المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

القرآن الكريم وعلومه
عدد المواضيع في هذا القسم 17644 موضوعاً
تأملات قرآنية
علوم القرآن
الإعجاز القرآني
قصص قرآنية
العقائد في القرآن
التفسير الجامع
آيات الأحكام

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر



تفسير الآية (21-29) من سورة الفرقان  
  
6082   05:59 مساءً   التاريخ: 14-9-2020
المؤلف : إعداد : المرجع الإلكتروني للمعلوماتية
الكتاب أو المصدر : تفاسير الشيعة
الجزء والصفحة : .....
القسم : القرآن الكريم وعلومه / التفسير الجامع / حرف الفاء / سورة الفرقان /

قال تعالى : {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَو نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا (22) وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23) أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24) وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا} [الفرقان : 21 - 29]

 

تفسير مجمع البيان

- ذكر الطبرسي في تفسير هذه الآيات (1) :

 

ثم حكى سبحانه عن حال الكفار بقوله {وقال الذين لا يرجون لقاءنا} أي لا يأملون لقاء جزائنا وهذا عبارة عن إنكارهم البعث والمعاد وقيل معناه لا يخافون فهي لغة تهامة وهذيل يضعون الرجاء موضع الخوف إذا كان معه جحد لأن من رجا شيئا خاف فوته فإنه إذا لم يخف كان يقينا ومن خاف شيئا رجا الخلاص منه فوضع أحدهما موضع الآخر {لولا أنزل علينا الملائكة} أي هلا أنزل الملائكة ليخبرونا بأن محمد نبي {أو نرى ربنا} فيخبرنا بذلك ويأمرنا باتباعه وتصديقه قال الجبائي وهذا يدل على أنهم كانوا مجسمة فلذلك جوزوا الرؤية على الله .

ثم أقسم الله عز اسمه فقال {لقد استكبروا} بهذا القول {في أنفسهم} أي طلبوا الكبر والتجبر بغير حق {وعتوا} بذلك أي طغوا وعاندوا {عتوا كبيرا} أي طغيانا وعنادا عظيما وتمردوا في رد أمر الله تعالى غاية التمرد ثم أعلم سبحانه أن الوقت الذي يرون فيه الملائكة هويوم القيامة وإن الله تعالى قد حرمهم البشرى في ذلك اليوم فقال {يوم يرون الملائكة} يعني يوم القيامة {بشرى يومئذ للمجرمين} أي لا بشارة لهم بالجنة والثواب قال الزجاج والمجرمون الذين أجرموا الذنوب وهم في هذا الموضع الذين اجترموا الكفر بالله عز وجل {ويقولون حجرا محجورا} أي ويقول الملائكة لهم حراما محرما عليكم سماع البشرى عن قتادة والضحاك وقيل معناه ويقول المجرمون للملائكة كما كانوا يقولون في الدنيا إذا لقوا من يخافون منه القتل حجرا محجورا دماؤنا عن مجاهد وابن جريج قال الخليل كان الرجل يرى الرجل الذي يخاف منه القتل في الجاهلية في الأشهر الحرم فيقول حجرا أي حرام عليك حرمتي في هذا الشهر فلا يبدأه بشر فإذا كان يوم القيامة رأوا الملائكة فقالوا ذلك ظنا منهم أنه ينفعهم وقيل معناه يقول الملائكة حراما محرما أن يدخل الجنة إلا من قال لا إله إلا الله عن عطا عن ابن عباس وقيل يقولون حجرا محجورا عليكم أن تتعوذوا فلا معاذ لكم {وقدمنا إلى ما عملوا من عمل} أي قصدنا وعمدنا كما في قول الشاعر :

وقدم الخوارج الضلال *** إلى عباد ربهم فقالوا

إن دماءكم  لنا حلال

 وفي هذا بلاغة عجيبة لأن التقدير قصدنا إليه قصد القادم على ما يكرهه مما لم يكن رآه قبل فيغيره وأراد به العمل الذي عمله الكفار في الدنيا مما رجوا به النفع والأجر وطلبوا به الثواب والبر نحو إنصافهم لمن يعاملهم ونصرهم للمظلوم وأعتاقهم وصدقاتهم وما كانوا يتقربون به إلى الأصنام {فجعلناه هباء منثورا} وهو الغبار يدخل الكوة من شعاع الشمس عن الحسن ومجاهد وعكرمة وقيل هو رهج الدواب (2) عن ابن زيد وقيل هوما تسفيه الرياح وتذريه من التراب عن قتادة وسعيد بن جبير وقيل هو الماء المهراق عن ابن عباس والمنثور المتفرق وهذا مثل والمعنى تذهب أعمالهم باطلا فلم ينتفعوا بها من حيث عملوها لغير الله .

ثم ذكر سبحانه فضل أهل الجنة على أهل النار فقال {أصحاب الجنة يومئذ} يعني يوم القيامة {خير مستقرا} أي أفضل منزلا في الجنة {وأحسن مقيلا} أي موضع قائلة قال الأزهري القيلولة عند العرب الاستراحة نصف النهار إذا اشتد الحر وإن لم يكن مع ذلك نوم والدليل على ذلك أن الجنة لا نوم فيها وقال ابن عباس وابن مسعود لا ينتصف النهار من يوم القيامة حتى يقيل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار قال البلخي معنى خير وأحسن هنا أنه خير في نفسه وحسن في نفسه لا بمعنى أنه أفعل من غيره كما في قوله وهو أهون عليه أي هو هين عليه وكما يقال الله أكبر لا بمعنى أنه أكبر من شيء غيره .

{ويوم تشقق السماء بالغمام} عطف على قوله {يوم يرون} المعنى تتشقق السماء وعليها غمام كما يقال ركب الأمير بسلاحه وخرج بثيابه أي وعليه سلاحه وثيابه عن أبي علي الفارسي وقيل تتشقق السماء عن الغمام الأبيض عن الفراء وإنما تتشقق السماء لنزول الملائكة وهو قوله {ونزل الملائكة تنزيلا} وقال ابن عباس تتشقق السماء الدنيا فينزل أهلها وهم أكثر ممن في الأرض من الجن والإنس ثم تتشقق السماء الثانية فينزل أهلها وهم أكثر ممن في السماء الدنيا من الإنس والجن ثم كذلك حتى تتشقق السماء السابعة وأهل كل سماء يزيدون على أهل السماء التي قبلها .

{الملك يومئذ الحق للرحمن} أي الملك الذي هو الملك حقا ملك الرحمن يوم القيامة ويزول ملك سائر الملوك فيه وقيل إن الملك ثلاثة أضرب ملك عظمة وهو لله تعالى وحده وملك ديانة وهو بتمليك الله تعالى وملك جبرية وهو بالغلبة {وكان يوما على الكافرين عسيرا} أعسر عليهم ذلك اليوم لشدته ومشقته ويهون على المؤمنين كأدنى صلاة صلوها في دار الدنيا وفي هذا بشارة للمؤمنين حيث خص بشدة ذلك اليوم الكافرين {ويوم يعض الظالم على يديه} ندما وأسفا وقيل هو عقبة بن أبي معيط بن أمية بن عبد شمس على ما مضى ذكره عن ابن عباس وقيل هو عام في كل ظالم نادم يوم القيامة وكل خليل يخال غيره في غير ذات الله قال عطاء يأكل يديه حتى تذهبا إلى المرفقين ثم تنبتان ولا يزال هكذا كلما نبتت يده أكلها ندامة على ما فعل .

{يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا} أي ليتني اتبعت محمدا (صلى الله عليه وآله وسلّم) واتخذت معه سبيلا إلى الهدى {يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا} يعني أبيا {خليلا} وقيل أراد به الشيطان عن مجاهد وإن قلنا إن المراد بالظالم هنا جنس الظلمة فالمراد به كل خليل يضل عن الدين ولو قال لما اتخذ فرعون وهامان وإبليس وجميع المضلين لطال فقال فلانا حتى يتناول كل خليل مضل عن الدين {لقد أضلني} أي صرفني وردني {عن الذكر} أي عن القرآن والإيمان به {بعد إذ جاءني} مع الرسول وتم الكلام هنا ثم قال الله {وكان الشيطان للإنسان خذولا} لأنه يتبرأ منه في الآخرة ويسلمه إلى الهلاك ولا يغني عنه شيئا .

_______________

1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج7 ، ص290-293 .

2- الرهج : ما أثير من الغبار .

 

تفسير الكاشف

- ذكر محمد جواد مغنية في تفسير هذه الآيات (1) :

 

{وقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَولا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَو نَرى رَبَّنا} . ما زال الكلام عن المشركين الذين لا يرجون ثواب الآخرة ، ولا يخافون عقابها ، وقد حكى سبحانه في هذه الآية انهم اقترحوا إنزال الملائكة عليهم لتخبرهم بأن محمدا (صلى الله عليه واله وسلم) نبي ، أو يأتي اللَّه بنفسه ويخبر هو مباشرة . وتقدم نظيره في الآية 92 من سورة الإسراء .

{لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً} . وأي استكبار وطغيان وجهل وغرور أعظم من هذه الجرأة واقتراحهم أن يروا اللَّه جهرة ، ويكلمهم مشافهة ؟

ولا فرق بينهم وبين من قالوا : لا نؤمن باللَّه لأنّا لا نراه . . ولكنهم في الوقت نفسه يؤمنون بأشياء لا تقع تحت حاسة من الحواس .

لقد زعم الماديون انه لا شيء إلا الطبيعة العمياء ، فهي التي أوجدت نفسها ، أو أوجدتها الصدفة ، وهي نظمت ورتبت هذا الكون العجيب ، وهي التي خلقت العقل والسمع والبصر ، أي ان الطبيعة - في منطقهم - قادرة على كل شيء ، ولكنها لا تدرك شيئا ، وبهذا ناقضوا أنفسهم ، لأن اعترافهم بوجود النظام هو بذاته اعتراف بوجود قوة قادرة عالمة ، وقولهم : لا شيء إلا الطبيعة العمياء هو انكار ونفي لهذه القوة ، ومعنى هذا ان الطبيعة تدرك ولا تدرك ، وتعلم ولا تعلم .

{يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ} اقترح المشركون أن تنزل عليهم الملائكة ، فأجاب سبحانه بأن لهم يوما يرون فيه الملائكة ، وهو يوم القيامة ولكن لا شيء فيه يبشرهم بخير ، بل هو وبال عليهم وعلى أمثالهم من المجرمين :

{يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ ومِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ويَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} - 55 العنكبوت{ويَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً} ضمير يقولون يعود إلى الملائكة ، والمعنى ان الملائكة يقولون للمجرمين : حراما محرما عليكم اليوم أن تروا أو تسمعوا ما تحبون ، وقيل : يعود الضمير إلى المجرمين لأنه أقرب ، وعليه يكون المعنى ان المجرمين يقولون للملائكة : حراما محرما عليكم إيذاءنا وتعذيبنا ، وكل من التفسيرين جائز ، ويرجع إلى معنى واحد ، وهو خوف المجرمين من شر يوم القيامة وهوله .

{وقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ} كانوا يظنون أنه ينفعهم في هذا اليوم{فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً} لأنه أسّس على غير الايمان والإخلاص ، ومثله قوله تعالى : {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُو الضَّلالُ الْبَعِيدُ} [إبراهيم - 18] ج 4 ص 435 {أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وأَحْسَنُ مَقِيلاً} . ذكر سبحانه المؤمنين عند ذكر الكافرين - على عادته - وقال : لهؤلاء عندنا منازل الشر والجحيم ، ولأولئك منازل الخير والنعيم . . وليس المراد هنا من كلمة خير وأحسن التفضيل ، بل المراد ان كلا من المستقر والمقيل هو خير وحسن في نفسه ، مثل اللَّه أكبر أي كبير في ذاته وصفاته .

{ويَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ} . المراد باليوم يوم القيامة ، وبالغمام ان الكواكب تتحلل إلى ذرات صغيرة لا تقع تحت العين والوزن ، وبها يمتلئ الفضاء كما يمتلئ بالغمام والضباب . وقد أشار سبحانه إلى خراب الكون وتناثر الكواكب في العديد من الآيات ، منها : {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} ذهب نورها {وإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ} تساقطت : ومنها {وإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ} تفرقت{ونُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً} بما يسر المحسنين ، ويسوء المجرمين{الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ} وحده ولا أحد يملك معه شيئا من الأمر والتصرف{وكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً} .

وأيّ يوم أعظم عسرا على المجرم من يوم محاكمته ونقاشه الحساب على جريمته وصدور الحكم عليه بالحق والعدل . ولوكان حكما بالاعدام لأنتهي بذهاب وقته ، ولكنه حكم بخلود العذاب : {كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ} [النساء - 55] .

{ويَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً} .

هذا كناية عن شدة الحسرة والندامة ، وهي نهاية كل مغرور ومفتر كذاب .

وفي الدعاء المروي عن النبي (صلى الله عليه واله وسلم) : أعوذ بك من الذنوب التي تورث الندامة{يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً} . المراد بفلان هنا كل متبوع أضل تابعيه وقادهم إلى الهلاك . وفي الحديث : {يحشر المرء على دين خليله} . وقال جماعة من المفسرين : ان هذه الآية نزلت في عقبة بن أبي معيط ، وأبيّ ابن خلف ، وان الظالم الذي يعض على يديه هو الأول ، وفلانا هو الثاني . .

وعلى افتراض صحة هذا القول ، فإن سبب النزول لا يخصص عموم الآية .

{لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وكانَ الشَّيْطانُ لِلإِنْسانِ خَذُولاً} .

المراد بالذكر هنا القرآن لأن اللَّه سبحانه قد أطلق عليه هذه الكلمة في العديد من الآيات ، منها : {والْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} - 1 ص ، وتدل الآية على أن الذين استمعوا للقرآن قد اقتنعوا به فيما بينهم وبين أنفسهم ، ولكن شياطين الإنس قد غرروا بهم ، وصرفوهم عن الحق ، فكان مآلهم الهوان والخذلان . . وهذا مآل كل من فعل وترك بوحي من أرباب الأهواء والأغراض ، لا بوحي من إيمانه وضميره .

______________

1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج5 ، ص462-464 .

 

تفسير الميزان

- ذكر الطباطبائي في تفسير هذه الآيات (1) :

 

تحكي الآيات اعتراضا آخر من المشركين على رسالة الرسول يردون به عليه محصله أنه لو جاز أن يكون من البشر بما هو بشر رسول تنزل عليه الملائكة بالوحي من الله سبحانه أو يراه تعالى فيكلمه وحيا لكان الرسول وسائر البشر سواء في هذه الخصيصة فإن كان ما يدعيه من الرسالة حقا لكنا أو كان البعض منا يرى ما يدعي رؤيته ويجد من نفسه ما يجده .

وهذا الاعتراض مما سبقهم إليه أمم الأنبياء الماضين كما حكاه الله : {قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} [إبراهيم : 10] ، وقد مر تقريبه مرارا .

وهذا مع ما تقدم من اعتراضهم بقولهم : {ما لهذا الرسول يأكل الطعام} إلخ ، بمنزلة حجة واحدة تلزم الخصم بأحد محذورين ومحصل تقريره أن الرسالة التي يدعيها هذا الرسول إن كانت موهبة سماوية واتصالا غيبيا لا حظ فيها للبشر بما هو بشر فلينزل إليه ملك فيكون معه نذيرا أو يلقى إليه كنز أو يجعل له جنة يأكل منها ، وإن كانت خاصة من شأن البشر بما هو بشر أن ينالها يتصف بها فما بالنا لا نجدها في أنفسنا ؟ فلولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا .

وقد أجاب الله سبحانه عن الشق الأول بما تقدم تقريره ، وعن الثاني بأنهم سيرون الملائكة لكن في نشأة غير هذه النشأة الدنيوية ، والجواب في معنى قوله : {مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ} [الحجر : 8] وسيجيء تقريره ، وفي الآيات إشارة إلى ما بعد الموت ويوم القيامة .

قوله تعالى : {وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا} قال في مجمع البيان : ، الرجاء ترقب الخير الذي يقوى في النفس وقوعه ومثله الطمع والأمل ، واللقاء المصير إلى الشيء من غير حائل ، والعتو الخروج إلى أفحش الظلم .

انتهى .

المراد باللقاء الرجوع إلى الله يوم القيامة سمي به لبروزهم إليه تعالى بحيث لا يبقى في البين حائل جهل أو غفلة لظهور العظمة الإلهية كما قال تعالى : {ويعلمون أن الله هو الحق المبين} .

فالمراد بعدم رجائهم اللقاء إنكارهم للمعاد وتكذيبهم بالساعة ولم يعبر عنه بتكذيب الساعة ونحوه كما عبر في الآيات السابقة لمكان ذكرهم مشاهدة الملائكة ورؤية الرب تعالى وتقدس ففيه إشارة إلى أنهم إنما قالوا ما قالوا وطلبوا إنزال الملائكة أو رؤية الرب ليأسهم من اللقاء وزعمهم استحالة ذلك فقد ألزموا بما هو مستحيل على زعمهم .

فقولهم : {لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا} اعتراض منهم على رسالة الرسول أوردوه في صورة التحضيض كقولهم في موضع آخر : {لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الحجر : 7] ، وتقرير الحجة كما تقدمت الإشارة إليه أنه لو كانت الرسالة - وهي نزول الملائكة بالوحي أو تكليمه تعالى البشر بالمشافهة - مما يتيسر للبشر نيله ونحن بشر أمثال هذا المدعي للرسالة فما بالنا لا ينزل علينا الملائكة ولا نرى ربنا؟ فهلا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا .

ويؤيد ما ذكرناه من التقرير إطلاق إنزال الملائكة ورؤية الرب من غير أن يقولوا : لولا أنزل علينا الملائكة فيصدقوك أو نرى ربنا فيصدقك .

على أنهم ذكروا في اعتراضهم السابق نزول الملك ليكون معه نذيرا وفيه تصديقه .

وفي التعبير عنه تعالى بلفظ ربنا نوع تهكم منهم فإن المشركين ما كانوا يرونه تعالى ربا لهم بل كان عندهم أن أربابهم ما كانوا يعبدونهم والله سبحانه رب الأرباب فكأنهم قالوا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : إنك ترى أن الله ربك وقد حن إليك فخصك بالمشافهة والتكليم ، وأنه ربنا ، فليحن إلينا وليشافهنا بالرؤية كما فعل بك .

على أنهم إنما عدلوا عن عبادة أرباب الأصنام وهم الملائكة وروحانيات الكواكب ونحوهم إلى عبادة الأصنام والتماثيل لتكون محسوسة غير غائبة عن المشاهدة عند العبادة والتقرب بالقرابين .

وقوله تعالى : {لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا} أي أقسم لقد طلبوا الكبر لأنفسهم بغير حق وطغوا طغيانا عظيما .

قوله تعالى : {يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون حجرا محجورا} في المفردات : ، الحجر الممنوع منه بتحريمه قال تعالى : {وقالوا هذه أنعام وحرث حجر} {ويقولون حجرا محجورا} كان الرجل إذا لقي من يخاف يقول ذلك فذكر تعالى أن الكفار إذا رأوا الملائكة قالوا ذلك ظنا إن ذلك ينفعهم . انتهى .

وعن الخليل كان الرجل يرى الرجل الذي يخاف منه القتل في الجاهلية في الأشهر الحرم فيقول : حجرا محجورا أي حرام عليك التعرض لي في هذا الشهر فلا يبدؤه بشر وعن أبي عبيدة : هي عوذة للعرب يقولها من يخاف آخر في الحرم أوفي شهر حرام إذا لقيه وبينهما ترة .

فقوله : {يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين} {يوم} على ما قيل ظرف لقوله : {لا بشرى} وقوله : {يومئذ} تأكيد له ، والمراد بقوله : {لا بشرى} نفي للجنس ، والمراد بالمجرمين كل متصف بالإجرام غير أن مورد الكلام إجرام الشرك والمجرمون هم الذين لا يرجون اللقاء ، وقد تقدم ذكرهم والمعنى : يوم يرى هؤلاء الذين لا يرجون لقاءنا الملائكة لا بشرى - على طريق نفي الجنس - يومئذ للمجرمين وهم منهم .

وقوله : {ويقولون حجرا محجورا} فاعل يقولون هم المشركون أي يقول المشركون يومئذ للملائكة وهم قاصدوهم بالعذاب : حجرا محجورا أي لنكن في معاذ منكم ، وقيل : ضمير الجمع للملائكة ، والمعنى : ويقول الملائكة للمشركين حراما محرما عليكم سماع البشرى ، أو حراما محرما عليكم أن تدخلوا الجنة أو حراما محرما عليكم أن تتعوذوا من العذاب إلى شيء فلا معاذ لكم هذا ، والمعنى : الأول أقرب إلى السياق .

والآية في موضع الجواب عن قولهم : {لولا أنزل علينا الملائكة} وقد أعرضت عن جواب قولهم : {أو نرى ربنا} فإن الرؤية التي كانوا يقصدونها بقولهم هي الرؤية البصرية التي تستلزم التجسم والمادية تعالى عن ذلك ، وأما الرؤية بعين اليقين وهي الرؤية القلبية فلم يكونوا ممن يفقه ذلك وعلى تقديره ما كانوا يقصدونه .

وأما توضيح الجواب عن أمر إنزال الملائكة ورؤيتهم فقد أخذ أصل الرؤية مفروغا منه مسلما أن هناك يوما يرون فيه الملائكة غير أنه وضع الإخبار عن وصفهم يوم الرؤية موضع الإخبار عن أصل رؤيتهم للإشارة إلى أن طلبهم لرؤية الملائكة ليس يجري على نفعهم فإنهم لا يرون الملائكة إلا يوم يشافهون عذاب النار وذلك بعد تبدل النشأة الدنيوية من النشأة الأخرى كما أشار إليه في موضع آخر بقوله : {مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ } [الحجر : 8] ، فهم في مسألتهم هذه يستعجلون بالعذاب وهم يحسبون أنهم يعجزون الله ورسوله بالحجة .

وأما ما هو هذا اليوم الذي أشير إليه بقوله : {يوم يرون الملائكة} فقد ذكر المفسرون أنه يوم القيامة لكن الذي يعطيه السياق مع ما ينضم إليه من الآيات الواصفة ليوم الموت وما بعده كقوله : {ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون} الآية ، : الأنعام : 93 ، وقوله : {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا } [النساء : 97] إلى غير ذلك من الآيات .

أن المراد به الموت وهو المسمى في عرف القرآن برزخا فإن في الآيات دلالة قاطعة على أنهم يرون الملائكة ويشافهونهم بعد الموت قبل يوم القيامة ، والمتعين - على ما يقتضيه طبع المخاصمة - في جواب من يجحد رؤية الملائكة أن يذكر له أول يوم يراهم بما يسوؤه وهو يوم الموت لا أن يخاصم بذكر رؤيتهم يوم القيامة وقوله لهم : حجرا محجورا ، وقد رآهم قبل ذلك وعذب بأيديهم أمدا بعيدا وهو ظاهر .

فالظاهر أن الآية والآيتين التاليتين ناظرة إلى حالهم في البرزخ تصف رؤيتهم للملائكة فيه ، وإحباط أعمالهم فيه ، وحال أهل الجنة التي فيه .

قوله تعالى : {وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا} قال الراغب في المفردات : ، العمل كل فعل يكون من الحيوان بقصد فهو أخص من الفعل لأن الفعل قد ينسب إلى الحيوانات التي يقع منها فعل بغير قصد وقد ينسب إلى الجمادات ، والعمل قلما ينسب إلى ذلك ، ولم يستعمل العمل في الحيوانات إلا في قولهم : البقر العوامل . انتهى .

وقال : الهباء دقاق التراب وما انبث في الهواء فلا يبدو إلا في أثناء ضوء الشمس في الكوة . انتهى .

والنثر التفريق .

والمعنى : وأقبلنا إلى كل عمل عملوه - والعمل هو الذي يعيش به الإنسان بعد الموت - ففرقناه تفريقا لا ينتفعون به كالهباء المنثور ، والكلام مبني على التمثيل مثل به استيلاء القهر الإلهي على جميع أعمالهم التي عملوها لسعادة الحياة وإبطالها بحيث لا يؤثر في سعادة حياتهم المؤبدة شيئا بتشبيهه بسلطان غلب عدوه فحل داره بعد ما ظهر عليه فخرب الدار وهدم الآثار وأحرق المتاع والأثاث فأفنى منه كل عين وأثر .

ولا منافاة بين ما تدل عليه الآية من حبط الأعمال يومئذ وبين ما تدل عليه آيات أخر أن أعمالهم أحبطت حينما عملوها في الدنيا بكفرهم وإجرامهم فإن معنى الإحباط بعد الموت ظهور الحبط لهم بعد ما كان خفيا في الدنيا عليهم وقد تقدم كلام مشبع في معنى الحبط في الجزء الثاني من الكتاب فراجع .

قوله تعالى : {أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا} المراد بأصحاب الجنة المتقون فقد تقدم قوله قبل آيات : {قل أ ذلك خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون} ، والمستقر والمقيل اسما مكان من الاستقرار ومعناه ظاهر ومن القيلولة وهي الاستراحة في منتصف النهار سواء كان معها نوم أم لا - على ما قيل - والجنة لا نوم فيه .

وكلمتا {خير} و{أحسن} منسلخان عن معنى التفضيل كما في قوله تعالى : { وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } [الروم : 27] ، وقوله : { مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ} [الجمعة : 11] كذا قيل ، وليس يبعد أن يقال : إن {أفعل} أو ما هو في معناه كخير بناء على ما رجحنا أنه صفة مشبهة تدل على التفضيل بمادته لا بهيئته في مثل هذه الموارد غير منسلخ عن معنى التفضيل والعناية في ذلك أنهم لما اختاروا الشرك والإجرام واستحسنوا ذلك ولازمه النار في الآخرة فقد أثبتوا لها خيرية وحسنا فقوبلوا بأن الجنة وما فيها خير وأحسن حتى على لازم قولهم فعليهم أن يختاروها على النار وأن يختاروا الإيمان على الكفر على أي حال ، وقيل : إن التفضيل مبني على التهكم .

قوله تعالى : {ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا} الظاهر أن الظرف منصوب بفعل مقدر ، والمعنى واذكر يوم كذا وكذا فإنهم يرون الملائكة فيه أيضا وهذا اليوم هو يوم القيامة بدليل قوله بعد : {الملك يومئذ الحق للرحمن} ، وقيل في متعلق الظرف وجوه أخر لا فائدة في نقلها .

و{تشقق} أصله تتشقق من باب التفعل من الشق بمعنى الخرم والتشقق التفتح ، والغمام السحاب سمي به لستره ضوء الشمس مأخوذ من الغم بمعنى الستر .

والباء في قوله : {تشقق السماء بالغمام} إما للملابسة والمعنى تتفتح السماء متلبسة بالغمام أي متغيمة ، وإما بمعنى عن والمعنى تتفتح عن الغمام أي من قبل الغمام أو تشققه .

وكيف كان فظاهر الآية أن السماء تنشق يوم القيامة بما عليها من الغمام الساتر لها ونزل منها الملائكة الذين هم سكانها فيشاهدونهم فالآية قريبة المعنى من قوله في موضع آخر : {وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا } [الحاقة : 16 ، 17] .

وليس من البعيد أن يكون الكلام كناية عن انكشاف غمة الجهل وبروز عالم السماء وهومن الغيب وبروز سكانها وهم الملائكة ونزولهم إلى العالم الأرضي موطن الإنسان .

وقيل : المراد أن السماء يشقها الغمام وهو الذي يذكره في قوله : {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} [البقرة : 210] ، وقد مر كلام في تفسير الآية .

والتعبير عن الواقعة بالتشقق دون التفتح وما يماثله للتهويل ، وكذا التنوين في قوله : {تنزيلا} للدلالة على التفخيم .

قوله تعالى : {الملك يومئذ الحق للرحمن وكان يوما على الكافرين عسيرا} أي الملك المطلق يومئذ حق ثابت للرحمن وذلك لبطلان الأسباب وزوال ما بينها وبين مسبباتها من الروابط المتنوعة ، وقد تقدم غير مرة أن المراد بذلك في يوم القيامة هو ظهور أن الملك والحكم لله والأمر إليه وحده ، وأن لا استقلال في شيء من الأسباب على خلاف ما كان يتراءى من ظاهر حالها في نشأة الدنيا قبل قيام الساعة ورجوع كل شيء إليه تعالى .

وقوله : {وكان يوما على الكافرين عسيرا} الوجه فيه ركونهم إلى ظواهر الأسباب وإخلادهم إلى الحياة الأرضية البائدة الداثرة وانقطاعهم عن السبب الحقيقي الذي هو مالك الملك بالحقيقة وعن حياتهم الباقية المؤبدة فيصبحون اليوم ولا ملاذ لهم ولا معاذ .

فعلى هذا يكون الملك مبتدأ والحق خبره عرف لإفادة الحصر ، ويومئذ ظرف لثبوت الخبر للمبتدأ ، وفائدة التقييد الدلالة على ظهور حقيقة الأمر يومئذ فإن حقيقة الملك لله سبحانه دائما ، وإنما يختلف يوم القيامة مع غيره بزوال الملك الصوري عن الأشياء فيه وثبوته لها في غيره .

وقال بعضهم : الملك بمعنى المالكية ويومئذ متعلق به والحق خبر الملك ، وقيل : يومئذ متعلق بمحذوف هوصفة للحق ، وقيل : المراد بيومئذ هو يوم الله ، وقيل : يومئذ هو الخبر للملك والحق صفة للمبتدأ ، وهذه أقوال ردية لا جدوى لها .

قوله تعالى : {ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا} قال الراغب في المفردات : ، العض أزم بالأسنان ، قال تعالى : {عضوا عليكم الأنامل} و{ويوم يعض الظالم} وذلك عبارة عن الندم لما جرى به عادة الناس أن يفعلوه عند ذلك . انتهى .

ولذلك يتمنى عنده ما فات من واجب العمل كما حكى الله تعالى عنهم قولهم : {يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا} .

والظاهر أن المراد بالظالم جنسه وهو كل من لم يهتد بهدى الرسول ، وكذا المراد بالرسول جنسه وإن انطبق الظالم بحسب المورد على ظالمي هذه الأمة والرسول على محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) .

والمعنى : واذكر يوم يندم الظالم ندما شديدا قائلا من فرط ندمه يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا ما إلى الهدى أي سبيل كانت .

قوله تعالى : {يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا} تتمة تمني الظالم النادم على ظلمه ، وفلان كناية عن العلم المذكر وفلانة عن العلم المؤنث قال الراغب : فلان وفلانة كنايتان عن الإنسان والفلان والفلانة - باللام - كنايتان عن الحيوانات .

انتهى .

والمعنى : يا ويلتى - يا هلاكي - ليتني لم أتخذ فلانا - وهومن اتخذه صديقا يشاوره ويسمع منه ويقلده - خليلا .

وذكر بعضهم : أن فلانا في الآية كناية عن الشيطان ، وكأنه نظرا إلى ما في الآية التالية من حديث خذلان الشيطان للإنسان غير أن السياق لا يساعد عليه .

ومن لطيف التعبير قوله في الآية السابقة : {يا ليتني اتخذت} إلخ وفي هذه الآية : {يا ويلتى ليتني لم أتخذ} إلخ فإن في ذلك تدرجا لطيفا في النداء والاستغاثة فحذف المنادى في الآية السابقة يلوح إلى أنه يريد أي منج ينجيه مما هو فيه من الشقاء وذكر الويل بعد ذلك - في هذه الآية يدل على أنه بان له أن لا يخلصه من العذاب شيء قط إلا الهلاك والفناء ، ولذلك نادى الويل .

قوله تعالى : {لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا} تعليل للتمني السابق والمراد بالذكر مطلق ما جاءت به الرسل أو خصوص الكتب السماوية وينطبق بحسب المورد على القرآن .

وقوله : {وكان الشيطان للإنسان خذولا} من كلامه تعالى ويمكن أن يكون تتمة لكلام الظالم ذكره تأسفا وتحسرا .

والخذلان بضم الخاء ترك من يظن به أن ينصر نصرته ، وخذلانه أنه يعد الإنسان أن ينصره على كل مكروه إن تمسك بالأسباب ونسي ربه فلما تقطعت الأسباب بظهور القهر الإلهي يوم الموت جزئيا ويوم القيامة كليا خذله وسلمه إلى الشقاء ، قال تعالى : {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ} [الحشر : 16] وقال فيما يحكي عن الشيطان يوم القيامة : { مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ } [إبراهيم : 22] .

وفي هذه الآيات الثلاث إشعار بل دلالة على أن السبب العمدة في ضلال أهل الضلال ولاية أهل الأهواء وأولياء الشيطان ، والمشاهدة يؤيد ذلك .

______________

1- الميزان ، الطباطبائي ، ج15 ، ص158-165 .

 

تفسير الامثل

- ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذه الآيات (1) :

 

الإدعاءات الكبيرة :

قلنا أنّ المشركين يصرون على الفرار من ثقل التعهدات والمسؤوليات التي يضعها على عواتقهم الإيمان بالله واليوم الآخر ، فكانوا يقولون تارةً : لماذا يحتاج الرّسول إلى الطعام ويمشي في الأسواق؟ حيث قرأنا الإجابة عليها في الآيات السابقة .

الآيات الحالية ، تطرح شكلين آخرين من ذرائعهم وتجيب عليها ، فيقول تعالى أوّلا : {وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربّنا} .

فعلى فرض أنّنا سنقبل أنّ النّبي يستطيع أن يعيش الحياة العادية مثلنا . لكن أن يتنزل الوحي عليه وحده ، ولا نراه نحن ، فهذا مالا يمكن القبول به ، ما المانع من أن يظهر الملك فيؤكّد صحة نبوة الرّسول؟ أو أن يسمعنا بعضاً من الوحي !؟ أو أن نرى ربّنا بأعيننا حتى لا يبقى عندنا مكان لأي شك أو شبهة !؟

هذه هي الأسئلة التي تمنعنا من قبول دعوة محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) .

المهم هو أن القرآن يصنف هؤلاء المتعللين بالذرائع تحت عنوان (لا يرجون لقاءنا) ، حيث يدل على أنّ منبع هذه الأقوال الواهية هو عدم الإيمان بالآخرة ، وعدم القبول بالمسؤولية أمام الله .

في الآية (7) من سورة الحجر نقرأ أيضاً شبيهاً لهذا القول ، حيث قالوا {لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الحجر : 7] وقرأنا أيضاً في مطلع سورة الفرقان هذه أن المشركين كانوا يقولون : {لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيراً} .

في حين أن من حق أي إنسان لإثبات قضية ما ، أن يطالب بالدليل فقط . أمّا نوع الدليل ، فمن المسلّم أنّه لا فرق فيه ، في الوقت الذي أثبت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)ـ بإظهار المعجزات ومن جملتها القرآن نفسه ـ حقانية دعوته بوضوح ، إذن فما معنى هذه الذرائع ؟

وأفضل دليل على أنّهم لم يكونوا يقولون هذه الأقوال من أجل التحقيق حول نبوة النّبي ، هو أنّهم طلبوا أن يشاهدوا الخالق ، وأنزلوه إلى حدّ جسم يمكن رؤيته ، ذلك الطلب نفسه الذي طلبه مجرمو بني إسرائيل أيضاً ، فسمعوا الجواب القاطع على ذلك ، حيث ورد شرحه في سورة الأعراف الآية 143 .

لذا يقول القرآن في الإجابة على هذه الطلبات في آخر الآية مورد البحث : {لقد استكبروا في أنفسهم وعتو عتواً كبيراً} .

«العتو» على وزن «غلو» ، بمعنى الإمتناع عن الطاعة ، والتمرد على الأمر ، مصحوباً بالعناد واللجاجة .

وتعبير «في أنفسهم» من الممكن أن يكون بمعنى : أنّ هؤلاء صاروا أسارى الغرور والتكبّر في أنفسهم . ومن الممكن أن يكون أيضاً بمعنى أنّهم أخفوا كبرهم وغرورهم في قلوبهم وأظهروا هذه المعاذير .

في عصرنا وزماننا أيضاً ، يوجد أشخاص يكررون منطق المشركين الغابرين ، فيقولون : مادمنا لا نرى الله في مختبراتنا ، ولا نشاهد الروح تحت مبضع الجراحة ، فلن نصدّق! بوجودهما ومنبع الإثنين واحد وهوا الإستكبار والعتو .

ومن حيث الأصل ، فإنّ جميع الأشخاص الذين يحصرون وسائل المعرفة في الحس والتجربة فقط ، يكررون نفس هذا القول بشكل ضمني ، فكلّ الماديين داخلون في هذا الصنف ، في حين أنّ الحواس لا تدرك إلاّ جزءً ضئيلا لا يذكر من مادة هذا العالم .

ثمّ يقول تعالى بصيغة التهديد : إنّ هؤلاء الذين يطلبون أن يروا الملائكة ، سوف يرونهم آخر الامر ، لكن {يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين} . (2)

بلى سوف لن يُسرّوا برؤية الملائكة في ذلك اليوم ، لأنّهم سيرون علامات العذاب برؤيتهم الملائكة ، وسوف يغمرهم الرعب إلى حد أنّهم سيطلقون صرخات الإِستغاثة التي كانوا يطلقونها في الدنيا حال الإِحساس بالخطر أمام الآخرين ، فيقولون : الأَمان . . الأَمان ، اعفوا عنّا : {ويقولون حجراً محجوراً} .

ولكن لا هذه الجملة ـ ولاغيرها ـ لها أثر على مصيرهم المحتوم ، ذلك لأنّ النار التي هم أوقدوها ستلتهم أطرافهم شاءوا أم أبوا ، وستتجسد أمامهم الأعمال السيئة التي ارتكبوها ، فلا يملكون شيئاً لأنفسهم .

كلمة «حجر» (على وزن قشر) تقال في الأصل للمنطقة التي حجروها وجعلوها ممنوعة الورود ، وعندما يقال «حجر إسماعيل» فلأن حائطاً أُنشيء حوله فحجز داخله . يقولون للعقل أيضاً «حجراً» لأنّه يمنع الانسان من الأعمال المخالفة . لذا نقرأ في الآية (5) من سورة الفجر { هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ } [الفجر : 5] ، وأيضاً «اصحاب الحجر» الذين ورد اسمهم في القرآن (الآية 80 من سورة الحجر) وهم قوم صالح الذين كانوا ينحتون لأنفسهم بيوتاً حجرية محكمة في قلوب الجبال ، فكانوا يعيشون في أمانها .

هذا في ما يخص كلمة «حجر» .

أمّا جملة «حجراً محجوراً» فقد كانت اصطلاحاً بين العرب ، إذا التقوا بشخص يخافونه ، فأنّهم يقولون هذه الجملة أمامه لأخذ الأمان .

كان هذا عرف العرب ، خاصّة في الأشهر الحرم ، حيث كانت الحرب ممنوعة ، فحينما يواجه شخص آخر ، ويحتمل خرق هذا العُرف والتعرض للأذى ، فإنّه يكرر هذه الجملة ، والطرف المقابل ـ أيضاً ـ مع سماعة لها كان يعطيه الأمان ، فيخرجه من القلق والإضطراب والخوف .

على هذا فإنّ معنى الجملة المذكورة هو : «أريد الأمان ، الأمان الذي لا رجعة فيه ولا تغيير» . (3)

اتّضح ممّا قلناه أعلاه ، أنّ المجرمين هنا هم أصحاب هذا القول ، وتناسب الأفعال الموجودة في الآية ، والسير التاريخي ، وسابقة هذه الجملة في أوساط العرب ـ أيضاً ـ يستدعي هذا ، ولكن البعض احتمل أنّ الملائكة هم أصحاب هذا القول ، وهدفهم منع المشركين من رحمة الله .

وقال آخرون : إنّ أصحاب هذا القول هم المجرمون ، يقولونه بعضهم لبعض ، ولكن الظاهر هو المعنى الأول ، حيث اختاره كثير من المفسّرين ، أو ذكروه كأوّل تفسير لذلك . (4)

أمّا أي يوم ذلك اليوم الذي يلتقي فيه المجرمون بالملائكة؟ فقد ذكر المفسّرون احتمالين : أحدهما : هو يوم الموت حيث يرى الإنسان ملك الموت ، كما نقرأ في الآية (93) من سورة الأنعام : { وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ } [الأنعام : 93] . والثّاني : أنّ المقصود هو يوم القيامة والنشور ، حيث يكون المجرمون أمام ملائكة العذاب فيشاهدونهم .

ومع الإنتباه إلى الآيات الآتية التي تتكلم عن النشور ، خصوصاً جملة (يومئذ) التي تشير إليه ، يتبيّن أنّ التّفسير الثّاني هو الأقرب .

الآية التي بعدها تجسد مصير أعمال هؤلاء المجرمين في الآخرة ، فتقول : {وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثوراً} .

كلمة «العمل» على ما قاله «الراغب» في المفردات بمعنى : كل فعل يكون بقصد ، ولكن الفعل أعم منه ، فهو يطلق على الأفعال التي تكون بقصد أو بغير قصد .(5)

جملة «قدمنا» من «القدوم» بمعنى «المجيء» أو «الذهاب على أثر شيء» وهي هنا دليل على تأكيد وجدّية المسألة ، يعني مسلّماً وبشكل قاطع أن جميع أعمال أُولئك التي قاموا بها عن قصد وإرادة ـ وإن كانت أعمال خير ظاهراً ـ سنمحوها كما تمحى ذرات الغبار في الهواء ، لشركهم وكفرهم .

 

آفات العمل الصالح :

كلمة «هباء» بمعنى ذرات الغبار الصغيرة جدّاً التي لا تُرى بالعين المجرّدة وفي الحال العادية أبداً إلاّ في الوقت الذي يدخل نور الشمس إلى الغرفة المظلمة من ثقب أو كُوّة ، فيكشف عن هذه الذرات ويمكن مشاهدتها .

هذا التعبير يدل على أن أعمال أُولئك لا قيمة لها ولا اثر إلى حدّ كأنّهم لم يعملوا شيئاً ، وإن كانوا قد سعوا واجتهدوا سنين طويلة .

هذه الآية نظيرة الآية (18) من سورة إبراهيم التي تقول : { مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ } [إبراهيم : 18] .

الدليل المنطقي لذلك واضح أيضاً ، لأنّ الشيء الذي يعطي عمل الإنسان الشكل والمحتوى ، هو النّية والدافع وغاية العمل النهائية ، فأهل الإيمان يتوجهون لإنجاز أعمالهم بدافع إلهي وعلى أساس أهداف مقدسة طاهرة ، وخطط سليمة صحيحة ، في حين أن من لا إيمان لهم ، فغالباً يقعون أسارى التظاهر والرياء والغرور والعجب ، فيكون سبباً في انعدام أية قيمة لأعمالهم .

على سبيل المثال ، نحن نعرف مساجد من مئات السنين ، لم تترك عليها القرون الماضية أدنى تأثير ، وبعكسها نرى بيوتاً تظهر فيها الشروخ وعلامات الضعف مع مضي شهر واحد أوسنة واحدة ، فالأُولى بنيت من كل النواحي بناءً محكماً بأفضل المواد مع توقع الحوادث المستقبلية ، أمّا الثّانية فلأن الهدف من بنائها هو تهيئة المال والثروة عن طريق المظاهر والحيلة ، فالعناية فيها كانت بالزخرفة فقط . (6)

من وجهة نظر المنطق الإسلامي ، فإن للأعمال الصالحة آفات ، ينبغي مراقبتها بدقة ، فقد يكون العمل أحياناً خراباً وفاسداً منذ البداية ، كمثل العمل الذي يتخذ (رياءً) .

واحياناً اُخرى يلحقه الفساد أثناء العمل كما لو اصاب الانسان الغرور والعجب حينه فتزول قيمة عمله بسبب ذلك .

وقد يمحى أثر العمل الصالح بعد الانتهاء منه بسبب القيام بأعمال مخالفة ومنافية ، كمثل الإنفاق الذي تتبعه «منّة» ، أو كالأعمال الصالحة التي يعقبها كفر وارتداد .

حتى ارتكاب الذنوب أحياناً يترك أثره على العمل الصالح بعدها ـ طبقاً لبعض الرّوايات الإسلامية ـ كما نقرأ في مسألة شارب الخمر حيث لا تقبل أعماله عند الله أربعين يوماً . (7)

على أية حال ، فللإسلام منهج فذ ، دقيق وحساس في مسألة خصوصيات العمل الصالح . نقرأ في حديث عن الإمام الباقر(عليه السلام) قال :

يبعث الله عزَّوجلّ يوم القيامة قوماً بين أيديهم نور كالقباطي ، ثمّ يقول له : {كن هباءً منثوراً} ثمّ قال : أمّا والله ـ يا أبا حمزة ـ إنّهم كانوا يصومون ويصلون ، ولكن كانوا إذا عرض لهم شيء من الحرام أخذوه ، وإذا ذكر لهم شيء من فضل أمير المؤمنين (عليه السلام) أنكروه ، قال : والهباء المنثور هو الذي تراه يدخل البيت في الكوة مثل شعاع الشمس» . (8)

وبما أن القرآن ـ عادة ـ يضع الحسن والسيء متقابلين حتى يتّضح وضع كل منهما بالمقايسة فإنّ الآية التي بعدها تتحدث عن أهل الجنّة فتقول : (أصحاب الجنة يومئذ خير مستقراً وأحسن مقيلا) .

ليس معنى هذا الكلام أنّ وضع أهل جهنم حسن ، ووضع أهل الجنّة أحسن ، لأنّ صيغة «أفعل التفضيل» تأتي أحياناً حيث يكون أحد الأطراف واجداً للمفهوم ، وآلاخر فاقداً له كلياً . مثلا نقرأ في الآية (40) من سورة فصّلت : {أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ } [فصلت : 40] .

«مستقر» بمعنى محل الإستقرار .

و«مقيل» بمعنى محل الإستراحة في منتصف النهار ، من مادة «قيلولة» ، وقد جاءت بمعنى النوم منتصف النهار .

وقوله تعالى : { ويَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَآءُ بِالْغَمَمِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنزِيلا (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَفِرِينَ عَسِيراً}

 

تشقق السماء بالغمام :

مرّة أخرى يواصل القرآن في هذه الآيات البحث حول القيامة ، ومصير المجرمين في ذلك اليوم ، فيقول أوّلا : إن يوم محنة وحزن المجرمين هو ذلك اليوم الذي تنشق فيه السماء بواسطة الغيوم : {ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا} . (9)

«الغمام» من «الغم» بمعنى ستر الشيء ، لذلك فالغيم الذي يغطي الشمس يقال له «الغمام» ، وكذلك الحزن الذي يغطي القلب يسمّونه «الغم» .

هذه الآية ـ في الحقيقة ـ ردّ على طلبات المشركين ، وعلى إحدى ذرائعهم ، لأنّهم كانوا يتوقعون أن يأتي الله والملائكة ـ طبقاً لأساطيرهم وخرافاتهم من خلال الغيم ، فيدعونهم إلى الحق ، وفي أساطير اليهود جاء ـ أيضاً ـ أنّ الله أحياناً يظهر ما بين الغيوم . (10)

يقول القرآن في الردّ عليهم : نعم الملائكة (وليس الله) يأتون إليهم يوماً ما ، لكن أي يوم؟ اليوم الذي تتحقق فيه مجازاة وعقوبة هؤلاء المجرمين ، وينهي ادعاءاتهم الباطلة .

ولكن ما هو المقصود من تشقق السماء بالغمام ، مع أنّنا نعلم أن لا وجود حولنا لشيء يسمى السماء ، يكون قابلا للتشقق؟

قال بعض المفسّرين مثل «العلامة الطباطبائي» في تفسير «الميزان» : المقصود هو تشقق سماء عالم الشهود ، وزوال حجاب الجهل والغباء وظهور عالم الغيب ، فيكون للانسان إدراك ورؤية تختلف كثيراً عمّا هي عليه اليوم ، فحينئذ تزول الحجب ، فيرون الملائكة وهي تتنزل من العالم الأعلى .

ثمّة تفسير آخر ، هو أنّ المقصود من السماء هو الأجرام السماوية التي تتلاشى على أثر انفجارات متوالية ، فيملأ الغيم الحاصل من هذه الإنفجارات ومن تلاشي الجبال صفحة السماوات ، وبناءً على هذا فالأفلاك السماوية تتشقق مع الغيوم الحاصلة من ذلك . (11)

آيات كثيرة من القرآن المجيد ، خصوصاً التي وردت في السور القصار آخر القرآن ، تبيّن هذه الحقيقة ، حيث تملأ جميع عوالم الوجود تغيرات عظيمة ، وانقلاب وتحول عجيب ، تتلاشى الجبال وتتناثر في الفضاء كذرات الغبار ، الشمس تفقد نورها وكذلك النجوم . ويلتقي الشمس والقمر ، وتملأ نواحي الأرض زلزلة وهزّة عجيبة .

نعم ، في مثل ذلك اليوم ، زوال السماء ، بمعنى الأجرام السماوية ، وتلبُّسُ السماء بغيوم كثيفة ، سيكون أمراً طبيعياً .

من الممكن توضيح نفس هذا التّفسير بنحو آخر :

شدّة التغيرات ، وانفجارات الكواكب والسيارات يصير سبباً في تغطية السماء بغيم كثيف ، ولكن توجد انشقاقات بين هذا الغيم ، وعلى هذا فالسماء التي ترى بالعين في الأحوال العادية ، تتشقق بواسطة هذه الغيوم الانفجارية العظيمة . (12)

تفسيرات أخرى قيلت لهذه الآية أيضاً لا تتوافق مع الأصول العلمية والمنطقية ، وفي نفس الوقت فالتّفسيرات الثلاثة الآنفة لا تتنافى مع بعضها ، فمن الممكن أن ترتفع حجب العالم المادي عن عين الإنسان من جهة ، فيشاهد عالم ما وراء الطبيعة ، ومن جهة أُخرى ستتلاشى الأجرام السماوية ، وتظهر الغيوم الانفجارية ، فتبرز التشققات ما بينها في ذلك اليوم ، يوم نهاية هذا العالم وبداية النشور ، يوم أليم جدّاً للمجرمين الظالمين المعاندين الذين لا إيمان لهم .

بعد ذلك يتناول القرآن الكريم أوضح علائم ذلك اليوم فيقول : {الملك يومئذ الحق للرحمن} .

حتى أُولئك الذين كان لهم في هذا العالم نوع من الملك المجازي والمحدود والفاني والسريع الزوال ، يخرجون أيضاً من دائرة الملك ، فتكون الحاكمية من كلّ النواحي وجميع الجهات لذاته المقدسة خاصّة ، وبهذا {وكان يوماً على الكافرين عسيراً} .

نعم ، في ذلك اليوم تزول القوى الكاذبة تماماً ، وتكون الحاكمية لله خاصّة ، فتتداعى قلاع الكافرين ، وتزول قوى الجبابرة والطواغيت ، وإن كانوا جميعاً في هذا العالم ـ أيضاً ـ لا شيء أمام إرادته تبارك وتعالى . واذا كان لهم في هذه الدنيا بهرجة ، فبأي ملاذ يلوذون من الجزاء الإلهي في يوم القيامة ، يوم انكشاف الحقائق وزوال المجازات والخيالات والأوهام ، ولهذا سيكون ذلك اليوم يوماً بالغ الصعوبة عليهم ، في الوقت الذي يكون على المؤمنين سهلا يسيراً وهيناً جدّاً .

في حديث عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) (في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة) فقلت : ما أطول هذا اليوم!؟ فقال النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) «والذي نفسي بيده إنّه ليخفف عن المؤمن حتى يكون أخفَّ عليه من صلاة المكتوبة يصليها في الدنيا» . (14)

والتأمل الدقيق في سائر آيات القرآن يكشف عن دلائل صعوبة ذلك اليوم على الكافرين ، ذلك أنّنا نقرأ من جهة {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} [البقرة : 166] .

ومن جهة أخرى { مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} [المسد : 2] .

ومن جهة ثالثة { يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا } [الدخان : 41] .

حتى الشفاعة التي هي وحدها طريق النجاة ، تكون للمذنبين الذين كانت لهم صلة بالله وبأولياء الله {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة : 255] .

وايضاً { وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} [المرسلات : 36] فلا يسمح لهم بالاعتذار ، فما بالك بقبول الاعذار الواهية !!

 

وقوله تعالى : {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَاوَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا } [الفرقان : 27 - 29]

 

أضلني صديق السوء

يوم القيامة له مشاهد عجيبة ، حيث ورد بعضٌ منها في الآيات السابقة ، وفي هذه الآيات اشارة الى قسم آخر منها ، وهي مسألة حسرة الظالمين البالغة على ماضيهم ، يقول تعالى أوّلا : {ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرّسول سبيلا} (15) .

«يعضّ» من مادة «عضّ» (على وزن سدّ) بمعنى الأزم بالأسنان ، ويستخدم هذا التعبير عادة بالنسبة إلى الأشخاص المهووسين من شدّة الحسرة والأسف ، كما في المثل العربي ، لأن الإنسان في مثل هذه الحالات لا يعض الإصبع دائماً ، بل يعض ظاهر اليد أحياناً ، وكثيراً ما يقال ـ كما في الآية الآية مورد البحث ـ «يديه» يعني كلتا اليدين حيث تبيّن شدّة الأسف والحسرة بنحو أبلغ .

وهذا العمل يصدر من هؤلاء الأشخاص حينما يطلعون على ماضيهم ، ويعتبرون أنفسهم مقصرين ، فيصممون على الأِنتقام من أنفسهم بهذا الشكل لتهدئة سورة الغضب في نفوسهم والشعور بالراحة .

وينبغي حقّاً ، أن يسمى ذلك اليوم (يوم الحسرة) كما ورد هذا الوصف بالذات في القرآن ليوم القيامة أيضاً (سورة مريم الآية 39) ، ذلك لأن المجرمين يرون أنفسهم في أتعس حال بين يدي الحياة الخالدة ، في الوقت الذي كانوا يستطيعون خلال أيام من الصبر والإستقامة ومجاهدة النفس والإيثار أن يستبدلوا ذلك بحياة مشرفة وسعيدة ، وهو يوم أسف أيضاً حتى بالنسبة إلى المحسنين ، فهم يأسفون على أنّهم : لماذا لم يحسنوا أكثر .

ثمّ يضيف القرآن الكريم أنّ هذا الظالم المعتدي الغارق في عالم الأسف ، يقول : {يا ويلتي ليتني لم أتخذ فلاناً خليلا} . (16)

واضح أن المقصود بـ «فلان» هو ذلك الذي أضله : الشيطان أوصديق السوء أو القريب الضال ، وفردٌ مثل «أُبي» لـ «عقبة» الذي ورد في سبب النّزول .

هذه الآية ـ والآية التي قبلها ـ تعرضان حالتي نفي وإثبات متقابلتين في مكان واحد ، يقول تعالى : (يا ليتني اتخذتُ مع الرّسول سبيلا) ، وهنا يقول : { . . .ليتني لم أتخذ فلاناً خليلا} حيث كانت التعاسة كلها في ترك الإرتباط بالنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ، وقبول الإرتباط بهذا الخليل الضال .

ثمّ يستمر ويقول : {لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي } [الفرقان : 29] .

لو كانت الفاصلة كبيرة بيني وبين الإيمان والسعادة الخالدة في الدنيا لم اكن آسف الى هذا الحد ، ولكني كنت قاب قوسين أو أدنى من السعادة الدائمة فصدّني رفيق السوء هذا عن عين ماء الحياة ظامئاً وأغرقني في دوامة التعاسة .

«الذكر» في الجملة أعلاه ، له معنىً واسع ، ويشمل كل الآيات الإلهية التي نزلت في الكتب السماوية ، بل يدخل في إطاره كلُّ ما يوجب يقظة ووعي الإنسان .

وفي ختام الآية يقول تعالى : {وكان الشيطان للإنسان خذولا} ذلك لأنّه يجر الإنسان إلى مواقع الخطر والطرق المنحرفة ، ثمّ يتركه حيران ويذهب لسبيله ، وينبغي الإنتباه إلى أنّ «خذولا» صيغة مبالغة ، بمعنى كثير الخذلان .

وحقيقة الخذلان هي أي يعتمد الشخص على صديقه تمام الاعتماد ، ولكن هذا الصديق يرفع يده عن مساعدته وإعانته تماماً في اللحظات الحساسة .

في هذه الجملة الأخيرة {وكان الشيطان للإنسان خذولا} قد تكون من مقولة الله تعالى على سبيل الإنذار لجميع الظالمين والظالين ، أو تتمة لمقولة هؤلاء الأفراد المتحسرين في القيامة ، ذكر المفسّرون تفسيرين ، وكل منهما منسجم مع معنى الآية ، غير أن كونها مقولة الله تعالى أكثر انسجاماً .

_____________

1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج9 ، ص181-192 .

2 ـ كلمة (لا) ها هنا ، قد تكون للنفي ، كما قال كثير من المفسّرين ، ويحتمل أيضاً أن تكون لانشاء الدعاء السلبي ، حيث يصبح معنى الجملة في هذه الصورة ، هكذا : «في ذلك اليوم لا كانت بشرى للمجرمين» .

3 ـ ومن الناحية الأدبية فإنّ «حجراً» مفعول لفعل مقدر و«محجوراً» جاءت للتوكيد ، فهي في الأصل (أطلب منك منعاً لا سبيل إلى رفعه ودفعه) .

4 ـ تفسير الميزان ، تفسير الفخر الرازي ، في ظلال القرآن ، تفسير أبو الفتوح الرازي ، ذيل آية البحث .

5 ـ يذهب (الراغب) الى هذا الفرق في مادة «عمل» ، ولو أنّ له بياناً خلاف ذلك في مادة «فعل» . لكن مع الإلتفات إلى موارد استعمال هاتين الكلمتين يكون هذا الفرق صحيحاً ، طبعاً يمكن أن يكون له استثناءات كما يقولون للثيران التي تعمل «عوامل» .

6 ـ بحثنا في هذا الصدد بصورة أكثر تفصيلا في (ذيل الآية 18 من سورة إبراهيم) .

7 ـ سفينة البحار ، ج 1 ، ص 427 ، مادة «خمر» .

8 ـ تفسير علي بن إبراهيم طبقاً لنقل نور الثقلين ، ج 4 ، ص 9 .

9 ـ جملة «يوم تشقق السماء» في الواقع عطف على جملة «يوم يرون الملائكة» التي مرّت سابقاً ، وعلى هذا فأنّ «يوم» هنا متعلق بذلك الشيء الذي كان في الآية السابقة ، يعني جملة «لا بشرى» . ويعتقد جماعة أنّه متعلق بفعل مقدّر ، مثل (أذكرْ) و«الباء» في «الغمام» يمكن أن تكون بمعنى الملابسة ، أو بمعنى «عن» ، أو للسببية كما تقدم في تفسير الآيات أعلاه .

10 ـ في ظلال القرآن ، ج 6 ، ص 154 (ذيل الآية مورد البحث) .

11 ـ «الباء» من الناحية الأدبية في هذه الحالة للملابسة .

13 ـ في هذه الحالة «الباء» في «بالغمام» للسببية .

14 ـ تفسير القرطبي «الجامع لأحكام القرآن» ، ج 13 ، ص 23 ; ج 7 ، ص 4739 .

15 ـ جملة (يوم يعض الظالم . . .) عطف على «يوم يرون» التي مضت قبل عدّة آيات ، بعض يعتبرها أيضاً متعلقة بجملة مقدرة «اذكر» .

16 ـ «خليل» تطلق بمعنى الصديق الخاص الحميم حيث يجعله الإنسان مشاوراً لنفسه . وللخليل معان أخرى أيضاً قد أوردناها في ذيل الآية (125) من سورة النساء .




وهو تفسير الآيات القرآنية على أساس الترتيب الزماني للآيات ، واعتبار الهجرة حدّاً زمنيّاً فاصلاً بين مرحلتين ، فكلُّ آيةٍ نزلت قبل الهجرة تُعتبر مكّيّة ، وكلّ آيةٍ نزلت بعد الهجرة فهي مدنيّة وإن كان مكان نزولها (مكّة) ، كالآيات التي نزلت على النبي حين كان في مكّة وقت الفتح ، فالمقياس هو الناحية الزمنيّة لا المكانيّة .

- المحكم هو الآيات التي معناها المقصود واضح لا يشتبه بالمعنى غير المقصود ، فيجب الايمان بمثل هذه الآيات والعمل بها.
- المتشابه هو الآيات التي لا تقصد ظواهرها ، ومعناها الحقيقي الذي يعبر عنه بـ«التأويل» لا يعلمه الا الله تعالى فيجب الايمان بمثل هذه الآيات ولكن لا يعمل بها.

النسخ في اللغة والقاموس هو بمعنى الإزالة والتغيير والتبديل والتحوير وابطال الشي‏ء ورفعه واقامة شي‏ء مقام شي‏ء، فيقال نسخت الشمس الظل : أي ازالته.
وتعريفه هو رفع حكم شرعي سابق بنص شرعي لا حق مع التراخي والزمان بينهما ، أي يكون بين الناسخ والمنسوخ زمن يكون المنسوخ ثابتا وملزما بحيث لو لم يكن النص الناسخ لاستمر العمل بالسابق وكان حكمه قائما .
وباختصار النسخ هو رفع الحكم الشرعي بخطاب قطعي للدلالة ومتأخر عنه أو هو بيان انتهاء امده والنسخ «جائز عقلا وواقع سمعا في شرائع ينسخ اللاحق منها السابق وفي شريعة واحدة» .