أقرأ أيضاً
التاريخ: 20-8-2020
17307
التاريخ: 20-8-2020
3613
التاريخ: 21-8-2020
4390
التاريخ: 21-8-2020
2857
|
قال تعالى : {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22) وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} [الروم : 17 - 25] .
تفسير مجمع البيان
- ذكر الطبرسي في تفسير هذه الآيات (1) :
ذكر سبحانه ما تدرك به الجنة فقال {فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحين تظهرون} وهذا خبر والمراد به الأمر أي فسبحوه ونزهوه عما لا يليق به أو ينافي تعظيمه من صفات النقص بأن تصفوه بما يليق به من الصفات والأسماء . والإمساء الدخول في المساء وهو مجيء الليل والإصباح نقيضه وهو الدخول في الصباح وهو مجيء ضياء النهار وله الثناء والمدح في السماوات والأرض أي هو المستحق لمدح أهلها لإنعامه عليهم وعشيا أي وفي العشي وحين تدخلون في الظهيرة وهي نصف النهار وإنما خص تعالى هذه الأوقات بالذكر بالحمد وإن كان حمده واجبا في جميع الأوقات لأنها أوقات تذكر بإحسان الله وذلك إن انقضاء إحسان أول إلى إحسان ثان يقتضي الحمد عند تمام الإحسان الأول والأخذ في الآخر كما أخبر سبحانه عن حمد أهل الجنة بقوله {وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين} لأن ذلك حال الانتقال من نعيم الدنيا إلى الجنة .
وقيل إن الآية تدل على الصلوات الخمس في اليوم والليلة لأن قوله {حين تمسون} يقتضي المغرب والعشاء الآخرة {وحين تصبحون} يقتضي صلاة الصبح {وعشيا} يقتضي صلاة العصر {وحين تظهرون} يقتضي صلاة الظهر عن ابن عباس ومجاهد وهو الأحسن لأنه خص هذه الأوقات بالذكر وقيل إنما خص صلاة الليل باسم التسبيح وصلاة النهار باسم الحمد لأن الإنسان في النهار متقلب في أحوال توجب الحمد لله عليها وفي الليل على أحوال توجب تنزيه الله تعالى من الأسواء فيها فلذلك صار الحمد في النهار أخص فسميت به صلاة النهار والتسبيح بالليل أخص فسميت به صلاة الليل .
{يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي} أي يخرج الإنسان من النطفة ويخرج النطفة من الإنسان عن ابن عباس وابن مسعود وقيل يخرج المؤمن من الكافر ويخرج الكافر من المؤمن عن مجاهد وقد ذكرنا فيما تقدم {ويحيي الأرض بعد موتها} بالنبات بعد جدوبها {وكذلك تخرجون} أي كما أحيا الأرض بالنبات كذلك يحييكم بالبعث وتخرجون من قبوركم أحياء {ومن آياته} أي ومن دلالاته على وحدانيته وكمال قدرته {أن خلقكم} أي خلق آدم الذي هو أبوكم وأصلكم {من تراب} ثم خلقكم منه وذلك قوله {ثم إذا أنتم بشر تنتشرون} أي ثم إذا أنتم ذرية بشر من لحم ودم تنبسطون في الأرض وتنصرفون على ظهرها وتتفرقون في أطرافها فهلا دلكم ذلك على أنه لا يقدر على ذلك غيره تعالى وأنه لا يستحق العبادة سواه .
ثم عطف سبحانه على ما قدمه من تنبيه العبيد على دلائل التوحيد فقال {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم} أي جعل لكم من شكل أنفسكم ومن جنسكم {أزواجا} وإنما من سبحانه علينا بذلك لأن الشكل إلى الشكل أميل عن أبي مسلم وقيل معناه أن حواء خلقت من ضلع آدم (عليه السلام) عن قتادة وقيل إن المراد بقوله {من أنفسكم} أن النساء خلقن من نطف الرجال {لتسكنوا إليها} أي لتطمئنوا إليها وتألفوا بها ويستأنس بعضكم ببعض {وجعل بينكم مودة ورحمة} يريد بين المرأة وزوجها جعل سبحانه بينهما المودة والرحمة فهما يتوادان ويتراحمان وما شيء أحب إلى أحدهما من الآخر من غير رحم بينهما قال السدي المودة المحبة والرحمة : الشفقة .
{إن في ذلك} أي في خلق الأزواج مشاكلة للرجال {لآيات} أي لدلالات واضحات {لقوم يتفكرون} في ذلك ويعتبرون به ثم نبه سبحانه على آية أخرى فقال {ومن آياته} الدالة على توحيده {خلق السماوات والأرض} وما فيهما من عجائب خلقه وبدائع صنعه مثل ما في السماوات من النجوم والشمس والقمر وجريها في مجاريها على غاية الاتساق والنظام وما في الأرض من أنواع الجماد والنبات والحيوان المخلوقة على وجه الأحكام {واختلاف ألسنتكم} فالألسنة جمع لسان واختلافها هو أن ينشئها الله تعالى مختلفة في الشكل والهيأة والتركيب فتختلف نغماتها وأصواتها حتى أنه لا يشتبه صوتان من نفسين هما إخوان وقيل إن اختلاف الألسنة هو اختلاف اللغات من العربية والعجمية وغيرهما ولا شيء من الحيوانات تتفاوت لغاتها كتفاوت لغات الإنسان فإن كانت اللغات توقيفيا من قبل الله تعالى فهو الذي فعلها وابتدأها وإن كانت مواضعة من قبل العباد فهو الذي يسرها .
{وألوانكم} أي واختلاف ألوانكم من البياض والحمرة والصفرة والسمرة وغيرها فلا يشبه أحد أحدا مع التشاكل في الخلقة وما ذلك إلا للتراكيب البديعة واللطائف العجيبة الدالة على كمال قدرته وحكمته حتى لا يشتبه اثنان من الناس ولا يلتبسان مع كثرتهم {إن في ذلك لآيات} أي أدلة واضحات {للعالمين} أي للمكلفين {ومن آياته} الدالة على توحيده وإخلاص العبادة له {منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله} بالنهار وهذا تقديره أي يصرفكم في طلب المعيشة والمنام والنوم بمعنى واحد وقيل إن الليل والنهار معا وقت للنوم ووقت لابتغاء الفضل لأن من الناس من يتصرف في كسبه ليلا وينام نهارا فيكون معناه ومن دلائله النوم الذي جعله الله راحة لأبدانكم بالليل وقد تنامون بالنهار فإذا انتبهتم انتشرتم لابتغاء فضل الله .
{إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون} ذلك فيقبلونه ويتفكرون فيه لأن من لا يتفكر فيه لا ينتفع به فكأنه لم يسمعه {ومن آياته يريكم البرق خوفا وطمعا} معناه ومن دلالاته أن يريكم النار تنقدح من السحاب يخافه المسافر ويطمع فيه المقيم عن قتادة وقيل خوفا من الصواعق وطمعا في الغيث عن الضحاك وقيل خوفا من أن يخلف ولا يمطر وطمعا في المطر عن أبي مسلم {وينزل من السماء ماء} أي غيثا ومطرا {فيحيي به} أي بذلك الماء {الأرض بعد موتها} أي بعد انقطاع الماء عنها وجدوبها .
{إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون} أي للعقلاء المكلفين {ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره} بلا دعامة تدعمها ولا علاقة تتعلق بها بأمره لهما بالقيام كقوله تعالى {إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون} وقيل بأمره أي بفعله وإمساكه إلا أن أفعال الله عز اسمه تضاف إليه بلفظ الأمر لأنه أبلغ في الاقتدار فإن قول القائل أراد فكان أوأمر فكان أبلغ في الدلالة على الاقتدار من أن يقول فعل فكان ومعنى القيام الثبات والدوام ويقال السوق قائمة {ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض} أي من القبر عن ابن عباس يأمر الله عز اسمه إسرافيل (عليه السلام) فينفخ في الصور بعد ما يصور الصور في القبور فيخرج الخلائق كلهم من قبورهم .
{إذا أنتم تخرجون} من الأرض أحياء وقيل أنه سبحانه جعل النفخة دعاء لأن إسرافيل يقول أجيبوا داعي الله فيدعو بأمر الله سبحانه وقيل إن معناه أخرجكم من قبوركم بعد أن كنتم أمواتا فيها فعبر عن ذلك بالدعاء إذ هو بمنزلة الدعاء وبمنزلة كن فيكون في سرعة تأتي ذلك وامتناع التعذر وإنما ذكر سبحانه هذه المقدورات على اختلافها ليدل عباده على أنه القادر الذي لا يعجزه شيء العالم الذي لا يعزب عنه شيء وتدل هذه الآيات على فساد قول من قال إن المعارف ضرورية لأن ما يعرف ضرورة لا يمكن الاستدلال عليه .
________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج8 ، ص51-55 .
تفسير الكاشف
- ذكر محمد جواد مغنية في تفسير هذه الآيات (1) :
{فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وحِينَ تُصْبِحُونَ ولَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ والأَرْضِ وعَشِيًّا وحِينَ تُظْهِرُونَ} . بعد أن ذكر سبحانه أهل الجنة وأهل النار أمر بتنزيهه وتمجيده في الإصباح والإمساء والاظهار من أوقات النهار ، وفي الليل أيضا ، فإنه تعالى هو المحمود في السماء والأرض . وفي بعض الروايات ان سليمان بن داود مر بحراث ، فقال : لقد أوتي ابن داود ملكا عظيما . فقال له سليمان : ان تسبيحة واحدة يقبلها اللَّه خير ما أوتي آل داود . وفي نهج البلاغة جعل اللَّه الحمد مفتاحا لذكره ، وسببا للمزيد من فضله ، ودليلا على آلائه وعظمته .
{يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ ويُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ ويُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها} .
يقول الماديون : ان المادة هي التي تنشئ الحياة والاسماع والأفئدة . . ولو صح هذا لكانت كل مادة تبصر وتسمع وتعقل ، لأن خصائص الشيء ملازمة له حيث كان ويكون ، ولما رأينا الحياة في بعض الكائنات دون بعض علمنا أن هناك قوة وراء المادة تهب الحياة لمن تشاء وتمنعها عمن تشاء {وكَذلِكَ تُخْرَجُونَ} كما أخرج اللَّه النبات الحي من الأرض الميتة يخرج الإنسان حيا من قبره ، وكما أحياه ، ولم يكن شيئا مذكورا يحييه تارة أخرى بعد أن يصبح ترابا وعظاما ، فأين مكان الغرابة ؟
انظر ج 3 ص 231 فقرة : (من أين جاءت الحياة) ، وج 4 ص 379 ، فقرة (الماديون والحياة بعد الموت) .
{ومِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ} . خلق اللَّه الإنسان الأول من تراب ، وجميع البشر ينتهون إليه ، وأيضا غذاؤهم الذي فيه قوام حياتهم ينتهي إلى التراب - إذن - فالتراب هو سبب كيان الإنسان ووجوده ، وسبب بقائه واستمراره . . كيف صار التراب إنسانا ، له سمع وبصر وعقل وبيان وإرادة وطاقات تفعل العجائب ، وتخلق الحضارات ؟ هل هذا من فعل الصدفة أومن صنع المادة ؟ وليفرض الجاحدون ما شاءت لهم الفروض فإن العقل لا يؤمن إلا بمن ليس كمثله شيء ، وهو العليم الحكيم .
الزواج القرآني :
{ومِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً ورَحْمَةً} . من أنفسكم أي من جنسكم وعلى شكلكم تبادلكم عطفا بعطف واطمئنانا باطمئنان ، وقديما قيل : كل شكل إلى شكله ألف ، ولو كانت الزوجة من غير جنس الزوج لتعذر التفاهم والمشاركة ولنظر كل إلى الآخر على أنه غريب وبعيد عن طبعه وأخلاقه . . انظر ج 2 ص 283 ، فقرة : (الزواج مبادلة روح بروح) وطريف قول بعض المفسرين : ان المراد بالمودة المجامعة ، وبالرحمة الولد . . وان دل هذا التفسير على شيء فإنما يدل على تغليب الجنس عند المفسر ، وانه ينظر إلى المرأة على أنها مجرد آلة لإنجاب الأطفال .
ان القرآن الكريم يحدد الغاية من الزواج بالتآلف والتراحم ، والعدل والمساواة ، لا بين الزوجين فقط ، بل بين أفراد الأسرة بكاملها ، قال تعالى : {يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً ونِساءً واتَّقُوا اللَّهً الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ والأَرْحامَ إِنَّ اللَّهً كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء - 1] . والغرض من الأمر بالتقوى في هذه الآية أن يؤدي كل فرد من أبناء الأسرة حق الآخر ، ويتعاونوا يدا واحدة على ما فيه خير الجميع لتحيا الأسرة حياة صالحة لا مشاكل فيها ولا تعقيد ، ومعلوم ان الأسرة الصالحة هي أساس المجتمع الصالح .
وبهذه المناسبة نشير إلى أن الخطبة تستحب عند طلب الزواج ، وعند اجراء العقد أيضا تأسيا بالنبي وأهل بيته (صلى الله عليه واله وسلم) ، وهي حمد اللَّه تعالى والشهادتان ، والصلاة على النبي وآله ، والوصية بالتقوى ، والدعاء للزوجين ، وعن الإمام زين العابدين (عليه السلام) :
من حمد اللَّه فقد خطب . . ويستحب للتيمن والتبرك تلاوة آية من كتاب اللَّه ، وحديث من سنّة نبيه الكريم ، وعلى هذا جرت عادة السلف والكثير من الخلف ، فإنهم يتلون قبل العقد من كتاب اللَّه قوله تعالى : {ومِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً} الخ . ومن السنّة النبوية : تناكحوا تناسلوا تكثروا ، فإني أباهي بكم الأمم يوم القيامة ولو بالسقط .
وقلنا : يتلى هذا الحديث وما إليه للتبرك لأنه من الخطأ أن يظن أن الخلق الكريم والتهذيب القرآني يتم بتلاوة الأحاديث والآيات . . كلا ، ان هذا التهذيب لا يكون إلا بتربية الأبناء منذ الصغر تربية قرآنية تؤدي بهم إلى تفهم الغاية التي أرادها اللَّه من الزواج ، وانها إنسانية خالصة من كل شائبة تجارية أو سياسية ، أما ان نربي أولادنا على حب التكاثر والتفاخر والمظاهر الفارغة ، فتقول الأم لبنتها : أسعدك اللَّه بزوج ثري ، وينصح الوالد ولده أن يتزوج بنت الوزير والتاجر الكبير ، أما هذه التربية فلا تغني عنها الآيات والأحاديث .
أما حديث تناكحوا . . تناسلوا فلا شك في صحته ، ولكن سيد الأنبياء (صلى الله عليه واله وسلم) يباهي بالمؤمنين الأتقياء ، والمجاهدين الأحرار . . وأيضا بالسقط . . ويتبرأ من أهل الفسق والفجور ، من الشابات والشباب الذين لا يردعهم من الدين رادع ، ولا يزجرهم من الأخلاق زاجر ، ويتبرأ أيضا من أهل الخيانة والعمالة لأعداء اللَّه والإنسانية . . وفي الحديث : {ليأتين على الناس زمان لا يسلم لذي دين دينه إلا أن يفر من شاهق إلى شاهق . قالوا : ومتى ذلك يا رسول اللَّه ؟ قال : إذا لم ينل المعيشة إلا بمعاصي اللَّه ، فعند ذلك تحل العزوبة} .
{إِنَّ فِي ذلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} أن الغرض من الزواج هو السكن والمودة والرحمة ، وان الزواج التجاري والسياسي كثيرا ما يؤدي إلى شقاء الأسرة ، ويعرّضها للزوال وتشريد الأطفال .
{ومِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ والأَرْضِ} . يكرر سبحانه آية خلق الكون لأنه بما فيه من عجائب وأسرار أظهر الأدلة على وجود اللَّه وعظمته ، وأيضا للتذكير بفضله تعالى وآلائه {واخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وأَلْوانِكُمْ} . اختلاف القوميات باللغة ، وأهل الأقطار بالألوان ، واختلاف الأفراد بالملامح والأصوات وبصمة الإبهام وما إليها ، والحكمة من ذلك ان يتميز الناس بعضهم عن بعض ، فيعرف الوالد ولده ، والرجل زوجته ، والغريم غريمه ، ومحال أن تكون هذه الحكمة البالغة من صنع الطبيعة والصدفة {إِنَّ فِي ذلِكَ لآياتٍ لِلْعالِمِينَ} أي دلائل واضحة على وجود المقدر والمدبر .
{ومِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ والنَّهارِ وابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ} . وتقدير الكلام منامكم ليلا ونهارا لأن الإنسان قد ينام في النهار - القيلولة - {وابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ} أيضا ليلا ونهارا لأن الإنسان قد يسعى لرزقه في الليل ، أما قوله تعالى : وجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً وجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً [النبأ - 11] فإنه محمول على الغالب ، ومهما يكن فان الغرض هو التذكير بحكمته تعالى من تقسيم حياة الإنسان إلى الكدح والراحة ، حيث لا تنتظم الحياة إلا بهما {إِنَّ فِي ذلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} دعوة اللَّه فيستجيبون لها ، ومواعظه فيتعظون بها .
{ومِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وطَمَعاً ويُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} . تقدم مثله في الآية 12 من سورة الرعد ج 4 ص 388 {ومِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ والأَرْضُ بِأَمْرِهِ} . كل موجود يفتقر إلى عناية اللَّه في بقائه واستمراره ، تماما كما يفتقر إليه تعالى في أصل الخلق والإيجاد ، وما تخلت عناية اللَّه عن شيء إلا صار هباء هو وجاذبيته ودعائمه {ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} . ان دعوة اللَّه في الدنيا هي دعوة نصح وإرشاد يستجيب لها المتقون ، ويعرض عنها المجرمون ، أما دعوته في الآخرة فإنها دعوة التكوين والتنفيذ لا مفر منها للمدعو إلا إلى الداعي عظمت قدرته . وتقدم مثله في الآية 52 من سورة الإسراء ج 5 ص 53 .
__________________
1- تفسير الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج6 ، ص ١٣٥-138 .
تفسير الميزان
- ذكر الطباطبائي في تفسير هذه الآيات (1) :
قوله تعالى : {فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحين تظهرون} لما ذكر أنه يبدأ الخلق ثم يعيدهم ويرجعهم للقائه فيفرقهم طائفتين : أهل الجنة والنعمة وأهل النار والعذاب ، أما أهل الجنة فهم المؤمنون العاملون للصالحات وأما أهل النار فهم الكفار المكذبون لآيات الله وقد ذكر أنهم كانوا في الدنيا أهل قوة ونعمة لكنهم نسوا الآخرة وكذبوا بآيات الله واستهزءوا بها حتى انتهى بهم الأمر إلى سوء العذاب عذاب الاستئصال جزاء لظلمهم أنفسهم وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون .
فتحصل من ذلك أن في دار الخلقة تدبيرا إلهيا متقنا صالحا جميلا على أجمل ما يكون وأن للإنسان على توالي الأزمنة والدهور آثاما وخطيئات من العقيدة السيئة في حق ربه واتخاذ شركاء له وإنكار لقائه إلى سائر المعاصي .
ذيل الكلام بتسبيحه كلما تجدد حين بعد حين وتحميده على صنعه وتدبيره في السماوات والأرض وهو مجموع العالم المشهود فهو سبحانه منزه عن هذه الاعتقادات الباطلة والأعمال الردية ومحمود في جميع ما خلقه ودبره في السماوات والأرض .
ومن هناك يظهر : أولا : أن التسبيح والتحميد في الآيتين إنشاء تنزيه وثناء منه تعالى لا من غيره حتى يكون المعنى : قولوا سبحان الله وقولوا الحمد لله فقد تكرر في كلامه تعالى تسبيحه وتحميده لنفسه كقوله : { سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ} [الصافات : 180] وقوله : {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ } [الفرقان : 1] .
وثانيا : أن المراد بالتسبيح والتحميد معناهما المطلق دون الصلوات اليومية المفروضة كما يقول به أكثر القائلين بكون القول مقدرا .
والمعنى : قولوا سبحان الله وقولوا الحمد لله .
وثالثا : أن قوله : {وله الحمد في السماوات والأرض} معترضة واقعة بين المعطوف والمعطوف عليه ، وقوله : {وعشيا وحين تظهرون} معطوفان على محل {حين تمسون} لا على قوله : {في السماوات والأرض} حتى يختص المساء والصباح بالتسبيح والسماوات والأرض والعشي والظهيرة بالتحميد بل الأوقات وما فيها للتسبيح والأمكنة وما فيها للتحميد .
فالسياق يشير إلى أن ما في السماوات والأرض من خلق وأمر هو لله يستدعي بحسنه حمدا وثناء لله سبحانه وأن للإنسان على مر الدهور وتغير الأزمنة والأوقات من الشرك والمعصية ما يتنزه عنه ساحة قدسه تعالى وتقدس .
نعم هاهنا اعتبار آخر يتداخل فيه التحميد والتسبيح وهو أن الأزمنة والأوقات على تغيرها وتصرمها من جملة ما في السماوات والأرض فهي بوجودها يثني على الله تعالى ، ثم كل ما في السماوات والأرض بفقرها إليه تعالى وذلتها دونه ونقصها بالنسبة إلى كماله تعالى تسبحه كما قال : {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ } [الإسراء : 44] ، لكن هذا الاعتبار غير منظور إليه في الآيتين اللتين نحن فيهما .
وللمفسرين في الآيتين أقوال أخر متفرقة أشرنا إلى المهم منها في الوجوه التي قدمناها .
وتغيير السياق في قوله : {وعشيا} لكون العشي لم يبن منه فعل من باب الإفعال بخلاف المساء والصباح والظهيرة حيث بني منها الإمساء والإصباح والإظهار بمعنى الدخول في المساء والصباح والظهيرة كذا قيل .
والخطاب الذي في الآيتين في قوله : {تمسون وتصبحون وتظهرون} ليس من الالتفات في شيء بل تعميم للخطاب الذي للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) منذ شرعت السورة ، والمعنى : فإذا كان الأمر على هذه السبيل فالله منزه حينما دخلتم أنتم معاشر البشر في مساء وحينما دخلتم في صباح وفي العشي وحينما دخلتم في ظهيرة وله الثناء الجميل في السماوات والأرض .
ونظير هذا التعميم ما في قوله سابقا : {ثم إليه ترجعون} ولاحقا في قوله : {وكذلك تخرجون} .
قوله تعالى : {يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويحيي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون} ظاهر إخراج الحي من الميت وبالعكس خلق ذوي الحياة من الأرض الميتة ثم تبديل ذوي الحياة أرضا ميتة ، وقد فسر بخلق المؤمن من الكافر وخلق الكافر من المؤمن فإنه يعد المؤمن حيا والكافر ميتا ، قال تعالى : {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا } [الأنعام : 122] .
وأما إحياء الأرض بعد موتها فهو انتعاش الأرض وابتهاجها بالنبات في الربيع والصيف بعد خمودها في الخريف والشتاء ، وقوله : {وكذلك تخرجون} أي تبعثون وتخرجون من قبوركم بإحياء جديد كإحياء الأرض بعد موتها ، وقد تقدم تفسير نظير صدر الآية وذيلها مرارا .
وقوله تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22) وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} .
يذكر في هذا الفصل عدة من الآيات الدالة على وحدانيته تعالى في الربوبية والألوهية ، ويشار فيها إلى امتزاج الخلق والتدبير وتداخلهما ليتضح بذلك أن الربوبية بمعنى ملك التدبير والألوهية بمعنى المعبودية بالحق لا يستحقهما إلا الله الذي خلق الأشياء وأوجدها ، لا كما يزعم الوثني أن الخلق لله وحده والتدبير والعبادة لأرباب الأصنام ليكونوا شفعاء لهم عند الله ، وليس له سبحانه إلا أنه رب الأرباب وإله الآلهة .
قوله تعالى : {ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون} المراد بالخلق من تراب انتهاء خلقة الإنسان إلى الأرض فإن مراتب تكون الإنسان من مضغة أو علقة أو نطفة أو غيرها مركبات أرضية تنتهي إلى العناصر الأرضية .
وقوله : {ثم إذا أنتم بشر تنتشرون} إذا فجائية أي يفاجئكم أنكم أناسي تنتشرون في الأرض أي يخلقكم من تركيبات أرضية المترقب منها كينونة أرضية ميتة أخرى مثلها لكن يفاجئكم دفعة أنه يصير بشرا ذوي حياة وشعور عقلي ينتشرون في الأرض في سبيل تدمير أمر الحياة فقوله : {ثم إذا أنتم بشر تنتشرون} في معنى قوله : { ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} [المؤمنون : 14] .
فخلق الإنسان أي جمع أجزائه من الأرض وتأليفها آية وكينونة هذا المجموع إنسانا ذا حياة وشعور عقلي آية أو آيات أخر تدل على صانع حي عليم يدبر الأمر ويجري هذا النظام العجيب .
وقد ظهر بهذا المعنى أن {ثم} للتراخي الرتبي والجملة معطوفة على قوله : {خلقكم} لا على قوله : {أن خلقكم} .
قوله تعالى : {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها} إلى آخر الآية ، قال الراغب : يقال لكل واحد من القرينين من الذكر والأنثى من الحيوانات المتزاوجة : زوج ولكل قرينين فيها وفي غيرها : زوج ، قال تعالى : {فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى} وقال : {وزوجك الجنة} وزوجة لغة رديئة وجمعها زوجات - إلى أن قال - وجمع الزوج أزواج .
انتهى .
فقوله : {أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها} أي خلق لأجلكم – أو لينفعكم - من جنسكم قرائن وذلك أن كل واحد من الرجل والمرأة مجهز بجهاز التناسل تجهيزا يتم فعله بمقارنة الآخر ويتم بمجموعهما أمر التوالد والتناسل فكل واحد منهما ناقص في نفسه مفتقر إلى الآخر ويحصل من المجموع واحد تام له أن يلد وينسل ، ولهذا النقص والافتقار يتحرك الواحد منهما إلى الآخر حتى إذا اتصل به سكن إليه لأن كل ناقص مشتاق إلى كماله وكل مفتقر مائل إلى ما يزيل فقره وهذا هو الشبق المودع في كل من هذين القرينين .
وقوله : {وجعل بينكم مودة ورحمة} المودة كأنها الحب الظاهر أثره في مقام العمل فنسبة المودة إلى الحب كنسبة الخضوع الظاهر أثره في مقام العمل إلى الخشوع الذي هو نوع تأثر نفساني عن العظمة والكبرياء .
والرحمة نوع تأثر نفساني عن مشاهدة حرمان المحروم عن الكمال وحاجته إلى رفع نقيصته يدعو الراحم إلى إنجائه من الحرمان ورفع نقصه .
ومن أجل موارد المودة والرحمة المجتمع المنزلي فإن الزوجين يتلازمان بالمودة والمحبة وهما معا وخاصة الزوجة يرحمان الصغار من الأولاد لما يريان ضعفهم وعجزهم عن القيام بواجب العمل لرفع الحوائج الحيوية فيقومان بواجب العمل في حفظهم وحراستهم وتغذيتهم وكسوتهم وإيوائهم وتربيتهم ولولا هذه الرحمة لانقطع النسل ولم يعش النوع قط .
ونظير هذه المودة والرحمة مشهود في المجتمع الكبير المدني بين أفراد المجتمع فالواحد منهم يأنس بغيره بالمودة ويرحم المساكين والعجزة والضعفاء الذين لا يستطيعون القيام بواجبات الحياة .
والمراد بالمودة والرحمة في الآية الأوليان على ما يعطيه مناسبة السياق أوالأخيرتان على ما يعطيه إطلاق الآية .
وقوله : {لآيات لقوم يتفكرون} لأنهم إذا تفكروا في الأصول التكوينية التي يبعث الإنسان إلى عقد المجتمع من الذكورة والأنوثة الداعيتين إلى الاجتماع المنزلي والمودة والرحمة الباعثتين على الاجتماع المدني ثم ما يترتب على هذا الاجتماع من بقاء النوع واستكمال الإنسان في حياتيه الدنيا والأخرى عثروا من عجائب الآيات الإلهية في تدبير أمر هذا النوع على ما يبهر به عقولهم وتدهش به أحلامهم .
قوله تعالى : {ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم} إلى آخر الآية .
الظاهر أن يكون المراد باختلاف الألسن اختلاف اللغات من العربية والفارسية والأردوية وغيرها وباختلاف الألوان اختلاف الأمم في ألوانهم كالبياض والسواد والصفرة والحمرة .
ويمكن أن يستفاد اختلاف الألسنة من جهة النغم والأصوات ونحو التكلم والنطق وباختلاف الألوان اختلاف كل فردين من أفراد الإنسان بحسب اللون لو دقق فيه النظر على ما يقول به علماء هذا الشأن .
فالباحثون عن العالم الكبير يعثرون في نظام الخلقة على آيات دقيقة دالة على أن الصنع والإيجاد مع النظام الجاري فيه لا يقوم إلا بالله ولا ينتهي إلا إليه .
قوله تعالى : {ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله} إلى آخر الآية ، الفضل الزيادة على مقدار الحاجة ويطلق على العطية لأن المعطي إنما يعطي ما فضل من مقدار حاجته ، والمراد به في الآية الكريمة الرزق فابتغاء الفضل طلب الرزق .
وفي خلق الإنسان ذا قوى فعالة تبعثه إلى طلب الرزق ورفع حوائج الحياة للبقاء بالحركة والسعي ثم هدايته إلى الاستراحة والسكون لرفع متاعب السعي وتجديد تجهيز القوى وتخصيص الليل والنهار المتعاقبين للسعي والسكون والتسبيب إلى وجود الليل والنهار بأوضاع سماوية قائمة بالأرض والشمس لآيات نافعة لمن له سمع واع يعقل ما يسمع فإذا وجده حقا اتبعه .
قال في الكشاف ، في الآية : هذا من باب اللف وترتيبه : ومن آياته منامكم وابتغاؤكم من فضله بالليل والنهار إلا أنه فصل بين القرينين الأولين بالقرينين الآخرين لأنهما زمانان والزمان والواقع فيه كشيء واحد مع إعانة اللف على الاتحاد ويجوز أن يراد منامكم في الزمانين وابتغاؤكم فيهما ، والظاهر هو الأول لتكرره في القرآن وأسد المعاني ما دل عليه القرآن .
انتهى .
وقد ظهر مما تقدم معنى تذييل الآية بقوله : {إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون} .
قوله تعالى : {ومن آياته يريكم البرق خوفا وطمعا وينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها} الظاهر أن الفعل نزل منزلة المصدر ولذلك لم يصدر بأن المصدرية كما صدر به قوله : {أن خلقكم} وقوله : {أن خلق لكم} وتنزيل الفعل منزلة المصدر لغة عربية جيدة وعليه يحمل المثل السائر : {وتسمع بالمعيدي خير من أن تراه} ولا ضير في حمل كلامه تعالى عليه فهو تعالى يأتي في مفتتح هذه الآيات بفنون التعبير كقوله : {منامكم} {يريكم} {أن تقوم} .
واحتمل في قوله : {يريكم} أن يكون بحذف أن المصدرية والتقدير أن يريكم البرق وأيد بقراءة النصب في يريكم .
واحتمل أن يكون من حذف المضاف ، والتقدير : ومن آياته آية أن يريكم البرق ، واحتمل أن يكون التقدير ومن آياته آية البرق ثم استونف فقيل : يريكم البرق إلخ ، واحتمل أن يكون {من آياته} متعلقا بقوله : {يريكم} ، والتقدير : ويريكم من آياته البرق ، واحتمل أن يكون {من آياته} حالا من البرق ، والتقدير : ويريكم البرق حال كون البرق من آياته .
وهذه وجوه متفرقة لا يخفى عليك بعدها على أن بعضها يخرج الكلام في الآية عن موافقة السياق في الآيات السابقة النظيرة له كالوجهين الأخيرين .
وقوله : {خوفا وطمعا} أي خوفا من الصاعقة وطمعا في المطر ، وقوله : {وينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها} تقدم تفسيره كرارا ، وقوله : {إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون} أي إن أهل التعقل يفقهون أن هناك عناية متعلقه بهذه المصالح فليس مجرد اتفاق وصدفة .
قوله تعالى : {ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون} القيام مقابل القعود ولما كان أعدل حالات الإنسان حيث يقوى به على عامة أعماله استعير لثبوت الشيء واستقراره على أعدل حالاته كما يستعار لتدبير الأمر ، قال تعالى : {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [الرعد : 33] .
والمراد بقيام السماء والأرض بأمر من الله ثبوتهما على حالهما من حركة وسكون وتغير وثبات بأمره تعالى وقد عرف أمره بقوله : {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [يس : 82] .
وقوله : {ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون} {إذا} الأولى شرطية و{إذا} الثانية فجائية قائمة مقام فاء الجزاء و{من الأرض} متعلق بقوله : {دعوة} والجملة معطوفة على محل الجملة الأولى لأن المراد بالجملة أعني قوله : {ثم إذا دعاكم} إلخ البعث والرجوع إلى الله وليس في عداد الآيات بل الجملة إخبار بأمر احتج عليه سابقا وسيحتج عليه لاحقا .
وأما قول القائل : إن الجملة على تأويل المفرد وهي معطوفة على {أن تقوم} والتقدير ومن آياته قيام السماء والأرض بأمره ثم خروجكم إذا دعاكم دعوة من الأرض .
فلازمه كون البعث معدودا من الآيات وليس منها على أن البعث أحد الأصول الثلاثة التي يحتج بالآيات عليه ، ولا يحتج به على التوحيد مثلا بل لو احتج فبالتوحيد عليه فافهم ذلك .
ولما كانت الآيات المذكورة من خلق البشر من تراب وخلقهم أزواجا واختلاف ألسنتهم وألوانهم ومنامهم وابتغائهم من فضله وإراءة البرق وتنزيل الماء من السماء كلها آيات راجعة إلى تدبير أمر الإنسان كان المراد بقوله : {أن تقوم السماء والأرض} بمعونة السياق ثبات السماء والأرض على وضعهما الطبيعي وحالهما العادية ملائمتين لحياة النوع الإنساني المرتبطة بهما وكان قوله : {ثم إذا دعاكم} إلخ مترتبا على ذلك ترتب التأخير أي إن خروجهم من الأرض متأخر عن هذا القيام مقارن لخرابهما كما ينبىء به آيات كثيرة في مواضع مختلفة من كلامه تعالى .
ويظهر بذلك أيضا أن المراد من قوله السابق {ومن آياته خلق السماوات والأرض} خلقهما من جهة ما يرتبطان بالحياة البشرية وينفعانها .
وقد رتبت الآيات المذكورة آخذة من بدء خلق الإنسان وتكونه ثم تصنفه صنفين : الذكر والأنثى ثم ارتباط وجوده بالسماء والأرض واختلاف ألسنتهم وألوانهم ثم السعي في طلب الرزق وسكون المنام ثم إراءة البرق وتنزيل الأمطار حتى تنتهي إلى قيام السماء والأرض إلى أجل مسمى ليتم لهذا النوم الإنساني ما قدر له من أمد الحياة ويعقب ذلك البعث فهذا بعض ما في ترتيب ذكر هذه الآيات من النكات .
وقد رتبت الفواصل أعني قوله {يتفكرون} {للعالمين} {يسمعون} {يعقلون} على هذا الترتيب لأن الإنسان يتفكر فيصير عالما ثم إذا سمع شيئا من الحقائق وعاه ثم عقله والله أعلم .
__________________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج16 ، ص130-138 .
تفسير الامثل
- ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذه الآيات (1) :
التسبيح والحمد في جميع الأحوال لله !
بعد الأبحاث الكثيرة التي وردت في الآيات السابقة في شأن المبدأ والمعاد ، وقسم من ثواب المؤمنين ، وجزاء المشركين وعقابهم . . . ففي الآيات محل البحث يذكر التسبيح والحمد والتقديس والتنزيه لله من جميع أنواع الشرك والنقص والعيب ، إذ تقول الآية : {فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وله الحمد في السماوات والأرض وعشياً وحين تظهرون} .
وعلى هذا فقد ورد في هاتين الآيتين ذكر لأربع أوقات لتسبيح الله :
1 ـ بداية الليل {حين تمسون} .
2 ـ وطلوع الفجر {حين تصبحون} .
3 ـ وعصراً {عشياً} .
4 ـ وعند الزوال ـ في الظهر ـ {حين تظهرون} (2) .
أمّا «الحمد» من حيث المكان فهو عام وشامل لجميع السماوات والأرض .
وذكر هذه الأوقات الأربعة في الآيات المتقدمة لعله كناية عن الدوام والإستمرار في التسبيح ، «أي كل وقت وكل زمان» .
كما احتمل بعض المفسّرين أنّ المراد من هذه الأوقات الأربعة الإشارة إلى أوقات الصلاة ، إلاّ أنّهم لم يجيبوا على هذا السؤال ، وهو : لم ذكر في القرآن أربعة أوقات بدلا من خمسة أوقات؟ «ولم يرد الكلام على صلاة العشاء» !
ولكن يمكن الجواب على هذا السؤال بأن وقت صلاة المغرب مقارب لوقت صلاة العشاء نسبياً ، والفاصلة بينهما حدود الساعة إلى الساعة والنصف ، فجاءت الصلاتان في مكان واحد ، غير أنّ الفاصلة بين الظهر والعصر أطول نسبياً ، حيث تطول أكثر من ساعتين .
لكننا لو أخذنا التسبيح والحمد بمفهومهما الوسيع في الآية ، لوجدنا أنّهما لا يتحدّدان بالصلوات الخمس ، وإن كانت هذه الصلوات من مصاديقهما الواضحة .
وينبغى أن نذكر هذه المسألة «اللطيفة» وهي : إن كلا من جملتي (سبحان الله}و{له الحمد} يمكن أن تكونا إنشاء لتسبيح الله وحمده من قبل الله سبحانه ، كما قال في الآية (14) من سورة المؤمنون { فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون : 14] .
ويمكن أن يكون هذا الحمد والتسبيح بمعنى الأمر ، أي «سبّحوه واحمدوا له» .
وهذا التّفسير يبدو أقرب للنظر ، إذ الآيات المتقدمة هي بمثابة دستور لجميع العباد لمحو آثار الشرك والذنب من الروح والقلب كل صباح ومساء وكل ظهر وعصر ، فسبحوا الله واحمدوا له في الصلاة وفي غير الصلاة .
ونقرأ حديثاً عن النّبي(صلى الله عليه وآله) يقول فيه : «من قال حين يمسي ثلاث مرات فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون (الآيات الثلاث إلى . . تخرجون) أدرك مافاته في يومه ، وإن قالها حين يمسي أدرك ما فاته ليلته» (3) .
وفي الآية التالية عودة إلى المعاد ، ويرد القرآن المنكرين له عن طريق آخر ، فيقول : (يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويحي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون} .
أي إنّ ميدان «المعاد» وميدان «نهاية الدنيا» المتمثّل أحدهما بخروج «الحي من الميت» والآخر «خروج الميت من الحي» يتكرران أمام أعينكم ، فلا مجال للتعجب من أن تحيا الكائنات جميعاً ، ويعود الناس في يوم القيامة إلى الحياة مرّة أُخرى !
أمّا التعبير بـ «يخرج الحي من الميت» المستعمل للأراضي الموات ، فقد ذكره القرآن مراراً في مسألة المعاد وواضح أنّ الأرض تبدوا ميتة في فصل الشتاء ، فلا خضرة ولا أزهار تضحك ولا براعم تتفتح ، ولكن في فصل الربيع مع سقوط الغيث واعتدال الهواء ، تدبّ الحركة في الأرض ، وتنمو الخضرة في كل مكان ، وتتبسّم الأزهار وتنمو البراعم على الأغصان وهذا ميدان المعاد الذي نراه في هذه الدنيا .
وأمّا مسألة «إخراج الميت من الحيّ» فهي ليست شيئاً خافياً ولا مستتراً ، فدائماً تموت الأشجار على الأرض وتتبدل إلى أخشاب ، ويفقد الإنسان والحيوان حياتهما ، ويتبدل كل منهما إلى جسد هامد لا روح فيه .
وأمّا ما يتعلق بـ «إخراج الحيّ من الميت» ففسّره بعضهم بخروج الإنسان والحيوان من النطفة ، وقال بعضهم : بل المراد منه تولد المؤمن من الكافر ، وقال بعضهم : المراد منه تيقظ النائمين والراقدين .
والظاهر أنّه ليس أيّاً من هذه المعاني هو المعنى الأصلي ، لأنّ النطفة بنفسها موجود حي ، ومسألة «الكفر والإيمان» هي من بطون الآية ، لا من ظواهر الآية ، وأمّا موضوع التيقظ والنوم فهو أمر مجازي ، إذ ليس النوم والتيقظ موتاً وحياة حقيقيين .
إنّما ظاهر الآية هو أنّ الله يخرج الموجودات الحية دائماً من الموجودات الميتة ، ويبدل الموجودات الهامدة التي لا روح فيها إلى موجودات حيّة .
وبالرغم من أنّه من المسلّم به ـ في العصر الحاضر على الأقل ـ أنّه لم يُر في المختبرات والمشاهدات اليوميّة أن موجوداً حيّاً يتولد من موجود ميّت ، بل تتولد الموجودات الحية دائماً من البيوض أو البذور أو نطف الموجودات الحية الأُخرى ، غير أن الثابت علمياً والمسلّم به أنّه كانت الأرض في البداية قطعة ملتهبة من النّار ، ولم يوجد عليها أي موجود حي ، ثمّ وفقاً لظروف خاصة لم يكتشفها العلم ـ حتى الآن ـ بصورة دقيقة ، تولدت الموجودات الحية من مواد لا روح فيها بقفزة كبيرة . . لكن هذا الموضوع وفي الظروف الفعلية للكرة الأرضية . وحيث أنّ العلم البشري لم يتوصل إليه ، فلم يشاهد هذا الموضوع (وبالطبع يحتمل أن تتحقق هذه القفزة الكبرى في أعماق البحار والمحيطات في بعض الظروف الحالية) .
لكن الذي نلمسه وندركه ، هو أنّ الموجودات الميتة دائماً تكون جزءاً من الموجودات الحية وتكسى ثوب الحياة! فالماء والطعام اللذان نتناولهما ليسا من الموجودات الحية ، لكنّهما حين يكونان في البدن ويصيران جزءاً منه يتحولان إلى موجود حيّ وتضاف كريات جديدة وخلايا جديدة إلى كريات البدن وخلاياه ، كما يتبدل الطفل الرضيع عن هذا الطريق إلى شاب قوي متين .
أليس هذا إخراج الحياة من قلب الموت ، أو «الحي من الميت» ؟!
فعلى هذا يمكن القول بأن في نظام الطبيعة دائماً يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ، وبهذا الدليل فإنّ الله الذي خلق الطبيعة قادر على إحياء الموتى في العالم الآخر .
وبالطبع فإنّ الآية الآنفة من جهة البعد المعنوي لها تفاسير أخر . . منها تولد المؤمن من الكافر ، وتولد الكافر من المؤمن ، والعالم من الجاهل ، والجاهل من العالم ، والصالح من المفسد ، والمفسد من الصالح ، كما أشير إلى كل ذلك في الروايات الإسلامية أيضاً .
ويمكن أن تكون هذه المعاني من بطون الآية ، لأنّنا نعرف أنّ آيات القرآن لها ظاهر وباطن ، كما يمكن أن يكون للموت والحياة معنى جامع واسع يشمل الجانب المادي والجانب المعنوي .
هذا وقد جاء في رواية عن الإمام موسى بن جعفر(عليه السلام) في تفسير الآية {يحيي الأرض بعد موتها} مايلي : «ليس يحييها بالقطر ، ولكن يبعث الله رجالا فيحيون العدل ، فتحيي الأرض لإحياء العدل ولإقامة العدل فيه أنفع في الأرض من القطر أربعين صباحاً» (4) .
وواضح أنّ مراد الإمام(عليه السلام) أن معنى الآية لا ينحصر بنزول الغيث ، ولا ينبغي تفسير الآية بالغيث فحسب ، لأنّ الإحياء المعنوي للأرض بالعدل أهم من إحيائها بالغيث عند نزوله .
وقوله تعالى : {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ} [الروم : 20 - 22] .
آيات الله في الآفاق وفي الأنفس :
تحدثت هذه الآيات ـ وبعض الآيات الأخر التي تليها ـ عن طرائف ولطائف من دلائل التوحيد ، وآيات الله وآثاره في نظام عالم الوجود ، وهي تكمل البحوث السابقة ، ويمكن القول بأن القسم المهم بشكل عام من آيات التوحيد في القرآن تمثله هذه الآيات!
هذه الآيات التي تبدأ جميعها بقوله تعالى : {ومن آياته} ولها وقع خاص ولحن بليغ جاذب وتعبيرات مؤثرة وعميقة ، مجموعة من سبع آيات ، ستٌ منها متتابعات ، وواحدة منفصلة «وهي الآية السادسة والأربعون» .
هذه الآيات مقسمة تقسيماً طريفاً من حيث «آيات الآفاق» و«آيات الأنفس» إذ تتحدث ثلاث منها عن آيات الأنفس (دلائل الخالق في وجود الإنسان نفسه) وثلاث منها عن آيات الآفاق (دلائل الخالق خارج وجود الإنسان) وواحدة من هذه الآيات تتحدث عن الآيات في الأنفس وفي الآفاق معاً .
وممّا ينبغي الإلتفات إليه أنّ الآيات التي تبدأ بهذه العبارة : {ومن آياته} مجموعها إحدى عشرة آية فحسب ، في سائر سور القرآن ، سبع منها في هذه السورة ، واثنتان في سورة فصلت هما «الآية 37 والآية 39» وآيتان أُخريان في سورة الشورى هما الآية 29 والآية 32 ـ ومجموعها كما ذكرنا آنفاً إحدى عشرة لا غير . وهي تشكل دورة متكاملة في التوحيد .
ويجدر التنبيهُ ـ قبل الدخول إلى تفسير هذه الآيات ـ على هذه «اللطيفة» وهي أن ما أشار إليه القرآن في هذه الآيات ، وإن كانت تبدو للنظر محسوسة وملموسة ، يمكن أن يدركها عامّة الناس ، إلاّ أنّه مع تطور العلم وتقدمه تبدو للبشر لطائف جديدة في هذا المجال ، وتتّضح للعلماء أُمور ذات أهمية كبرى ، وسنشير إلى قسم منها خلال تفسيرنا لهذه الآيات إن شاء الله .
ويتحدث القرآن هنا أوّلا عن خلقة الإنسان التي تعد أوّل موهبة إلهية له ، وأهمهما أيضاً ، فيقول : {ومن آياته أن خلقكم من تراب ثمّ إذا أنتم بشرٌ تنتشرون} !
في هذه الآية إشارة دليلين من أدلة عظمة الله .
الأوّل : خلق الإنسان من التراب ، وربّما كان إشارة إلى الخلق الأوّل للإنسان ، أي آدم (عليه السلام) ، أو خلق جميع الناس من التراب ، لأنّ المواد الغذائية التي تشكل وجود الإنسان ، جميعها من التراب بشكل مباشرة أو غير مباشر !
الثّاني : كثرة النسل «الآدمي» وانتشار أبناء «آدم» على سطح المعمورة ، فلولم تُخلق خصوصية التناسل في آدم ، لإنطوى نسله من الوجود بسرعة ! .
تُرى أين التراب وأين الإنسان بهذا الهندام والرشاقة ؟!
فلو وضعنا خلايا وأستار العين التي هي أدق من ورق الزهور وألطف وأكثر حساسية ، وكذلك الخلايا الدقيقة للدماغ والمخ إلى جانب التراب وقارناهما بالقياس إلى بعضهما البعض ، نعرف حينئذ كم لخالق العالم من قدرة عجيبة ، بحيث أوجد من مادة كدرة سوداء لا قيمة لها هذه الأجهزة الظريفة والدقيقة القيّمة .
فالتراب ليس فيه نور ، ولا حرارة ، ولا جمال ، ولا طراوة ، ولا حس ، ولا حركة ومع ذلك فقد أضحى عجينة الإنسان ولها جميع هذه الصفات ، فالذي أوجد من هذا الموجود الميت التافه موجوداً حيّاً عجيباً ، لحقيق بكل حمد وثناء على هذه القدرة الباهرة والعلم المطلق {فتبارك الله أحسن الخالقين} .
والآية محل البحث تبيّن ضمناً هذه الحقيقة ، وهي أنّه لا تفاوت بين بني الإنسان ، ويعود جذرهم إلى شيء واحد ، وأصل واحدة وهو التراب وبالطبع فنهايتهم إلى ذلك التراب أيضاً .
وممّا ينبغي الإلتفات إليه ، أن كلمة «إذا» تستعمل في لغة العرب في الموارد الفجائية ولعل هذا التعبير هنا إشارة إلى أنّ الله له القدرة البالغة على أن يخلق مثل آدم أعداداً هائلة بحيث ينتشر نسلها في فترة قصيرة ـ فجأةً ـ ويملأ سطح الأرض . . ويكون مجتمعاً إنسانيّاً كاملا .
والآية الثّانية من الآيات محل البحث تتحدث أيضاً عن قسم آخر من الآيات في الأنفس ، التي تمثل مرحلة ما بعد خلق الإنسان ، فتقول : {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها} . أي من جنسكم والغاية هي السكينة الروحية والهدوء النفسي
وحيث أن استمرار العلاقة بين الزوجين خاصة ، وبين جميع الناس عامة ، يحتاج إلى جذب قلبي وروحاني ، فإنّ الآية تعقب على ذلك مضيفةً {وجعل بينكم مودةً ورحمة} .
ولمزيد التأكيد تُختتم الآية بالقول : {إنّ في ذلك لآيات لقوم يتفكرون} .
الطريف هنا أن القرآن ـ في هذه الآية ـ جعل الهدف من الزواج الإطمئنان والسكن ، وأبان مسائل كثيرة في تعبير غزير المعنى «لتسكنوا» كما ورد نظير هذا التعبير في سورة الأعراف الآية 189 .
والحقّ أن وجود الأزواج مع هذه الخصائص للناس التي تعتبر أساس الإطمئنان في الحياة ، هو أحد مواهب الله العظيمة .
وهذا السكن أو الإطمئنان ينشأ من أن هذين الجنسين يكمل بعضهما بعضاً ، وكل منهما أساس النشاط والنماء لصاحبه ، بحيث يعد كل منهما ناقصاً بغير صاحبه ، فمن الطبيعي أن تكون بين الزوجين مثل هذه الجاذبيّة القوية .
ومن هنا يمكن الإستنتاج بأنّ الذين يهملون هذه السنة الإلهية وجودهم ناقص ، لأنّ مرحلة تكاملية منهم متوقفة ، {إلاّ أن توجب الظروف الخاصة والضرورة في بقائهم عزّاباً} .
وعلى كل حال ، فإنّ هذا الإطمئنان أو السكن يكون من عدّة جهات «جسمياً وروحيّاً وفردياً واجتماعيّاً» .
ولا يمكن إنكار الأمراض التي تصيب الجسم في حالة عدم الزواج ، وكذلك عدم التعادل الروحي والإضطراب النفسي عند غير المتزوجين .
ثمّ أنّ الأفراد العزّاب لا يحسّوون بالمسؤولية ـ من الناحية الإجتماعية ـ كثيراً . . ولذلك فإن الإنتحار تزداد بين أمثال هؤلاء أكثر . . كما تصدر منهم جرائم مهولة أكثر من سواهم أيضاً .
وحين يخطو الإنسان من مرحلة العزوبة الى مرحلة الحياة الأُسرية يجد في نفسه شخصية جديدة ، ويحس بالمسؤولية أكثر ، وهذا السكن والإطمئنان في ظل الزواج .
وأمّا مسألة «المودة والرحمة» فهما في الحقيقة «ملاط» البناء في المجتمع الإنساني ، لأنّ المجتمع يتكون من افراد متفرقين كما أن البناء العظيم يتألف من عدد من الطابوق و«الآجر» أو الأحجار . فلو أن هؤلاء الأفراد المتفرقين اجتمعوا ، أو أن تلك الأجزاء المتناثرة وصلت بعضها ببعض ، لنشأ من ذلك المجتمع أو البناء حينئذ .
فالذي خلق الإنسان للحياة الإجتماعية جعل في قلبه وروحه هذه الرابطة الضرورية .
والفرق بين «المودة» و«الرحمة» قد يعود إلى الجهات التالية :
1 ـ المودة هي الباعثة على الإرتباط في بداية الأمر بين الزوجين ، ولكن في النهاية ، وحين يضعف أحد الزوجين فلا يكون قادراً على الخدمة ، تأخذ الرحمة مكان المودة وتحلّ محلها .
2 ـ المودة تكون بين الكبار الذين يمكن تقديم الخدمة لهم ، أمّا الأطفال والصبيان الصغار ، فإنهم يتربون في ظلّ الرحمة .
3 ـ المودّة ، غالباً ما يكون فيها «تقابل بين الطرفين» ، فهي بمثابة الفعل ورد الفعل ، غير أنّ الرحمة من جانب واحد لديه إيثار وعطف ، لأنّه قد لا يحتاج إلى الخدمات المتقابلة أحياناً ، فأساس بقاء المجتمع هو «المودة» ولكن قد يحتاج إلى الخدمات بلا عوض ، فهو الايثار والرحمة .
وبالطبع فإنّ الآية تبيّن المودة والرحمة بين الزوجين ، ولكن يحتمل أن يكون التعبير «بينكم» إشارة إلى جميع الناس . . والزوجان مصداق بارز من مصاديق هذا التعبير ، لأنّه ليست الحياة العائلية وحدها لا تستقيم إلاّ بهذين الأصلين (المودّة والرحمة) بل جميع المجتمع الإنساني قائم على هذين الأصلين وزوالهما من المجتمع ـ وحتى نقصانهما يؤدي الى أنواع الارباك والشقاء والاضطراب الإجتماعي .
أمّا آخر آية ـ من هذه الآيات محل البحث ـ فهي مزيج من آيات الآفاق وآيات الأنفس ، فتبدأ بالإشارة إلى خلق السماء والأرض ، فتقول : {ومن آياته خلق السماوات والأرض} .
السماوات بجميع ما فيها من كرات ، وبجميع ما فيها من منظومات ومجرّات ، السماوات التي مهما حلّق فيها الفكر عجز عن إدراك عظمتها ومطالعتها . . وكلّما تقدم علم الإنسان تتجلى له نقاط جديدة من عظمتها .
كان الإنسان يرى الكواكب في السماء بهذا العدد الذي تراه العين (وقد أحصى العلماء الكواكب التي ترى بالعين المجرّدة ، فوجدوها تتراوح بين خمسة الآف إلى ستة الآف كوكب) .
ولكن كلما تقدم العلم في صناعة المجهر والتلسكوب ، فإنّ عظمة وكثرة الكواكب تزداد أكثر . . . إلى درجة بلغ الإعتقاد اليوم أن مجرتنا لوحدها من بين مجاميع المجرات في السماء تحتوي على أكثر من مئة مليون كوكب وتعد الشمس على عظمتها المذهلة واحدة من النجوم المتوسطة ، ولا يعلم عدد المجرات ولا يحصيها إلاّ الله ، إذ هو وحده يعلم كم من كوكب ونجمة في هذا المجرات !
وكذلك كلما تقدم العلم الطبيعي والجيولوجيا ، وعلم النبات والعلوم البيلوجية «والحيوانية» وعلم التشريح والفيزياء ، والعلوم النفسية وغيرها ، فستتضح عجائب في خلق الأرض كانت خافية ، كل واحدة تعدُّ آية من آيات الله .
ثمّ ينتقل القرآن إلى آية من آيات الأنفس الكبيرة فيقول : {واختلاف ألسنتكم وألوانكم} .
وبلا شك فإنّ الحياة الإجتماعية للبشر ، لا تقوم بغير معرفة وتشخيص الأفراد والأشخاص ، إذ لوكان الناس جميعاً في يوم ما على صورة واحدة ولباس واحد ، فإن أسلوب حياتهم يضطرب في ذلك اليوم ، إذ لا يعرف الأب والابن والزوج من الغرباء ، ولا يميز المجرم من البريء ، ولا الدائن من المدين ، ولا الآمر من المأمور ، ولا الرئيس من المرؤوس ، ولا الضيف من المضيف ولا العدو من الصديق ، وأي ارباك عجيب كان سيحدث لو كانوا على هذه الشاكلة ! .
وعلى سبيل الإتفاق قد تحدث هذه المسألة بين الإخوة التوائم ، أو الشقيقين التوأمين المتشابهين من جميع الوجوه ، وكم تحدث من المشاكل بين الناس وبينهم ، وقد سمعنا ذات مرّة أن امرأة كان لديها توأمان متشابهان تماماً ، وكان أحدهما مريضاً ، فأعطت الدواء لمعافى دون السقيم !! .
لذلك خلق الله الأصوات والألون لتنظيم المجتمع البشري ، على حد تعبير «الرازي» في تفسيره في ذيل الآية محل البحث : إن معرفة الإنسان للإنسان تحصل إمّا عن طريق العين أو الأذن ، فخلق الله الألوان والصور والأشكال المختلفة لتعرفها العين وتشخصها ، وأوجد اختلاف الأصوات لتشخصها الأذن ، حتى أنّه لا يمكن العثور في جميع العالم على انسانين متشابهين في الوجه والصوت معاً ، أي إن وجه الإنسان الذي هو عضو صغير ، وصوته الذي هو موضوع بسيط ، بقدرة الله جاءا على مليارات الأشكال والأصوات المختلفة ، وما ذلك الإختلاف إلاّ من آيات عظمة الله .
كما يحتمل أن المراد باختلاف الألسنة كما أشار إليه كبار المفسّرين هو اختلاف اللغات ، من قبيل العربية والفارسية واللغات الأخرى .
ولكن يمكن أن يستفاد من كلمة «اختلاف» معنى واسع بحيث يشمل هذا التّفسير وما قبله ، وأي تفسير آخر ، فهذا التنوع في الخلقة شاهد على عظمة الخالق وقدرته .
يقول «فريد وجدي» في دائرة معارفه ، نقلا عن قول «نيوتن» العالم الغربي المعروف (لا تشكوا في الخالق ، فإنه ممّا لا يُعقل أن تكون الضرورة وحدها هي قائدة الوجود ، لأنّ ضرورة عمياء متجانسة في كل مكان وفي كل زمان لا يتصور أن يصدر منها هذا التنوع في الكائنات ، ولا هذا الوجود كله بما فيه من ترتيب أجزائه وتناسبها ، مع تغيرات الأزمنة والأمكنة ، بل إن كل هذا لا يعقل أن يصدر إلاّ من كائن أزلي له حكمة وإرادة) (5) .
ويقول القرآن في نهاية الآية الآنفة الذكر {إنّ في ذلك لآيات للعالمين} .
فالعلماء يعرفون هذه الأسرار قبل كل أحد .
وقوله تعالى : {وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} [الروم : 23 ، 25] .
آياتُ عظمته ـ مرّةً أُخرى :
تعقيباً على الأبحاث السابقة حول آيات الله في الآفاق وفي الأنفس ، تتحدث هذه الآيات ـ محل البحث ـ حول قسم آخر من هذه الآيات العظيمة .
فتتحدث في البداية عن ظاهرة «النوم» على أنّها ظاهرة مهمة من ظواهر الخلق ومثل بارز من نظام الحكيم الخالق ، فتقول : {ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله} .
وتُختتم الآية بإثارة العبرة بالقول : {إنّ في ذلك لآيات لقوم يسمعون} .
وهذه الحقيقة غير خافية على أحد ، هي أن جميع «الموجودات الحية» تحتاج إلى الراحة والدعة ، وذلك لتجديد قوتها وتهيئة الإستعداد اللازم لإدامة العمل والفعالية ، الراحة التي لابدّ منها حتى لأولئك الأفراد الحريصين والجاديّن .
فأي شيء يُتصور أحسن من النوم للوصول إلى هذا الهدف ، وهو يأتيه بشكل إلزامي ، ويدعوه إلى تعطيل نشاطه الجسماني ، وقسم مهم من نشاطه الفكري والذهني ، بينما تستمر أجهزة خاصة في العمل في جسم الإنسان كالقلب الرئة وبعض النشاط الذهني ، وما إلى ذلك ممّا يستلزمه استمرار الحياة في الإنسان فحسب ، أمّا البقية فتهدأ وتتعطل عن العمل .
هذه الموهبة العظيمة تؤدي الى أن يحصل جسم الإنسان وروحه على الراحة اللازمة ، فيرتفع التعب بطرو النوم الذي بمثابة وقفة لعمل البدن ، ونوع من التعطيل له . ويجد الإنسان على أثرها قوة ونشاطاً جديداً في حياته .
ومن المسلّم به أنّه لولا النوم لتصدّعت روح الانسان وذبل جسمه وانهار بسرعة ، ولعجل عليه العجز والشيخوخة . . . وبهذا فإن النوم المناسب والهادىء مدعاة للسلامة وطول العمر ، ودوام «الشباب» ونشاطه .
وممّا يجدر التنبيه عليه أوّلاً : أنّ النوم ورد قبل عبارة {ابتغاؤكم من فضله}التي تعني السعي وراء الرزق ، وهذا التعبير هو إشارة إلى أن النوم أساس السعي لأنّه ـ من دون النوم الكافي ـ يصعب الإبتغاء من فضل الله .
ثانياً : صحيح أنّ النوم يقع في الليل ، والإبتغاء من فضل الله في النهار ، إلاّ أنّه ليس صعباً على الإنسان أن يغيّر هذا المنهج إذا اقتضت الضرورة . بل الله خلق الإنسان بصورة يستطيع معها تغيير منهجية النوم ، ويجعلها وفقاً للضرورات والحاجات ، فكأنّ التعبير {منامكم بالليل والنهار} إشارة إلى هذه «اللطيفة» الدقيقة .
ولا شك أنّ المنهج الأصل للنوم متعلق بالليل ، ولأنّ الليل هادىء بسبب الظلمة ، فله أولوية خاصة في هذا المورد .
ولكن قد يتفق للإنسان ولظروف خاصة يكون مجبراً على السفر ليلا وأن يستريح نهاراً . . فلوكان منهج تنظيم النوم خارجاً عن اختيار الإنسان فسيواجه العديد من الصعوبات حتماً .
وأهمية هذا الموضوع ، خاصة في عصرنا الذي تضطر فيه بعض المؤسسات الصناعية والطبية والعلاجية أن تعمل ليل نهار ، ولا يمكن لها أن تعطل منهجها بحيث يتناوب عمالها في ثلاث مراحل للعمل فيها ، هذه الأهمية في هذا العصر أجلى منه في أي عصر مضى !
وحاجة جسم الإنسان وروحه إلى النوم كثيرة إلى درجة لا يستطيع الفرد أن يتحمل السهر المتواصل أكثر من يومين أو ثلاثة .
ولذلك فإنّ المنع من النوم يعتبر من أشد أنواع التعذيب الذي يمارسه الطغاة والجبابرة مع سجنائهم .
وكذلك يُعدُّ النوم واحداً من الطرق العلاجية لكثير من الأمراض ، حيث يوصي الأطباء المريض بأن يغطّ في نوم عميق فتزداد بذلك قوّة المريض ومناعته .
وبالطبع لا يمكن لأحد أن يحدد مقداراً معيناً للنوم على أنّه «مقدار النوم اللازم» لعموم الناس لأنّ ذلك يرتبط بسنّ الأشخاص ووضعهم ومزاجهم وكيفية البناء الفيسيولوجي والسيكلوجي «الجسيمي والروحي» ، بل المهم النوم الكافي بمقدار يحسّ الإنسان بعده بأنّه شبع منه . . . كما هي الحال بالنسبة للشبع من الغذاء والماء تماماً .
وينبغي الإلتفات إلى هذه المسألة ، وهي أنّه بالإضافة إلى «طول» زمان النوم ، فلعمقه خصوصية وأهمية أُخرى أيضاً . . . فرب ساعة ينام فيها الإنسان نوماً عميقاً تسد عن عدد من الساعات التي ينامها نوماً سطحياً في إعادة بناء روح الإنسان وجسمه .
وبالطبع ، فحيث لا يمكن النوم العميق ، فالنعاس أيضاً من النعم الإلهية ، كما أشارت إليه الآية الحادية عشرة من سورة الأنفال في شأن المجاهدين يوم بدر {إذْ يغشيّكم النعاس أمنة منه} لأنّه لا يمكن النوم العميق في ميدان الحرب ، وليس مفيداً ـ أيضاً ـ ولا نافعاً .
وعلى كل حال فإن نعمة النوم والهدوء والإطمئنان الناشىء منه ، وما يحصل عليه الانسان من قوة ونشاط بعد النوم ، هي من النعم التي لا يمكن وصفها بأي بيان ! .
والآية التي تلتها ، والتي تبيّن خامس آية من آيات عظمة الله ، تتجه أيضاً إلى «الآيات في الآفاق» وتتحدث عن البرق والرعد والغيث وحياة الأرض بعد موتها فتقول : {ومن آياته يريكم البرق خوفاً وطمعاً} .
«الخوف» ممّا يخطر على البال من احتمال نزول الصاعقة مع البرق فتحرق كل شيء تقع عليه وتحيله رماداً .
«والطمع» من جهة نزول الغيث الذي ينزل بعد البرق والرعد على هيئة قطر أو مزنة .
وعلى هذا فإنّ البرق السماوي مقدمة لنزول الغيث (بالإضافة إلى فوائد البرق المختلفة المهمة والتي كشف العلم عنها أخيراً وقد تحدثنا عنه في بداية سورة الرعد» (6) .
ثمّ يضيف القرآن معقباً {وينزل من السماء ماءً فيحي به الأرض بعد موتها} .
الأرض الميتة التي لا يؤمل فيها الحياة والنبات ، تهتز بنزول الغيث الذي يمنحها الحياة ، فتحيا وتظهر آثار الحياة عليها على هيئة الأزهار والنباتات ، بحيث لا تصدق أحياناً أنّها الأرض الميتة سابقاً .
ويؤكّد القرآن في نهاية هذه الآية مضيفاً : {إنّ في ذلك لآيات لقوم يعقلون} ويفهمون أن وراء هذه الخطة المدروسة يداً قادرة تقودها وتهديها ، ولا يمكن أن تكون المسألة وليدة الصدفة والضرورة العمياء الصّماء أبداً .
وفي آخر اية من الآيات محل البحث ، يقع الكلام عن آية أُخرى من الآيات الآفاقية ، وذلك عن تدبير نظام السماء والأرض وبقائهما ودوامهما ، إذ تقول : {ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمر} .
أي إنّ خلق السماوات ـ المشار إليه في الآيات السابقة ـ ليس آية وحدة فحسب ، بل بقاؤها ودوام نظامها أيضاً آية أُخرى ، فهذه الأجرام العظيمة في دورانها المنظّم حول نفسها تحتاج إلى أُمور كثيرة ، وأهمّها المحاسبة المعقدة للقوّة الجاذبة والدافعة !
إنّ الخالق الكبير جعل هذا التعادل دقيقاً ، بحيث لا يعترض الأجرام أدنى انحراف في مسيرها ودورانها حول نفسها إلى ملايين السنين .
وبتعبير آخر : إنّ الآية السابقة كانت إشارة إلى «توحيد الخلق» وأمّا هذه الآية فهي إشارة إلى «توحيد الربوبية والتدبير» .
والتعبير بقيام السماء والأرض ، تعبير لطيف مأخوذ من حالات الإنسان ، لأنّ أحسن حالات الإنسان لأجل استدامة نشاطه هي حالة قيامه ، إذ يستطيع فيها أداء جميع حوائجه ، وتكون له السيطرة والتسلط الكامل على أطرافه .
والتعبير بـ «أمره» هنا إشارة إلى منتهى قدرة الله ، إذ يكفي أمر واحد من قبله لإستمرار الحياة ، ونظم هذا العالم الوسيع .
وفي نهاية الآية وبالإستفادة من عامل التوحيد لإثبات المعاد ، ينقل القرآن البحث إلى هذه المسألة فيقول : {ثمّ إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون} .
ولقد رأينا ـ مراراً ـ في آيات القرآن أن الله سبحانه يستدل على المعاد بآيات قدرته في السماء والأرض ، والآية محل البحث واحدة من تلك الآيات .
والتعبير بـ«دعاكم» اشارة إلى أنّه كما أنّ أمراً واحداً منه كاف للتدبير ولنظم العالم ، فإنّ دعوة واحدة منه كافية لأن تبعثكم من رقدتكم وتنشركم من قبوركم ليوم القيامة ، وخاصة إذا لاحظنا جملة {إذا أنتم تخرجون} فإنّ كلمة «إذا» تبين بوضوح مؤدى هذه الجملة ، حيث أنّها «فجائية» كما يصطلح عليها أهل النحو واللغة ، ومعناها : إذا دعاكم الله تخرجون بشكل سريع وفجائي .
والتعبير بـ(دعوة من الأرض) دليل واضح على المعاد الجسماني ، إذ يثب الإنسان في يوم القيامة من هذه الأرض «فلاحظوا بدقّة» .
__________________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج10 ، ص133-147 .
2 ـ يرجى ملاحظة أن «عشياً» و«حين تظهرون» قد عطفتا على «حين تمسون» ويرجع الجميع للتسبيح . . .
3 ـ تفسير نور الثقلين ، ج 4 ، ص 172 .
4 ـ نقلا عن كتاب الكافي وطبقاً لتسفير نور الثقلين ، ج 4 ، ص 173 .
5 ـ دائرة المعارف ، محمّد فريد وجدي ، ج 1 ، ص 496 (مادة اله) .
6 ـ راجع تفسير «سورة الرعد» الآيات الأُولى منها .
|
|
كل ما تود معرفته عن أهم فيتامين لسلامة الدماغ والأعصاب
|
|
|
|
|
ماذا سيحصل للأرض إذا تغير شكل نواتها؟
|
|
|
|
|
جامعة الكفيل تناقش تحضيراتها لإطلاق مؤتمرها العلمي الدولي السادس
|
|
|