تتعدى الثانية أو أكثر بقليل .
إذن المسوغ الفني والفكري بدأ يتضح أمام المتلقي في تساؤله عن السر الكامن وراء عدم تحديد سليمان للشخصية التي ستنهض بتحقيق المهمة ، ... وفي تساؤله عن السر الكامن وراء مشاهدته لعرضين متفاوتين يتقدم بهما جنديان من جنود سليمان (عليه السلام) .
وحين نتابع رسم الملامح الخاصة لهاتين الشخصيتين :
{عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ} و {الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ}
نجد أن القصة تعرضهما بنحو بالغ المدى في الإثارة والإمتاع .
فمن جانب نجد أن القصة بتقديمها لهاتين الشخصيتين ، تكون قد استكملت الأجناس الثلاثة من الجنود الذين ذكرتهم القصة في البداية ، أي أجناس : الطير والجن والإنس .
ففي قضية البحث عن الماء في أعماق الأرض ، أو في قضية الإخبار عن بلقيس ، كانت الطير ـ ممثلة في الهدهد ـ تجسيدا لأحد الأجناس الثلاثة . وفي القضية التي نحن الآن في صددها يأتي الجنسان الآخران الإنس والجن تجسيدا لهذا الموضوع .
فالنصوص المفسرة تذكر لنا أن الشخصية التي عندها علم من الكتاب هي آصف بن برخيا وزير سليمان ، وهي شخصية من الإنس ، وأما الشخصية الاخرى فهي من الجن بصريح النص القصصي فيما وصفها بقوله : {عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ} .
إذن يكون النص القصصي بهذا التقديم للشخصيتين المذكورتين قد استكمل رسم الأجناس الثلاثة من الجنود الذين سخرتهم السماء لسليمان ، حيث قالت القصة في البداية :
{وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ}
وهذه الصلة بين بداية القصة وهذا الجزء الذي ندرسه الآن ، لها أهميتها الفنية الكبيرة في الصياغة القصصية من حيث بنائها المعماري ، حيث تكشف لنا عن التماسك والتلاحم والترابط بين فصول القصة ، والنماء العضوي لأجزائها ، على هذا النحوالممتع الذي نلحظه ولحظناه في سلسلة الأبنية الهندسية ، التي ما أن نغادر واحدا منها حتى يواجهنا بناء آخر يتداخل مع سابقه ، وحتى يطل بنا في نهاية المطاف على هيكل متماسك يشع بجمالياته من كل جانب .
وهذا كله من حيث صلة الشخصية من الإنس والجن بالجنود الآخرين ، وهيكل القصة بعامة .
وأما من حيث الملامح الخاصة بهما ، فإن القصة ترسمهما بنحو آخر من الرسم .
إن الشخصيتين اللتين تطوعتا لجلب عرش بلقيس ، قد رسمهما النص القصصي كما لحظنا ، جنديين من جنود سليمان (عليه السلام) يستطيعان بنحو معجز ـ مثل سائر الجنود الذين واجههم المتلقي ـ أن ينفذوا أوامر سليمان (عليه السلام) .
ومثلما لحظنا ، فإن الجندي الأول قد تطوع بجلب العرش خلال ساعات ، ...
بينما تطوع الجندي الثاني بجلبه خلال ثوان .
ومما يلفت الانتباه أن النص القصصي قد رسم ملامح البطل الأول بسمات ثلاث هي : كونه عفريتا ، وكونه قويا ، وكونه أميناً .
أما البطل الثاني ، فقد اكتفى بوصف داخلي لشخصيته ، هو كونه يحمل علما من الكتاب .
ومما يلفت الانتباه أيضا ، أن الجندي الأول قد نسبه النص صريحا إلى جنس الجن ، بينما أبهم النص شخصية البطل الثاني ، ولم يبين انتسابه إلى أحد الأجناس .
مع ملاحظة أن البطل الثاني قد رسمه النص شخصية لها إمكاناتها التي لا تتوفر لدى الآخر .
والآن ما هي الخصائص الفنية لأمثلة هذا الرسم لملامح البطلين المذكورين ؟
ونقف مع البطل الأول :
لقد خلع النص على هذا البطل سمة العفريت . وهو مارد داهية بالقياس إلى سائر الجن .
ثم خلع عليه سمة القوة والأمانة . لكن هاتين السمتين أطلقهما البطل على نفسه .
وبمقدورنا في ضوء هذه الملامح ومستوياتها أن نستخلص ، أن إضفاء السمة الاولى عفريت على البطل المذكور ، من الممكن أن تستهدف لفت انتباه المتلقي إلى خطورة العمل الذي تطوع البطل لإنجازه .
فالقضية تتصل بنقل سرير بلقيس وما يحتف به ، من مدينة نائية إلى مقر سليمان . ومثل هذا العمل يتطلب شخصية تتميز بدهاء وقوة وما إليهما من السمات التي تتوافق ونوع العمل الذي تطوع البطل له ، وقصر المدة التي حددها :
وهي ساعات معدودة .
وهذا فيما يتصل بالسمة التي خلعها النص نفسه على البطل .
غير أن البطل ذاته قد نسب لنفسه سمتين لم ينسبهما النص إليه ، وهما سمتا القوة والأمانة .
ويبدو أن البطل عندما يؤكد لسليمان توفر مثل هاتين السمتين لديه ، ... إنما يستهدف تأكيد قدرته على إنجاز المهمة المذكورة ، وسبق أن قلنا : إن النص حرص على إبراز معطيات السماء لسليمان من حيث التسخير بنحو يشكل بطانة القصة بأكملها .
وها هو البطل يحرص على إبراز إمكاناته ، بغية حمل سليمان (عليه السلام) على إيكال المهمة إليه .
والسمة الاولى التي يمكن أن توفر عنصر الإقناع بإمكان العملية وتحقيقها ، هي : القوة على الإنجاز .
أما السمة الثانية ، فهي الأمانة . بيد أن هذه السمة يبدو أنها ليست بذات علاقة بموضوع الإنجاز .
لكن المتلقي ـ مستعينا بنصوص التفسير ـ يبدأ بإدراك أن هذه السمة لها صلتها بالمحتويات المادية التي يتضمنها السرير وما يحتف به من ذهب ومجوهرات ونحوهما .
والسؤال هنا ، هل يمكننا أن نتصور إمكان أن يخون البطل مثلا ، حتى يؤكد وجود صفة الأمانة لديه ؟
مما لا شك فيه أن مثل هذا الاحتمال موجود بالفعل ، مادام سليمان (عليه السلام) نفسه في قضية الهدهد قد توقع تمرد الطائر مثلا ، بحيث هدده بالعذاب والقتل . ومادام النص القرآني نفسه في نصوص اخرى من القرآن الكريم ـ في غير سورة النمل ـ قد أشار إلى هذا الجانب ، وتوعد بأن يذيق أية شخصية من الجن عذابا أليما إذا حدثت نفسها بالتمرد على أوامر سليمان (عليه السلام) .
وشأن الجن ـ في هذا الصدد ـ شأن الجنس البشري الذي قد تحدثه نفسه بالتمرد .
والمهم أن البطل قد أكد سمة الأمانة مقترنة بسمة القوة ، ليحمل سليمان (عليه السلام) على الاقتناع بإيكال المهمة إليه .
والملاحظ من حيث البناء الهندسي للقصة أن النص في قضية الهدهد قد رسم عنصر التشكيك في أعماق سليمان من حيث تمرد الطائر أو عدمه . هنا رسم النص عنصر التشكيك في أعماق من سليمان حيال شخصية «عفريت من الجن» من حيث قدرته على نقل العرش ومن حيث أمانته أو خيانته .
لكنه في الحالين أنهى النص هذه القضية إلى مصير إيجابي ، بحيث جعل الطائر مخلصا في سلوكه ، والعفريت مخلصا في ذلك أيضا . وبهذا النحو من الانتهاء إلى المصائر الايجابية يكون النص قد ألقى إنارة تامة على قضية التسخير التي تشكل بطانة القصة ، بحيث يحيط المتلقي إحاطة كاملة بأن معطيات السماء لا حدود لها في تسخيرها لسليمان (عليه السلام)كل شيء .
ومن جديد ينبغي أن نشير إلى هذا البعد الفني للقصة :
1 ـ من حيث التوازن أو التقابل الهندسي بين شخصيتي سليمان والجن من حيث تشكيك كل منهما .
2 ـ ومن حيث إلغاء هذا التشكيك والمضي بالأحداث والمواقف إلى مصائر إيجابية للأبطال جميعا .
والآن ، ماذا عن البطل الآخر ، أي : الذي عنده علم من الكتاب ؟
كان البطل الأول شخصية من الجن .
أما البطل الآخر ، فقد أبهم النص ـ كما قلنا ـ جنسه .
كان البطل الأول موسوما بسمات ثلاث : خارجية وداخلية وعامة .
أما البطل الآخر ، فثمة سمة واحدة داخلية هي التي تسمه : {عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ} .
الفارق الآخر بين البطلين : أن البطل الأول عفريت من الجن قد حدد قدراته بأنها تمثل إمكان أن يأتي بسرير بلقيس في ساعات ، قبل أن يقوم سليمان من مجلسه ، أما البطل الآخر الذي أبهمه النص ، فقد حدد قدراته بأضخم من سابقه بكثير ، حيث حددها بأقل من ارتداد البصر .
ترى من هو هذا البطل الذي قدم عرضا مذهلا عن قدراته ؟
قلنا : إن النص القصصي أبهم ملامح البطل الذي تطوع لجلب العرش من حيث الجنس والاسم ، وشدد على ملمح داخلي لديه هو :
{الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ}
وعندما نعود إلى النصوص المفسرة نجد أن النصوص الموثوق بها تكاد تجمع على أن البطل المذكور هو من الإنس ، واسمه آصف بن برخيا وشغله وزير سليمان (عليه السلام) .
وتقول النصوص المذكورة : إن السمة التي رسمتها القصة للبطل المذكور ، ونعني بها سمة {عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ} ، تتمثل في معرفته بواحد من أحرف الله تعالى ، وإلى أ نه تكلم بهذا الاسم ، فطويت له الأرض وأتى بعرش بلقيس بأقل من ارتداد البصر ، كما وعد سليمان بذلك .
والمهم أن القصة برسمها لهذا الملمح ، تكون قد استكملت ـ من حيث البناء الفني ـ رسمها للقوى الثلاث التي أشارت المقدمة القصصية إليها عندما ألمحت إلى أن السماء سخرت له جنودا من الجن والإنس والطير .
فقد لحظنا كيف تم تسخير الطير متمثلا في الهدهد ، وتسخير الجن متمثلا في المارد {عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ} ، ثم تسخير الإنس متمثلا في آصف .
والملاحظ أن الشخصية الأخيرة وهي من الإنس ، قد قدمها النص القصصي متفوقة على جنسها الآخر : الجن . محسسا إيانا بذلك أن الكائن الآدمي عندما يخلص في صلته بالسماء تهبه السماء ما لم تهب القوى الاخرى .
ويكفينا أن نجد أن تسخير كل القوى إنما تم لشخصية آدمية هي سليمان الذي يمثل البطل الرئيس للقصة . فيما حامت الحوادث والمواقف حول شخصيته ، ...
وهي الشخصية التي اخلصت في تعاملها مع السماء ، وتوجته بهذه الفقرة التي عقب بها النص على إنجاز آصف لمهمته ، وجلبه لعرش بلقيس قبل أن يرتد الطرف :
{فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا}
أي لما رأى سليمان العرش مستقراً عنده ، قال :
{هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ}
ومع استقرار عرش بلقيس عند سليمان ، تكون القصة قد أشرفت على النهاية .
وتكون مرحلة ما يسمى بالإنارة في المصطلح القصصي بعد بلوغ القصة تأزمها في الأحداث ، قد أطلت علينا متمثلة في معرفة ما ستسفر عنه الأحداث في هذه المرحلة .
والآن ، لنتابع هذه المرحلة :
{قَالَ} : أي سليمان (عليه السلام) :
{نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ}
{فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ}
{قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ}
{وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ}
{وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ}
{قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً}
{وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا}
{قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ}
{قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
وبهذا الإسلام لله تنتهي قصة سليمان (عليه السلام) على نحو ما حدثنا النص القصصي بذلك .
ولا أرانا بحاجة إلى إعادة القول بأن هذا الاختبار متمثلا في تنكير العرش ، يظل من حيث البناء الفني للقصة جواباً على الاختبار الذي سلكته بلقيس مع سليمان (عليه السلام) عندما أرسلت له رسولا تختبر من خلاله مدى صحة النبوة التي لمستها من كتاب سليمان (عليه السلام) .
ونحن خارجاً عن هذا المبنى الهندسي الذي يمثل عنصر التوازن أو التوازي أو التقابل ، ... خارجا عنه ، يحسن بنا أن نقف ولو عابرا على تفصيلات هذه البيئة التي رسمتها القصة ، حيث يتزاوج فيها عنصر الجمال مع عنصر الفكر ، أي جمال المرأى أو ما يسمى بالمشهد مع الفكر الذي نستخلصه من الحادثة وما يرافقها من المعجز والمدهش والطريف .
إن المرأى يتمثل في تغيير معالم عرش بلقيس ، حسب توصية سليمان .
والهدف من ، ذلك هو اختبار عقل بلقيس كما صرح سليمان (عليه السلام) بذلك .
وتقول النصوص المفسرة : إن فصوص السرير وجواهره قد نزعت منه ، أو غيرت أماكنها أو ألوانها .
وفعلا عندما جاءت بلقيس وسئلت عن عرشها ، أبهم الأمر أمامها ، فقالت : {كَأَنَّهُ هُوَ}
ثم جاءت مرحلة اخرى من الاختبار لم تستطع اجتيازه بنجاح أيضا ، ويتمثل هذا الاختبار في أن سليمان أمر الشياطين ببناء صرح معين من القوارير وأجرى المياه تحته وجمع فيها الحيتان والضفادع وغيرها من حيوانات الماء .
وعندما طولبت بلقيس بدخول الصرح اشتبه الأمر عليها ، فحسبت الصرح لجة ، فكشفت عن ساقيها . وعندها اخبرت بحقيقة الأمر .
وما أن أحاطت علما بحقيقة الأمر حتى هتفت قائلة :
{رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
وهكذا تنتهي القصة بهذا المصير الرائع لبلقيس : مصير الإيمان بعد الكفر .
وهكذا أيضا تنتهي القصة بعد أن تكون قدمت اختبارا يوازن به اختبارها لسليمان (عليه السلام) ، لكن مع الفارق العظيم بين سليمان (عليه السلام) وبلقيس ، بين سليمان (عليه السلام) الذي اجتاز الاختبار بنجاح ، وبين الاختبار الذي فشلت بلقيس في اجتيازه .
وهكذا أيضا تنتهي القصة بعد أن تكون قد قدمت سلسلة متلاحقة متماسكة من الأحداث والمواقف الحائمة على ظاهرة التسخير ، وموقع السماء من هذا التسخير ، وموقع الاخلاص في العبادة من ذلك كله .
أخيرا جاءت حكايتا النمل وبلقيس منصبتين على هدف مركزي يتصل بعطاء الله تعالى لشخصية سليمان ، وبأهداف ثانوية أو فرعية ترتبط بعملية الإنارة للشخصية المذكورة ، ولكنها في الآن ذاته ـ تكشف عن خصوصيات متنوعة مثل إحاطة طائر بمالم يحط الشخصية الرئيسة به ، ومثل تنامي شخصية كافرة إلى مؤمنة ، ... إلى آخره . كل ذلك بسبب عملية محورية هي التسخير المعجز بالنحو الذي لاحظناه .
|
|
5 علامات تحذيرية قد تدل على "مشكل خطير" في الكبد
|
|
|
|
|
مكتبة العتبة العباسية.. خدمات رقمية متطورة وجهود لتلبية احتياجات الباحثين
|
|
|