أقرأ أيضاً
التاريخ: 2024-01-23
1591
التاريخ: 2023-12-21
2118
التاريخ: 10-06-2015
2264
التاريخ: 2023-12-08
883
|
نهض ابن جني (ت : 392 هـ) بأعباء الصوت اللغوي بما يصح أن نطلق عليه اسم الفكر الصوتي ، إذ تجاوز مرحلة البناء والتأسيس إلى مرحلة التأصيل والنظرية ، فقد تمحض لقضية الأصوات في كتابه (سر صناعة الإعراب) مما جعله في عداد المبدعين ، وخطط لموضوعات الصوت مما اعتبر فيه من المؤصلين ، ونحن الآن بإزاء بيان المبادئ العامة لفكره الصوتي دون الدخول في جزئيات الموضوع.
ويجدر بنا في بداية ذلك أن ننتبه لملحظين مهمين ونحن نستعرض هذا الفكر في سر صناعة الأعراب : (1) أ- إن ابن جني كان أول من استعمل مصطلحا لغويا للدلالة على هذا العلم ما زلنا نستعمله حتى الآن ، وهو «علم الأصوات».
ب- إن ابن جني يعدّ الرائد في هذه المدرسة ، وكان على حق في قوله في كتابه : «و ما علمت أن أحدا من أصحابنا خاض في هذا الفن هذا الخوض ، ولا أشبعه هذا الإشباع ... (2)
وبدءا من المقدمة يعطيك ابن جني منهجه الصوتي ، لتقرأ فيه فكره ، وتتلمس فلسفته ، وتتثبت من وجهته ، فيذكر أحوال الأصوات في حروف المعجم العربي (من مخارجها ومدارجها ، وانقسام أصنافها ، وأحكام مجهورها ومهموسها ، وشديدها ورخوها ، وصحيحها ومعتلها ، ومطبقها ومنفتحها ، وساكنها ومتحركها ، ومضغوطها ومهتوتها ، ومنحرفها ومشرّبها ، ومستويها ومكررها ، ومستعليها ومنخفضها ، إلى غير ذلك من أجناسها» (3).
وابن جني في هذا الاسترسال السلس يعطينا مهمة الفكر الصوتي في تحقيق المصطلحات بعامة عن طريق تشخيص المسميات التي أسماها ، وإن سبق إلى بعضها عند الخليل وسيبويه وهو لا يكتفي بهذا القدر حتى يبحث الفروق ، ويعين المميزات ويذكر الخصائص لكل حرف من هذه الأصناف ، ويفرق بينها وبين الحركات ، مع لوازم البحث ومقتضياته ، إلماما بجميع الجوانب ، وتنقيبا عن كل النوادر المتعلقة بهذه الأبواب فيقول :
«وأذكر فرق ما بين الحرف والحركة ، وأين محل الحركة من الحرف :
هل هي قبله أو معه أو بعده؟ وأذكر أيضا الحروف التي هي فروع مستحسنة ، والحروف التي هي فروع مستقبحة ، والحركات التي هي فروع متولدة عن الحركات ، كتفرع الحروف من الحروف. وأذكر أيضا ما كان من الحروف في حال سكونه له مخرج ما ، فإذا حرك أقلقته الحركة ، وأزالته عن محله في حال سكونه ، وأذكر أيضا أحوال هذه الحروف في أشكالها ، والغرض في وضع واضعها ، وكيف ألفاظها ما دامت أصواتا مقطعة ، ثم كيف ألفاظها إذا صارت أسماء معرفة ، ما الذي يتوالى فيه إعلالان بعد نقله ، مما يبقى بعد ذلك من الصحة على قديم حاله ، وما يمكن تركبه ومجاورته من هذه الحروف وما لا يمكن ذلك فيه ، وما يحسن وما يقبح فيه مما ذكرنا ، ثم أفرد- فيما بعد- لكل حرف منها بابا أغترف فيه ذكر أحواله وتصرفه في الكلام من أصليته وزيادته ، وصحته وعلته ، وقلبه إلى غيره ، وقلب غيره إليه» (4).
إن هذا المنهج يكشف عن عمق الفكر الصوتي عند ابن جني إذ يعرض فيه عصارة تجاربه الصوتية دقيقة منظّمة ، ويتفرغ لبحث أصعب المشكلات الصوتية بترتيب حصيف يتنقل فيه من الأدنى إلى الأعلى ، ومن البسيط إلى المركب حتى إذا تكاملت الصورة لديه ، بدأ بالبحث المركز ، فلا ترى حشوة ولا نبوة ، ولا تشاهد تكرارا أو اجترارا ، فأنت بين يدي مناخ جديد مبوّب بأفضل ما يراد من التصنيف والتأليف ، فلا تكاد تستظهر علما مما أفاض حتى يلاحقك علم مثله كالسبيل اندفاعا ، ولعل أبرز ما تعقبه في سر صناعة الاعراب لصوقا بجوهر الصوت الخالص البحوث الآتية :
1- فرق ما بين الصوت والحرف.
2- ذوق أصوات الحروف.
3- تشبيه الحلق بآلات الموسيقى (المزمار ، العود).
4- اشتقاق الصوت والحرف.
5- الحركات أبعاض حروف المد.
6- العلل وعلاقتها بالأصوات.
7- مصطلحات الأصوات العشرة التي ذكرها آنفا مع ما يقابلها.
8- حروف الذلاقة والإصمات.
9- حسن تأليف الكلمة من الحروف فيما يتعلق بالفصاحة في اللفظ المفرد ، وتأصيل ذلك على أساس المخارج المتباعدة.
10- خصائص كل صوت من حروف المعجم ، وحيثياته ، وجزئياته كافة ، بمباحث متخصصة لم يسبق إليها في أغلبها ، فهي طراز خاص في المنهج والعرض والتبويب.
ولو أضفنا إلى مباحث (سر صناعة الإعراب) جملة من مباحثه في جهوده الأخرى لا سيما في كتاب (الخصائص) لتوصلنا من ضم بعضها لبعض إلى مجموعة مفضلة من مباحث الصوت اللغوي يمكن رصدها وتصنيفها على النحو الآتي :
1- الصوامت من الحروف والصوائت.
2- علاقة اللهجات بالأصوات.
3- علاقة الإعراب بالأصوات.
4- التقديم والتأخير في حروف الكلمات وتأثيرهما على الصوت.
5- علاقة الافعال بالأصوات.
6- الإعلال والإبدال والإدغام وأثرها في الأصوات.
7- الأصوات وعلاقتها بالمعاني.
8- زيادة المبنى الصوتي وأثره في زيادة المعنى.
ويبدو لي أن هذه هي أهم الأصول العامة لمباحث الصوت اللغوي عند ابن جنى في كتابيه ، والتوسع في كل أصل يقتضي بحثا متكاملا في كل مقوماته ، وبذلك يتوصل إلى فكره الصوتي ، في العرض والأسلوب والنتائج ، والسبيل مسيرة أمام الباحثين ، ولا بد لنا من الإشارة لملامح هذا الفكر في نقاط ، لأننا لسنا بإزاء تتبعه ، بل بإزاء القربة إليه لرصد مميزاته ومنهجه في المعالجة والإفاضة والتصنيف.
أولا : لقد تتبع ابن جني الحروف في المخارج ، ورتبها ونظمها على مقاطع مستفيدا بما ابتكره الخليل ، إلا أنه كان مخالفا له في الترتيب ، وموافقا لسيبويه في الأغلب إلا في مقام تقديم الهاء على الألف ، وتسلسل حروف الصفير(5).
ويرجح الدكتور حسام النعيمي أن تقدم الهاء على الألف في كتاب سيبويه من عمل النسّاخ ، لأن ابن جني- وهو أقرب إلى عصر سيبويه من النساخ المتأخرين- قد نصّ على أن الألف مقدمة على الهاء عند سيبويه ، وإن حروف الصفير وهي (الزاي) ، السين ، الصاد) من مخرج واحد فلا يتقدم أحدها على الآخر ، فلم يبال بالتقديم والتأخير بينها لذلك (6).
وهكذا كان ترتيب الحروف عند ابن جني على ترتيب المخارج :
الهمزة ، الألف ، الهاء ، العين ، الحاء ، الغين ، الخاء ، القاف ، الكاف ، الجيم ، الشين ، الياء ، الضاد ، اللام ، الراء ، النون ، الطاء ، الدال ، التاء ، الصاد ، الزاي ، السين ، الظاء ، الذال ، الثاء ، الفاء ، الباء ، الميم ، والواو (7).
وهذا الترتيب مخالف للخليل ، وفيه بعض المخالفة لسيبويه في ترتيبه كما يظهر هذا لدى المقارنة في جدولة الترتيبين كما سبق.
وابن جني لا يخفى هذا الخلاف بل ينص عليه ، ويذهب إلى صحة رأيه دونهما فيقول :
«فهذا ترتيب الحروف على مذاقها وتصعدها ، وهو الصحيح ، فأما ترتيبها في كتاب العين ففيه خطل واضطراب ، ومخالفة لما قدمناه آنفا محاربته سيبويه ، وتلاه أصحابه عليه ، وهو الصواب الذي يشهد التأمل له بصحته» (8).
ثانيا : ويضيف ابن جني إتماما لنظريته في الأصوات : ستة أحرف مستحسنة على حروف المعجم العربي ، وثمانية أحرف فرعية مستقبحة ، ولا يصح ذلك عنده إلا بالسمع والمشافهة ، حتى تكون حروف المعجم مع الحروف الفرعية المستحسنة خمسة وثلاثين حرفا ، وهما مع الحروف الفرعية المستقبحة ثلاثة وأربعون حرفا.
ولا معنى لهذه الإضافات من قبله لو لم يكن معنيا بالصوت فحروف العربية تسعة وعشرون حرفا ، لا شك في هذا ، ولكن الحروف المستقبحة والمستحسنة التي أضافها ، وإن لم يكن لها وجود في المعجم العربي ، إلا أن لها أصواتا في الخارج عند السامعين ، وهو إنما يبحث في الأصوات فأثبتها ، فعادت الأصوات في العربية عنده ثلاثة وأربعين صوتا ، وهو إحصاء دقيق ، وكشف جديد ، وتثبيت بارع.
وقد ذهب ابن جني في هذه الحروف مذهبا فنيا تدل عليه قرائن الأحوال ، فهو يعطي استعمالها في مواطنه ، وتشخيصها في مواضعه ، فالحروف المستحسنة عنده ، يؤخذ بها في القرآن وفصيح الكلام ، وهي :
«النون الخفيفة ، والهمزة المخففة ، وألف التفخيم ، وألف الإمالة ، والشين التي كالجيم ، والصاد التي كالزاي ... والحروف الفرعية المستقبحة ، هي فروع غير مستحسنة ، لا يؤخذ بها في القرآن ولا في الشعر ، ولا تكاد توجد إلا في لغة ضعيفة مرذولة ، غير متقبلة. وهي : الكاف التي بين الجيم والكاف ، والجيم التي كالكاف ، والجيم التي كالشين ، والضاد الضعيفة ، والصاد التي كالسين ، والطاء التي كالتاء ، والظاء التي كالثاء ، والباء التي كالميم» (9).
ثالثا : ويحصر ابن جني مخارج الحروف في ستة عشر مخرجا ، ناظرا إلى موقعها في أجهزة النطق ، ومنطلقا معها في صوتيتها ، ويسير ذلك بكل ضبط ودقة وأناقة ، فيقول :
«واعلم أن مخارج هذه الحروف ستة عشر ، ثلاثة منها في الحلق :
1- فأولها من أسفله وأقصاه ، ومخرج الهمزة والألف والهاء.
2- ومن وسط الحلق : مخرج العين والحاء.
3- ومما فوق ذلك من أول الفم : مخرج الغين والخاء.
4- ومما فوق ذلك من أقصى اللسان : مخرج القاف.
5- ومن أسفل من ذلك وأدنى إلى مقدم الفم : مخرج الكاف.
6- ومن وسط اللسان ، بينه وبين وسط الحنك الأعلى : مخرج الجيم والشين والياء.
7- ومن أول حافة اللسان وما يليها : مخرج الضاد.
8- ومن حافة اللسان من أدناها إلى منتهى طرف اللسان ، من بينها وبين ما يليها من الحنك الأعلى ، مما فويق الضاحك والناب والرباعية والثنية : مخرج اللازم.
9- ومن طرف اللسان بينه وبين ما فوق الثنايا : مخرج النون
10- ومن مخرج النون ، غير أنه أدخل في ظهر اللسان قليلا لانحرافه إلى اللام : مخرج الراء.
11- ومما بين طرف اللسان وأصول الثنايا : مخرج الطاء والدال والتاء.
12- ومما بين الثنايا وطرف اللسان : مخرج الصاد والزاي والسين.
13- مما بين اللسان وأطراف الثنايا : مخرج الظاء والذال والثاء.
14- ومن باطن الشفة السفلى وأطراف الثنايا العلى : مخرج الفاء.
15- وما بين الشفتين ، مخرج الباء والميم والواو.
16- ومن الخياشيم ، مخرج النون الخفيفة ، ويقال الخفيفة أي : الساكنة ، فذلك ستة عشر مخرجا» (10).
وحينما يتابع ابن جني مسيرته الصوتية في مخارج هذه الحروف ، نجده متمحضا لها في دقة متناهية بما نعتبره أساسا لما تواضع عليه الأوروبيون باسم الفونولوجي Phonolojy أي «التشكيل الأصواتي» أو هو النظام الصوتي في تسمية دي سوسور له وهو ما نميل إليه (11).
ومن خلال هذا النظام نضع أيدينا على عدة ظواهر صوتية متميزة في المنهج الصوتي عند ابن جني كشفنا عنها بصورة أولية في عمل أصواتي مستقل سبقت تغطيته (12).
(2) ابن جني ، سر صناعة الاعراب : 1/ 63.
(3) ابن جني ، سر صناعة الإعراب : 1/ 3- 4.
(4) المصدر نفسه والصفحة.
(5) قارن بين : سيبويه ، الكتاب : 2/ 405+ ابن جنّي ، سر الصناعة : 1/ 52- 53.
(6) ظ : حسام النعيمي ، الدراسات اللهجية والصوتية عند ابن جنّي : 301.
(7) ابن جني ، سر صناعة الاعراب : 1/ 50
(8) المصدر نفسه : 1/ 50- 51.
(9) ابن جني ، سر صناعة الاعراب : 1/ 51.
(10) ابن جني ، سر صناعة الاعراب : 1/ 52- 53.
(11) ظ : دي سوسور ، علم اللغة العام : 51.
(12) ظ : المؤلف ، منهج البحث الصوتي عند العرب : بحث.
|
|
5 علامات تحذيرية قد تدل على "مشكل خطير" في الكبد
|
|
|
|
|
مكتبة العتبة العباسية.. خدمات رقمية متطورة وجهود لتلبية احتياجات الباحثين
|
|
|