أقرأ أيضاً
التاريخ: 20-8-2020
16779
التاريخ: 20-8-2020
8997
التاريخ: 21-8-2020
5259
التاريخ: 21-8-2020
2742
|
قال تعالى : {فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُو الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57) وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58) كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} [الروم : 52 - 60] .
تفسير مجمع البيان
- ذكر الطبرسي في تفسير هذه الآيات (1) :
قال سبحانه لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) {فإنك لا تسمع} يا محمد {الموتى ولا تسمع الصم الدعاء} شبه الكفار في ترك تدبرهم فيما يدعوهم إليه النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) تارة بالأموات وتارة بالصم لأنهم لا ينتفعون بدعاء الداعي فكأنهم لا يسمعونه {إذا ولوا مدبرين} أي إذا أعرضوا عن أدلتنا ذاهبين إلى الضلال والفساد غير سالكين سبيل الرشاد {وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم} يعني أنهم كالعمي لا يهتدون بالأدلة ولا تقدر على ردهم عن العمى إذ لم يطلبوا الاستبصار {إن تسمع إلا من يؤمن ب آياتنا} ليس تسمع إلا من يصدق ب آياتنا وأدلتنا فإنهم المنتفعون بدعائك وإسماعك {فهم مسلمون} منقادون لأمر الله .
ثم عاد سبحانه إلى ذكر الأدلة فقال {الله الذي خلقكم من ضعف} أي من نطف وقيل معناه خلقكم أطفالا لا تقدرون على البطش والمشي والتصرفات {ثم جعل من بعد ضعف قوة} أي شبابا {ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة} يعني حال الشيخوخة والكبر {يخلق ما يشاء} من ضعف وقوة {وهو العليم} بما فيه مصالح خلقه {القدير} على فعله بحسب ما يعلمه من المصلحة ثم بين سبحانه حال البعث فقال {ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون} أي يحلف المشركون {ما لبثوا} في القبور {غير ساعة} واحدة عن الكلبي ومقاتل وقيل يحلفون ما مكثوا في الدنيا غير ساعة لاستقلالهم مدة الدنيا وقيل يحلفون ما لبثوا بعد انقطاع عذاب القبر غير ساعة عن الجبائي ومتى قيل كيف يحلفون كاذبين مع أن معارفهم في الآخرة ضرورية قيل فيه أقوال ( أحدها ) أنهم حلفوا على الظن ولم يعلموا لبثهم في القبور فكأنهم قالوا ما لبثنا غير ساعة في ظنوننا عن أبي علي وأبي هاشم ( وثانيها ) أنهم استقلوا الدنيا لما عاينوا من أمر الآخرة فكأنهم قالوا ما الدنيا في الآخرة إلا ساعة فاستقلوا حيث اشتغلوا في المدة اليسيرة بما أوردهم تلك الأهوال الكثيرة ( وثالثها} أن ذلك يجوز أن يقع منهم قبل إكمال عقولهم عن أبي بكر بن الإخشيد {كذلك كانوا يؤفكون} في دار الدنيا أي يكذبون وقيل يصرفون صرفهم جهلهم عن الحق في الدارين ومن استدل في هذه الآية على نفي عذاب القبر فقد أبعد لما بينا أنه يجوز أن يريدوا أنهم لم يلبثوا بعد عذاب الله إلا ساعة .
ثم أخبر سبحانه عن علماء المؤمنين في ذلك اليوم فقال {وقال الذين أوتوا العلم والإيمان} أي آتاهم الله العلم بما نصب لهم من الأدلة الموجبة له فنظروا فيها فحصل لهم العلم فلذلك أضافه إلى نفسه لما كان هو الناصب للأدلة على العلوم والتصديق بالله وبرسوله {لقد لبثتم} أي مكثتم {في كتاب الله} ومعناه إن لبثكم ثابت في كتاب الله ثبته الله فيه وهو قوله ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون وهذا كما يقال إن كل ما يكون فهو في اللوح المحفوظ أي هو مثبت فيه والمراد لقد لبثتم في قبوركم .
{إلى يوم البعث} وقيل إن الذين أوتوا العلم والإيمان هم الملائكة وقيل هم الأنبياء وقيل هم المؤمنون وقيل إن هذا على التقديم وتقديره وقال الذين أوتوا العلم في كتاب الله وهم الذين يعلمون كتاب الله والإيمان لقد لبثتم إلى يوم البعث وقال الزجاج {في كتاب الله} أي في علم الله المثبت في اللوح المحفوظ {فهذا يوم البعث} الذي كنتم تنكرونه في الدنيا {ولكنكم كنتم لا تعلمون} وقوعه في الدنيا فلم ينفعكم العلم به الآن ويدل على هذا المعنى قوله {فيومئذ لا ينفع الذين ظلموا} أنفسهم بالكفر {معذرتهم} فلا يمكنون من الاعتذار ولو اعتذروا لم يقبل عذرهم {ولا هم يستعتبون} أي لا يطلب منهم الإعتاب والرجوع إلى الحق .
{ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل} أي بالغنا في البيان للمكلفين في هذا القرآن الذي أنزلناه على نبينا من كل مثل يدعوهم إلى التوحيد والإيمان {ولئن جئتهم ب آية} أي معجزة باهرة مما اقترحوها منك {ليقولن الذين كفروا إن أنتم إلا مبطلون} أي أصحاب أباطيل وهذا إخبار عن عناد القوم وتكذيبهم بالآيات {كذلك} أي مثل ما طبع الله على قلوب هؤلاء {يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون} توحيد الله والطبع والختم مفسران في سورة البقرة {فاصبر} يا محمد على أذى هؤلاء الكفار وإصرارهم على كفرهم {إن وعد الله حق} بالعذاب والتنكيل لأعدائك والنصر والتأييد لك ولدينك {ولا يستخفنك} أي لا يستفزنك {الذين لا يوقنون} بالبعث والحساب فهم ضالون شاكون وقيل لا يستخفنك أي لا يحملنك كفر هؤلاء على الخفة والعجلة لشدة الغضب عليهم لكفرهم ب آياتنا فتفعل خلاف ما أمرت به من الصبر والرفق عن الجبائي .
____________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج8 ، ص70-73 .
تفسير الكاشف
- ذكر محمد جواد مغنية في تفسير هذه الآيات (1) :
{فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى ولا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ وما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ} . تقدم بالنص الحرفي في سورة النمل الآية 80 و81 .
{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وهُو الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} . لم يكن الإنسان شيئا مذكورا ثم كان ، وانتقل في العديد من الأطوار ، فمن التراب إلى النطفة والجنين ، ومنه إلى الرضيع والفطيم ، ومن الصبي والشاب إلى الكهل والشيخ الفاني ، والضعف الأول الذي أشارت إليه الآية هو ضعف البنية والإدراك في الطفل ، وقيل : بل ضعف النطفة ، والمراد بالقوة قوة الشباب ، أما الضعف الثاني فهو ضعف الهرم والكبر باتفاق المفسرين ، ومن أجل هذا قلنا : ان المراد بالضعف الأول الطفولة لأنها أنسب إلى الهرم من النطفة . وعلى أية حال فان القصد من الإشارة إلى تغيير الإنسان من حال إلى حال هو أن يدرك انه في قبضة اللَّه يتصرف به كيف يشاء إحياء وإماتة وإضعافا وتقوية ، ثم إليه المنقلب والمصير . وتقدم مثله في الآية 70 من سورة النحل ج 4 ص 530 .
{ويَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ} . المراد بالساعة يوم القيامة ، وبقوله : ما لبثوا غير ساعة الجزء من الزمن في الحياة الدنيا ، والمعنى ان المجرمين حين ينسلون إلى ربهم من الأجداث يحلفون باللَّه من الدهشة ما لبثوا في قبورهم إلا قليلا . وتقدم ذلك مفصلا في الآية 102 من سورة طه ج 5 ص 244 ، وجمعنا هناك بين ثلاث آيات : الأولى : يتخافتون بينهم ان لبثتم إلا عشرا . والثانية : قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم . والثالثة الآية التي نحن بصددها . {كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ} يصرفون عن الصدق إلى الكذب في الدنيا حيث كانوا يحلفون : لا بعث ولا حساب . وفي الآخرة أيضا حيث حلفوا ما لبثوا غير ساعة .
{وقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ والإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ} . قال المجرمون ما قالوا عن أمد مكثهم ، فقال لهم أهل الايمان باللَّه وحسابه وثوابه : لقد لبثتم ما شاء اللَّه أن تلبثوا ، والأمد الذي قضيتموه في قبوركم إلى هذا اليوم ثابت في علمه تعالى ، ولا يعلمه أحد سواه . . وأية جدوى من قسمكم وحديثكم عن أمد المكث في القبور وقد أنكرتم من قبل هذا اليوم الذي ترون شدائده وأهواله ؟ {ولكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} أنكم في عمى وضلال مبين .
{فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ ولا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} . المراد بالاستعتاب هنا الإقالة أي ان المجرمين يستقيلون ربهم فلا يقيلهم ، ومنه قوله تعالى : وإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ [فصلت - 24] وعليه يكون المعنى لا عذر ولا إقالة لمجرم في ذلك اليوم بعد أن حذّر وأنذر فأبى إلا كفورا .
{ولَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} . تقدم في الآية 54 من سورة الكهف ج 5 ص 139 .
{ولَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ} . يقولون عن الأنبياء والمصلحين وعن الأحرار والمجاهدين : انهم مبطلون . . وعن الخونة المنافقين والعملاء المأجورين : انهم محقون . . ولا بدع فان الطغاة المجرمين يقيسون الحق والباطل بمنافعهم وأهوائهم ، فما وافقها فهو حق وان كان شرا وفسادا ، وما خالفها فهو باطل وان كان خيرا وصلاحا .
{كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} . طبع اللَّه على قلوبهم لأنهم سلكوا باختيارهم السبيل المؤدية إلى ذلك حتما . . فالعمى عن الحق نتيجة الجهل ، والبغي والطغيان نتيجة الانحراف عن طريق الهداية ، أما نسبة ذلك إليه تعالى فمعناها ان هذه النتيجة تلزم مقدماتها وأسبابها ولا تنفك عنها بحال {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ولا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} . اصبر يا محمد وامض في دعوتك ، وتحمل الأذى في سبيلها ، فما هي الا أيام حتى تنتشر رسالتك في شرق الأرض وغربها ، ويقترن اسمك باسم اللَّه تعالى وبالصلوات والتحيات . . والحمد للَّه الذي منّ علينا بمحمد صلى اللَّه عليه وآله نبي الرحمة وقائد الإنسانية إلى الخير ، فارزقنا شفاعته يا مبدل السيئات بأضعافها من الحسنات .
________________
1- تفسير الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج6 ، ص 152-154 .
تفسير الميزان
- ذكر الطباطبائي في تفسير هذه الآيات (1) :
قوله تعالى : {فإنك لا تسمع الموتى - إلى قوله - فهم مسلمون} تعليل لما يفهم من السياق السابق كأنه قيل : لا تشتغل ولا تحزن بهؤلاء الذين تتبدل بهم الأحوال من إبلاس واستبشار وكفر ومن عدم الإيمان بآياتنا وعدم تعقلها فإنهم موتى وصم وعمي وأنت لا تقدر على إسماعهم وهدايتهم وإنما تسمع وتهدي من يؤمن بآياتنا أي يعقل هذه الحجج ويصدقها فهم مسلمون . وقد تقدم تفسير الآيتين في سورة النمل .
اللّهُ الّذِى خَلَقَكُم مِّن ضعْفٍ ثُمّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضعْفٍ قُوّةً ثُمّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوّةٍ ضعْفاً وشيْبَةً يخْلُقُ وقوله تعالى : {مَا يَشاءُ وهُو الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54) ويَوْمَ تَقُومُ الساعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيرَ ساعَةٍ كَذَلِك كانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وقَالَ الّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ والايمَنَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فى كِتَبِ اللّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ ولَكِنّكمْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئذٍ لا يَنفَعُ الّذِينَ ظلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ ولا هُمْ يُستَعْتَبُونَ (57) ولَقَدْ ضرَبْنَا لِلنّاسِ فى هَذَا الْقُرْءَانِ مِن كلِّ مَثَلٍ ولَئن جِئْتَهُم بِئَايَةٍ لّيَقُولَنّ الّذِينَ كفَرُوا إِنْ أَنتُمْ إِلا مُبْطِلُونَ (58) كَذَلِك يَطبَعُ اللّهُ عَلى قُلُوبِ الّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (59) فَاصبرْ إِنّ وَعْدَ اللّهِ حَقّ ولا يَستَخِفّنّك الّذِينَ لا يُوقِنُونَ}
هذا هو الفصل الرابع من الآيات وهو كسابقه وفيها ختام السورة .
قوله تعالى : {الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة} إلخ ، الضعف والقوة متقابلان ، و{من} في قوله : (من ضعف للابتداء أي ابتداء خلقكم من ضعف أي ابتدأكم ضعفاء ، ومصداقه على ما تفيده المقابلة أول الطفولية وإن أمكن صدقه على النطفة .
والمراد بالقوة بعد الضعف بلوغ الأشد وبالضعف بعد القوة الشيخوخة ولذا عطف عليه {شيبة} عطف تفسير ، وتنكير {ضعف} و{قوة} للدلالة على الإبهام وعدم تعين المقدار لاختلاف الأفراد في ذلك .
وقوله : {يخلق ما يشاء} أي كما شاء الضعف فخلقه ثم القوة بعده فخلقها ثم الضعف بعدها فخلقه وفي ذلك أتم الإشارة إلى أن تتالي هذه الأحوال من الخلق وإذ كان هذا النقل من حال إلى حال في عين أنه تدبير خلقا فهو لله الخالق للأشياء فليس لقائل منهم أن يقول : إن ذلك من التدبير الراجع إلى إله الإنسان ، مثلا كما يقوله الوثنية .
ثم تمم الكلام بالعلم والقدرة فقال : {وهو العليم القدير} .
قوله تعالى : {ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون} ، هذه الآيات كالذنابة للآيات السابقة العادة للآيات والحجج على وحدانيته تعالى والبعث ، وكالتمهيد والتوطئة للآية التي تختتم بها السورة فإنه لما عد شيئا من الآيات والحجج وأشار إلى أنهم ليسوا ممن يترقب منهم الإيمان أو يطمع في إيمانهم أراد أن يبين أنهم في جهل من الحق يتلقون الحديث الحق باطلا والآيات الصريحة الدلالة منعزلة عن دلالتها وكذلك يؤفكون ولا عذر لهم يعتذرون به .
وهذا الإفك والتقلب من الحق إلى الباطل يدوم عليهم ويلازمهم حتى قيام الساعة فيظنون أنهم لم يلبثوا في قبورهم فيما بين الموت والبعث غير ساعة من نهار فاشتبه عليهم أمر البعث كما اشتبه عليهم كل حق فظنوه باطلا .
فقوله : {ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة} ، يحكي عنهم اشتباه الأمر عليهم في أمر الفصل بين الدنيا ويوم البعث حتى ظنوه ساعة من ساعات الدنيا .
وقوله : {كذلك كانوا يؤفكون} أي يصرفون من الحق إلى الباطل فيدعون إلى الحق ويقام عليه الحجج والآيات فيظنونه باطلا من القول وخرافة من الرأي .
قوله تعالى : {وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث} إلخ ، رد منهم لقول المجرمين : {ما لبثوا غير ساعة} فإن المجرمين لإخلادهم إلى الأرض وتوغلهم في نشأة الدنيا يرون يوم البعث والفصل بينه وبين الدنيا محكوما بنظام الدنيا فقدروا الفصل بساعة وهو مقدار قليل من الزمان كأنهم ظنوا أنهم بعد في الدنيا لأنه مبلغ علمهم .
فرد عليهم أهل العلم والإيمان أن اللبث مقدر بالفصل بين الدنيا ويوم البعث وهو الفصل الذي يشير إليه قوله : { وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون : 100] .
فاستنتجوا منه أن اليوم يوم البعث ولكن المجرمين لما كانوا في ريب من البعث ولم يكن لهم يقين بغير الدنيا ظنوا أنهم لم يمر بهم إلا ساعة من ساعات الدنيا وهذا معنى قولهم : {لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون} ، أي كنتم جاهلين مرتابين لا يقين لكم بهذا اليوم ولذلك اشتبه عليكم أمر اللبث .
ومن هنا يظهر أن المراد بقوله : {أوتوا العلم والإيمان} ، اليقين والالتزام بمقتضاه وأن العلم بمعنى اليقين بالله وبآياته والإيمان بمعنى الالتزام بمقتضى اليقين من الموهبة الإلهية ، ومن هنا يظهر أيضا أن المراد بكتاب الله الكتب (2) السماوية أو خصوص القرآن لا غيره وقول بعضهم : إن في الآية تقديما وتأخيرا والتقدير وقال الذين أوتوا العلم والإيمان في كتاب الله لقد لبثتم إلى يوم البعث لا يعتد به .
قوله تعالى : {فيومئذ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم ولا هم يستعتبون} الاستعتاب طلب العتبى ، والعتبى إزالة العتاب أي لا ينفعهم المعذرة عن ظلمهم ولا يطلب منهم أن يزيلوا العتاب عن أنفسهم .
قوله تعالى : {ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل} إلخ ، إشارة إلى كونهم مأفوكين مصروفين عن الحق حيث لا ينفعهم مثل يقرب الحق من قلوبهم لأنها مطبوع عليها ، ولذا عقبه بقوله : {ولئن جئتهم بآية ليقولن الذين كفروا إن أنتم إلا مبطلون} أي جاءون بالباطل وهذا القول منهم لأنهم مصروفون عن الحق يرون كل حق باطلا ، ووضع الموصول والصلة موضع الضمير للدلالة على سبب القول .
قوله تعالى : {كذلك يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون} ، أي يجهلون بالله وآياته ومنها البعث وهم يصرون على جهلهم وارتيابهم .
قوله تعالى : {فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون} ، أي فاصبر على ما يواجهونك به من قولهم : {إن أنتم إلا مبطلون} وسائر تهكماتهم ، إن وعد الله أنه ينصرك حق كما أومأ إليه بقوله : {وكان حقا علينا نصر المؤمنين} ، ولا يستخفنك الذين لا يوقنون بوعد الله سبحانه .
وقول بعضهم : إن المعنى لا يوقنون بما تتلو عليهم من الآيات البينات بتكذيبهم لها وإيذائهم لك بأباطيلهم ، ليس بشيء وقد بدأت السورة بالوعد وختمت بالوعد والوعدان جميعا بالنصرة .
________________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج16 ، ص165-168 .
2- ويكن ان يكون المراد بكتاب الله اللوح المحفوظ فيكون ذلك استدلالا على قولهم بكتاب الله ويكون نظير ما في قوله ، (هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق) ، الجاثية ، 29 ، بناء على ما سيأتي من معناه (منه) .
تفسير الامثل
- ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذه الآيات (1) :
تقول الآية الأولى : {فإنّك لا تسمع الموتى} ولذلك لا تؤثر مواعظك في أصحاب القلوب الميتة .
وكذلك {ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين} .
وتأتي الآية الثّانية لبيان بقية الطوائف فتقول : {وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلاّ من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون} .
وكما قلنا من قبل ، فإنّ القرآن لديه ما هو أفضل من «الحياة والموت الماديين والجسمانيين» وأفضل من السمع والبصر الظاهريين فلديه نوع اسمى من هذه الحياة والموت والسمع والبصر ، وتكمن فيها سعادة الإنسان أو شقاؤه !
فالقرآن لديه معيار لتقييم هذه الأمور ، لا بالقيمة المادية والفيزيائية ، بل القيمة المعنوية والإنسانية .
والشرط الأوّل لإدراك الحقيقة أن يكون للإنسان قلب مهيأ ومستعد ، وعين باصرة وأذن سميعة ، وإلاّ فلو اجتمع جميع الأنبياء والأولياء وتلوا جميع الآيات الإلهية على من لا يدرك الحقيقة لما اقترفه من الذنوب واللجاجة والعناد ، فإنها لن تؤثر فيه ! .
وإنّما أشار القرآن إلى هاتين الحاستين الظاهرتين ، بالإضافة إلى الإدراك الباطني فحسب ، فلأجل أن أكثر معلومات الإنسان ، إمّا أن يكون عن طريق هاتين الحاستين [العين والأذن] ، أوعن طريق الوجدان والتحليل العقلي !
والطريف هنا أنّ المراحل الثلاث ـ الواردة في الآيات الآنفة الذكر ـ هي ثلاث مراحل مختلفة من الإنحراف وعدم درك الحقيقة ، وهي تبدأ من شديدها وتنتهي بالخفيف منها !
فالمرحلة الأولى : هي موت القلوب المعبر عنها بـ «الموتى» وهذه المرحلة ليس للحقيقة أي طريق للنفوذ فيها .
والمرحلة الثّانية : مرحلة «الصمم» وعدم السمع ، ولا سيما عند أُولئك الذين يديرون ظهورهم وهم في حالة الفرار ، فقد يؤثر فيهم الصراخ الشديد لو كانوا قريبين ، لكن في مثل هذه الحال وهم يفرون ، فلا !
وبالطبع فإنّ هذه الطائفة ليست كالموتى ، فمن الممكن أحياناً أن يتمّ تفهيمهم بالإشارة أو العلامة ، إلاّ أنّنا نعرف أن كثيراً من الحقائق لا يمكن بيانها وإيصالها إلى الذهن بالإشارة! وخاصة حين يدير الطرف الآخر ظهره ويكون بعيداً .
المرحلة الثّالثة : (العمى) ، وبالطبع فإن الحياة مع العمي أسهل بمراتب من الحياة مع «الصُم» أو الحياة مع «الموتى» ، فعلى الأقل لديهم آذان سميعة ، ويمكن إيصال كثير من المفاهيم إليهم . . . لكن اين السمع في إدراك الحقائق من البصر ؟!
ثمّ بعد هذا كلّه ، فإنّ تبيين المسائل غير كاف وحده ، فلنفرض أن يقال للأعمى سر باتجاه اليمين أواليسار ، فإنّ تطبيق هذا الأمر ليس سهلا ، وربّما بأقل خطأ ـ أحياناً ـ في تحديد المقدار ، يؤدي بالأعمى إلى السقوط !
وفي بحثنا المفصل في ذيل الآيتين (80) و(81) من سورة النمل ، بيّنا ـ ضمن التحليل لحقيقة الحياة والموت ـ الإشكال الواهي الذي أثاره جماعة من الوهابيين ، إذ يستعينون بمثل هذه الآيات ـ محل البحث وغيرها ـ لإثبات عدم جواز التوسل بالنّبي والأئمّة الطاهرين ، ويقولون : إنّ الموتى (حتى النّبي) لايفهمون شيئاً .
غير أنّنا أثبتنا هناك أن الإنسان ـ خاصّة من هو بمستوى الأئمة الكرام والشهداء العظام ـ له نوع من الحياة البرزخية بعد الموت ، وهناك وثائق كثيرة وأدلة متعددة من القرآن والأحاديث تشهد بذلك وتؤيده ، وفي هذه الحياة البرزخية إدراك وبصر أوسع من الحياة الدنيوية (لمزيد الإيضاح يراجع التّفسير الأمثل ، ذيل الآيات المشار إليها آنفاً) .
وهنا ينبغي أن نضيف هذه الجملة ، وهي أن جميع المسلمين في صلاتهم ـ دائماً ـ يخاطبون النّبي(صلى الله عليه وآله) ويلسمون عليه بهذه الجملة «السلام عليك أيّها النّبي ورحمة الله وبركاته» ونعرف أنّ المخاطبة الحقيقة لا المجازية يجب أن تكون ـ حتماً ـ مع إنسان يسمع ويدرك !
فعلى هذا الأساس لازم السلام على النّبي بهيأة المخاطبة من بعيد أو قريب ، أن روحه المقدسة تسمع جميع هذه التحيات ، ولا دليل يقودنا إلى أن نحمل هذه التحيات على المجاز ! .
وفي آخر آية ـ من الآيات محل البحث ـ يشير القرآن إلى دليل آخر من أدلة التوحيد ، وهو دليل الفقر والغنى ، ويكمل البحوث التي تدور حول التوحيد في هذه السورة ، فيقول : {الله الذي خلقكم من ضعف ثمّ جعل من بعد ضعف قوة ثمّ جعل من بعد قوة ضعفاً وشيبة} .
كنتم في البداية ضعافاً إلى درجة أنّكم لم تكن لكم القدرة على طرد الذباب عنكم ، أو أن تحافظوا على لعاب أفواهكم أن يسيل ، هذا من الناحية الجسمية ، أمّا من الناحية الفكرية فمصداقة قوله تعالى : {لاتعلمون شيئاً} بحيث لم تعرفوا حتى أبويكم المشفقين عليكم .
لكن ـ قليلا قليلا ـ صرتم ذوي رشد وقوّة ، وصار لكم جسم قوي ، وفكر جيد ، وعقل مقتدر إدراك واسع !
ومع هذه الحال لم تستطيعوا أن تحافظوا على هذه القوّة ، فمثلكم كمن يصعد من طرف الجبل إلى قمته ، ثمّ يبدأ بالإنحدار من القمة إلى قعر الوادي ، الذي يمثل «مرحلة ضعف الجسم والروح» .
هذا التغير والصعود والنّزول خير دليل لهذه الحقيقة ، وهي أنّه لم تكن القوّة من عندكم ولا الضعف ، فكل منهما كان من جهة أُخرى ، وهذا بنفسه دليل على أن وراءكم من يدبّر اُموركم ويسيّر حياتكم وما عندكم فهو أمر عارض !
وهذا هوما أشار إليه الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) في كلامه النيّر إذ قال : «عرفت الله بفسخ العزائم وحل العقود ونقض الهمم» (2) .
لقد عرفت من هذا الإختلاف والتغير أن القوة الأصلية ليست بأيدينا ، فهي بيد الله ، وليس لدينا بنحو مستقل أي شيء سوى ما وهبنا إيّاه !
ومن الطريف أنّ القرآن يضيف ـ عند بيان الضعف الثّاني للإنسان ـ كلمة (وشيبة) غير أنّه لم يذكر «الطفولة» في الضعف الأول . . .
وهذا التعبير ربّما كان إشارة إلى أن ضعف الشيخوخة والشيب أشدّ ألماً ، لأنّه على العكس من ضعف الطفولة ، إذ يتجه نحو الفناء والموت . . . هذا أوّلا .
وثانياً فإن ما يتوقع من الشيبة والمسنين مع ما لهم تجارب ليس كما يتوقع من الأطفال ، على حين أن ضعف كل منهما مشابه للآخر ، وهذا الموضوع يدعوا إلى الإعتبار كثيراً .
فهذه المرحلة هي التي تدفع الأقوياء والطغاة إلى الانحناء ، وتجرهم إلى الضعف والذلة !
أمّا آخر جملة في الآية فهي إشارة إلى علم الله الواسع وقدرته المطلقة : {يخلق ما يشاء وهو العليم القدير} وهي بشارة وإنذار في الوقت ذاته ، أي إن الله مطلع على جميع نيّاتكم ، وهو قدير على مجازاتكم وثوابكم !
وقوله تعالى : {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُواْ غَيرَ سَاعَة كَذلِكَ كَانُواْ يُؤْفَكُونَ (55) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ وَالاْيمَنَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِى كِتَبِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذ لاَّ يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَعْذِرَتُهُمْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57) وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِى هَذَا الْقُرْءَانِ مِن كُلِّ مَثَل وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِايَة لَّيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ أَنْتُمْ إلاَّ مُبْطِلُونَ (58) كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ}
يوم لا ينفع الإعتذار :
قلنا إن في هذه السورة أبحاثاً منسجمة ومتناغمة تتعلق بالمبدأ والمعاد . . وفي الآيات ـ محل البحث ـ يعقب القرآن على البحوث التي كانت حول المبدأ والمعاد أيضاً ، فيعود إلى بيان مشهد من مشاهد يوم القيامة الأليمة ، وذلك بتجسيمه حالة المجرمين في ذلك اليوم ، إذ يقول : {ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة} في عالم البرزخ أجل {كذلك كانوا يؤفكون} فإنّهم فيما سبق كانوا محرومين من إدراك الحقائق ومصروفين عنها .
والتعبير بـ «الساعة» عن يوم القيامة ـ كما أشرنا إليه سابقاً ـ هو إمّا لأنّ يوم القيامة يقع في لحظة مفاجئة ، أو لأنّه من جهة أن أعمال العباد تحاسب بسرعة هناك ،
لأنّ الله سريع الحساب ، ونعرف أنّ «الساعة» في لغة العرب تعني جزءاً أو لحظة من الزمن (3) .
وبالرغم من أنّ الآية المتقدمة لم تشر إلى مكان (اللبث) حتى احتمل بعضهم أنّ المراد منه هو لبثهم في الدنيا ، الذي هو في الواقع بمثابة لحظة عابرة لا أكثر ،
إلاّ أنّ الآية التي بعدها دليل واضح على أن المراد منه هو اللبث في عالم البرزخ . . وعالم ما بعد الموت . . وما قبل القيامة ، لأنّ جملة {لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث} تنهي هذا اللبث إلى يوم القيامة ، ولا يصح هذا إلاّ في شأن البرزخ (فلاحظوا بدقة) .
ونعرف ـ هنا أيضاً ـ أن «البرزخ» ليس للجميع على شاكلة واحدة ، فقسم له في البرزخ حياة واعية ، وقسم مثلهم كمن يغط في نوم عميق ـ في عالم البرزخ ـ ويستيقظون في يوم القيامة ، ويتصورون آلاف السنين ساعة واحدة (4) .
مسألتان
الأوّل : كيف يقسم المجرمون مثل هذا القسم الكاذب ؟
والجواب واضح ، فهم يتصورون ـ واقعاً ـ مثل هذا التصور ، ويظنون أن فترة البرزخ كانت قصيرة جدّاً ، لأنّهم كانوا في حالة تشبه النوم ، ألا ترى أن أصحاب الكهف الذين كانوا صالحين مؤمنين ، حين أفاقوا بعد نوم طويل ، تصوروا أنّهم لبثوا يوماً أو بعض يوم في منامهم .
أو أن أحد الأنبياء الواردة قصته في سورة البقرة [الآية 259] بعد أن أماته الله مئة عامة ثمّ بعثه للحياة ثانية ، لم يظهر في تصوره غير أنّه لبث يوماً أو بعض يوم .
فما يمنع أن يتصور المجرمون ـ مع ملاحظة حالتهم الخاصة في عالم البرزخ وعدم إطلاعهم ـ مثل هذا التصور !؟
لذا يقول المؤمنون الذين أُوتوا العلم ـ كما تذكره الآية التي تأتي بعد هذه الآية ـ : إنّكم غير مُصيبين في قولكم ، إذ لبثتم في عالم البرزخ إلى يوم القيامة ، وهذا هو يوم القيامة ! .
ومن هنا تتّضح المسألة الثّانية . أي تفسير جملة {كذلك كانوا يؤفكون} لأنّ «الإفك» في الأصل معناه تبدل الوجه الحقيقي والإنصراف عن الحق ، وهذه الجماعة ابتعدت عن الواقع لحالتها الخاصة في عالم البرزخ ، فلم تستطع أن تحدد لبثها في عالم البرزخ .
ومع ملاحظة أنّه لاحاجة لنا إلى الأبحاث الطويلة التي بحثها جمع من المفسّرين ، وفي أنّه لم يكذب المجرمون عمداً في يوم القيامة ، لأنّه ليس في الآية دليل على كذبهم العمد في هذه المرحلة ! .
وبالطبع فإنّنا نرى في آيات القرآن الأخر أمثلة من أكاذيب المجرمين يوم القيامة ، وقد بيّنا الإجابة المفصلة على كل ذلك في ذيل الآية (23) من سورة الأنعام ، لكن ذلك البحث لا علاقة له بموضوع هذه الآيات !
أمّا الآية التالية فتتحدث عن جواب المؤمنين المطلعين على كلام المجرمين الغافلين عن حالة البرزخ والقيامة فتقول : {وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث ولكنّكم كنتم لا تعلمون} .
وتقديم العلم على الإيمان هو لأنّ العلم أساس الإيمان .
والتعبير {في كتاب الله} لعله إشارة إلى الكتاب التكويني ، أو إلى الكتاب السماوي ، أو إشارة إليهما معاً ، أي كان ـ بأمر الله التكويني والتشريعي ـ مقدّراً أن تلبثوا مثل هذه المدّة في البرزخ ، ثمّ تحشرون في يوم القيامة (5) .
وفي أن المقصود بـ {الذين أوتوا العلم والإيمان} من هم ؟!
قال بعض المفسّرين : هي إشارة إلى ملائكة الله الذين لهم علم وهم مؤمنون أيضاً .
وقال بعضهم : المقصود هم المؤمنين العالمون ، والمعنى الثّاني أظهر طبعاً .
وما ورد في بعض الرّوايات من تفسير هذه الآية بالأئمّة الطاهرين ، فهومن قبيل المصداق الواضح لها ، ولا يحدد معناها الوسيع .
وهذه اللطيفة جديرة بالإلتفات ، وهي أن بعض المفسّرين قالوا : إنّ ما قاله المجرمون مقسمين بأنّهم ما لبثوا غير ساعة ، وما ردّه عليهم الذين أوتوا العلم والإيمان بأنّهم لبثوا إلى يوم البعث ، هذه المحاورة والكلام منشؤهما أنّ الطائفة الأُولى ـ لأنّهم كانوا يتوقعون العذاب ـ كانوا يرغبون في تأخيره ، وكانت الفاصلة وإن طالت بالنسبة لهم قصيرة جدّاً عندهم .
أمّا الطائفة الثّانية فلأنّهم كانوا ينتظرون الجنّة ونعمها الخالدة وراغبين في تقديمها ، فكانوا يرون الفاصلة طويلة جدّاً (6) .
وعلى كل حال ، فحين يواجه المجرمون واقعهم المرير المؤلم يظهرون ندمهم ويتوبون ويعتذرون ممّا صنعوا ، لكن القرآن يقول في هذا الصدد : { فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} (7) [الروم : 57] .
وتجدر الإشارة إلى هذه المسألة ، وهي أن في بعض آيات القرآن تصريحاً بعدم الإذن للمجرمين أن يعتذروا { وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ } [المرسلات : 36] .
غير أنّ الآية محل البحث تقول : لا ينفعهم الإعتذار هناك ، وظاهرها أنّهم يعتذرون ، إلاّ أنّه لا أثر لاعتذارهم .
وبالطبع فإنّه لا تضاد بين هذه الآيات ، لأنّ يوم القيامة فيه مراحل مختلفة ، وفي بعض المراحل لا يؤذن للمجرمين بالإعتذار أبداً ويختم على أفواههم . . . وإنّما تتحدث الجوارح بما أساءت فحسب . . . وفي بعض المراحل تنطلق ألسنتهم بالإعتذار ، إلاّ أنّه . . . لا ينفعهم الإعتذار أبداً .؟!
وواحد من أعذارهم أنّهم يلقون تبعات ذنوبهم على أشياخهم في الكفر والنفاق ، فيقولون لهم : {لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} [سبأ : 31] ، إلاّ أن أُولئك يردون عليهم بالقول : {أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ} [سبأ : 32] .
وأحياناً يلقون اللوم على الشيطان في تضليلهم وانحرافهم وأنّه وسوس لهم ، إلاّ أن الشيطان يجيبهم {فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ } [إبراهيم : 22] ، أي لم أكرهكم على الكفر ، إلاّ أنّكم استجبتم لي برغبتكم .
وفي الآية التالية إشارة لجميع المواضيع الوارد بيانها في هذه السورة . . . إذ تقول : {ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل} لقد ذكرنا فيه الوعد والوعيد ، الأمر والنهي ، البشارة والإنذار ، الآيات الآفاقية والأنفسية ، دلائل المبدأ والمعاد والأخبار الغيبية والخلاصة ذكرنا فيه كل شيء يمكن أن يؤثر في نفوس الناس .
وفي الحقيقة ، إنّ في القرآن ـ بشكل عام ـ وسورة الروم ـ بشكل خاص ـ حيث نحن الآن في مراحلها النهائية ، مجموعة من المسائل والدروس الموقظة لكل فئة ، ولكل طبقة ، ولكل جماعة ، ولكل فكر وأسلوب . . . مجموعة من العبر ، والمسائل الأخلاقية ، والخطط والمناهج العملية ، والأُمور الإعتقادية ، بحيث استفيد من جميع الطرق والأساليب المختلفة للنفوذ في أفكار الناس ودعوتهم إلى طريق السعادة !
ومع هذه الحال ، فهناك طائفة لا يؤثر في قلوبهم المظلمة السوداء أي من هذه الأُمور ، لذلك يقول القرآن في شأنهم : {ولئن جئتهم بآية ليقولن الذين كفروا إن أنتم إلاّ مبطلون} .
والتعبير بـ «مبطلون» تعبير جامع يحمل كل معاني الدجل والإفتراء والنسب الكاذبة والفاسدة من قبل المشركين ، كنسبة الكذب للنبي(صلى الله عليه وآله) والسحر والجنون والأساطير الخرافية ، إذ أن كل واحد من هذه الأُمور يمثل وجهاً من وجوه الباطل ، وقد جمعت كل هذه الأُمور تحت كلمة «مبطلون» .
أجل ، إنّهم كانوا يتهمون الأنبياء دائماً بواحد من هذه الأُمور الباطلة ، ليشغلوا عنهم الناس الطيبين الطاهرين ولو لعدّة أيّام ـ بما ينسبونه للأنبياء ممّا أشرنا إليه .
والمخاطب في كلمة «أنتم» يمكن أن يكون النّبي (صلى الله عليه وآله) والمؤمنين الحقيقيين ، ويمكن أن يكون جميع أصحاب الحق من الأنيباء والائمّة المعصومين (عليهم السلام) وأتباعهم ، لأنّ هذه المجموعة من الكفار تخالف جميع اتباع الحق .
والآية التي بعدها تبيّن السبب في مخالفة هذه الطائفة ، فتقول : إن لجاجة هؤلاء التي لاحدّ لها وعداءهم للحق ، إنّما هو لفقدانهم الإحساس والإدراك بسبب كثرة ذنوبهم ، ولأنّهم لا يعلمون شيئاً . . . إذ تقول : {كذلك يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون} .
وكلمة «يطبع» مأخوذة من الطبع ، ومعناها ختم الشيء ، وهي إشارة إلى ما كان يجري في السابق ، وهو جار أيضاً اليوم إذ يختم على الشيء كيلا يتصرف به ويُغلق بإحكام ، وقد يضعون عليه القفل ويضربون عليه مادة لزجة مختومة بإشارة معينة كما بيّنا بحيث لا يمكن فتح ذلك الشيء إلاّ بكسره ، فيفتضح أمره بسرعة .
وكان القرآن استعمل هذا التعبير كناية عن القلوب التي لا ينفذ إليها النصح ، والذين فقدوا الوجدان والعقل والعلم ، ولا أمل في هدايتهم .
وممّا يسترعي الإنتباه أنّ في الآيات السابقة ذكر العلم أساساً للإيمان ، وفي هذه الآية ذُكر الجهل أساساً للكفر وعدم التسليم للحق .
أمّا آخر آية ــ من الآيات محل البحث ـ التي تقع في آخر سورة الروم ، فهي تأمر النّبي(صلى الله عليه وآله) أمرين مهمين ، وتبشره بشارة كبرى ، لتحثه على مواصلة الوقوف والتصدي للمشركين والجاهلين والسفهاء بالاستقامة والصبر .
تقول أوّلا : اذا كان الأمر كذلك ، فعليك بالصبر والإستقامة امام الحوادث المختلفة ، وفي مقابل انواع الأذى والبهتان والمصاعب (فاصبر) .
لأنّ الصبر والإستقامة هما مفتاح النصر الأصيل .
وليكون النّبي(صلى الله عليه وآله) أكثر اطمئناناً ، فإنّ الآية تضيف {إن وعد الله حق} فقد وعدك والمؤمنين بالنصر ، والإستخلاف في الأرض ، وغلبة الإسلام على الكفر ، والنور على الظلمة ، والعلم على الجهل . وسوف يُلبس هذا الوعد ثوب العمل! .
وكلمة «الوعد» هنا إشارة إلى الوعود المكررة التي وعدها القرآن في انتصار المؤمنين ، ومن ضمنها الآية (47) من هذه السورة {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم : 47] .
والآية (51) من سورة غافر {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر : 51] .
وتقول الآية (56) من سورة المائدة أيضاً { فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ } [المائدة : 56] .
وتأمر ثانياً بضبط الأعصاب والهدوء وعدم الإنحراف في المواجهة الشديدة والمتتابعة ، حيث تقول الآية : (ولا يستخفنّك الذين لا يوقنون} .
إنّ مسؤوليتك أن تتحمل كل شيء ، وأن يتسع صدرك وخلقك لجميع الناس فهذا هو الجدير بقائد وزعيم لأمثال هؤلاء .
كلمة {لا يستخفنّك} مشتقّة من «الخفة» وهي خلاف الثقل ، أي كن رزيناً قائماً على قدميك لئلا يهزك مثل هؤلاء الأفراد ويحركوك من مكانك ، وكن ثابتاً ومواصلا للمسيرة باطمئنان ، إذ أنّهم فاقدوا اليقين ، وأنت مركز اليقين والإيمان! .
هذه السورة بدأت بوعد انتصار المؤمنين على الأعداء ، وانتهت أيضاً بهذا الوعد ، إلاّ أن شرطها الأساس هو الصبر والاستقامة ! .
___________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج10 ، ص196-206 .
2 ـ نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، الجملة 250 .
3 ـ كان لنا في هذا الصدد بحث مفصّل ذيل الآية (14) من هذه السورة .
4 ـ بيّنا هذا البحث «المتعلق بموضوع البرزخ» في ذيل الآية 100 ، من سورة المؤمنون ، كما نوّهنا عن هذه اللطيفة والمسألة الدقيقة هناك .
5 ـ في كون الآية ، هل فيها تقديم وتأخير ، أم لا ؟ هناك كلام ونقاش بين المفسّرين والعلماء ، فقال بعضهم «في كتاب الله» متعلق بجملة «أوتوا العلم والإيمان» فيكون معنى الآية هكذا : الذين أوتوا العلم في كتاب الله ويؤمنون به قالوا مثل هذا الكلام ، وقال بعضهم «في كتاب الله» متعلق بجملة «لبثتم» ونحن اخترنا هذا الرأي أيضا في شرحنا للآية ، لأنّ الحكم بالتقديم والتأخير يحتاج إلى قرينة واضحة ولا نجد هنا قرينة على ذلك ! .
6 ـ تفسير الفخر الرازي ذيل الآيات محل البحث .
7 ـ كلمة «يستعتبون» مشتقة من «عتب» على وزن «حتم» ومعناها في الأصل الإضطراب النفسي «الداخلي» وحين يصاغ هذا الفعل من باب الإفعال فيكون معناه ازالة هذا الأثر والإضطراب ، كما جاء في لسان العرب أن الإستفعال يؤدي معنى الإفعال هنا ، لذلك يقال في شأن الإسترضاء معناه طلب الرضا والتوبة ، ومعنى الكلمة هنا في الآية هو بمثل ما ذكرناه ، ومعنى ذلك أنّ المجرمين في يوم القيامة ليس لهم القدرة على التوبة .
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|