المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

القرآن الكريم وعلومه
عدد المواضيع في هذا القسم 17639 موضوعاً
تأملات قرآنية
علوم القرآن
الإعجاز القرآني
قصص قرآنية
العقائد في القرآن
التفسير الجامع
آيات الأحكام

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر
زكاة الفطرة
2024-11-05
زكاة الغنم
2024-11-05
زكاة الغلات
2024-11-05
تربية أنواع ماشية اللحم
2024-11-05
زكاة الذهب والفضة
2024-11-05
ماشية اللحم في الولايات المتحدة الأمريكية
2024-11-05



تفسير الآية (33-40) من سورة الروم  
  
4248   02:09 صباحاً   التاريخ: 21-8-2020
المؤلف : إعداد : المرجع الإلكتروني للمعلوماتية
الكتاب أو المصدر : تفاسير الشيعة
الجزء والصفحة : .....
القسم : القرآن الكريم وعلومه / التفسير الجامع / حرف الراء / سورة الروم /

قال تعالى : {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُو يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37) فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوفِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الروم : 33 - 40] .

 

 

تفسير مجمع البيان

- ذكر الطبرسي في تفسير هذه الآيات (1) :

 

قال تعالى : {وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم} أي إذا أصابهم مرض أو فقر أو شدة دعوا الله تعالى {منيبين إليه} أي منقطعين إليه مخلصين في الدعاء له {ثم إذا أذاقهم منه رحمة} بأن يعافيهم من المرض أو يغنيهم من الفقر أو ينجيهم من الشدة {إذا فريق منهم بربهم يشركون} أي يعودون إلى عبادة غير الله على خلاف ما يقتضيه العقل من مقابلة النعم بالشكر .

ثم بين سبحانه أنهم يفعلون ذلك {ليكفروا بما آتيناهم} من النعم إذ لا غرض في الشرك إلا كفران نعم الله سبحانه وقيل إن هذه اللام للأمر على معنى التهديد مثل قوله {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} ثم قال سبحانه يخاطبهم مهددا لهم {فتمتعوا} بهذه الدنيا وانتفعوا بنعيمها الفاني كيف شئتم {فسوف تعلمون} عاقبة كفركم {أم أنزلنا عليهم سلطانا} هذا استفهام مستأنف معناه بل أنزلنا عليهم برهانا وحجة يتسلطون بذلك على ما ذهبوا إليه {فهويتكلم بما كانوا به يشركون} أي فذلك البرهان كأنه يتكلم بصحة شركهم ويحتج لهم به والمعنى أنهم لا يقدرون على تصحيح ذلك ولا يمكنهم ادعاء برهان وحجة عليه .

ولما تقدم ذكر المشركين عقبه سبحانه بذكر أحوالهم في البطر عند النعمة واليأس عند الشدة فقال {وإذا أذقنا الناس رحمة} أي إذا آتيناهم نعمة من عافية وصحة جسم أو سعة رزق أوأمن ودعة {فرحوا بها} أي سروا بتلك الرحمة {وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم} أي وإن أصابهم بلاء وعقوبة بذنوبهم التي قدموها وسمي ذلك سيئة توسعا لكونه جزاء على السيئة عن الجبائي وقيل وإن يصبهم قحط وانقطاع مطر وشدة وسميت سيئة لأنها تسوء صاحبها {إذا هم يقنطون} أي ييأسون من رحمة الله وإنما قال {بما قدمت أيديهم} ولم يقل بما قدموا على التغليب للأظهر الأكثر فإن أكثر العمل لليدين والعمل للقلب وإن كان كثيرا فإنه أخفى .

ثم نبههم سبحانه على توحيده فقال {أ ولم يروا أن الله يبسط الرزق} أي يوسعه {لمن يشاء ويقدر} أي ويضيق لمن يشاء على حسب ما تقتضيه مصالح العباد {إن في ذلك} أي في بسط الرزق لقوم وتضييقه لقوم آخرين {لآيات} أي دلالات {لقوم يؤمنون} بالله ثم خاطب نبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) فقال {ف آت ذا القربى حقه} أي وأعط ذوي قرباك يا محمد حقوقهم التي جعلها الله لهم من الأخماس عن مجاهد والسدي وروى أبوسعيد الخدري وغيره إنه لما نزلت هذه الآية على النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أعطى فاطمة (عليها السلام) فدكا وسلمه إليها وهو المروي عن أبي جعفر (عليه السلام) وأبي عبد الله (عليه السلام) وقيل أنه خطاب له (صلى الله عليه وآله وسلّم) ولغيره والمراد بالقربى قرابة الرجل وهو أمر بصلة الرحم بالمال والنفس عن الحسن .

{والمسكين وابن السبيل} معناه وآت المسكين والمسافر المحتاج ما فرض الله لهم في مالك {ذلك خير} أي إعطاء الحقوق مستحقيها خير {للذين يريدون وجه الله} بالإعطاء دون الرياء والسمعة {وأولئك هم المفلحون} أي الفائزون بثواب الله {وما آتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس فلا يربوا عند الله} قيل في الربا المذكور في الآية قولان ( أحدهما ) أنه ربا حلال وهو أن يعطي الرجل العطية أو يهدي الهدية ليثاب أكثر منها فليس فيه أجر ولا وزر عن ابن عباس وطاووس وهو المروي عن أبي جعفر (عليه السلام) ( والقول الآخر ) أنه الربا المحرم عن الحسن والجبائي فعلى هذا يكون كقوله {يمحق الله الربا ويربي الصدقات} .

{وما آتيتم من زكاة} أي وما أعطيتموه أهله على وجه الزكاة {تريدون} بذلك {وجه الله} أي ثواب الله ورضاه ولا تطلبون بها المكافاة {فأولئك هم المضعفون} أي فأهلها هم المضعفون يضاعف لهم الثواب وقيل المضعفون ذوو الأضعاف في الحسنات كما يقال رجل مقوأي ذو قوة وموسر أي ذو يسار وقيل هم المضعفون للمال في العاجل وللثواب في الآجل لأن الله سبحانه جعل الزكاة سببا لزيادة المال ومنه الحديث ما نقص مال من صدقة وقال أمير المؤمنين (عليه السلام) فرض الله تعالى الصلاة تنزيها عن الكبر والزكاة تسبيبا للرزق والصيام ابتلاء لإخلاص الخلق وصلة الأرحام منماة للعدد في كلام طويل وبدأ سبحانه في الآية بالخطاب ثم ثنى بالخبر وذلك معدود في الفصاحة .

ثم عاد إلى دليل التوحيد فقال {الله الذي خلقكم} أي أوجدكم وأنشأ خلقكم {ثم رزقكم} أي أعطاكم أنواع النعم {ثم يميتكم} بعد ذلك ليصح إيصالكم إلى ما عرضكم له من الثواب الدائم {ثم يحييكم} ليجازيكم على أفعالكم {هل من شركائكم} التي عبدتموها من دونه {من يفعل من ذلكم من شيء} أو يقدر عليه فيجوز لذلك توجه العبادة إليه ثم نزه سبحانه نفسه عن أن يشرك معه في العبادة فقال {سبحانه وتعالى عما يشركون} .

______________

1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج8 ، ص60-64 .

 

تفسير الكاشف

- ذكر محمد جواد مغنية في تفسير هذه الآيات (1) :

 

{وإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} . تقدم مثله في الآية 12 من سورة يونس ج 4 ص 139 والآية 67 من سورة الإسراء {لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} . تقدم مثله في الآية 66 من سورة العنكبوت .

{أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُو يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ} . أم هنا بمعنى بل وهمزة الاستفهام . والمراد بالسلطان البرهان ، والمعنى هل يشهد لكم شيء من الوحي أو العقل بأن الذي أنتم عليه من الشرك حق وصواب ، والقصد من ذلك الاستنكار والتهديد .

{وإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ} . هذا هو الإنسان ، ان مسه الخير فهو فرح فخور ، وان مسه الشر فيئوس كفور . وتقدم مثله في الآية 9 من سورة هود ج 4 ص 212 {أَولَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهً يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ ويَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} . تقدم في الآية 26 من سورة الرعد ج 4 ص 401 والآية 30 من سورة الإسراء ج 5 ص 42 .

{فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ والْمِسْكِينَ وابْنَ السَّبِيلِ} . للقريب الفقير حق على قريبه الغني ، وهو الإنفاق عليه بما يسد الخلة . وقال الشافعية والإمامية : تجب نفقة الأقارب إذا كانوا من الآباء وان علوا ، والأبناء وان نزلوا . وقال المالكية :

لا تجب إلا نفقة الأبوين والأبناء الأدنين دون آباء الآباء وأبناء الأبناء . وقال الحنابلة :

تجب نفقة القريب بشرط أن يكون المنفق وارثا للمنفق عليه . أما الحنفية فيرون الشرط الأساسي أن تكون القرابة موجبة لحرمة الزواج . والتوضيح في كتابنا : (الأحوال الشخصية على المذاهب الخمسة) .

أما المسكين وابن السبيل فقد تقدم الكلام عنهما عند تفسير الآية 60 من سورة التوبة ج 4 ص 59 {ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهً اللَّهِ وأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} .

ذلك إشارة إلى الإعطاء ، وانه يجب أن يكون لوجه اللَّه ، كما هو شأن أهل الصلاح والفلاح {وما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ} .

قال جماعة من المفسرين : المراد بالربا هنا الربا المحرم . وقال آخرون : بل المراد به الربا الحلال ، ومثاله أن يهدي الرجل غنيا من الأغنياء ليرد الهدية أضعافا .

والأولى حمل الآية على الاثنين ، وان كلا من آكل الربا المحرم والمهدي بقصد الربح لا ثواب له عند اللَّه ، سوى ان الأول عليه عقاب ، والثاني لا ثواب له ، ولا عقاب عليه .

{وما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهً اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} أي يضاعف لهم الثواب والجزاء ، والمعنى الجملي أن من ينفق لوجه اللَّه تعالى يزيد اللَّه في ماله بالدنيا ، وفي ثوابه بالآخرة . قال الإمام علي (عليه السلام) : إذا أملقتم فتاجروا اللَّه بالصدقات . وهذا مأخوذ من قوله تعالى : {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهً قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً} [البقرة - 245] ج 1 ص 375 .

{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ} أتبخلون بما آتاكم اللَّه ، وتبتغون الرزق من غيره ، وهو الذي أوجدكم بعد العدم ، وأفاض عليكم من بركاته الواسعة ، وهو الذي يميتكم ثم يحييكم ، ثم يبعثكم للحساب والجزاء ؟ فهل من أحد ممن ترجون فضله وتأملون نفعه يحيي ويميت ؟ وإذا قدر على إعطاء بعض الفتات في هذه الحياة فهل يقدر غدا على النفع والضر {سُبْحانَهُ وتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} . وفي الحديث : الشرك أخفى من دبيب النمل ، وفيه إيماء إلى أن الشرك على أنواع ، ومنها الثقة بالمخلوق دون الخالق .

______________

1- تفسير الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج6 ، ص 144-146 .

 

تفسير الميزان

- ذكر الطباطبائي في تفسير هذه الآيات (1) :

 

قوله تعالى : {وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه ثم إذا أذاقهم منه رحمة إذا فريق منهم بربهم يشركون} التعبير بالمس للدلالة على القلة والخفة وتنكير ضر ورحمة أيضا لذلك والمعنى : إذا أصاب الناس شيء من الضر ولو قليلا كمرض ما وفقر ما وشدة ما دعوا ربهم وهو الله سبحانه حال كونهم راجعين من غيره ثم إذا أذاقهم الله من عنده رحمة إذا فريق من هؤلاء الناس بربهم الذي كانوا يدعونه ويعترفون بربوبيته يشركون باتخاذ الأنداد والشركاء .

أي إنهم كافرون للنعمة طبعا وإن اعترفوا بها عند الضر وقد أخذ لذلك فريقا منهم لأن منهم من ليس كذلك .

قوله تعالى : {ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون} تهديد لأولئك المشركين عند إذاقة الرحمة واللام في {ليكفروا} للأمر الغائب وقوله : {فتمتعوا} متفرع على سابقه وهو أمر آخر والأمران جميعا للتهديد ، والالتفات من الأمر الغائب إلى الأمر الحاضر لثوران الوجد والسخط من تفريطهم في جنب الله واستهانتهم بأمره فقد بلغ منهم ذلك أن يتضرعوا عند الضر ويكفروا إذا كشف .

قوله تعالى : {أم أنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون} {أم} منقطعة والمراد بالإنزال الإعلام أو التعليم مجازا ، والسلطان البرهان ، والمراد بالتكلم الدلالة مجازا فالمعنى بل أعلمناهم برهانا فهو يدل على ما كانوا به يشركون أو بشركهم .

ويمكن أن يراد بالسلطان ذو السلطان وهو الملك فلا مجاز في الإنزال والتكلم والمعنى : بل أ أنزلنا عليهم ملكا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون أو بشركهم .

قوله تعالى : {وإذا أذقنا الناس رحمة فرحوا بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون} الإذاقة كالمس تدل على قليل النيل ويسيره ، والقنوط اليأس .

وإذا الأولى شرطية والثانية فجائية والمقابلة بين {إذا} في إذاقة الرحمة و{إن} في إصابة السيئة لأن الرحمة كثيرة قطعية والسيئة قليلة احتمالية ، ونسبة الرحمة إليه تعالى دون السيئة لأن الرحمة وجودية مفاضة منه تعالى والسيئة عدمية هي عدم الإفاضة ولذا عللها بقوله : {بما قدمت أيديهم{ ، وفي تعليل السيئة بذلك وعدم التعليل في جانب الرحمة بشيء إشارة إلى أن الرحمة تفضل .

والتعبير في الرحمة بقوله : {فرحوا} وفي السيئة بقوله : {إذا هم يقنطون} للدلالة على حدوث القنوط ولم يكن بمترقب فإن الرحمة والسيئة بيد الله والرحمة واسعة ولهذا عبر بالمضارع الدال على الحال لتمثيل حالهم .

والمراد بالآية بيان أن الناس لا يعدو نظرهم ظاهر ما يشاهدونه من النعمة والنقمة إذا وجدوا فرحوا بها من غير أن يتبصروا ويعقلوا أن الأمر بيد غيرهم وبمشية من ربهم إذا لم يشأ لم يكن ، وإذا فقدوا قنطوا كان ليس ذلك بإذن من ربهم وإذا لم يشأ لم يأذن وفتح باب النعمة فهم ظاهريون سطحيون .

وبهذا يتضح أن لا تدافع بين هذه الآية وبين قوله السابق : {وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه} الآية وذلك أن مدلول هذه الآية أن أفهامهم سطحية إذا وجدوا فرحوا وإذا فقدوا قنطوا ومدلول تلك أنهم إذا وجدوا فرحوا وإذا فقدوا دعوا الله وهم قانطون من الشيء وأسبابه منيبين راجعين إلى الله سبحانه فلا تدافع .

وربما أجيب بأن المراد بالناس في هذه الآية فريق آخر غير الفريق المراد بالناس في الآية السابقة ولو فرض اتحادهما كان ما ذكر من دعائهم في حال وقنوطهم في حال أخرى .

وأجيب عنه أيضا بأن الدعاء لساني جار على العادة ولا ينافي القنوط الذي هو أمر قلبي وأنت خبير بما في كل من الجوابين من الفتور .

وأجيب أيضا أن المراد بقنوطهم فعلهم فعل القانطين كالاهتمام بجمع الذخائر أيام الغلاء .

وفيه مضافا إلى عدم الدليل على ذلك أنه لا يلائم معنى المفاجأة في القنوط .

قوله تعالى : {أ ولم يروا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون} بيان لخطئهم في المبادرة إلى الفرح والقنوط عند إذاقة الرحمة وإصابة السيئة فإن الرزق في سعته وضيقه تابع لمشية الله فعلى الإنسان أن يعلم أن الرحمة التي ذاقها والسيئة التي أصابته ممكنة الزوال بمشية الله سبحانه ولا موجب للفرح بما لا يؤمن فقده ولا للقنوط مما يرجى زواله .

وأما أنه أمر ظاهر للإنسان مقطوع به كأنه يراه فلأن الرزق الذي يناله الإنسان أو يكتسبه متوقف الوجود على ألوف وألوف من الأسباب والشرائط ليس الإنسان الذي يراه لنفسه إلا أحد تلك الأسباب ولا السبب الذي يركن إليه ويطيب به نفسا إلا بعض تلك الأسباب وعامة الأسباب منتهية إليه سبحانه فهو الذي يعطي ويمنع وهو الذي يبسط ويقدر أي يوسع ويضيق ، والباقي ظاهر .

قوله تعالى : {فآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل} إلخ ، ذو القربى صاحب القرابة من الأرحام والمسكين أسوأ حالا من الفقير وابن السبيل المسافر ذو الحاجة ، وإضافة الحق إلى الضمير تدل على أن لذي القربى حقا ثابتا ، والخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فظاهر الآية بما تحتف به من القرائن أن المراد بها الخمس والتكليف للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ويتبعه غيره ممن كلف بالخمس ، والقرابة على أي حال قرابة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كما في آية الخمس ، هذا كله على تقدير كون الآية مدنية وأما على تقدير كونها مكية كسائر آيات السورة فالمراد مطلق الإحسان للقرابة والمسكين وابن السبيل .

ولعموم الآية معنى عمم ذكره أثره الجميل فقال : {ذلك خير للذين يريدون وجه الله وأولئك هم المفلحون} .

قوله تعالى : {وما آتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس فلا يربوا عند الله ، وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون} الربا نماء المال ، وقوله : {ليربوا} إلخ ، يشير إلى وجه التسمية ، فالمراد أن المال الذي تؤتونه الناس ليزيد في أموالهم لا إرادة لوجه الله - بقرينة ذكر إرادة الوجه في مقابله - فليس يزيد وينمو عند الله أي لا تثابون عليه لعدم قصد الوجه .

وقوله : {وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون} المراد بالزكاة مطلق الصدقة أي إعطاء المال لوجه الله من غير تبذير ، والمضعف ذو الضعف ، والمعنى : وما أعطيتم من المال صدقة تريدون وجه الله فأولئك هم الذين يضاعف لهم مالهم أو ثوابهم .

فالمراد بالربا والزكاة بقرينة المقابلة وما احتف بهما من الشواهد ، الربا الحلال وهو العطية من غير قربة ، والصدقة وهي إعطاء المال مع قصد القربة .

هذا كله على تقدير كون الآية مكية وأما على تقدير كونها مدنية فالمراد بالربا الربا المحرم وبالزكاة هي الزكاة المفروضة .

وهذه الآية والتي قبلها أشبه بالمدنيات منهما بالمكيات ولا اعتبار بما يدعى من الرواية أو الإجماع المنقول .

 

وقوله تعالى : {اللّهُ الّذِى خَلَقَكُمْ ثُمّ رَزَقَكُمْ ثُمّ يُمِيتُكمْ ثُمّ يحْيِيكُمْ هَلْ مِن شرَكائكُم مّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُم مِّن شيْءٍ سبْحَانَهُ وتَعَلى عَمّا يُشرِكُونَ}

 

هذا هو الفصل الثاني من الفصول الأربعة التي يحتج فيها بالأفعال الخاصة به وإن شئت فقل : بأسماء الأفعال على إبطال الشركاء ونفي ربوبيتهم وألوهيتهم وعلى إثبات المعاد .

قوله تعالى : {الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء} إلخ ، اسم الجلالة مبتدأ و{الذي خلقكم} خبره ، وكذا قوله : {من يفعل} إلخ مبتدأ خبره {من شركائكم} المقدم عليه والاستفهام إنكاري وقد ذكر في تركيب الآية احتمالات أخر .

والمعنى : أن الله سبحانه هو الذي اتصف بكذا وكذا وصفا من أوصاف الألوهية والربوبية فهل من الآلهة الذين تدعون أنهم آلهة من يفعل شيئا من ذلكم يعني من الخلق والرزق والإماتة والإحياء وإذ ليس منهم من يفعل شيئا من ذلكم فالله سبحانه هو إلهكم وربكم لا إله إلا هو .

ولعل الوجه في ذكر الخلق مع الرزق والإحياء والإماتة مع تكرر تقدم ذكره في سلك الاحتجاجات السابقة الإشارة إلى أن الرزق لا ينفك عن الخلق بمعنى أن بعض الخلق يسمى بالقياس إلى بعض آخر يديم بقاءه به رزقا فالرزق في الحقيقة من الخلق فالذي يخلق الخلق هو الذي يرزق الرزق .

فليس لهم أن يقولوا : إن الرازق وكذا المحيي والمميت بعض آلهتنا كما ربما يدعيه بعضهم أن مدبر عالم الإنسان بعض الآلهة ومدبر كل شأن من شئون العالم من الخيرات والشرور بعضهم لكنهم لا يختلفون أن الخلق والإيجاد منه تعالى لا يشاركه في ذلك أحد فإذا سلم ذلك ومن المسلم أن الرزق مثلا خلق وكذا سائر الشئون لا تنفك عن الخلق رجع الأمر كالخلق إليه تعالى ولم يبق لآلهتهم شأن من الشئون .

ثم نزه سبحانه نفسه عن شركهم فقال : {سبحانه وتعالى عما يشركون} .

 _________________

1- الميزان ، الطباطبائي ، ج16 ، ص149-159 .

 

تفسير الامثل

- ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذه الآيات (1) :

 

إنّ الآية الأُولى من المقطع الذي بين أيدينا ، هي في الحقيقة استدلال وتأكيد على البحث السابق في مجال كون التوحيد فطرياً ، وتفتح هذا النور الإلهي عند الشدائد والصعاب! إذ تقول الآية : {وإذا مس الناس ضرّ دعوا ربّهم منيبين إليه} .

إلاّ أنّهم الى درجة من السطحية والغباء التعصب والتقليد الأعمى لأسلافهم المشركين ، بحيث أنّه بمجرّد انتهاء المشكلة وهبوب نسيم الرحمة الالهية . . {ثمّ إذا أذاقهم منه رحمةً إذا فريق منهم بربّهم يشركون} .

والتعبير بـ {مسّ الناس ضرّ} إشارة إلى اصابتهم بقليل من الضرر . . . كما أنّ التعبير {أذاقهم منه رحمة} إشارة إلى بلوغ شيء من النعمة ، لأنّ التعبير بـ «مسّ» أو «ذاق» في مثل هذه الموارد يطلق على الأُمور القليلة والجزئية ، وخاصّة باستعمال كلمتي «ضر» و«رحمة» نكرتين .

أي إنّ طائفةً تبلغ بهم الحال إلى أن يفزعوا إلى الله عند حدوث أقل مشكلة لهم ، وتنكشف الحُجب عن فطرتهم التوحيدية ، ولكن إذا رأوا نعمة ولو بأقل ما يتصوّر ، فإنّهم يغفلون عن واقعهم كليّاً ، وينسون كل شيء!

وبالطبع ففي الحالة الأُولى يبيّن القرآن أنّ الناس يفزعون جميعاً إلى الله عند الضر والشدائد ، لأنّ فطرة التوحيد موجودة في الجميع .

ولكن في الحالة الثّانية يتحدث القرآن عن جماعة تسلك طريق الشرك فحسب ، لأنّ طائفة من عباد الله يذكرون الله في الشدائد وفي الرخاء وفي السراء والضراء . فلا تُنسيهم المتغيّرات ذكر الله أبداً .

والتعبير بـ {منيبين إليه} ـ كما رأينا في مفهوم الإنابة سابقاً ـ من مادة «النوب» وتعني العودة ثانيةً إلى الشيء ، هذا التعبير إشارة لطيفة للمعنى التالي ، وهو أنّ الأساس في الفطرة هو توحيد الله وعبادته ، والشرك أمر عارض ، حيث متى ما يئسوا منه فهم يعودون نحو الإيمان والتوحيد ، شاؤوا أم أبوا ! .

والطريف هنا أنّ «الرحمة» في الآية مسندة إلى «الله» ، فهو سبحانه مصدر الرحمة للعباد ، سواء بطريق مباشر أو غير مباشر إلاّ أن الضرّ لم يسند إليه سبحانه ، لأنّ كثيراً من الإِبتلائات والمشاكل التي تحوطنا هي من نتائج أعمالنا وذنوبنا .

وكلمة «ربّهم» التي تكررت في الآية تكررت في الآية مرّتين ، تؤكّد على أنّ الإِنسان يحسّ بالتدبير الإِلهي وربوبية الله على وجوده ما لم تؤثر عليه التعليمات الخاطئة فتسوقه نحو الشرك والضلال .

وينبغي ذكر هذه المسألة الدقيقة ، وهي أنّ الضمير في كلمة «منه» يعود إلى الله ، وهذا تأكيد على أن جميع النعم من الله سبحانه . وقد اختار كثير من المفسّرين هذا المعنى أمثال «الطباطبائى» في الميزان ، و«الطوسي» في التبيان ، و«أبو الفتوح الرازي» في تفسيره وغيرهم ، وإن ذهب غيرهم كالفخر الرازي الى إن الضمير في كلمة «منه» يعود على الضرّ ، وفسّروا الآية هكذا «حين يذيق الله عباده بعد الضرّ رحمة . إذا فريق منهم يشركون بالله» . (فيكون معنى «من» هنا البدلية) . إلاّ أنّه من الواضح أن التّفسير الأوّل أكثر انسجاماً مع ظاهر الآية !

أمّا الآية الأُخرى فجاءت بعنوان التهديد لأُولئك المشركين ، الذين ينسون ربّهم عند نيل النعم ، إذ تقول : اتركهم {ليكفروا بما آتيناهم} وليفعلوا ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا! ثمّ يخاطب المشركين بأن يتمتعوا بهذه النعم والمواهب الدنيوية الفانية . وسوف يرون العاقبة السيئة لذلك : {فَتمتعوا فسوف تعلمون} (2)

وبالرغم من أنّ المخاطبين بالآية هم المشركون ، إلاّ أنّه لا يَبعُد أن يكون لها مفهوم واسع بحيث يشمل جميع الذين ينسون الله عند إقبال النعم ، وينشغلون بالتمتع بهذه النعم فحسب ، دون أن يذكروا واهب النعم .

وبديهيٌ أن صيغة الأمر استعملت هنا للتهديد ! .

والقرآن في الآية الأُخرى يصوغ الكلام في صيغة الإِستفهام المقرون بالتوبيخ فيقول : {أم أنزلنا عليهم سلطاناً فهو يتكلم بما كانوا به يشركون} .

«أم» هنا للإستفهام ، ويحمل الإِستفهام هنا غرضاً استنكارياً وتوبيخاً . . . أي إن سلوك هذا الطريق والخطة يجب أن يكون إمّا لنداء الفطرة ، أو بحكم العقل ، أو بأمر الله ، لكن حين يصرخ الوجدان والفطرة في الشدائد والملمات بالتوحيد . . . . فإن العقل يقول أيضاً : ينبغي التوجه نحو واهب النعم .

يبقى أن حكمَ الله في هذه الآية هو في مورد النفي ، أي : لم يؤمروا من قِبل الله بمثل هذا الأمر ، فعلى هذا فإن هؤلاء في اعتقادهم هذا لم يستندوا إلى أي أصل مقبول ! .

و«السلطان» معناه ما يدل على السلطة وينتهي إلى الإِنتصار عادةً ، ومعناه هنا هو الدليل المحكم المقنع .

والتعبير بـ «يتكلم» هو نوع من التعبير المجازي ، إذ ترانا نعبر عند وضوح الدليل قائلين «كأن هذا الدليل يتكلم مع الإِنسان» !

واحتمل بعض المفسّرين أن المراد بالسلطان هنا هو أحد الملائكة المقتدرين ، فيكون استعمال «يتكلم» هنا على نحو الحقيقة ، أي لم نرسل عليهم ملكاً يتكلم بالشرك فيتبعوه ! .

إلاّ أنّ التّفسير الأوّل أوضح كما يبدو!

أمّا آخر آية من الآيات محل البحث ، فهي ترسم طريقة تفكير وروحية هؤلاء الجهلة الاغبياء الذين يقنطون ويحزنون لأقل مصيبة ، فتقول : {وإذا أذقنا الناس رحمةً فرحوا بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون} .

في حين أنّ المؤمنين الصادقين هم الذين لا يغفلون عن ذكر الله عند النعم ، ولا يقنطون عند الشدائد والمصيبة ، إذ هم يشكرون الله على نعمه ، ويرون المصيبة امتحاناً واختباراً ، أو يعدونها نتيجة أعمالهم ، فيصبرون ويتّجهون إلى الله تعالى .

فالمشركون يعيشون دائماً بين «الغرور» و«اليأس» ، أمّا المؤمنون فهم بين «الشكر» و«الصبر» .

ويستفاد ضمناً من هذه الآية بصورة جيدة أنّ قسماً من المصائب والإِبتلاءات التي تحل بالإِنسان هي ـ على الأقل ـ نتيجة أعماله وذنوبه ، فالله يريد أن ينبههم ويطهرهم ويلفتهم إليه .

وينبغي الإِلتفات الى أنّ جملة {فرحوا بها} ليس المراد منها هنا السرور بالنعمة فحسب ، بل السرور المقرون بالغرور ونوع من السكر والنشوة ، وهي الحالة التي يكون عليها الأراذل عندما تتهيأ لهم وسائل العيش والحياة ، وإلاّ فإن السرور المقرون بالشكر والتوجه نحو الله ليس أمراً سيئاً ، بل هو مأمور به { قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} [يونس : 58] .

والتعبير {بما قدمت أيديهم} الذي ينسب المعاصي إلى الأيدي ، هو لأنّ أكثر الذنوب والأعمال يكون على يد الإِنسان ، وإن كانت هناك ذنوب يكتسبها القلب أو البصر أو السمع ، إلاّ أن كثرة الأعمال التي تصدر عن اليد استدعى هذا التعبير .

وهنا ينقدح هذا السؤال ، وهو : ألا تخالف هذه الآية ، الآية الثّالثة والثلاثين «ما قبل آيتين» لأنّ الكلام في هذه الآية عن يأسهم عند المصائب ، في حين أن الآية السابقة تتحدث عن توجههم إلى الله عند بروز المشاكل والشدائد . والخلاصة ، إن واحدة من الآيتين تتحدث عن «الرجاء» والأُخرى عن «اليأس» ؟

لكن مع الإِلتفات إلى مسألة دقيقة يتّضح جواب هذا السؤال ، وذلك أن الآية المتقدمة كان الكلام فيها عن «الضر» أي الحوادث الضارة كالطوفان والزلزلة والشدائد الأُخرى التي تصيب عامة الناس «الموحدين منهم والمشركين» . فيتذكرون الله في هذه الحال ، وهذا واحد من دلائل الفطرة على التوحيد .

أمّا في الآية محل البحث فالكلام على نتائج المعاصي واليأس الناشىء منها ، لأنّ بعض الأفراد إذا عملوا صالحاً أصبحوا مغرورين وحسبوا أنفسهم مصونين من عذاب الله ، وحين يعملون السيئات وتحلّ بهم العقوبة فيغم وجودَهم اليأسُ من رحمة الله ، فكلتا الحالين «العُجب والغرور» و«اليأس والقنوط من رحمة الله» مذمُومتان !

فعلى هذا تكون كلّ آية من الآيتين قد تناولت موضوعاً منفصلا عن الآخر .

 

وقوله تعالى : {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37) فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الروم : 37 - 40] .

 

الآية الأُولى من الآيات محل البحث ـ تتحدث عن التوحيد والربوبيّة أيضاً ، وانسجاماً مع سياق الآيات السابقة التي كانت تتحدث عن غرور بعض الناس الماديين عند إقبال النعمة عليهم ، ويأسهم وقنوطهم عند مواجهتهم الشدائد والبلاء ، فإنّها تقول : {أولم يروا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر} .

فلا ينبغي أن يكون إقبال النعم مدعاةً للغرور ونسيان الله والطغيان ، ولا إدبارها سبباً لليأس والقنوط ، لأنّ سعة الرزق وضيقه بيد الله ، فتارة يرى المصلحة للعبد في الحالة الأُولى «سعة الرزق» ، وتارةً يراها في الثّانية ، أي «الضيق» .

وصحيح أنّ العالَم هو عالم الأسباب ، فمن جَدّ وجد ، ومن سعى قاوم الصعاب ينلْ فائدة أكثر ويربح عادةً ، وأمّا أُولئك الكسالى فلا ينالون إلاّ قليلاً . . . لكن هذه القاعدة في الوقت ذاته ليست دائمية ولا كلية ، إذ يتفق أن نرى أناساً جديرين وجادّين يركضون من هنا وهناك ، إلاّ أنّهم لا يصلون إلى نتيجة يبلغون هدفهم ، وعلى العكس منهم قد نشاهد أناساً لا يسعون ولا يجدّون وتتفتح عليهم أبواب الرزق من كل حدب وصوب .

وهذه الإِستثناءات كأنّها لبيان أنّ الله بالرغم من جميع ما جَعَل للأسباب من تأثير ، لا ينبغي أن يُنسى في عالم الأسباب ، ولا ينبغي للانسان أن يغفل أن وراء هذا العالم يداً قوية أُخرى تديره كيف شاءت !

فأحياناً ـ ووفق مشيئته ـ توصد جميع الأبواب بوجه الإِنسان مهما سعى وجدّ في الأمر ، وقد يرحم الانسان وييسّر له الاُمور الى درجة انه ما أن يخطو خطوة . . . وإذا الأبواب متفتحة أمامه !

فما نرى في حياتنا من هذه المفارقات ، بالإِضافة إلى أنّه يحدّ من الغرور المتولد من وفور النعمة ، واليأس الناشىء من الفقر ، فهو في الوقت ذاته دليل على أن وراء إرادتنا ومشيئتنا يداً قوية أُخرى «تسيّر أعمالنا» .

لذلك يقول القرآن في نهاية الآية : {إنّ في ذلك لآية لقوم يؤمنون} .

وينقل بعض المفسّرين كلاماً بهذا المضمون وهو : سئل أحد العلماء : ما الدليل على أنّ للعالم صانعاً واحداً؟

فقال هناك ثلاثة أدلة : «ذل اللبيب ، وفقر الأديب ، وسقم الطبيب» . (3)

أجل إن وجود هذه المستثنيات والمفارقات دليل على أن الامور بيد قادر آخر ، كما ورد في كلام الإِمام علي(عليه السلام) أيضاً «عرفت الله سبحانه بفسخ العزائم ، وحلّ العقود ، ونقض الهمم» . (4)

وحيث أن كل نعمة وموهبة ينالها الإِنسان تحمّله وظائف ومسؤوليّات وعليه أداؤها ، فإن القرآن يوجه الخطاب للنبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في الآية التالية قائلا : {فآت ذا القربى حقّه والمسكين وابن السبيل} .

وينبغي أن لا تتصور عند سعة الرزق أن ما عندك هولك فقط ، بل إنّ للآخرين في مالك حقّاً أيضاً ، ومن هؤلاء الأقارب والمساكين الذين باتوا متربين لشدة الفقر ، وكذلك الأعزة الذين ابتعدوا عن الوطن وانقطع بهم الطريق نتيجة حوادث معينة وهم محتاجون ! . . .

والتعبير بـ «حقّه» كاشف عن أنّهم شركاء في أموال الإِنسان ، وإذا دفع المرء شيئاً من ماله إليهم فإنّما يؤدي حقهم ، وليس له منٌّ عليهم ! .

وهناك جماعة من المفسّرين يرون أنّ المخاطب في هذه الآية هو النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)فحسب ، وأن «ذا القربى» أرحامه ، وقد ورد في رواية عن أبي سعيد الخدري وغيره مايلي : «لما نزلت هذه الآية على النّبي أعطى فاطمة فدكاً وسلّمها إليها» . (5)

وبالمضمون نفسه نقل عن الإِمام الباقر والصادق(عليهما السلام) أيضاً . (6)

وقد ورد المعنى نفسه مفصلا في احتجاج فاطمة الزهراء(عليها السلام) على أبي بكر في قضية فدك ، وذلك في رواية عن الإِمام الصادق(عليه السلام) . (7)

غير أنّ جماعة من المفسّرين قالوا : إنّ الخطاب في هذه الآية عام ، وهو يشمل النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وغيره ، وطبقاً لهذا التّفسير فإنّ جميع الناس عليهم أن لا ينسوا حق ذوي القربى أيضاً .

وبالطبع فإنه لا منافاة في الجمع بين التّفسيرين ، وعلى هذا فإن مفهوم الآية مفهوم واسع ، والنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وقرباه وخاصة فاطمة الزهراء(عليها السلام) هم المصداق الأتم لهذه الآية .

ومن هنا يتّضح أن لا منافاة لأي من التفاسير الآنفة مع كون السورة مكّية ، لأنّ مفهوم الآية مفهوم جامع ينبغي العمل به في مكّة وفي المدينة أيضاً ، وحتى خبر إعطاء «فدك» لفاطمة(عليها السلام) على أساس هذه الآية مقبول جدّاً .

الشيء الوحيد الذي يبقى هنا ، هو جملة «لما نزلت هذه الآية . . . .» في رواية أبي سعيد الخدري ، إذ أن ظاهرها أن إعطاء فدك كان بعد نزول الآية ، ولكن لو أخذنا كلمة «لما» به معنى العلة ، لا بمعنى الزمان الخاص ، ينحل هذا الإِشكال ، ويكون مفهوم الآية أن الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أعطى فاطمة فدكاً لأمر الله إياه ، أضف إلى ذلك فإن بعض آيات القرآن يتكرر نزولها ! .

ولكن لم ذكر هؤلاء الثلاثة من بين جميع المحتاجين وأصحاب الحق ؟

لعل ذلك لأهميتهم ، لأنّ حق ذي القربى أهم وأعلى من أي حق سواه ، ومن بين المحرومين والمحتاجين فإنّ المساكين وأبناء السبيل أحوج من الجميع ! .

أوأن ذلك لما أورده «الفخر الرازي» هنا إذ يقول : «في تخصص الأقسام الثلاثة بالذكر دون غيرهم ، مع أن الله ذكر الأصناف الثمانية في الصدقات ، فنقول : أراد هاهنا بيان من يجب الإِحسان إليه على كل من له مال ، سواء كان زكوياً أم لم يكن ، وسواءً كان بعد الحول أو قبله ، لأنّ المقصود هاهنا الشفقة العامة ، وهؤلاء الثلاثة يجب الإِحسان إليهم وإن لم يكن للمحسن مال زائد ، أمّا القريب فتجب نفقته وإن كان لم تجب عليه زكاة كمال القاصرين أو مال لم يحل عليه الحول ، والمسكين كذلك فإنّ من لا شيء له إذا بقي في ورطة الحاجة حتى بلغ الشدة ، يجب على من له مقدرة دفع حاجته وإن لم يكن عليه زكاة ، وكذلك من انقطع في مفازة ومع آخر دابةٌ يمكنُه بها إيصاله إلى مأمن ، يلزمه ذلك ، وإن لم تكن عليه زكاة ، والفقير داخل في المسكين ، لأنّ من أوصى للمساكين شيئاً يصرف إلى الفقراء أيضاً «فما ذكرته الآية من ترتيب لهؤلاء إنّما يناسب شأنهم» . (8)

وعلى كل حال فإنّ القرآن يبيّن في نهاية الآية ترغيباً للمحسنين ، وشَرَطَ القبول ضمناً ، فيقول : {ذلك خير للذين يريدون وجه الله وأُولئك هم المفلحون} .

أُولئك المفلحون في هذه الدنيا ، لأنّ الإِنفاق يجلب معه البركات العجيبة ، وفي الآخرة أيضاً ، لأنّ الإنفاق هو أكثر الأعمال ثقلا في ميزان الله يوم القيامة .

ومع الإِلتفات إلى أن المراد من {وجه الله} ليس هو المحيّا الجسماني ، إذ ليس له تعالى وجه جسماني ، بل هو بمعنى ذاته المقدّسة ، فإن هذه الآية تشير إلى أن الإِنفاق وإيتاء حق الأقارب وأصحاب الحق الآخرين ليس كافياً ، بل المهم هو الإِخلاص والنية الطاهرة والخالية من أي أنواع الرياء والمنة والتحقير وانتظار الأجر والثواب .

وخلافاً لما ذهب إليه بعض المفسّرين . من أنّ الانفاق لغرض الوصول إلى الجنّة ليس مصداقاً لوجه الله ، فان جميع الأعمال التي يؤديها الإِنسان وفيها نوع من الإِرتباط بالله ، سواء كانت لمرضاته أو ابتغاء ثوابه أو للنجاة من جزائه ، فكلها مصداق لوجه الله ، وإن كانت المرحلة العليا والكاملة من ذلك أن لا يبتغي الإِنسان من وراء عمله إلاّ الطاعة والعبودية المحضة ! .

وتشير الآية التالية ـ بمناسبة البحث المتقدم عن الإِنفاق الخالص ـ إلى نوعين من الإِنفاق : أحدهما لله ، والآخر يراد منه الوصول إلى مال الدنيا ، فتقول : {وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلايربو عند الله وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأُولئك هم المضعفون} .

مفهوم الجملة «الثّانية» وهي إعطاء الزكاة والإِنفاق لوجه الله والثواب واضح ، إلاّ أن الجملة الأُولى {وما آتيتم من ربا} مختلَف في تفسيرها مع الإِلتفات إلى أنّ «الربا» معناه في الأصل «الزيادة» .

فالتّفسير الأوّل ، وهو أوضح من جميع التفاسير ، ومنسجم مع مفهوم الآية أكثر ، ومتناسق مع الروايات الواردة عن أهل البيت(عليهم السلام) ، أن المراد من الربا هو الهدايا التي يقدمها بعض الأفراد للآخرين ، ولا سيما إلى أصحاب الثروة والمال ، كي ينالوا منهم أجراً أحسن وأكثر !

وبديهي أنّه في مثل هذه الهدايا لايؤخذ بنظر الاعتبار استحقاق الطرف الآخر ولا الجدارة والأولوية ، بل كل ما يهدف اليه أن تصل الهدية إلى مكان ، تعود على مُهديها بمبلغ أوفر ومن الطبيعي أن مثل هذه الهدايا ليس فيها «جنبة» إخلاص ، فلا قيمة لها من الجهة الأخلاقية ، والمعنوية ! .

فعلى هذا يكون معنى «الربا» في هذهِ الآية هو«الهدية والعطية» والمراد من جملة {ليربو في أموال الناس} هو أخذ الأجر الوافر من الناس !

ولا شك أن أخذ مثل هذه الأجرة ليس حراماً ، إذ ليس فيه شرط أو قرار ، إلاّ أنّه فاقد للقيمة الأخلاقية والمعنوية . . . ولذلك فقد ورد التعبير عن هذا الربا ـ في روايات متعددة عن الإِمام الصادق (عليه السلام) في مصادر معروفة ، بـ «الربا الحلال» في قِبالِ «الربا الحرام» الذي يستلزم الشرط والعقد أو الإتفاق .

ونقرأ في حديث عن الإِمام الصادق(عليه السلام) في كتاب تهذيب الأحكام ، في تفسير الآية هو قوله(عليه السلام) : «هو هديتك إلى الرجل تطلب منه الثواب أفضل منهما ، فذلك ربا يؤكل» !

كما نقرأ حديثاً آخر عنه(عليه السلام) «الربا رباءان ، أحدهما حلال والآخر حرام ، فأمّا الحلال فهو أن يقرض الرجل أخاه قرضاً يريد أن يزيده ويعوضه بأكثر ممّا يأخذه بلا شرط بينهما ، فإن أعطاه أكثر ممّا أخذه على غير شرط بينهما فهو مباح له ، وليس له عند الله ثواب فيما أقرضه ، وهو قوله : {فلا يربو عند الله} وأمّا الحرام فالرجل يقرض قرضاً ويشترط أن يردّ أكثر ممّا أخذه فهذا هو الحرام» . (9)

وهناك تفسير آخر لهذه الآية ، وهو أن المراد من الربا في هذه الآية هو الربا الحرام ، وطبقاً لهذا التّفسير فإن القرآن يريد أن يقيس الربا بالإِنفاق الخالص لوجه الله ، ويبين أن الربا وإن كان ظاهره زيادة المال ، إلاّ أنّه ليس زيادةً عند الله ، فالزيادة الحقيقية والواقعية هي الإِنفاق في سبيل الله .

وعلى هذا الأساس فقد عدّوا الآية مقدمة لمسألة «تحريم الربا» التي ذكرها القرآن في بداية الأمر وقبل الهجرة على سبيل الإِرشاد الأخلاقي والنصح ، ولكن تمّ تحريم الربا بعد الهجرة في ثلاث سور «البقرة وآل عمران والنساء» بصورة تدريجية «وكانت لنا إشارة أيضاً في الجزء الثّاني من التّفسير الأمثل على هذا الأساس» .

وبالطبع ليس بين المعنيين أيُّ تضاد ، ويمكن أن تؤخذ الآية بمعناها الواسع الذي يجمع «الربا الحلال» و«الربا الحرام» ويقاس كلاهما بالإِنفاق في سبيل الله ، إلاّ أن تعبيرات الآية أكثر انسجاماً مع التّفسير الأول ، لأنّ الظاهر من الآية هنا أن عملا قد صدر ليس فيه ثواب ، وهو مباح ، لأنّ الآية تقول : إن هذا العمل لا يربو عند الله ، وهذا يتناسب مع الربا الحلال الذي ليس فيه وزر ولا ثواب ، وليس شيئاً يستوجب مَقْتَ الله وغضبَهُ . . . وقد قلنا : إن الروايات الإِسلامية ناظرة إلى هذا المعنى .

وينبغي الإِشارة إلى هذه اللطيفة اللغوية ، وهي أنّ كلمة «مضعفون» التي هي صيغة لاسم الفاعل ، لا تعني أنّهم يزيدون ويُضعفون بأنفسهم للمال ، بل معناها أنّهم أصحاب الثواب المضاعف ، لأنّ اسم الفاعل قد يأتي في لغة العرب ويراد منه اسم المفعول ، مثل «الموسِر» أي : صاحب المال الكثير .

وينبغي أيضاً أن يُعرف بالنظرة البعيدة أن المراد من الضعف والمضاعف ليس معناه «مثل الشيء مرّتين» بل يشمل المثل مرتين ويشمل أمثال الشيء ، والحدّ الأقل في الآية هنا عشرة أمثال ، لأنّ القرآن يقول : {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } [الأنعام : 160] وتبلغ الزيادة أحياناً كما في القرض إلى ثمانية عشر كما نقرأ في هذا حديثاً للإمام الصادق(عليه السلام) يقول فيه : «على باب الجنّة مكتوب : القرض بثمانية عشر والصدقة بعشر» . (10)

وقد تبلغ الزيادة إلى سبعمائة «ضعف» كما هو في شأن الإِنفاق في سبيل الله ، إذ تقول الآية : { مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} [البقرة : 261] .

وفي الآية الأخيرة ـ من الآيات محل البحث ـ عودة أُخرى إلى مسألة المبدأ والمعاد ، وهي الموضوع الأساس الذي ورد في كثير من آيات هذه السورة . . . وتصف الآية «الله» بأربعة أوصاف لتكون إشارة للتوحيد ومواجهة الشرك ، ودليلا على المعاد أيضاً فتقول : {الله الذي خلقكم ثمّ رزقكم ثمّ يميتكم ثمّ يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء سبحانه وتعالى عمّا يشركون} .

ومن المسلّم به أن المشركين لم يكن أيّ منهم يعتقد بأن الخلق كان من قِبل الأوثان ، أو أن أرزاقهم بيد الأوثان والأصنام ، أو أن نهاية حياتهم بأيدي هذه الأوثان كذلك !! بل لأنّهم جعلوا هذه الأوثان المصنوعة واسعة وشفعاء بينهم وبين الله ، فعلى هذا يكون الجواب على هذه الأسئلة هو النفي ، والإِستفهام هنا استفهام إنكاري ! .

الموضوع الآخر الذي يثير السؤال هنا هو أن أُولئك المشركين لم يكونوا يعتقدون بالحياة بعد الموت ، فكيف يستند القرآن في آخر وصف لله تعالى إلى ذلك ؟!

لعل هذا التعبير هو لأنّ مسألة المعاد والحياة بعد الموت ـ كما ذكرناها في بحوثنا المتقدمة ـ لها «جنبة» فطريّة ، والقرآن هنا لا يستند إلى معتقداتهم ، بل إلى فطرتهم .

إضافة إلى ذلك فقد يتفق أن متكلماً ذلقاً حين يواجه شخصاً آخر يُنكر موضوعاً ما ، فيستدرجه بما لديه من حقائق يتقبلها ذلك الآخر ويستند إليها بشكل قطعي ليظهر أثرها ، وينزل صاحبه من مركب الإِنكار .

ثمّ بعد هذا كله فإن بين الحياة الأُولى من قبل الله وقدرته على ذلك ، والحياة بعد الموت رابطة لا تقبل الإِنفصام ، ومع ملاحظة هذه الرابطة المنطقية فإن «كلا الأمرين» جاءا في عبارة واحدة .

وعلى كل حال فإن القرآن يقول : عندما يكون الخلق والرزق والموت والحياة بيد الله ، فالعبادة ينبغي أن تكون له فقط ، ويكشف هذه الحقيقة بقوله : {سبحانه وتعالى عمّا يشركون} وهي أنّ المشركين أهانوا كثيراً مقام رب العزة إذ أشركوه في العبادة مع أوثانهم .

_________________

1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج10 ، ص167-178 .

2 ـ إنّ «اللام» في جملة «ليكفروا» هي لام الأمر ، وهذا الأمر للتهديد ، وكذلك جملة «تمتعوا» إذ هي للتهديد أيضاً . وإن كانت الأُولى جاءت بصيغة «الغائب» والثّانية بصيغة «الخطاب» . . . فكأنّما افترض في الحالة الأُولى أنّهم غيّاب ثمّ من أجل التشدّد بالتهديد جعلهم مواجهين للتهديد والخطاب ، إلاّ أنّ بعض المفسّرين عدّوا «اللام» للعاقبة ، أي كان عاقبة أمرهم الكفر بنعم الله ، إلاّ أن المعنى الأوّل أكثر انسجاماً مع ظاهر الآية .

3 ـ تفسير روح البيان ، ج 7 ، ص 29 ، ذيل الآية محل البحث .

4 ـ نهج البلاغة ، الكلمات القصار الجملة 250

5 ـ مجمع البيان .

6 ـ مجمع البيان .

7 ـ تفسير على بن إبراهيم ، طبقاً لنقل نور الثقلين عنه ، ج4 ، ص 186 .

8 ـ ذيل الآيات محل البحث «الفخر الرازي» .

9 ـ تفسير نور الثقلين ، ج 4 ، ص 191 .

10 ـ نور الثقلين ، ج 4 ، ص 190 .




وهو تفسير الآيات القرآنية على أساس الترتيب الزماني للآيات ، واعتبار الهجرة حدّاً زمنيّاً فاصلاً بين مرحلتين ، فكلُّ آيةٍ نزلت قبل الهجرة تُعتبر مكّيّة ، وكلّ آيةٍ نزلت بعد الهجرة فهي مدنيّة وإن كان مكان نزولها (مكّة) ، كالآيات التي نزلت على النبي حين كان في مكّة وقت الفتح ، فالمقياس هو الناحية الزمنيّة لا المكانيّة .

- المحكم هو الآيات التي معناها المقصود واضح لا يشتبه بالمعنى غير المقصود ، فيجب الايمان بمثل هذه الآيات والعمل بها.
- المتشابه هو الآيات التي لا تقصد ظواهرها ، ومعناها الحقيقي الذي يعبر عنه بـ«التأويل» لا يعلمه الا الله تعالى فيجب الايمان بمثل هذه الآيات ولكن لا يعمل بها.

النسخ في اللغة والقاموس هو بمعنى الإزالة والتغيير والتبديل والتحوير وابطال الشي‏ء ورفعه واقامة شي‏ء مقام شي‏ء، فيقال نسخت الشمس الظل : أي ازالته.
وتعريفه هو رفع حكم شرعي سابق بنص شرعي لا حق مع التراخي والزمان بينهما ، أي يكون بين الناسخ والمنسوخ زمن يكون المنسوخ ثابتا وملزما بحيث لو لم يكن النص الناسخ لاستمر العمل بالسابق وكان حكمه قائما .
وباختصار النسخ هو رفع الحكم الشرعي بخطاب قطعي للدلالة ومتأخر عنه أو هو بيان انتهاء امده والنسخ «جائز عقلا وواقع سمعا في شرائع ينسخ اللاحق منها السابق وفي شريعة واحدة» .