يُعَدُّ الصِّدقُ رأسَ الدِّينِ والإيمانِ ولِباسَهُما، كما وردَ في الأحاديثِ الشَّريفَةِ؛ لأنّه مِنَ القِيَمِ التي تُؤَسَّسُ عَليها كُلُّ صِفاتِ الشَّخصيّةِ المُتَدَيِّنَةِ وكُلُّ خِصالِ المؤمنِ التَّقيِّ، وبانعدامِهِ أو تركِهِ فإنَّ كُلَّ مَظاهِرِ التّديُّنِ وشَكليّاتِ الإيمانِ وطُقوسِهِ تكونُ صَادِرَةً عَنْ أساسٍ هَشٍّ وأرضٍ غيرِ صُلبَةٍ تنهارُ أمامَ أيِّ بَلاءٍ ومَحَكٍّ، فيظهَرُ التناقضُ على الأفعالِ والأقوالِ ممّا يكشفُ عَن وجودِ انحرافٍ عَنِ المبادئِ الحَقّةِ والقِيَمِ الأساسيّةِ مَهما كانَتِ الدَّعاوى والشِّعاراتُ؛ لأنَّها في الحقيقةِ جَوفاءُ خاليةٌ مِنَ الأساسِ المَتينِ والدِّعامَةِ الكُبرى وَهُوَ الصِّدقُ.
وعِندَما يكونُ الإنسانُ المؤمنُ على المِحَكِّ سيكتَشِفُ ذاتَهُ ويظهرُ مَعدِنُهُ لمَنْ حولِهِ هَل هُوَ ثابِتٌ على مبادئِ الإيمانِ حتّى النهايةِ، ويُضَحّي بالنَّفسِ والنَّفيسِ لأجلِها، أو هُوَ ممّنْ ينطبق عليه {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا}، أيْ أنَّهُم يُراعونَ مَصالحَهُم الماديّةَ الزائلةَ غيرَ ثابتينَ على أصلٍ دِينيٍّ وأخلاقيٍّ سَامٍ.
إنَّ أخلاقيّةَ التذبذبِ تنتَشِرُ في المجتمعِ الذي يتصارَعُ فيهِ قطبانِ كلاهُما يحملانِ صفاتٍ وخَصائِصَ جاذِبَةً لأفرادِ ذلكَ المجتمعِ، وتنسَجِمُ معَ قناعاتِ أفرادِهِ. وممّا لاريبَ فيهِ أنَّ جُملةً مِنَ النّاسِ لَهُم موقفٌ إمّا : معَ ؛ أو ضِدّ تلكَ التياراتِ التي يحصُلُ بينَها صراعٌ ونِزاعٌ سياسيٌّ أوِ اجتماعيٌّ؛ ولا يخفَى أنَّ ذلكَ مَدعاةٌ الى ظهورِ المذاهبِ والفِرَقِ التي يُشايِعُ الناسُ أقطابَها ورُبَّما يحصُلُ احتقانٌ فِيما بينِهِم وخِصامٌ قَد ينتَهي الى التَّقاتُلِ والحروبِ.
وبناءً على ما تَقَدَّمَ مِنَ المُمكِنِ أنْ نتصَوَّرَ ما حصلَ بينَ الإمامِ الحُسينِ(عليهِ السَّلامُ) -وَهُوَ القُطبُ الجاذِبُ للجَّماعَةِ المؤمنةِ والصّالحةِ- وبينَ يزيدَ بنِ مُعاوِيَةَ (لَعَنَهُ اللهُ) وأشياعِهِ وَهُوَ القُطبُ الجاذِبُ للمُنتَفعينَ والفاسِدينَ- وتَصاعُدُ وتيرَةِ المواجهاتِ الى سيطرةِ يزيدَ وحِزبِهِ على الأمورِ في الكوفَةِ بعدَما كانَتِ الأمورُ والمؤشِّراتُ تتَّجِهُ لصالحِ الإمامِ الحُسينِ(عليهِ السَّلامُ) .
حاولَ يزيدُ واتباعُهُ بأنْ يتعامَلُوا معَ الإمامِ الحُسينِ كأيِّ فَردٍ مِنْ عُمومِ المُسلمينَ فطلبوهُ للبَيعَةِ ولكنّهُ رفضَ وقالَ عبارَتَهُ المعروفةَ : (مِثلي لا يُبايِعُ مِثلَهُ) ، وأعلنَ الإمامُ الحُسينُ عَنْ موقِفِهِ بعدَ دَعوةِ أهلِ العِراقِ الى المجيءِ إليهِمْ ليُمسِكَ بزِمامِ الأمورِ ويكونُ أميرَهُم وقائِدَهُم، فتَوَجَّهَ نحوَ الكوفَةِ ولكنَّهُم غدروا بهِ وتَغَيّرتِ المقاديرُ وصارَتِ الأمورُ ضِدَّهُ.
ولمّا أحَسَّ ابنُ زِيادٍ (لعَنَهُ اللهُ) -أميرُ الكوفَةِ والمعروفُ بولائِهِ لبَنِي أميّةَ- بالقُوّةِ والسيطَرَةِ؛ أحكَمَ قبضَتَهُ على الرَّكبِ الحُسينيِّ المُهاجِرِ مِنْ مَكّةَ الى العِراقِ وتَمّتْ مُحاصَرَتُهُ، وجَعَلوهُ بينَ خِيارينِ أحلاهُما مُرٌّ: إمّا يُبايعُ ويُطيعُ الخليفةَ أو يُقتَلُ
وطلبَ الإمامُ الحُسينُ (عليهِ السَّلامُ) العودَةَ الى ديارِهِ كإجراءٍ عُقَلائيٍّ في تَسويةِ الأمورِ بناءً على خِذلانِ الجماهيرِ التي دَعتهُ الى الكوفَةِ، كما وأنّهُ طلبَ التّوَجُّهَ الى أيِّ بُقعَةٍ أُخرى إنْ لم يَقبَلُوا برجوعِهِ الى الحِجازِ
ولكنَّ القيادَةَ الأمويّةَ الكوفيّةَ راقَها قَطعُ الطُّرقِ على الإمامِ الحُسينِ(عليهِ السَّلامُ) ومَنْ مَعَهُ، وتضييقُ الحالِ عَليهِم، وحِرمانُهُم حتى مِنَ الماءِ ومُتطَلبّاتِ العِيشِ، وحَصَرتِ الخياراتِ بمَطلَبَينِ: إمّا أنْ ينزِلَ على حُكمِ بَني أميّةَ أو يموتَ قَتيلاً
وما كانَ مِنَ القائدِ الصّادقِ الصِّدِّيقِ أبي عبدِ اللهِ(عليهِ السَّلامُ) إلّا أنْ يرفُضَ الدَّنِيّةَ ويرتقي العلياءَ قابلاً بالمَنيّةِ ثابتاً على مَبادئِ الإيمانِ والدِّينِ بالرَّغمِ مِنْ حَراجَةِ الموقِفِ وصُعوبَةِ المواجَهَةِ فقالَ -سلامُ اللِه عليهِ- مُخاطِباً أهلَ الكوفَةِ: (ألَا وإنَّ الدَّعِيَّ بنَ الدَّعِيِّ قدْ رَكزَ بينَ اثنتينِ، بينَ السِّلَّةِ والذِّلَّةِ، وهَيهاتَ مِنّا الذِلَّةُ، يأبَى اللهُ لنَا ذلكَ ورسولُهُ والمؤمنونَ، وحُجورٌ طابَتْ وطَهُرَتْ، وأُنوفٌ حَمِيّةٌ، ونفوسٌ أبيّةٌ، مِنْ أَنْ نُؤثِرَ طاعَةَ اللئامِ على مَصارِعِ الكِرامِ، ألَا وإنِّي زاحِفٌ بهذهِ الأُسرَةِ على قِلَّةِ العَدَدِ وخِذلانِ النَّاصِرِ..)
لقَد اختارَ الإمامُ الحُسينُ عليهِ السَّلامُ المواجَهَةَ وإنْ انتَهى بهِ الأمرُ إلى الموتِ، فَهُوَ القائِلُ: (إنّي لا أَرَى الموتَ إلّا سعادةً والحياةَ معَ الظالمينَ إلّا بَرَماً)، فالموتُ في سبيلِ الحَقِّ يُعَدُّ فَضلاً يطلبُهُ الصالحونَ ولهذا تَمَثَّلَ بهذهِ الأبياتِ:
سأمضِي وما بالموتِ عارٌ على الفَتى .. إذا ما نَوى حَقّاً وجاهَدَ مُسلِما
ووَاسَى الرِّجالَ الصـالحينَ بنفسِهِ .. وفارَقَ مَثبوراً وخالفَ مُجرِمَا
فإنْ عِشـتُ لم أندَمْ وإنْ مِتُّ لَم أُلَمْ .. كَفَى بِكَ مَوتاً أنْ تُذَلَّ وتُرغَمَا
إنَّ الثَّباتَ لأجلِ إعزازِ القِيَمِ السّاميَةِ يُعَدُّ أرفعَ المقاماتِ التي يتنافَسُ فِيها الأحرارُ، وكَمْ حَدَثَتْ مِنْ مَواقِفَ في التأريخِ أثبَتَ فيها بعضُ الأبطالِ والقادَةِ مواقِفَ بطوليّةً لأجلِ نُصرَةِ القِيَمِ وإعزازِ الحَقِّ بالرَّغمِ مِنْ قِلّةِ الأنصارِ والأعوانِ وخَلَّدَهُم التأريخُ، ولكِنّ ما قامَ بهِ سيّدُ الشُّهداءِ أبو عبدِ اللهِ الحُسينُ (عليهِ السَّلامُ) مِنْ تضحياتٍ، وما قَدَّمَهُ لأجلِ نُصرَةِ الحَقِّ وإعزازِهِ كانَ لَهُ أثرٌ عميقٌ في نفوسِ المسلمينَ وكُلِّ مَنْ بلَغَتهُ قِصَّتُهُ المفجِعَةُ، فاقَ فيها كُلَّ الأبطالَ والأحرارَ بَل صارَ رمزاً وقُدوةً وأُسوةً لكُلِّ أحرارِ العالَم.
إنَّ إقدامَ الإنسانِ على الموتِ لأجلِ المقاصِدِ الساميَةِ لا يُعَدُّ انتحاراً أو تَهَوُّراً كما يتخيَّلُهُ بعضُ مَنْ قَصُرَ نظَرُهُ وهَبَطَ بهِ وَعيُهُ بَل يُعَدُّ نُبلاً وكَرَماً؛ إذْ أنَّ المعاييرَ التي اعتمدَها الإمامُ الحُسينُ(عليهِ السَّلامُ) في تقييمِ الموقِفِ هِيَ معاييرُ فوقَ المادَّةِ والزَّمانِ؛ معاييرُ قُرآنيّةٌ وحْيَانِيّةٌ، وليسَتْ هِيَ ذاتَ المعاييرِ التي يعتَمِدُها الطامعونَ بالسُّلطَةِ وبالمالِ وبالجّاهِ المُضمَحِلّاتِ؛ فإنَّ الإمامَ (عليهِ السَّلامُ) لا يَرى للدُّنيا أيّةَ قِيمَةٍ أمامَ إعزازِ الحَقِّ ونُصرَتِهِ، ولهذا عَبَّرَ (سَلامُ اللهِ عَليهِ) في وَصيّتِهِ لأخيهِ مُحمّدٍ ابنِ الحَنَفيّةِ عَن حَقيقَةِ الحَياةِ بصورَةٍ عامّةٍ والدُّنيا بصورةٍ خاصّةٍ بقولِهِ:
(فكأَنَّ الدُّنيا لم تَكُنْ، وكأنَّ الأخرةَ لَم تَزَلْ)
الدُّنيا بنَظَرِ الإمامِ الحُسينِ (عَدَمٌ)، والآخِرَةُ هِيَ (الوجودُ الحقيقيُّ)، ومَعلومٌ أنَّ الوجودَ هُوَ مصدَرُ الحياةِ الأخرويّةِ ، والإنسانُ الكريمُ يطلُبُ ويرغَبُ في الخلودِ ودارِ السَّعادَةِ؛ لأنَّها دارُ القَرارِ. فاختارَ سيّدُ الشُّهداءِ(عليهِ السَّلامُ) الموتَ لأنّهُ بوابَةٌ لدارِ السَّعادَةِ والخُلودِ نُصرَةً للحَقِّ وإعزازاً لأهلِ الحَقِّ إذْ لا خيرَ في الحياةِ الوَهميّةِ والعَيشِ الزائلِ في ظِلِّ طاعةِ اللّئامِ وأراذِلِ النّاسِ وفُجَّارِهِم، بَل يَرى الإمامُ الحُسينُ (صَلواتُ اللهِ عَليهِ) أنَّ العَيشَ معَهُم خانِقٌ ومُستَحيلٌ.







وائل الوائلي
منذ 3 ايام
"المهمة".. إصدار قصصي يوثّق القصص الفائزة في مسابقة فتوى الدفاع المقدسة للقصة القصيرة
(نوافذ).. إصدار أدبي يوثق القصص الفائزة في مسابقة الإمام العسكري (عليه السلام)
قسم الشؤون الفكرية يصدر مجموعة قصصية بعنوان (قلوب بلا مأوى)
EN