المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

العقائد الاسلامية
عدد المواضيع في هذا القسم 4870 موضوعاً
التوحيد
العدل
النبوة
الامامة
المعاد
فرق و أديان
شبهات و ردود
أسئلة وأجوبة عقائدية
الحوار العقائدي

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر



ـ القول بالتفويض المطلق- من الغلو  
  
2444   01:00 مساءً   التاريخ: 5-1-2019
المؤلف : الدكتور عبد الرسول الغفار
الكتاب أو المصدر : شبهة الغلو عند الشيعة
الجزء والصفحة : 159- 200
القسم : العقائد الاسلامية / فرق و أديان / الغلو /

الحديث عن التفويض بمعنى التخويل ، والذي يتضمن معنى التشريع أيضاً ، سوف يكون من عدة جوانب ، أهمها الحديث عن:

الآيات المنصوصة على إطاعة الرسول.

التفويض للرسول ـ بمعنى التشريع والأخبار في ذلك.

حق التشريع ..

مصاديق من تشريع الرسول صلى الله عليه واله .

دور الأئمة المعصومين : في التشريع.

معرفة الإمام ومنزلته.

تفويض أمر الخلق.

خلاصة البحث.

----------

الآيات التي تنص على إطاعة الرسول (صلى الله عليه واله) :

أكثر من أربعين مورداً في القرآن الكريم ينص على حق الطاعة ، الذي هو في الأساس حق مشروع لله سبحانه وتعالى في ذمة الخلق وفي أعناقهم ، وهذا الحق يتفرع منه عنوان ثانوي ليشمل دائرة أوسع ، بحيث يكون للنبي ولأولى الأمر حق أيضاً ، على العباد إطاعتهم. وجل تلك النصوص الكريمة قرنت إطاعة النبي بإطاعة الله سبحانه ، قال تعالى : {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } [آل عمران: 132]

وقوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] وقوله تعالى : {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا} [الأنفال: 46] وقوله تعالى {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأنفال: 1] وقوله تعالى : {فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 13] .

آيات كثيرة عطفت إطاعة الرسول على إطاعة الله سبحانه وكأنها إطاعة واحدة حيث إطاعة الله توجب إطاعة الرسول ، وكذلك إطاعة الرسول توجب إطاعة الله تعالى لذا أكد القرآن الكريم على هذه الثمرة ، فقال تعالى : {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } [النساء: 80]

ثم أن الرسول (صلى الله عليه واله) لما جاءهم برسالة السماء التي تدعو قريش والعرب والناس كافة إلى توحيد الله أولاً ، وامتثال أوامره في العبادات والمعاملات ثانياً ، والاقتداء بسنة نبيه ثالثاً ، كان لا بد م التمهيد في الخطاب حتى يستعد الناس لتلقي هذه الأوامر والإذعان لها. وقد حصل ذلك بأروع الصور ، وبالتفاتات مهمة صاغها المولى لعباده حتى يفقهوا قول الرسول ويعوه ، فمثلاً صورت بعض الآيات الكريمة أن مهمة الرسول هو الإبلاغ والإنذار والإرشاد ، أما اجر ذلك فليس في حسبان الرسول شيء منه بل أجر ما يؤديه أنما هو على الله سبحانه قال تعالى يحكي عن قول الرسول والأنبياء : لأممهم : { إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ } [يونس: 72] وقوله تعالى : {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ } [الشعراء: 109]

لقد تكرر هذا المعنى في تسع مواضع من القرآن الكريم .

ومن الالتفاتات والتمهيد في الخطاب أن أشارت بعض الآيات إلى مهمة الرسول وهو البلاغ ولا يضره مخالفة من خالف وليس عليه تبعة من كفر ، قال تعالى : {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [النور: 54]

وقال تعالى : {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [النور: 54]

ومن جملة التمهيد لأمر الطاعة ، هو الفات المخاطبين ـ الأمم ـ إلى ما هم عليه من اختلاف ، قوله تعالى : {قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ} [الزخرف: 63]

وآيات كثيرة أكدت اختلاف الأمم وأهل الكتاب بالخصوص ..

ومن جملة التمهيد لأمر الطاعة ، الإخبار بأمانة الرسول وصدق الرسالة : قال تعالى يصف أنبياءه. {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} [يس: 52] وقوله تعالى عن لسان نبيه (عليه السلام) {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} [الشعراء: 107]

هذا التمهيد في الخطاب سوف يجعل النفوس في معرض الاستعداد لتلقي كلمات الرسول ومقدمة الإذعان والقبول لهاذا أمرهم الله سبحانه بالتقوى بعد الإيمان لأن إن لم يكن الإيمان لم تكن التقوى فهي رتبة أعلى ودرجة أسمى وشأنها في النسبة كالإيمان إلى الإسلام ...

وقوله تعالى : {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} [نوح: 3]

وقوله تعالى : {وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} [آل عمران: 50]

وقوله تعالى : {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} [الشعراء: 107، 108] هذه التقوى المنشودة لها أثر عميق في تحريك الضمائر والسلوك إلى الله سبحانه ، والانشاد إلى أقوال الرسول والاستسماع إليه ، على أي إن من مثل هذه الخطابات تخلق جواً من الحماس والتهيوء الفطري لينتفض الإنسان من واقعة المتردي وتحريكة إلى واقع أسمى وأفضل يصبوا إليه ...

ولو سألنا ما الثمرة المترتبة على الإطاعة...؟

قلنا أن الإطاعة بكل صورها وأشكالها تؤدي إلى السعادة الأبدية والفوز برضوان الله تعالى ورحمته : قال تعالى : {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [النساء: 13] وقوله تعالى : {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ } [النور: 52] وقوله تعالى : {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } [آل عمران: 132] وقوله تعالى : {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 71] وقوله تعالى : {وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا } [الحجرات: 14]

أما الذين أبوا الاستماع إلى الرسول واختاروا الكفر على الإيمان فهؤلاء سوف تكون عليهم حسرة على ما فاتهم من أمر الطاعة والتفريط في جنب الله وتكذيب رسوله عند ذاك يندموا على ما فعلوا وولات حين مندم ...

قال تعالى : {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا} [الأحزاب: 66]

نستنتج مما سبق من الآيات أن طاعة الله ورسوله واجبة لأن صلاح الأمة ورقيها بتلك الطاعة لا يحق لأحد من الناس مخالفتهما : قال تعالى : {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب: 36]

وقوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ * كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة: 20، 21] .

التفويض وأقسامه :

يقسم التفويض إلى فرعين رئيسيين :

أولاً : تفويض أمر الخلق والرزق ...

ثانياً : تفويض أمر الدين والسياسة ...

ثم لكل فرع قسمان :

القسم الأول : التفويض ـ المطلق ـ بالمعنى الأعم.

القسم الثاني : التفويض ـ المقيد ـ بالمعنى الأخص. 

التفويض بالمعنى الأعم :

هذا القسم من كلا الفرعين مختص بالله وحده لا شريك له ، حيث هو المشرع الأساس والأول وهو الخالق والصانع ومبدع كل شيء ـ الكائنات وكل الموجودات ـ لذا فإن امر العباد ومآلهم إليه سبحانه ، فهو اللطيف الخبير ، والبصير ، له الأمر من قبل ومن بعد. من مصاديق القسم الأول من الفرع الأول هي :

الرازقية والخالقية والإهداء والإظلال ، والإحاطة ، والإماتة ، والإحياء والابتلاء ـ بالمرض ـ والإشفاء ، ... الخ

وغير ذلك من خصوصيات الرب الخالق الواحد الفرد الصمد.

قال تعالى في شأن الرزق : {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ } [الذاريات: 58]

وقوله تعالى : {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } [الروم: 40]

وقوله تعالى : { اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ} [الشورى: 19]

وقوله تعالى : {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ} [يونس: 31]

وهناك عشرات الآيات لا منازع فيها أن الرازق هو الله سبحانه وتعالى وقال تعالى في شأن الخالقية : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ } [البقرة: 21]

وقوله تعالى : {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ } [الرحمن: 14]

وقوله تعالى : {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام: 1]

وقوله تعالى : {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا } [البقرة: 29]

وقوله تعالى : {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} [الأنبياء: 33]

وقوله تعالى : {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2]

وقوله تعالى : {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان: 2].

آيات كثيرة (300) مورد في الخلق والإيجاد ..

وقال تعالى في شأن الهداية والضلالة : {إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} [الرعد: 27]. //

وقوله تعالى : { إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } [القصص: 56].

والآيات كثيرة جداً في هذا الباب.

وفي الإحاطة ، قال تعالى : {وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا } [الطلاق: 12].

وفي الإماتة والإحياء قال تعالى : {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} [الدخان: 8] .

وقوله تعالى : { وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا * لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا} [الفرقان: 48، 49].

وأما في الابتلاء والإشفاء قوله تعالى : { الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ } [الشعراء: 78 - 81].

هذه جملة من الآيات في بعض الموارد لبعض الخصوصيات التي انفرد بها الله سبحانه دون سائر خلقه ، وهناك خصوصيات كثيرة في أمر التفويض ؛ التفويض بالمعنى المطلق أو الأعم بحيث هي ثابتة للمولى دون غيره في أمر الخلق والرزق والأحياء والابتلاء والإهداء والإضلال ... الخ.

أما القسم الأول من الفرع الثاني ( تفويض أمر الدين بالمعنى الاعم ) فهو كذلك من مختصات الله سبحانه وتعالى ، لأن هذا القسم من التفويض يراد به التشريع. والتشريع بالمعنى الأعم أو المطلق يكون من مختصات الباري سبحانه :

قال تعالى : {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48]

وقوله تعالى : {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا} [الجاثية: 18]

وقوله تعالى : {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ } [الشورى: 13]

وقوله تعالى : {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21]

أما الأخبار الدالة على أن هذا التفويض من مختصات الله تعالى فهي كثيرة نذكر منها :

وروى الصدوق بإسناده عن بريد بن عمير بن معاوية الشامي قال : دخلت على علي بن موسى الرضا بمرو ، فقلت له يا ابن رسول الله روي لنا عن الصادق جعفر بن محمد (عليه السلام) قال أنه لا جبر ولا تفويض بل أمر بين امرين فما معناه؟

فقال: من زعم أن الله عز وجل يفعل أفعالنا ثم يعذبنا عليها فقد قال بالجبر ومن زعم أن الله عز وجل فوض أمر الخلق والرزق إلى حججه : فقد قال بالتفويض والقائل بالجبر كافر والقائل بالتفويض مشرك.

فقلت له يا بن رسول الله فما أمر بين أمرين؟

فقال وجود السبيل إلى إتيان ما أمروا به ، وترك ما نهوا عنه ... الخ (1)

التفويض الذي ورد ـ والنهي عنه ـ هو ذلك التفويض في أمر العباد والخلق والرزق وغير ذلك التي هي من مختصات الله تعالى وما ورد من الأحاديث في أمر التفويض الذي فوض الله به ذنبه أو الأئمة : إنما هو في أمر الدين أي وكل لهم بيان أحكام الحلال والحرام والمندوب والمكروه ، وإنهم أمناء الله على دينه فيحللون ما أحل الله ويحرمون ما حرم الله تعالى.

قال الصدوق حدثنا محمد بن علي ماجلويه قال : حدثنا علي بن إبراهيم بن هاشم عن أبيه عن ياسر الخادم ، قال : قلت للرضا (عليه السلام) ما تقول في التفويض؟ فقال (عليه السلام) إن الله تبارك وتعالى فوض إلى نبيه (صلى الله عليه واله) أمر دينه فقال : {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } [الحشر: 7] فأما الخلق والرزق فلا ، ثم قال (عليه السلام) ، إن الله عز وجل يقول : {قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [الرعد: 16].

ويقول تعالى : {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الروم: 40] (2) 

إشارة وتوضيح :

قوله سلام الله عليه « فأما الخلق والرزق فلا » ليس المراد أن الله تعالى لم يجعل بيد نبيه أو وليه والرزق الرزق والخلق اصلاً بل المراد نفي تفويض الأمر إليهم كما تقوله المفوضة ، وهو ان الله سبحانه فوض إليهم ذلك وليس بقدر على الحيلولة دونهم وإنهم العلة التامة في ذلك ، وعلى هذا التقدير يتفق هؤلأ مع اليهود في قولهم ( يد الله مغلولة ) بل غلت ايديهم ولعنهم الله في الدنيا والاخرة.

فالمفوضة كانت تعتقد بأن النبي والأولياء كانوا يفعلون الرزق والخلق حقيقة وبدرتهم أي استقلالاً وبدون إذن الله وهذا هو الكفر بعينه.

نعم لو قلنا أنهم يفعلون ذلك حقيقة لكن بإذن الله تعالي واقداره لهم على ذلك فلا مانع منه ، حيث قوله تعالى في خطابه لعيس ( عليه السلام ) : ( وتبرأ الاكمة والابرص باذني وتحي الموتى باذني ) والأحاديث في ذم المفوضة بالمعنى الأعم كثيرة منها :

قال الصدوق بإسناده عن أبي هشام الجعفري ، قال : سألت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) عن الغلاة والمفوضة. فقال الغلاة كفار والمفوضة مشركون ، من جالسهم أو خالطهم أو آكلهم أو شاربهم أو واصلهم أو زوجهم أو تزوج منهم أو آمنهم أو ائتمنهم على أمانة أو صدّق حديثهم أو أعانهم بشطر كلمة خرج من ولاية الله عز وجل وولاية رسول الله (صلى الله عليه واله) وولايتنا أهل البيت : (3). 

التفويض بالمعنى الأخص :

عرفنا مما تقدم أن التفويض بالمعنى الأعم غير ثابت لهم : لأنه من مختصات الله سبحانه. أما التفويض بالمعنى الأخص وقل عنه بالمعنى الضيق فهو يشمل الفرعين أعني الفرع الأول (تفويض أمر الخلق والرزق ... الخ) والفرع الثاني (تفويض أمر الدين والسياسة).

التفويض في أمر الخلق والرزق لا يتم لهم إلا من خلال مسألتهم ودعائهم. أما كونهم يخلقون أو يرزقون أو يحيون ... بمحض إرادتهم ، أو أنهم يفعلون ذلك حقيقة او بقدرتهم وما شابه ذلك ، على وجه الاستقلال ، فهو غير صحيح ، بل إنه كفر وشرك ، والذي يدلل على أن القائل بهذا التفويض كافر هو الأدلة العقلية والنقلية وعليه يصدق الغلو على من يقول بهذا التفويض ، فهو ظال ومظل.

وما جاء في الأخبار والروايات على أهم يرزقون أو يخلقون أو مما فوض إليهم أمر الخلق والرزق والأحياء فلا بد من تأويلها أو حملها على كونهم أسباب لإيجاد هذه المصاديق في الخارج وذلك بتوسلهم إلى الله سبحانه وطلبهم الحثيث من الباري ، فسبحانه إن فعل ذلك فإنما يفعله مقارناً لإرادتهم واستجابة لطلبهم ، وهذا أحد أقسام التفويض المعقول ، وكما عرفت قبل قليل القسم الآخر ، وهو التفويض إليهم أمر الرزق والخلق ، وأنهم يفعلون ذلك بأنفسهم ولكن بإذن الله. وأنت عارف خبيراً أن الأئمة المعصومين كرامتهم من الله كبيرة ومنزلتهم عنده عظيمة ولما كانوا يشخصون بعض المصالح الخارجية ويدركون في الجملة المنافع والمضار التي سوف تترتب على مسألتهم ، كان منهم السؤال والتوسل إلى الله بقضاء حاجتهم وإنجاح طلبتهم وقد ترتب على سؤالهم الإجابة الصادقة الحقة السريعة إكراماً لهم ، وسبحانه يقول : {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186] ، وقال تعالى : {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60].

هذا شأن أي مؤمن يدعو الله ، كيف لو كان الداعي إماماً معصوماً وولياً من أوليائه؟! مهما يكن ، لو حصلت لهم الإجابة فهي تعد من باب المعجزة والكرامة ، إظهاراً لعلو منزلتهم وجلالة قدرهم وعظم شأنهم وإخلاصهم ...

عن أبي الحسن علي بن أحمد الدلال القمي قال : اختلفت جماعة من الشيعة في أن الله عز وجل فوض إلى الأئمة صلوات الله عليهم أن يخلقوا ويرزقوا فقال قوم : هذا محال لا يجوز على الله تعالى ، لأن الأجسام لا يقدر على خلقها غير الله عز وجل ، وقال آخرون : بل الله أقدر الأئمة على ذلك وفوض إليهم فخلقوا ورزقوا ، وتنازعوا في ذلك نزاعاً شديداً ، فقال قائل : ما بالكم لا ترجعون إلى أبي جعفر محمد بن عثمان فتسألوه عن ذلك ليوضح لكم الحق فيه ، فإنه الطريق إلى صاحب الأمر ، فرضيت الجماعة بأبي جعفر وسلمت وأجابت إلى قوله ، فكتبوا المسألة وأنفذوها إليه ، فخرج إليهم من جهة توقيع ، نسخة :

إن الله تعالى هو الذي خلق الأجسام ، قسم الأرزاق لأنه ليس بجسم ولا حال في جسم ، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.

وأما الأئمة : ، فإنهم يسألون الله تعالى فيخلق ، ويسألونه فيرزق إيجابا لمسألتهم وإعظاماً لحقهم (4).

فهذه الرواية ناظرة إلى نفي التفويض بالمعنى المتعارف المستلزم لسلب القدرة عن الله تعالى الذي يقوله المفوضة ، ومما يدل على ذلك الرواية الآتية :

عن أبي نعيم محمد بن أحمد الأنصاري قال : وجه قوم من المفوضة والمقصرة كامل بن إبراهيم المدني إلى ابي محمد (عليه السلام) قال : كامل فقلت في نفسي أسأله لا يدخل الجنة إلا من عرف معرفتي وقال بمقالتي ، قال : فلما دخلت على سيدي أبي محمد نظرت إلى ثياب بيضاء ناعمة عليه ، قلت في نفسي ولي الله وحجته يلبس الناعم من الثياب بيضاء ناعمة عليه ، قلت في نفسي ولي الله وحجته بليس الناعم من الثياب ويأمرنا نحن بمواساة الإخوان وينهاناً عن لبس مثله فقال متبسماً : يا كامل وحسر عن ذراعيه ، فإذا مسح أسود خشن على جلده ، فقال : هذه لله وهذا لكم ، فسلمت جلست إلى باب عليه ستر مرخى فجاءت الريح فكشفت طرفه فإذا أنا بفتى كأنه فلقة قمر من أبناء أربع سنين أو مثلها ، فقال : لي يا كامل بن إبراهيم فاقشعررت من ذلك وألهمت أن قلت : لبيك يا سيدي فقال : جئت إلى ولي الله وحجته وبابه تسأله هل يدخل الجنة إلا من عرف معرفتك وقال بمقالتك فقلت أي والله قال إذن والله يقل داخلها ، والله إنه لدخلها قوم يقال لهم الحقيقة ، قلت يا سيدي ومن هم؟

قال قوم من حبهم لعلي يحلفون بحقه ولا يدرون ما حقه وفضله ، ثم سكت صلوات الله عليه عني ساعة ثم قال : وجئت تسأله عن مقالة المفوضة كذبوا بل قلوبنا أوعية لمشيئة الله فإذا شاء شئنا ، والله يقول : { وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان: 30] ثم رجع الستر إلى حالته فلم أستطع كشفه (5).

توضيح :

قوله (عليه السلام) : ( بل قلوبنا أوعية لمشيئة الله فإذا شاء شئنا ). يعني إن إرادتنا تابعة لإرادة الله في الأمور التكوينية ، فنحن يمكن أن نخلق ونرزق ونحيي ونميت ، لكن بإرادة الله وإذنه ، لا بدون إرادته منه ولا إذن ، ومن المعورف أن السؤال كان عن التفويض أمر الخلق والرزق وأشباه ذلك إليهم.

ومما ورد في دعاء الإمام الرضا (عليه السلام) : اللهم إني بريء من الحول والقوة ولا حول ولا قوة إلا بك ، الله إني أعوذ بك وأبرأ إليك من الذين ادعوا لنا ما ليس لنا بحق الله إني أبرأ إليك من الذين قالوا فينا ما لم نقله في أنفسنا ، الله لك الخلق ومنك الرزق وإياك نعبد وإياك نستعين ، الله أنت خالقنا وخالق آبائنا الأولين وآبائنا الآخرين ، اللهم لا تليق الربوبية إلا بك ولا تصلح الإلهية إلا لك ، فالعن النصارى الذين صفروا عظمتك والعن المضاهين لقولهم من بريتك.

اللهم إنا عبيدك وأبناء عبيدك لا نملك لأنفسنا نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً ، الله من زعم إنا أرباب فنحن منه براء ومن زعم أن إلينا الخلق وعلينا الرزق فنحن براء منه كبراءة عيسى ابن مريم (عليه السلام) من النصارى ، اللهم إنا لم ندعهم إلى ما يزعمون ، فلا تؤاخذنا بما يقولون واغفر لنا ما يدعون ولا تدع على الأرض منهم دياراً ، إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً (7).

العبارات المنضودة في كلام الإمام سلام الله عليه كلها صريحة ناطقة بعبوديتهم لله سبحانه وأن حولهم وقوتهم بالله ومن الله. ثم براءته (عليه السلام) ممن غالى فيهم او جعلهم يخلقون أو يرزقون ... ثم أكد (عليه السلام) مقام الربوبية والتي لا يستحقها إلى الله جل ثناؤه وعلى مقامه ...

أقول لا بد أن لا يتوهم القاريء عندما يطلع على الأخبار التي فيها معاجز أهل البيت كإحياء الميت على أيديهم وأمثاله ...

فقد اشرنا في ذلك أنه من باب الكرامة أو المعجزة أولاً. ثم إنه تجري تلك المعاجز والمناقب لإظهار مكانتهم عند الله ، وقد شرفهم سبحانه وأكرمهم باستجابة دعواتهم ثانياً.

وثالثاً : إن الذي يجري على أيديهم ليس من محض قدرتهم أو إرادتهم بل إنما هو بإشاءة ، فما شاء يشاؤون .. فهم الفاعلون الحقيقيون ، سواء كان إحياء أو إماتة ، لكن كل ذلك بإذن الله وحوله وقوته إرادته وإقداره ، لا أنهم مستقلون في ذلك بحيث لم يستمدوا قدرتهم من الله تعالى وهو لا يتمكن من ردعهم ومنعهم.

عن أبي بصير قال دخلت على أبي عبد الله وأبي جعفر (عليه السلام) وقلت لهما أنتما ورثة رسول الله (صلى الله عليه واله) قال نعم قلت فرسول الله وارث الأنبياء علم كلما علموا؟ فقال لي نعم ، فقلت أنتم تقدرون على أن تحيوا الموتى وتبرؤوا الأكمه والابرص؟ فقال لي نعم بإذن الله.

ثم قالوا ادنوا مني يا أبا محمد (7) فمسح يده على عيني ووجهي وأبصرت الشمس والسماء والأرض والبيوت وكل شيء في الدار قال : أتحب أن تكون هكذا ولك ما للناس وعليك ما عليهم يوم القيامة او تعود كما كنت ولك الجنة خالصاً قلت أعود كما كنت ، قال فمسح علي عيني فعدت كما كنت ، قال علي فحدثت به ابن أبي عمير فقال أشهد أن هذا حق كما أن النهار حق (8).

عن صالح بن ميثم الأسدي ، قال دخلت أنا وعباية بن ربعي على امرأة في بني والبة ، قد احترق وجهها من السجود ، فقال لها عباية يا حبابة هذا ابن أخيك قالت وأي أخ؟ قال صالح بن ميثم. قالت ابن أخي والله حقاً. ابن أخي ألا أحدثك حديثاً سمعته من الحسين بن علي (عليه السلام) قالت فحدث بين عيني وضح فشق ذلك علي واحتسبت عليه اياماً ، فسأل عني ، ما فعلت حبابة الوالبية؟ فقالوا إنها حدث بها حدث بين عينيها ، فقال لأصحابه : قوموا إليها فجاء مع أصحابه حتى دخل علي وأنا في مسجدي هذا فقال يا حبابة ما أبطأ بك علي؟ قلت يا بن رسول الله ، ماذا الذي منعني إن لم أكن اضطررت إلى المجيء إليك اضطراراً ، لكن حدث هذا بي قال فكشفت القناع فتفل عليه الحسين بن علي (عليه السلام) ، فقال : يا حبابة أحدثي لله شكراً فإن الله قد درئه عنك ، قال : فخررت ساجدة ، قالت : فقال يا حبابة ارفعي رأسك وانظري في مرآتك ، قال فرفعت رأسي فلم أحسن منه شيئاً فحمدت الله (9) ...

قول الإمام صريح جداً في هذا الحديث الذي يدلل أن هذه الكرامة التي ظهرت على يده المباركة إنما كانت من الله ( ... أحدثي لله شكراً فإن الله قد درئه عنك ... ) فالإمام لم يدعي هذه المنقبة هي بقدرته استقلالاً ولم ينسبها لنفسه بل قال إن الله قد درئه عنك ... فالإمام نسب هذا الفعل إلى الله تعالى لأنه هو الذي أعطاه القدرة على ذلك ، ولكن الفعل فعل الإمام (عليه السلام) ، وهو الذي عافاها ، لكن بإذن الله ، ومعلوم أن المرأة يجب أن تشكر الله سبحانه لأن الشفاء كان بإذنه ، وقد مر في رواية أبي بصير عن الإمام الصادق الباقر (عليه السلام) حيث قال : فقلت أنتم تقدرون على أن تحيوا الموتى وتبرؤوا الأكمه والأبرص؟ فقال نعم بإذن الله. وهذا الأذن لا في مقابلة وعرضه بل في طوله ، لأن العمل أسند إليهم.

دفع وهم :

لقد مر في رواية أبي بصير أن الأئمة : يحيون الموتى ويبرؤون الأكمه والأبرص فهو من عملهم لكن بإذن الله ، وفي رواية صالح بن ميثم الاسدي ذكرت أن كرامات الأئمة : كانت عمل الله بطلب الأئمة.

أقول قد يتصور القارئ أن بين الروايتين شيء من التعارض ، ولكن ليس كذلك ، بل إن كلتا الصورتين متحققة ، أي بعض الأوقاب يطلب الأئمة من الله فيجيب دعوتهم ، وبعض الأوقات هم يفعلون بإذن الله.

وكيفما كان فما يوافق رواية أبي بصير المتقدمة قوله تعالى على لسان عيسى : ( وابرأ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله ) ، وقوله تعالى : ( وتبريء الأكمه والأبرص وتحيي الموتى بإذني ).

حيث أسند الإحياء إلى عيسى إلا أنه لم يكن بمعزل من الإرادة الإلهية ، بل ربما الذي حصل هو بدعاء عيس حيث طلب من الله فأجاب دعوته. وبما أن الأئمة : أفضل من الأنبياء بني إسرائيل فبطريق أولى ، فإذا ثبت الإحياء والإبراء إلى عيسى بنص القرآن فيثبت للأئمة بطريق الأولوية. فكل ما يجاب عنه بالنسبة إلى عيسى يجاب بالنسبة إلى الأئمة وبالتالي يرتفع الإشكال.

أما التفويض في الدين والسياسة والأحكام ... بالمنظار الضيق أو المعنى الأخص مما لا شك في ثبوته للأئمة المعصومين الذين ورثوا هذا الحق من النبي (صلى الله عليه واله) ، وكما ستعرف أن هذا القسم يراد به تشريع بعض الأحكام التي تركها الله سبحانه لنبيه ليعلم من يطع الرسول ومن يعصيه ، وهذا قد كان سبق في علم الله ، إلا أن الرسول لم يكن ليطلع على هؤلاء ، فوكل إليه هذا المقدار من التشريع حتى يكون على بينة من أمر أصحابه بصورة خاصة والمسلمين بصورة عامة. 

التفويض للرسول والأخبار في ذلك :

لابد من القول بأن معرفة النبي ومنزلته عند الله أمر مهم في غاية الأهمية ، وهذا المعرفة سوف تكون الفصيل لفهم الأخبار والأحاديث الواردة في هذا الباب فمن كرامة الله لنبيه (صلى الله عليه واله) أمضى منته في أمته والتي أصبحت لزاماً على المسلمين اتباعها فأنزلها الله منزلة التشريع من حيث الوجوب في الأمر والنهي والعلة في هذا الإمضاء ، لينظر كيف طاعة المسلمين لنبيهم وإخلاصهم له.

عن الكليني بإسناده عن أبي إسحاق النحوي قال : دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) فسمعته يقول : إن الله عز وجل إدب نبيه على على محبته فقال {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ } [القلم: 4] ، ثم فوض إليه فقال عز وجل : {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } [الحشر: 7] وقال عز وجل : {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80] ، قال : ثم قال وإن نبي الله فوض إلى علي وائتمنه فسلمتم وحجد الناس فو الله لنحيكم أن تقولوا إذا قلنا وأن تصمتوا إذا صمتنا ونحن فيما بينكم وبين الله عز وجل ، ما جعل الله لأحد خيراً في خلاف أمرنا (10).

وعنه بإسناده عن زرارة قال : سمعت أبا جعفر وأبا عبد الله : يقولان : إن الله عز وجل فوض إلى نبيه أمر خلقه (11) لينظر كيف كاعته ثم تلا هذه الآية : {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] (12).

وعنه أيضاً بإسناده عن زيد الشحام قال سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) في قوله تعالى : {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [ص: 39] قال أعطى سليمان ملكاً عظيما ثم جرت هذه الآية في رسول الله (صلى الله عليه واله) فكان له أن يعطي ما شاء ويمنع من شاء ، وأعطاه الله أفضل مما أعطى سليمان لقوله : {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7](13).

عن محمد بن الحسين الصفار بإسناده عن أبي أسامة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : إن الله خلق محمداً (صلى الله عليه واله) عبداً فأدبه حتى إذا بلغ أربعين سنة أوحى إليه وفوض إليه الأشياء فقال : {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7](14).

وعنه بإسناده عن إسماعيل بن عبد العزيز قال : قال لي جعفر بن محمد أن رسول الله (صلى الله عليه واله) كان يفوض إليه أن الله تبارك وتعالى فوض إلى سليمان ملكه فقال هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب ، أن الله الله فوض إلى محمد نبيه فقال : {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}  فقال رجل إنما كان رسول الله (صلى الله عليه واله) مفوضاً إليه في الزرع والضرع. فلوى جعفر عنه عنقه مغضباً فقال في كل شيء والله في كل شيء (15).

وعنه بإسناده عن أبي حمزة الثمالي قال : قرأت هذه الآية إلى أبي جعفر {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 128] قول الله تعالى لنبيه وأنا أريد أن أسأله عنها فقال أبو جعفر (عليه السلام) : بل وشيء يشيء مرتين وكيف لا يكون له من الأمر شيء فقد فوض الله إليه دينه فقال: ( وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) فما أحل رسول الله (صلى الله عليه واله) فهو حلال وما حرم فهو حرام (16).

عن محمد بن سنان قال : كنت عند أبي جعفر (عليه السلام) فذكرت اختلاف الشيعة فقال إن الله لم يزل فرداً متفرداً في الوحدانية ثم خلق محمداً وعلياً وفاطمة عليهم السلام فمكثوا ألف دهر ثم خلق الأنبياء وأشهدهم خلقها وأجرى عليها طاعتهم وجعل فيهم ما شاء ، وفوض أمر الأشياء إليهم في الحكم والتصرف والإرشاد والأمر والنهي في الخلق ، لأنهم الولاة فلهم الأمر والولاية والهداية فهم أبوابه ونوابه وحجابه يحللون ما يشاء ويحرمون ما شاء ولا يفعلون إلا ما شاء عباد مكرمون لا يسبقون بالقول وهم بأمره يعملون.

فهذه الديانة التي من تقدمها غرق في بحر الإفراط ومن نقصهم عن هذه المراتب التي رتبهم الله فيها زهق في بر التفريط ، ولم يوف آل محمد حقهم فيما يجب على المؤمن من معرفتهم ثم قال: خذها يا محمد فإنها من مخزون العلم ومكنونه (17).

هذه الأخبار وغيرها قد وصلت في الشهرة حد التواتر ، وكلها قائلة بالتفويض للرسول في أمر الدين ، وستعرف بعد قليل إن شاء الله ما هو حدود هذا التفويض.

حق التشريع :

التشريع مظهر من مظاهر الخير ، يعطي للإنسان كياناً خاصاً وحياة فاضلة من تنسيق الشارع لعلاقات الفرد الواحد مع الآخرين وصياغة مجتمع مثالي يقوم على أسس العدالة والمساواة وحفظ التوازن ومراعاة المصالح العام زماناً ومكاناً.

ولما كان مصدر الوجود والخير هو الله سبحانه وتعالى ، وهو الذي أبدع صنع الإنسان وباقي الموجودات ، فسبحانه خلق فسوى ، وقدر فهدى ، وهو الذي سخر كل ما في الوجود لهذا الإنسان الذي خلقه في أحسن تقويم.

فسبحانه هو المنعم الحقيقي وهو المصدر المطلق للوجود والحياة ، وإذا سلمنا بهذا عرفنا أن جميع الأسرار الموعودة في هذه الموجودات لا يعلمها غيره ولا يستطيع أن ينظمها أحد إلا هو ، فهو عالم الغيب والشهادة وهو العزيز الحكيم القادر البارئ المصور.

ولما كانت الحياة لا يمكن التمتع بها على وجه الأمن والاستقرار والاطمئنان إلا بشريعة أو نظام ، يحدد الواجبات والمصالح بين الأفراد ، فقد حدث أن توالت نعم الباري على العباد ، وذلك بإنزال الشرائع وبعث الرسول على مر الأزمان إذا لا يعدو الشك في قولنا بأن المشرع الأول هو الله سبحانه ، لأنه المنعم الأول وواهب الحياة ومصدر الوجود ، وعلى هذا استحق الباري حق الطاعة.

ثم للإنعام مصاديق متواجدة بين البشر أنفسهم إذ أحدهم ينعم على الآخر فيستحق الشكر أو بعضهم يملك حق الطاعة كالأب ، والسيد ومولاه ، والحاكم ، والزوج ... إلخ.

وهذه المصاديق كلما اختلفت في رتبة الإنعام ، اختلفت في مقدار الطاعة فكلما كان المنعم في رتبة أعلى من الإحسان ، وجبت له رتبة من الطاعة تساوي درجة الإنعام. إلا أن كل هذه الرتب والدرجات من الطاعة لا يمكن مقايستها مع درجة الطاعة المطلقة للمنعم المطلق وهو الله سبحانه.

فما يستحقه الإنسان من شكر وطاعة إنما هو محدود في دائرة ذلك الإحسان أما إطاعة الله تعالى لا بد أن تكون في كل آن تتجدد بإظهار الشكر الحقيقي الخالص للمولى وبما أن نعمه غير محدودة ومواهبه لا تعد ولا تحصى ، فلا بد إذا من إذعان له كما يجب ويريد في أوامره ونواهيه والتزام أحكامه.

قال تعالى : {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44] ، وقال تعالى : {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [يوسف: 40] ، وقال تعالى : {أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ } [الأنعام: 62] ، وقال تعالى : {لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص: 70].

بعدما عرفنا المصدر الأساسي للتشريع هو الله سبحانه ، علينا أن نسأل وهل لغير الله حق في التشريع؟

هذا ما اختلف عليه فقهاء المسلمين فمنهم من جوز ومنهم من منع ذلك.

إلا أن من بين الأحاديث والروايات نجد سبحانه وتعالى أعطى نبيه محمد (صلى الله عليه واله) صلاحية التشريع والذي هو أساس بحثنا الذي صدرنا عنوانه بالتفويض فالذي أجاز التشريع بغير الله استدل بالآية الكريمة : {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7].

وهذا ما ذهبت إليه الإمامية الإثنا عشرية إذ جوزت للرسول (صلى الله عليه واله) سلم أن يشرع للأمة ما ينظم مصالحها ، وهذه هي السنة التي جاءت مكملة للشريعة السمحاء ، وتابع الرسول في هذا الحق الأئمة المعصومين .

أما بقية المذاهب الإسلامية فقد أنكرت ذلك على الشيعة الإمامية ، إلا أنها لم تنكر ما للحكام وأولي الأمر ـ على مذاقهم في التفسير ـ من حق التصرف والتشريع وتعطيل الحدود ، إذ له صلاحية كبرى في التقنين ، بل وجعلوا لذلك قدسية وشرافة ، والالتزام به واجب ، وإن كان يعارض النصوص القرآنية.

وهذا ما حدث في زمن الخليفة الأول إذ منع الزهراء من إرثها ، وقد خالف بحكمه هذا نصوص القرآن ، وقد استدل بما ينسب للرسول قوله : ( نحن معاشر الأنبياء لا نورث ) وفي رواية لا نورث ما تركناه صدقة (18) على أن هذا لم يثبت صدوره من النبي (صلى الله عليه واله) كما أن الذي رواه فقط أبو بكر ، وقد احتجت الزهراء سلام الله عليها بنصوص من الذكر الحكيم كاد أن يقنع بها أبو بكر لولا نهي عمر بن الخطاب له.

ثم خالف عمر بن الخطاب نصوص القرآن بتحريمه متعة الحج ومتعة النساء ، فقال : كانتا متعتان على عهد رسول الله وأنا أنهي عنهما وأعاقب عليها ؛ أحدهما متعة النساء ولا أقدر على رجل تزوج إمرأة إلى أجل إلا غيبته بالحجارة والأخرى متعتة الحج افصلوا حجكم من عمرتكم (19) فإنه أتم لحجكم وأتم لعمرتكم.

وهذا التحريم هو الآخر مخالف لنصوص القرآن الكريم. ثم لم يجر الحد على خالد بن الوليد لما قتل مالك بن نويره ودخل بزوجته من ليلته ، فأي تعطيل للحدود ولحكم الله بعد هذا وأي مخالفة وراء هذا ... وهناك عشرات بل المئات من تلك المواقف التي خالفت النصوص القلرآنية ناهيك عن مخالفتها لسنة الرسول صلى الله عليه واله . 

مصاديق من تشريع الرسول (صلى الله عليه واله) :

لقد سبق الاستدلال بالقرآن والسنة على جواز ممارسة الرسول لحق التشريع وقد تبين هذا في موضوع التفويض ، وسنذكر هنا مصاديق لتشريع الرسول فمن تلك المصاديق :

1 ـ إنه حرم النبيذ وكل مسكر ، وقد أمضاه الله له ذلك.

2 ـ إنه شرع في الصلاة الركعتين الأخيرتين للرباعية وللمغرب بركعة ثالثة ، وقد أسقط الركعتين في السفر ولم يسقط الركعة الثالثة من صلاة المغرب فأجازه الله له ذلك.

3 ـ أمر الله فرائض الصلب ، وفرض رسول الله للجد السدس فأمضاه الله له ذلك.

4 ـ حرم الله مكة ، وحرم رسول الله المدينة ، فأجازه الله له ذلك.

5 ـ وضع الرسول (صلى الله عليه واله) دية العين ، ودية النفس ودية الأنف.

6 ـ فرض الله صوم شهر رمضان ، وسن الرسول صوم شعبان وثلاثة أيام من كل شهر.

7 ـ ولما صارت الفرائض الخمسة -17- سبعة عشر ركعة سن الرسول مثلي الفريضة وهي النوافل أربعاً وثلاثين ركعة ، فأجازه الله له ذلك...

8 ـ أنزل الله الصلاة ، والرسول وقت أوقاتها فأجازه الله له ذلك.

مع النصوص :

عن محمد بن عبد الحسن الصفار بإسناده عن القاسم بن محمد قال : إن الله أدب نبيه فأحسن تأديبه فقال : خذ العفو وامر بالمعروف واعرض عن الجاهلين ، فلما كان ذلك أنزل الله وإنك لعلى خلق عظيم ، وفوض إليه أمر دينه وقال : ما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ، فحرم الله الخمر بعينها وحرم رسول الله (صلى الله عليه واله) كل مسكر فأجازه الله ذلك ، وكان يضمن على الله الجنة فيجيز الله ذلك له وذكر الفرائض فلم يذكر الجد فأطعمه رسول الله صلى الله عليه واله سهماً فأجازه الله ذلك ولم يفوض إلى أحد من الأنبياء غيره (20).

محمد بن الحسن الصفار بإسناده عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : قلت له كيف كان يصنع أمير المؤمنين بشارب الخمر؟ قال : كان يحده ، قلت فإن عاد قال يحده ثلاث مرات فإن عاد كان يقتله ، قلت فمن شرب الخمر كما شرب المسكر قال سواء فاستعظمت ذلك. فقال لا تستعظم ذلك إن الله لما أدب نبيه انتدب ففوض إليه وأن الله حرم مكة وأن الرسول حرم المدينة فاجاز الله له ذلك وأن الله حرم الخمر وأن رسول الله حرم المسكر فأجاز الله ذلك له ثم قال حرف وما حرف من يطع الرسول فقد أطاع الله (21).

عن محمد بن الحسن الصفار بإسناده عن زرارة قال : سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن أشياء من الصلاة والديات والفرائض وأشياء من أشباه هذا ، فقال : إن الله فوض إلى نبيه صلى الله عليه واله.

عن محمد بن يعقوب الكليني بإسناده عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : وضع رسول الله (صلى الله عليه واله) دية العين ودية النفس وحرم النبيذ وكل مسكر ، فقال له رجل : وضع رسول الله (صلى الله عليه واله) من غير أن يكون جاء فيه شيء؟ قال : نعم ليعلم من يطع الرسول ممن يعصيه (22).

الكليني بإسناده عن فضيل بن يسار قال : سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول لبعض أصحاب قيس الماصر : إن الله عز وجل أدب نبيه فأحسن أدبه فلما أكمل له الأدب قال : {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] ثم فوض إليه أمر الدين والأمة ليسوس عباده ، فقال عز وجل : {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] وأن رسول الله كان مسدداً موفقاً مؤيداً بروح القدس ، لا يزل ولا يخطيء في شيء مما يسوس به الخلق ، فتأدب بآداب الله ، ثم إن الله عز وجل فرض الصلاة ركعتين ، ركعتين عشر ركعات ، فأضاف رسول الله (صلى الله عليه واله) إلى الركعتين ركعتين وإلى المغرب ركعة فصارت عديل الفريضة لا يجوز تركهن إلا في سفر وأفرد الركعة في المفرد فتركها قائمة في السفر والحضر فأجاز الله عز وجل له ذلك كله ، فصارت الفريضة سبع عشرة ركعة ، ثم سن رسول الله (صلى الله عليه واله) النوافل أربعاً وثلاثين ركعة مثلي الفريضة فأجاز الله عز وجل له ذلك والفريضة والنافلة إحدى وخمسين ركعة منها ركعتان بعد العتمة جالساً تعد بركعة مكان الوتر وفرض الله في السنة صوم شهر رمضان وسن رسول الله صلى الله (صلى الله عليه واله) صوم شعبان وثلاثة أيام في كل شهر مثلي الفريضة ، فأجاز الله عز وجل له ذلك.

وحرم الله عز وجل الخمر بعينها وحرم رسول الله (صلى الله عليه واله) المسكر في كل شراب فاجاز الله له ذلك كله وعاف رسول الله (صلى الله عليه واله) أشياء وكرهها ولم ينه عنها نهي حرام إنما نهى عنها نهى إعانة وكراهة ، ثم رخص فصار الأخذ برخصة واجباً على العباد كوجوب ما يأخذون بنهيه وعزائمه ولم يرخص لهم رسول الله (صلى الله عليه واله) فيما نهاهم عنه نهي حرام ، لم يرخص فيه لأحد ولم ، يرخص رسول الله (صلى الله عليه واله) لأحد تقصير الركعتين اللتين ضمهما إلى ما فرض الله عز وجل ، بل ألزمهم ذلك إلزاماً واجباً ، لم يرخص لأحد في شيء من ذلك إلا للمسافر ليس لأحد أن يرخص شيئاً ما لم يرخصه رسول الله (صلى الله عليه واله) فوافق أمر رسول الله (صلى الله عليه واله) أمر الله عز وجل ونهيه نهي الله عز وجل ووجب على العباد التسليم له كالتسليم لله تبارك وتعالى (23).

محمد بن الحسن الصفار بإسناده عن إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : إن الله أدب نبيه حتى إذا أقامه على ما أراد قال له وأمر بالمعروف وأعرض عن الجاهلين ، فلما فعل ذلك له رسول الله (صلى الله عليه واله) زكاه الله فقال إنك لعلى خلق عظيم ، فلما زكاه فوض إليه دينه فقال ما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ، فحرم الله الخمر وحرم رسول الله (صلى الله عليه واله) كل مسكر فأجاز الله له ذلك كله وأن الله أنزل الصلاة وأن رسول الله صلى الله عليه واله وقت أوقاتها فأجاز الله ذلك له (24).

وعن محمد بن الحسن الصفار بإسناده عن أبي حمزة الثمالي قال : سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول من أحللنا له شيئاً أصابه من أعمال الظالمين فهو له حلال لأن الأئمة منا مفوض إليهم فما أحلوا فهو حلال وما حرموا فهو حرام (25).

وعن الصفار بإسناده عن أبي إسحاق عن أبي عبد الله (عليه السلام) يقول : إن الله أدب نبيه على محبته فقال إنك لعلى خلق عظيم ثم فوض إليه فقال ما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ، وقال من يطيع الرسول (صلى الله عليه واله) فقد أطاع الله ، قال : ثم قال وإن نبي الله فوض إلى علي (عليه السلام) وائتمنه فسلمتم وجحد الناس ، والله لحسبكم أن تقولوا إذا قلنا وتصمتوا إذا صمتنا ونحن فيما بينكم وبين الله فما جعل الله لأحد من خير في خلاف أمرنا (26).

وفي رواية على بن فضال عن عاصم عن النحوي عن أبي عبد الله ... قال أن رسول الله (صلى الله عليه واله) فوض إلى علي بن ابي طالب وائتمنه (27).

عن زكريا الزجاجي ، عن الباقر (عليه السلام) كان يذكر علياً فقال : كان فيما ولي بمنزلة سليمان بن داود قال الله تعالى {امْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ص: 39] (28).

محمد بن الحسن الصفار بإسناده عن رفيد مولى ابن هبيرة ، قال أبو عبد الله (عليه السلام) : إذا رأيت القائم أعطى رجلاً مائة ألف وأعطى آخر درهماً فلا يكبر في صدرك وفي رواية أخرى فلا يكبر ذلك في صدرك فإن الأمر مفوض إليه (29).

أقول الرواية وإن كانت في تقسيم المال إلا أن هذا التصرف يدخل في ضمن تفويض الأحكام. وعن الصفار أيضاً قال : وما وجدت في نوادر محمد بن سنان قال : قال أبو عبد الله (عليه السلام) لا والله ما فوض الله إلى أحد من خلقه إلا إلى رسول الله (صلى الله عليه واله) وإلى الأئمة : فقال {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء: 105] وصي اراك الله وهي جارية في الأوصياء (30).

وعن الصفار بإسناده عن عبد الله بن سليمان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : سألته عن الإمام فوض الله إليه كما فوض إلى سليمان؟ فقال : نعم وذلك أن رجلاً سأله عن مسألة فأجابه فيها سأله آخر عن تلك المسألة فأجابه بغير جواب الأول ثم سأله آخر فأجابه بغير جواب الأولين (31) ، ثم قال {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ص: 39] وهكذا هي في قراءة علي قال : قلت أصلحك الله فحين اجابهم بهذا الجواب يعرفهم الإمام ، فقال سبحان الله أما تسمع الله يقول في كتابه {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر: 75] وهم الأئمة {وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ} [الحجر: 76] لا يخرج منها أبداً ، ثم قال نعم إن الإمام إذا نظر إلى الرجل عرفه وعرف لونه وإن سمع كلامه من خلف حائط عرفه وعرف ما هو إن الله يقول {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ} [الروم: 22] فهم العلماء وليس يسمع شيئاً من الألسن تنطق إلا عرفه ناج أو هالك فلذلك يجيبهم بالذي يجيبهم به (32).

رفع إشكال :

رب سائل يقول إن الرواية لا تدل على تفويض الأحكام والتشريع ، وإنما تدل على علم الإمام بموضوعات الأحكام ، وأن الشخص الفلاني موضوع للحكم الفلاني ، والآخر موضوع لحكم آخر ، وإن كانا متشابهين في الخصوصيات ، كما لو سئل المفتي ماذا يصنع المسافر؟ فيقول يقصر ، ثم يسأل ماذا يصنع المسافر الآخر؟ فيقول يقصر ، ثم يسأل ماذا يصنع المسافر الآخر؟ فيقول يتم ، لأنه يعلم أن الثاني قد أقام عشرة أيام.

أقول ويدفع هذا الإشكال صريح العبارة : قال ـ عبد الله بن سليمان ـ سألته عن الإمام فوض إليه كما فوض إلى سليمان؟

فقال ـ الإمام ـ نعم.

وأن سليمان نبي من الأنبياء وقد عرفنا في الصفحات السابقة أن الرسول (صلى الله عليه واله) ؛ وهو كنموذج لأحد الأنبياء ، قد فوض إليه التشريع ـ هذا من جانب ـ وقد دلت آيات عديدة في إثبات حق التشريع لسليمان (عليه السلام) ـ هذا من جانب آخر ـ منها سن العقوبة ؛ وذلك لما رأى الهدهد غائباً. وحتماً إن تلك العقوبة كانت بحق ، وإلا يكون عمله (عليه السلام) جوراً ، والجور قبيح بحد ذاته فكيف لو صدر من نبي؟!

إذاً قول الإمام الصادق (عليه السلام) : نعم ، يستشف منه أن الإمام فوض إليه في التشريع والأحكام كما فوض إلى سليمان ... والله العالم.

دور الأئمة في التشريع والتفويض إليهم :

أشرنا إلى أن كلمة ( أولي الأمر منكم ) في الآية الكريمة : {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ } [النساء: 59] المعني بها هم الأئمة المعصومون (عليهم السلام). قد دلت الروايات المتواترة على أن التفويض الذي كان للنبي قد ثبت للإمام علي (عليه السلام) ولولده من بعده نذكر طرفاً من تلك الأحاديث والروايات حتى يتبين لنا دور الأئمة في التشريع.

الكليني بإسناده عن موسى بن اشيم قال : كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) فساله رجل عن آية من كتاب عز وجل فاخبره به ثم دخل عليه داخل فسأله عن تلك الآية فإخبره بخلاف ما أخبر به الأول ، فدخلني في ذلك ما شاء عن تلك الآية فأخبره بخلاف ما أخبر به الأول ، فدخلني في ذلك ما شاء الله حتى كان قلبي يشرح بالسكاكين فقلت في نفسي : تركت أبا قتادة بالشام لا يخطئ في الواو وشبهه وجئت إلى هذا يخطئ هذا الخطأ كله ن فبينا أنا كذلك إذ دخل عليه آخر فسأله عن تلك الآية فأخبره بخلاف ما أخبرني وأخبر صاحبي ، فسكنت نفسي فعلمت أن ذلك من تقية ، قال : ثم التفت إلي فقال لي : يا ابن اشيم إن الله عز وجل فوض إلى سليمان بن داود فقال : {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [ص: 39] وفوض إلى نبيه (صلى الله عليه واله) فقال : {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] فما فوض إلى رسول الله (صلى الله عليه واله) فقد فوضه إلينا (33).

وفي رواية الصفار فإن الله تبارك وتعالى فوض إلى الأئمة منا وإلينا ما فوض إلى محمد (صلى الله عليه واله) فلا تجزع (34).

معرفة الإمام ومنزلته :

هذه الأحاديث وما ضارعها في المعنى تنص على أن خصوصية التفويض التي كانت للرسول كانت للأئمة : وأنها توارثها منه : فالتفويض لهم أحد الأسرار التي أودعها الله سبحانه فيهم لكرامتهم على الله وعلو منزلتهم فهم عباد مكرمون.

عن الصفار بإسناده عن أبي الجارود عن أبي جعفر قال : إن رسول الله (صلى الله عليه واله) دعا علياً (عليه السلام) في المرض الذي توفى فيه ، فقال يا علي ادن مني حتى أسر إليك ما أسر الله إلى وأئتمنك على ما ائتمنني الله عليه ففعل ذلك رسول الله (صلى الله عليه واله) بعلي (عليه السلام) وفعله علي بالحسن (عليه السلام) وفعله الحسن بالحسين (عليه السلام) وفعله الحسين (عليه السلام) بأبي وفعله أبي بي صلوات الله عليهم أجمعين (35). أقول لو علمن منزلة الإمام المعصوم عند الله سبحانه وما يمتلك من صفات وميزات وقدرات انطلاقاً من الواقع الإيماني الذي هم عليه ومعرفتهم بالله وعبوديتهم له وطاعتهم الخالصة ... لو علمنا ذلك حقاً لهان الخطاب ولأرتفع الشك والأصبح كل ما قيل في حقهم قليل بعد تنزيههم عن الربوبية والنبوة (36).

ولمعرفة الإمام ومنزلته نذكر الخبر المروي عن عبد العزيز بن مسلم عن الرضا (عليه السلام) حيث قال : كنا مع الرضا (عليه السلام) بمرو فاجتمعنا في الجامع يوم الجمعة في بدء مقدمنا فأداروا أمر الإمامة وذكروا كثرة اختلاف الناس فيها ، فدخلت على سيدي (عليه السلام) فأعلمته خوض الناس فيه ، فتبسم (عليه السلام) ثم قال : يا عبد العزيز جهل القوم وخدعوا عن آرائهم ، إن الله عز وجل لم يقبض نبيه (صلى الله عليه واله) حتى أكمل له الدين وأنزل عليه القرآن فيه تبيان كل شيء ، بين فيه الحلال والحرام ، والحدود والأحكام ، وجميع ما يحتاج إليه الناس كملاً ، فقال عز وجل : {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38] وأنزل في حجة الوداع وهي آخر حجة كانت له (صلى الله عليه واله): { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا } [المائدة: 3] وأمر الإمامة من تمام الدين ، ولم يمض (صلى الله عليه واله) حتى بين لامته معالم دينهم وأوضح لهم سبيلهم وتركهم على قصد سبيل الحق وأقام لهم علياً (عليه السلام) علماً وإماماً وما ترك لهم شيئاً يحتاج إليه الا بينه ، فمن زعم أن الله عز وجل لم يكمل دينه فقد رد كتاب الله ومن رد كتاب الله فهو كافر به.

هل يعرفون قدر الإمامة ومحلها من الأمة فيجوز فيها اختيارهم ، إن الإمامة أجل قدراً وأعظم شأناً وأعلا مكاناً وأمنع جانباً وأبعد غوراً من أن يبلغها الناس بعقولهم أو ينالوها بآرائهم أو يقيموا إماماً باختيارهم إن الإمامة خص الله عز وجل بها إبراهيم الخليل (عليه السلام) بعد النبوة والخلة مرتبة ثالثة ، وفضلية شرفه بها وأشاد بها ذكره ، فقال : {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقرة: 124] فقال الخليل (عليه السلام) سروراً بها : {وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} [البقرة: 124] قال الله تبارك وتعالى : {لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: 124] فأبطلت هذه الآية إمامة كل ظالم إلى يوم القيامة وصارت في الصفوة الطاهرة فقال : {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ*وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} [الأنبياء: 72، 73]

فلم تزل في ذريته يرثها بعض ، قرناً فقرناً حتى ورثها الله تعالى النبي (صلى الله عليه واله) فقال جل شأنه : {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 68] فكانت له خاصة فقلدها (صلى الله عليه واله) علياً (عليه السلام) بأمر الله تعالى على رسم ما فرض الله فصارت في ذريته الأصفياء الذين آتاهم الله العلم والإيمان بقوله تعالى : {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ} [الروم: 56] فهي في ولد علي (عليه السلام) خاصة إلى يوم القيامة ، إذ لا نبي بعد محمد (صلى الله عليه واله) خاصة إلى يوم القيامة ، إذ لا نبي بعد محمد (صلى الله عليه واله) فمن اين يختار هؤلاء الجهال.

إن الإمامة هي منزلة الأنبياء وإرث الأوصياء ، إن الإمامة خلافة الله وخلافة الرسول (صلى الله عليه واله) ومقام أمير المؤمنين (عليه السلام) وميراث الحسن والحسين .

إن الآمامة زمام الدين ونظام المسلمين وصلاح الدنيا وعز المؤمنين ، إن الإمامة الإسلام النامي وفرعه السامي ، بالإمامة تمام الصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد ، وتوفير الفيء والصدقات ، وإمضاء الحدود والأحكام ومنع الثغور والأطراف.

الإمام يحل حلال الله ويحرم حرام الله ، ويقيم حدود الله ، ويذب عن دين الله ويدعوا إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة والحجة البالغة ، الإمام كالشمس الطالعة المجللة بنورها للعالم وهي في الأفق بحيث لا تنالها الأيدي والأبصار.

الإمام البدر المنير والسراج الزاهر والنور الساطع ، والنجم الهادي في غياهب الدجى وأجواز البلدان والقفار ، ولجج البحار ، الإمام الماء العذب على الظلماء والدال في المهالك ، من فارقه فهالك ، الإمام السحاب الماطر ، والغيث الهاطل والشمس المضيئة ، والسماء الظليلة والارض البسيطة ، والعين الغريرة والروضة.

الإمام الأنيس الرفيق والوالد الشفيق ، والأخ الشقيق ، والأم البرة بالولد الصغير ومفرع العباد في الداهية النآد ، الإمام أمين الله في خلقه ، وحجته على عباده وخليفته في بلاده ، والداعي إلى الله ، والذاب عن حرم الله.

الإمام المطهر من الذنوب والمبرأ عن العيوب ، والمخصوص بالعلم ، الموسوم بالحلم ، نظام الدين وعز المسلمين وغيظ المنافقين وبوار الكافرين.

الإمام واحد دهره ، لا يدانيه ، ولا يعادله عالم ، ولا يوجد منه بدل ولا له مثيل ولا نظير ، مخصوص بالفضل كله من غير طلب منه له ولا اكتساب ، بل اختصاص من المفضل الوهاب.

فمن ذا الذي يبلغ معرفة الإمام. أو يمكنه اختياره ، هيهات هيهات ضلت العقول ، وتاهت الحلوم ، وحارت الألباب ، وخسئت العيون ، وتصاغرت العظماء وتجبرت الحكماء ، وتقاصرت الحكماء ، وحصرت الخطباء ، وجهلت الألباء ، وكلت الشعراء وعجزت الأدباء ، وعييت البلغاء ، عن وصف شأن من شأنه ، أو فضيلة من فضائله وأقرت بالعجز والتقصير ، وكيف يوصف بكله أو ينعت بكنهه ، أو يفهم شيء من أمره أو يوجد من يقوم مقامه ويغني غناه لا كيف وأنى؟ هو بحيث النجم من يد المتناولين ووصف الواصفين ، فأين الاختيار من هذا؟ وأين العقول عن هذا؟ وأين يوجد مثل هذا؟!

أتظنون أن ذلك يوجد في غير آل محمد (صلى الله عليه واله) كذبتهم والله أنفسهم ومنتهم الأباطيل فارتقوا مرتقاً صعباً دحضاً ، تزل عنده إلى الحضيض أقدامهم راموا إقامة الإمام بعقول حائرة ناقصة ، وآراء مضلة ، فلم يزدادوا منه إلا بعداً ( قاتلهم الله أنى يؤفكون ) ولقد راموا صعباً ، وقالوا إفكاً وضلوا ضلالاً بعيداً ، ووقعوا في الحيرة ، إذ تركوا الإمام عن بصيرة ، وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مبصرين.

رغبوا عن اختيار الله واختيار رسول الله (صلى الله عليه واله) وأهل بيته إلى اختيارهم والقرآن يناديهم : {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [القصص: 68] وقال عز وجل : {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36] وقال : {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ * إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ * أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ * سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ * أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} [القلم: 36 - 41] وقال عز وجل : { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا } [محمد: 24] أم {وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ } [التوبة: 87] أم {قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ * إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال: 21 - 23] أم {قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} [البقرة: 93] بل هو فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.

فكيف لهم باختيار الإمام؟! والإمام عالم لا يجهل ، وراع لا ينكل ، معدن القدس والطهارة ، والنسك والزهادة ، لا مغمز فيه في نسب ، ولا يدانيه ذو حسب ، في البيت من قريش والذروة من هاشم ، والعترة من الرسول (صلى الله عليه واله) والرضا من الله عز وجل شرف الأشراف ، والفرع من عبد مناف ، نامي العلم كامل الحلم ، مضطلع بالإمامة عالم بالسياسة ، ومفروض الطاعة ، قائم بأمر الله عز وجل ، ناصح لعباد الله حافظ لدين الله.

إن الانبياء والأئمة صلوات الله عليهم يوفقهم الله ويؤتيهم من مخزون علمه وحكمته ما لا يأتيه غيرهم ، فيكون علمهم فوق علم أهل الزمان في قوله تعالى : {أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [يونس: 35] وقوله في طالوت : {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 247] وقال لنبيه صلى الله عليه واله : {أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا } [النساء: 113] وقال في الائمة من أهل بيت نبيه وعترته وذريته صلوات الله عليهم { أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا * فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا} [النساء: 54، 55].

إن العبد إذا اختاره الله عز وجل لأمور عباده ، شرح صدره لذلك ، وأودع قلبه ينابيع الحكمة وألهمه العلم إلهاماً ، فلم يع عبده بجواب ، ولا يحيد فيه عن الصواب ، فهو معصوم ، مؤيد ، موفق مسدد ، قد أمن من الخطايا والزلل والعثار يخصه الله بذلك ليكون حجته على عباده ، وشاهده على خلقه ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ذو الفضل العظيم.

فهل يقدرون على مثل هذا فيختارونه أو يكون مختارهم بهذه الصفة فيقدمونه تعدوا ـ وبيت الله ـ الحق ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم فذمهم الله ومقتهم وأتعسهم فقال جل وعلا : {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص: 50] وقال : {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} [غافر: 35] وصلى الله على النبي محمد وآله وسلم تسلمياً كثيراً (37).

الحديث الشريف المتقدم عن الإمام الرضا (عليه السلام) يحتوي على مضامين عالية واستدلالات قوية ، وبراهين قاطعة وحجج متينة كلها مستمدة من القرآن الكريم ونستطيع أن نقف على أهم النقاط التي ذكرها الإمام سلام الله عليه في معرض حديثه مع عبد العزيز بن مسلم ، منها أنه تطرق (عليه السلام) إلى :

1 ـ بيان جهل الناس في أمر الإمامة.

2 ـ بيان إكمال الدين وتبيان كل شيء ، وإن الله لم يقبض رسوله (صلى الله عليه واله) إلا بعدما أنجز كل ما يحتاجه المسلمون من تشريع.

3 ـ بيان دور الرسول في توضيح الرسالة ، ولم يرحل من هذه الدنيا حتى وضح للمسلمين ما غمض عليهم والتبس...

4 ـ إن الإمامة منصب إلهي وتخصيص من الله لذوات معنية.

5 ـ إن الظالم لا ينال منصب الإمامة.

6 ـ إن الإمامة في ذرية إبراهيم يتوارثونها ، وقد ورثها الرسول (صلى الله عليه واله) من آبائه وأجداده من إبراهيم.

7 ـ إن الإمامة انتقلت إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) ثم صارت في ولده.

8 ـ تعريف الإمامة وإنها امتداد لخلافة الأنبياء.

9 ـ مهمة الإمام ودوره في الحفاظ على ما شرعه الله من الحلال والحرام.

10 ـ صفة الإمام.

11 ـ الشروط اللازمة توفرها في الإمام.

12 ـ إن الناس لا يمكن لهم الإحاطة بكل ما لدى الإمام.

13 ـ الإمامة اودعت في آل الرسول وهم من صلب علي وفاطمة ، ومن ادعاها لنفسه من دونهم فهو كاذب.

14 ـ سوء اختيار القوم ، عندما رغبوا عن اختيار الله وما اختاره الرسول (صلى الله عليه واله) لهم.

15 ـ الموازنة بين الإمام المنصوب من قبل الله سبحانه وبين غيره.

16 ـ بيان تصور الناس وعجزهم عن الاتيان بمثل تلك الصفات المودعة في الإمام من قبل الله ، وإن ما تتحلى به شخصياتهم من الحلم والأخلاق والشجاعة والجود والسؤدد والطاعة الكاملة للمولى ... الخ إنما هي صفات خاصة مودعة في ذوات معينين ، قد نصبهم الله أمناء وخلفاء على العباد.

هذه بعض النقاط التي تصمنها الحديث.

خلاصة البحث في التفويض :

كما عرفت أن التفويض ينقسم إلى فرعين :

أولاً : تفويض أمر الخلق والرزق والحياة والممات ...

ثانياً : تفويض أمر الدين والسياسة والتربية والأحكام ...

والفرع الأول ينقسم إلى :

أ ـ تفويض أمر الخلق والرزق بالمعنى الأعم أو المطلق.

ب ـ تفويض أمر الخلق والرزق بالمعنى الأخص الضيق أو المقيد.

والفرع الثاني :

أ ـ تفويض أمر الدين والسياسة ... بالمعنى الأعم أو المطلق.

ب ـ تفويض أمر الدين أو السياسة ... بالمعنى الأخص الضيق أو المقيد.

ما يثبت تفويضه للمعصومين : هو القسم الثاني والرابع فقط.

القسم الثاني يثبت ، ويصح عقلاً من خلال سؤالهم ودعائهم طلب حاجتهم من الله سبحانه ، فإذا شاء الله شاءوا ، وإذا دعوا الله أجابهم ، فما يصدر منهم إنما هو من باب الكرامة والمنقبة ، لا أنه يصدر بقدرتهم أو بإرادتهم ، ولا هم فاعلون حقيقيون لتلك الخوارق للعادة والطبيعة ـ على وجه الاستقلال ، بل إنه فاعلون حقيقيون لكن بإذن الله تعالى ... كما تقدم.

فلا حول لهم ولا قوة إلا بالله ، وهم لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً ، وقد ورد عنهم في المأثور من قولهم وكلماتهم في الأدعية ... ربي لا تكلني إلى نفسي طرقة عين ... فمن كان شأنه في دعائه أن لا يوكله الله إلى نفسه طرفة عين ، فكيف يوكل أمرالعباد والرزق والأحياء إليهم...؟!!

أما القسم الرابع ، فقد ثبت التفويض فيه للنبي (صلى الله عليه واله) حتى يعلم المطيع منهم والعاصي ، أي شأنه في ذلك التمييز بين الطيب والخبيث ...

وهذا لا يمنعه أهل العقل إضافة إلى الشرع.

وقد عرفت إنما كان لهم هذا التفويض في هذين القسمين خصوصاً ، كي يطلع العباد على منزلتهم ، فما تخويلهم إلا بتشريفهم وإكرامهم وإظهار عظمتهم للملأ.

ما كان يعينه النبي من الأحكام فذاك مصدره الوحي ، وما كان يختاره (صلى الله عليه واله) فمصدره الإلهام ، ولا يخفى أن هذا الاختيار كان يمضيه الله سبحانه بطريق الوحي أيضاً.

عدا ذلك من التوجية أو القول فيهم بالرازقية والخالقية وبالتفويض عموماً فهو باطل وكفر وإلحاد وخروج عن الحد الشرعي والدين كما دلت عليه الآيات والأخبار. كما أن الأئمة : تبرؤوا ممن قال بذلك التفويض ، وحكموا بكفرهم ، بل أمروا بقتلهم لأنهم غلاة مشركون.

هذا هو موقف الفرقة الناجية الإمامية الإثنا عشرية ، وقد عرفت أن الشيخ الكليني ( رض ) هو أحد أعلامها البارزين ومجدد هذا المذهب على رأس سنة (300) ولم نجد فيما أودعه في كتاب الكافي شيئاً يخالف تلك العقيدة التي ورثناها من أهل البيت : بل أنه صرح في عدة أبواب من كتاب الحجة في الجزء الأول من أصول الكافي بأن علم الأئمة : إنه وراثة من النبي ، وفي بعض الأحاديث قسم علم الله سبحانه وتعالى إلى قسمين فقال بإسناده عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال : إن الله تبارك وتعالى علمين : علماً أظهر عليه ملائكته وأنبياءه ورسله ، فما أظهر عليه ملائكته ورسله وأنبيائه فقد علمناه وعلما استأثر به (38) ...

وفي الحديث الثاني من نفس الباب ، الكليني بإسناده عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : إن لله عز وجل علمين : علماً عنده لم يطلع عليه أحد من خلقه وعلماً نبذه إلى ملائكته ورسله فما نبذه إلى ملائكته ورسله فقد انتهى إلينا (39).

وفي الحديث الثالث من نفس الباب الكليني بإسناده عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : إن الله عز وجل علمين : علم مبذول ، وعلم مكفوف ، فأما المبذول فإنه ليس من شيء تعلمه الملائكة والرسل إلى ونحن نعلمه ، وأما المكفوف فهو الذي عند الله عز وجل علمين : علم لا يعلمه إلا هو وعلم علمه ملائكته ورسله ، فما علمه ملائكته ورسله فنحن نعلمه (40).

في باب ( إن الأئمة عليهم اسلام يعلمون علم ما كان وما يكون وإنه لا يخفى عليهم شيء من صلوات الله عليهم ) ذكر الشيخ أبو جعفر الكيني ستة أحاديث وجميعها تدلل على أن علمهم (عليه السلام) وراثة من النبي (صلى الله عليه واله) وإنهم حجج الله على عباده ويستحيل أن ينصب حجة عباده وهو جاهل بأمورهم أو بما يحتاجون إليه ، فإنهم يلهمون العلم والمعرفة وكل ما يحتاجه العباد إليه ، وذلك الإلهام لا يعني أنه الغيب الذي استأثره الله سبحانه لنفسه.

الكليني بإسناده عن سيف التمار قال : كنا مع أبي عبد الله (عليه السلام) جماعة من الشيعة في الحجر فقال : علينا عين؟ فالتفتنا يمنة ويسرة فلم نر أحداً فقلنا ليس علينا عين فقال : ورب الكعبة ورب البنية ـ ثلاث مرات لو كنت بين موسى والخضر عليهما السلام لأخبرتهما أني اعلم منهما ولأنبئتهما بما ليس في أيديهما ، لأن موسى والخضر عليهما السلام أعطيا علم ما كان ولم يعطيا علم ما يكون وما هو كائن حتى تقوم الساعة وقد ورثناه من رسول الله (صلى الله عليه واله) وراثة (41).

لقد اشار الإمام (عليه السلام) أن علمهم بما يكون وما هو كائن إنما هو علم خاص ورثوه من جدهم رسول الله صلى الله عليه واله. وهذا العلم لا يخفى أن فيه خبر ما كان وما يكون وما هو كائن أنه علم فيه خبر السماء وخبر الأرض وكل ما يحتاجه الإمام المنصوب من قبل الله سبحانه والذي هو الدليل لأهل الأرض.

وفيما سأل المفضل أبا عبد الله (عليه السلام) قال : جعلت فداك يفرض الله طاعة عبد على العباد ثم يحجب عنه خبر السماء؟ قال : لا ، الله أكرم وأرحم وأرأف بعباده من أن يفرض طاعة عبد على العباد ثم يحجب عنه خبر السماء صباحاً ومساءً (42) أقول وهذا الحديث لا يعارضه الأول كما أنه يوافق الأحاديث التي تنص على أن الأئمة إذا شاؤوا أن يعلموا أعلموا (43).

هذه الأحاديث وعشرات غيرها ذكرها الشيخ الكليني ، لم نجد فيها ما يشم منها رائحة الغلو او الخروج عن الحد المعقول أو المألوف عند الإمامية ، فلم يقر الشيخ بما كان يفعله الغلاة في خصوص علم الغيب ، بل أكد الكليني عكسه وخلافه وعبارته صريحة فيما تقدم.

لقد ذكر الشيخ باباً مستقلاً ( في أن الأئمة : يزدادون في ليلة الجمعة ) وفي هذا الباب يؤكد على أن الأئمة يزدادون في كل ليلة جمعة علماً وإلا لنفذ علمهم ومع ذلك يتضح مما أودعه في كتابه تلك الأحاديث إن ذاك العلم هو من قبيل الإلهام ، فيوض من الرحمن ، كرامة للنبي وأهل بيته الأطهار.

الكليني بإسناده عن أبي عبد الله قال : ما من ليلة جمعة إلا ولأولياء الله فيها سرور قلت : كيف ذلك؟ جعلت فداك قال : إذا كان ليلة الجمعة وافى رسول الله (صلى الله عليه واله) العرش ووافى الأئمة ووافيت معهم فما أرجع إلا بعلم مستفاد ولولا ذلك لنفذ ما عندي (44).

ثم إن الزيادة في العلم لا تعني أنه سوف يطلع أحدهم فيكون أعلم ممن سبقه من المعصومين ، قال الكليني بإسناده عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : ليس يخرج شيء من عند الله عز وجل حتى يبدأ برسول الله (صلى الله عليه واله) ثم بأمير المؤمنين (عليه السلام) ثم بواحد بعد واحد لكيلا يكون آخرنا أعلم من أولنا (45).

وقال الكليني في ( باب نادر فيه ذكر الغيب ) بإسناده عن معمر بن خلاد قال : سأل أبا الحسن (عليه السلام) رجل من أهل فارس له : أتعلمون الغيب؟

فقال : قال أبو محمد (عليه السلام) : يبسط لنا العلم فنعلم ويقبض عنا فلا نعلم وقال : سر الله عز وجل أسره إلى جبرائيل (عليه السلام) وأسره جبرائيل إلى محمد (صلى الله عليه واله) ، وأسره محمد إلى من شاء الله (46) وكان يعني بذلك أمير المؤمنين (عليه السلام).

صريحة كلماتهم (عليه السلام) إنهم لا يعلمون الغيب ، بل إنه فضل وكرامة من الله سبحانه فإذا اراد بسط لهم وألهمهم من علمه ما يشاء ، وإذا لم يرد فلا يبسط لهم ، وعبارة الإمام واضحة الضلالة ( ... ويقبض عنا فلا نعلم ).

هذا هو مسلك الشيخ الكليني كمن سبقه من أعلام الطائفة وكمن لحقه إلى يومنا هذا.

وأما التفويض فقد عرفت أيضاً مسلك الشيخ فهو ما كان في أمر الخلق والرزق والدين وغير ذلك من الأمور على وجه التقييد لا أنه تفويض مطلق ، ونعني على وجه التقييد الذي يتخذ صورتين.

الصورة الأولى ما فوض الله سبحانه لنبيه ، فخوله تنظيم حياة الأمة وتدبير شؤونها الدينية والسياسية والاقتصادية ـ وهذا التخويل بعض صوره هي للإمام كذلك ـ وإنما فوض إليه سبحانه كي يعلم من يطع الرسول ممن يعصيه.

أمام الصورة الثانية وهي التي ترتبط بسؤال الإمام ودعائه فلو طلبوا من الله عز وجل شيئاً لما أخلف ولا امتنع عن إجابتهم ، فلو سألوه سبحانه أن يرزق فلاناً أو ينطق الميت أو يحييه أو غير ذلك من الأمور الخارقة للعادة فهي تجري لهم على وجه الكرامة والإكرام ، ومن وجه أنهم يرزقون ويميتون ويحييون لكن بإذن الله تعالى ، على أي أن منزلتهم عند الله عظيمة جداً لا يمكن أن يتصورها أحد من البشر ، فلا يرد لهم سؤال إن سألوا ، فافهم وتدبر.

__________________

(1) عيون أخبار الرضا 1 | 124. 

(2) الحديث في عيون أخبار الرضا 2 | 203.

(3) عيون أخبار الرضا 2 | 203.

(4) الإحتجاج 2 | 471 ، وغيبة الطوسي من 178.

(5) غيبة الطوسي 149.

(6) البحار 25 | 343.

(7) كان أبو بصير مكفوف البصر وكأنما رغب أن يكون مبصراً وأن يبراء من علته هذه.

(8) بصائر الدرجات 289.

(9) بصائر الدرجات | 291.

(10) أصول الكافي 1 | 265.

(11) التفويض هنا يراد به امر الدين بدليل قوله لينظر كيف طاعته ، ثم الإستدلال بالآية يؤكد من أن المراد به هي الأمور العبادية أو قل ما يخص أمر الدين {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] .

وهذه الآية لا ترتبط بامر الخلق والإيجاد والرازقية وغير ذلك من الأمور التي هي مرتبطة بالله وحده سبحانه.

(12) أصول الكافي 1 | 266.

(30) أصول الكافي 1 | 268.

(14) بصائر الدرجات | 398.

(15) بصائر 400.

(16) البصائر 402.

(17) البحار 25 | 339.

(18) أنظر شرح النهج 4 | 85 ، طبقات ابن سعد 2 | 316 ، مسند أحمد 1 | 10 الحديث 60 ، كنز العمال 14 | 130 كل المصادر أطبقت أن حديث ( لا نورث ... ) لم يروه إلا أبو بكر.

(19) سنن البهيقي (عليه السلام) | 206.

(20) بصائر الدرجات 398.

(21) بصائر الدرجات 401.

(22) الكافي 1 | 267.

(23) أصول الكافي 1 | 266.

(24) بصائر الدرجات 399.

(25) (26) وبصائر الدرجات 404 ـ 405.

(27) (28) وبصائر الدرجات 404 ـ 405.

(29) بصائر الدرجات 406.

(30) بصائر الدرجات 405.

(31) العبارة كما في الكافي ، وأما عبارة البصائر فيها إضطراب.

(32) بصائر الدرجات 407 ، وأصول الكافي 1 | 438.

(33) أصول الكافي 1 | 265.

(34) بصائر الدرجات 404.

(35) بصائر الدرجات 397.

(36) كما ورد عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أنه قال : إياكم والغلو فينا ، قولوا إنا عبيد مربوبون وقولوا في فضلنا ما شئتم ...

(37) أصول الكافي 1 | 198 ـ 303.

(38) أصول الكافي ـ كتاب الحجه ، باب أن الأئمة يعلمون جميع العلوم التي خرجت إلى الملائكة والأنبياء والرسل. 1 | 255 ، الحديث الأول.

(39) المصدر السابق 1 | 255.

(40) المصدر السابق 1 | 256.

(41) أصول الكافي 1 | 261.

(42) المصدر السابق 1 | 262.

(43) أنظر اصول الكافي 1 | 258.

(44) أصول الكافي 1 | 254 ، الحديث الثالث.

(45) أصول الكافي 1 | 255 ، الحديث الرابع.

(46) أصول الكافي 1 | 256 ، الحديث الأول من الباب.




مقام الهي وليس مقاماً بشرياً، اي من صنع البشر، هي كالنبوة في هذه الحقيقة ولا تختلف عنها، الا ان هنالك فوارق دقيقة، وفق هذا المفهوم لا يحق للبشر ان ينتخبوا ويعينوا لهم اماماً للمقام الديني، وهذا المصطلح يعرف عند المسلمين وهم فيه على طوائف تختصر بطائفتين: طائفة عموم المسلمين التي تقول بالإمامة بانها فرع من فروع الديني والناس تختار الامام الذي يقودها، وطائفة تقول نقيض ذلك فترى الحق واضح وصريح من خلال ادلة الاسلام وهي تختلف اشد الاختلاف في مفهوم الامامة عن بقية الطوائف الاخرى، فالشيعة الامامية يعتقدون بان الامامة منصب الهي مستدلين بقوله تعالى: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) وبهذا الدليل تثبت ان الامامة مقام الهي وليس من شأن البشر تحديدها، وفي السنة الشريفة احاديث متواترة ومستفيضة في هذا الشأن، فقد روى المسلمون جميعاً احاديث تؤكد على حصر الامامة بأشخاص محددين ، وقد عين النبي الاكرم(صلى الله عليه واله) خليفته قد قبل فاخرج احمد في مسنده عن البراء بن عازب قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فنزلنا بغدير خم فنودي فينا الصلاة جامعة وكسح لرسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرتين فصلى الظهر وأخذ بيد علي رضى الله تعالى عنه فقال ألستم تعلمون اني أولى بالمؤمنين من أنفسهم قالوا بلى قال ألستم تعلمون انى أولى بكل مؤمن من نفسه قالوا بلى قال فأخذ بيد علي فقال من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه قال فلقيه عمر بعد ذلك فقال له هنيئا يا ابن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة


مصطلح اسلامي مفاده ان الله تعالى لا يظلم أحداً، فهو من كتب على نفسه ذلك وليس استحقاق البشر ان يعاملهم كذلك، ولم تختلف الفرق الدينية بهذه النظرة الاولية وهذا المعنى فهو صريح القران والآيات الكريمة، ( فلا يظن بمسلم ان ينسب لله عز وجل ظلم العباد، ولو وسوست له نفسه بذلك لأمرين:
1ـ تأكيد الكتاب المجيد والسنة الشريفة على تنزيه الله سبحانه عن الظلم في آيات كثيرة واحاديث مستفيضة.
2ـ ما ارتكز في العقول وجبلت عليه النفوس من كمال الله عز وجل المطلق وحكمته واستغنائه عن الظلم وكونه منزهاً عنه وعن كل رذيلة).
وانما وقع الخلاف بين المسلمين بمسألتين خطرتين، يصل النقاش حولها الى الوقوع في مسألة العدل الالهي ، حتى تكون من اعقد المسائل الاسلامية، والنقاش حول هذين المسألتين أمر مشكل وعويص، الاولى مسالة التحسين والتقبيح العقليين والثانية الجبر والاختيار، والتي من خلالهما يقع القائل بهما بنحو الالتزام بنفي العدالة الالهية، وقد صرح الكتاب المجيد بان الله تعالى لا يظلم الانسان ابداً، كما في قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا * فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا).

مصطلح عقائدي، تجده واضحاً في المؤلفات الكلامية التي تختص بدراسة العقائد الاسلامية، ويعني الاعتقاد باليوم الاخر المسمى بيوم الحساب ويوم القيامة، كما نص بذلك القران الحكيم، وتفصيلاً هو الاعتقاد بان هنالك حياة أخرى يعيشها الانسان هي امتداد لحياة الانسان المطلقة، وليست اياماً خاصة يموت الانسان وينتهي كل شيء، وتعدّت الآيات في ذكر المعاد ويوم القيامة الالف اية، ما يعني ان هذه العقيدة في غاية الاهمية لما لها الاثر الواضح في حياة الانسان، وجاء ذكر المعاد بعناوين مختلفة كلها تشير بوضوح الى حقيقته منها: قوله تعالى: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ) ،وهنالك آيات كثيرة اعطت ليوم القيامة اسماء أخرى كيوم القيامة ويوم البعث ويوم النشور ويوم الحساب ، وكل هذه الاشياء جزء من الاعتقاد وليس كل الاعتقاد فالمعاد اسم يشمل كل هذه الاسماء وكذلك الجنة والنار ايضاً، فالإيمان بالآخرة ضرورة لا يُترك الاعتقاد بها مجملاً، فهي الحقيقة التي تبعث في النفوس الخوف من الله تعالى، والتي تعتبر عاملاً مهماً من عوامل التربية الاصلاحية التي تقوي الجانب السلوكي والانضباطي لدى الانسان المؤمن.