أقرأ أيضاً
التاريخ: 13-2-2018
13216
التاريخ: 13-2-2018
10887
التاريخ: 13-2-2018
36259
|
قال تعالى : {كَلَّا وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34) إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَو يَتَأَخَّرَ (37) كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً (52) كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُو أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ } [المدثر: 32 - 56].
أقسم سبحانه على عظيم ما ذكره من الوعيد فقال {كلا} أي حقا وقيل معناه ليس الأمر على ما يتوهمونه من أنهم يمكنهم دفع خزنة النار وغلبتهم {والقمر} أقسم بالظهر لما فيه من الآيات العجيبة في طلوعه وغروبه ومسيره وزيادته ونقصانه {والليل إذ أدبر} وأقسم بالليل إذا ولى وذهب عن قتادة وقيل أدبر إذا جاء بعد غيره وأدبر إذا ولى مدبرا فعلى هذا يكون المعنى في إذ أدبر إذا جاء الليل في أثر النهار وفي إذا أدبر إذا ولى الليل فجاء الصبح عقيبة وعلى القول الأول فهما لغتان معناهما ولى وانقضى {والصبح إذا أسفر} أي إذا أضاء وأنار عن قتادة وهم قسم آخر وقيل معناه إذا كشف الظلام وأضاء الأشخاص وقال قوم التقدير في هذه الأقسام ورب هذه الأشياء لأن اليمين لا يكون إلا بالله تعالى.
{إنها لإحدى الكبر} هذا جواب القسم يعني أن سقر التي هي النار لإحدى العظائم والكبر جمع الكبرى وهي العظمى عن ابن عباس ومجاهد وقتادة وقيل معناه أن آيات القرآن لإحدى الكبر في الوعيد {نذيرا للبشر} أي منذرا ومخوفا معلما مواضع المخافة والنذير الحكيم بالتحذير عما ينبغي أن يحذر منه فكل نبي نذير لأنه حكيم بتحذيره عقاب الله تعالى على معاصيه واختلف فيه فقيل إنه من صفة النار عن الحسن وقيل من صفة النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) فكأنه قال قم نذيرا عن ابن زيد وقيل من صفة الله تعالى عن ابن رزين وعلى هذا يكون حالا من فعل القسم المحذوف.
{لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر} أي يتقدم في طاعة الله أو يتأخر عنها بالمعصية عن قتادة والمشيئة هي الإرادة فيكون المعنى أن هذا الإنذار متوجه إلى من يمكنه أن يتقي عذاب النار بأن يتجنب المعاصي ويفعل الطاعات فيقدر على التقدم والتأخر في أمره بخلاف قول أهل الجبر القائلين ما لا يطاق وقيل إنه سبحانه عبر عن الإيمان والطاعة بالتقدم لأن صاحبه متقدم في العقول والدرجات وعن الكفر والمعصية بالتأخير لأنه متأخر في العقول والدرجات وروى محمد بن الفضيل عن أبي الفضل عن أبي الحسن (عليه السلام) أنه قال كل من تقدم إلى ولايتنا تأخر عن سقر وكل من تأخر عن ولايتنا تقدم إلى سقر {كل نفس بما كسبت رهينة} أي مرهونة بعملها محبوسة به مطالبة بما كسبته من طاعة أومن معصية فالرهن أخذ الشيء بأمر على أن لا يرد إلا بالخروج منه قال زهير :
وفارقتك برهن لا فكاك له *** يوم الوداع فأمسى الرهن قد غلقا(2)
فكذلك هؤلاء الضلال قد أخذوا برهن لا فكاك له والكسب هو كل ما يجتلب به نفع أو يدفع به ضرر ويدخل فيه الفعل وأن لا يفعل ثم استثنى سبحانه أصحاب اليمين فقال {إلا أصحاب اليمين} وهم الذين يعطون كتبهم بأيمانهم وقيل هم الذين يسلك بهم ذات اليمين قال قتادة غلق الناس كلهم إلا أصحاب اليمين وهم الذين لا ذنب لهم فهم ميامين على أنفسهم وقيل هم المؤمنون المستحقون للثواب عن الحسن وقيل هم الملائكة عن ابن عباس وقال الباقر (عليه السلام) نحن وشيعتنا أصحاب اليمين {في جنات يتساءلون} أي يسأل بعضهم بعضا وقيل يسائلون {عن المجرمين} أي عن حالهم وعن ذنوبهم التي استحقوا بها النار.
{ما سلككم في سقر} هذا سؤال توبيخ أي تطلع أهل الجنة على أهل النار فيقولون لهم ما أوقعكم في النار {قالوا لم نك من المصلين} أي كنا لا نصلي الصلاة المكتوبة على ما قررها الشرع وفي هذا دلالة على أن الإخلال بالجواب يستحق به الذم والعقاب لأنهم علقوا استحقاقهم العقاب بالإخلال في الصلاة وفيه دلالة أيضا على أن الكفار مخاطبون بالعبادات الشرعية لأنه حكاية عن الكفار بدلالة قوله {وكنا نكذب بيوم الدين} وقوله {ولم نك نطعم المسكين} معناه لم نك نخرج الزكوات التي كانت واجبة علينا والكفارات التي وجب دفعها إلى المساكين وهم الفقراء {وكنا نخوض مع الخائضين} أي كلما غوى غاو بالدخول في الباطل غوينا معه عن قتادة والمعنى كنا نلوث أنفسنا بالمرور في الباطل كتلويث الرجل بالخوض فلما كان هؤلاء يجرون مع من يكذب بالحق مشيعين لهم في القول كانوا خائضين معهم {وكنا نكذب بيوم الدين} مع ذلك أي نجحد يوم الجزاء وهو يوم القيامة والجزاء هو الإيصال إلى كل من له شيء أم عليه شيء ما يستحقه فيوم الدين هو يوم أخذ المستحق بالعدل {حتى أتينا اليقين} أي أتانا الموت على هذه الحالة وقيل حتى جاءنا العلم اليقين من ذلك بأن عايناه {فما تنفعهم شفاعة الشافعين} أي شفاعة الملائكة والنبيين كما نفعت الموحدين عن ابن عباس في رواية عطاء وقال الحسن لم تنفعهم شفاعة ملك ولا شهيد ولا مؤمن ويعضد هذا الإجماع على أن عقاب الكفر لا يسقط بالشفاعة وقد صحت الرواية عن عبد الله بن مسعود قال يشفع نبيكم (صلى الله عليه وآله وسلّم) رابع أربعة جبريل ثم إبراهيم ثم موسى أو عيسى ثم نبيكم (صلى الله عليه وآله وسلّم) لا يشفع أحد أكثر مما يشفع فيه نبيكم (صلى الله عليه وآله وسلّم) ثم النبيون ثم الصديقون ثم الشهداء ويبقى قوم في جهنم فيقال لهم {ما سلككم في سقر} إلى قوله {فما تنفعهم شفاعة الشافعين} قال ابن مسعود فهؤلاء الذين يبقون في جهنم وعن الحسن عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال يقول الرجل من أهل الجنة يوم القيامة أي رب عبدك فلان سقاني شربة من ماء في الدنيا فشفعني فيه فيقول اذهب فأخرجه من النار فيذهب فيتجسس في النار حتى يخرجه منها وقال (صلى الله عليه وآله وسلّم) ((إن من أمتي من سيدخل الله الجنة بشفاعته أكثر من مضر)).
{فما لهم عن التذكرة معرضين} أي : أي شيء لهم ولم أعرضوا وتولوا عن القرآن فلم يؤمنوا به والتذكرة التذكير بمواعظ القرآن والمعنى لا شيء لهم في الآخرة إذا أعرضوا عن القرآن ونفروا عنه {كأنهم حمر مستنفرة} أي كأنهم حمر وحشية نافرة {فرت من قسورة} يعني الأسد عن عطاء والكلبي قال ابن عباس الحمر الوحشية إذا عاينت الأسد هربت منه كذلك هؤلاء الكفار إذا سمعوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) يقرأ القرآن هربوا منه وقيل القسورة الرماة ورجال القنص(3) عن ابن عباس بخلاف والضحاك ومقاتل ومجاهد وقال سعيد بن جبير هم القناص {بل يريد كل امرىء منهم أن يؤتى صحفا منشرة} أي كتبا من السماء تنزل إليهم بأسمائهم أن آمنوا بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) عن الحسن وقتادة وابن زيد وقيل معناه أنهم يريدون صحفا من الله تعالى بالبراءة من العقوبة وإسباغ النعمة حتى يؤمنوا وإلا قاموا على كفرهم وقيل يريد كل واحد منهم أن يكون رسولا يوحى إليه متبوعا وأنف من أن يكون تابعا وقيل هو تفسيرها ما ذكره الله تعالى في قوله ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه فقال سبحانه {كلا} أي حقا ليس الأمر على ما قالوا ولا يكون كذلك {بل لا يخافون الآخرة} بجحدهم صحتها ولو خافوا عذاب الآخرة لما اقترحوا الآيات بعد قيام الدلالات والمعجزات {كلا} أي حقا {إنه تذكرة} أي إن القرآن تذكير وموعظة {فمن شاء ذكره} أي اتعظ به لأنه قادر عليه {وما يذكرون إلا أن يشاء الله} هذه المشيئة غير الأولى إذ لو كانت واحدة لتناقض فالأولى مشيئة اختيار والثانية مشيئة إكراه وإجبار والمعنى أن هؤلاء الكفار لا يذكرون إلا أن يجبرهم الله تعالى على ذلك وقيل معناه إلا أن يشاء الله من حيث أمر به ونهى عن تركه ووعد الثواب على فعله وأوعد بالعقاب إن لم تفعله فكانت مشيئته سابقة أي لا تشاءون إلا والله قد شاء ذلك {هو أهل التقوى وأهل المغفرة} أي هو أهل أن يتقي محارمه وأهل أن يغفر الذنوب عن قتادة وروي مرفوعا عن أنس قال إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) تلا هذه الآية فقال ((قال الله سبحانه أنا أهل أن أتقى فلا يجعل معي إليه فمن اتقى أن يجعل معي إلها فأنا أهل أن أغفر له)) وقيل معناه وهو أهل أن يتقى عقابه وأهل أن يعمل له بما يؤدي إلى مغفرته .
____________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج10 ، ص185-189.
2- الغلق في الرهن : ضد الفك الراهن فقد أطلقه من وثاقه عند مرتهنه . يذكر زهير في هذا البيت امرأة معناه : انها ارتهنت قلبه ، ورهنت به .
3- القنص : الصيد.
{كلا} . كفوا أيها المشركون عن اللعب بالنار والاستهزاء بها وبخزنتها {والْقَمَرِ واللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ والصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ} - أي أضاء - {إِنَّها لإِحْدَى الْكُبَرِ} . بعد ان زجر سبحانه الجاحدين أقسم بالقمر والليل والنهار ان النار حق لا ريب فيه ، وانها العذاب الذي لا عذاب فوقه ولا مثله . . وفي القسم بهذه الكائنات إيماء إلى ان ذوي البصائر يستدلون بما فيها من بديع الصنع على وجود الصانع ، وان من أوجدها من لا شيء قادر على ان يحيي العظام وهي رميم {نَذِيراً لِلْبَشَرِ لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَو يَتَأَخَّرَ} . حذر سبحانه العباد من النار ودلَّهم على طريقها ، وقال لهم : اختاروا لأنفسكم الإقدام عليها أو البعد عنها ، وقد أعذر من أنذر .
{كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} . هذا تعليل لقوله تعالى : {لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَو يَتَأَخَّرَ} والمعنى اختاروا لأنفسكم ، فأنتم مرتهنون بما أسلفتم ، ومدينون بما قدمتم ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشرّ ، وتقدم مثله في الآية 44 من سورة الروم {إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ} . يعبّر القرآن عن المتقين بأصحاب اليمين والممنة ، وعن المجرمين بأصحاب الشمال والمشأمة . أنظر الآية 9 و38 و41 من سورة الواقعة . والمعنى ما من إنسان إلا ونفسه أسيرة عمله إلا أهل التقوى والصلاح ، فإنهم قد وفوا ديونهم وفكّوا نفوسهم من الأسر بصالح الأعمال ، فجزاهم ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار .
{فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} . بعد أن تطمئن الدار بأهل الجنة يسأل بعضهم بعضا : أين المجرمون الذين كنا نلاقي منهم الأمرّين ؟ .
فيطلعهم سبحانه على مكانهم في جهنم ليزدادوا سرورا كما في بعض الروايات ، فيسألونهم توبيخا وتقريعا : ما الذي أدى بكم إلى هذا المثوى {قالوا} بلسان المقال أو الحال : {لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} أي لم ننته في الدنيا عن الفحشاء والمنكر ، وقد أخذنا هذا التفسير من الآية 45 من سورة العنكبوت : ان الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر {ولَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} . كانوا يكنزون المال ولا ينفقونه في سبيل اللَّه {وكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ} . نستهين بكل شيء إلا باللهو واللعب ، وندخل كل مدخل إلا مداخل الحق والخير {وكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ} أي الموت .
قال الشيخ عبد القادر المغربي : (سمي يوم القيامة يوم الدين لأن فيه يقع الجزاء والحساب والقضاء والقهر ، كل هذا من معاني كلمة الدين ، ويسمى أيضا يوم الدينونة أي الحشر والقضاء بين الناس ، والديّان القهّار والمجازي والقاضي ، قالوا : (كان على بن أبي طالب ديان هذه الأمة بعد نبيها أي تفرد بمزية القضاء والحذق في فصل الخصومات بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) .
{فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ} . لا شفيع يشفع ، ولا معذرة تنفع ، لا شيء إلا التوبة وصالح الأعمال {فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} . ضمير لهم يعود إلى المشركين ، والتذكرة القرآن ، والحمر هنا الحمر الوحشية ، والقسورة الأسد أو الرماة ، والمعنى ما شأن هؤلاء العتاة يفرون من الهدى والحق فرارهم من الموت ؟ .
{بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً} . أي منشورة غير مطوية ، وجاء في بعض الروايات ان المشركين قالوا لرسول اللَّه : {لن نؤمن لك حتى ينزل على كل واحد منا كتاب يقول : إلى فلان بن فلان : اتبع محمدا} . وسواء أصحت هذه الرواية أم لم تصح فإنها تفسر الآية بما دل عليه ظاهرها ، ويؤيد ذلك الآية 93 من سورة الإسراء : {ولَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ} مع العلم بأنهم لا يؤمنون ولو استجاب اللَّه إلى طلبهم كما صرحت الآية 7 من سورة الانعام : {ولَو نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} . والسر هو حرصهم على مصالحهم وامتيازاتهم ، وليس الحسد كما قال بعض المفسرين ، والدليل على ما قلناه قوله تعالى بلا فاصل : {كَلَّا بَلْ لا يَخافُونَ الآخِرَةَ} . لأنهم لا يعملون إلا للحياة الدنيا ، ولا يركنون إلا لترفها ولذاتها ، اما الإنسانية ، اما الحق والخير فكلام فارغ .
{كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ} مرة ثانية يزجر سبحانه المكذبين ، ثم بيّن لهم ولغيرهم ان هذا القرآن هو موعظة من اللَّه لعباده ، وما هو بقول ساحر ولا شاعر {فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ} ، أي انتفع بأحكامه ومواعظه {وما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ} .
وتسأل : ان قوله تعالى أولا : {فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ} معناه ان الإنسان مخير له حريته وإرادته ، وقوله ثانيا : {وما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ} معناه ان الإنسان مسيّر لا حرية له ولا إرادة . . وهذا تناقض بحسب الظاهر ، فبأي شيء تدفعه ؟ .
الجواب : المراد بالمشيئة الأولى ان اللَّه سبحانه يترك الإنسان وما يختار لنفسه من الايمان والكفر ، والمراد بالمشيئة الثانية إرادة اللَّه تعالى ارغام الإنسان على الايمان وإلجاؤه إليه قهرا عنه ، وعليه يكون معنى الآيتين بمجموعهما ان اللَّه قد ترك الخيار للإنسان في ان يؤمن أو يكفر ، كما في الآية 29 من سورة الكهف : {وقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ ومَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ} ولكن الجحود العنود لا يؤمن بحال إلا إذا أجبره اللَّه على الايمان ، وألجأه إليه رغما عنه ، ولا يكون هذا أبدا لأنه مخالف لعدل اللَّه وحكمته ، فإن عدله تعالى وسننه في خلقه أن يبين لهم طريق الخير ويرغَّبهم فيه ، وطريق الشر ويحذرهم منه ، ولكل أن يختار مصيره بنفسه وإلا بطل الثواب والعقاب ، ويؤيد هذا قوله تعالى بلا فاصل : {هُو أَهْلُ التَّقْوى وأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} أي ان اللَّه ، جلت عظمته ، هو أهل لأن يطاع في أوامره ونواهيه ، وان يخشى من غضبه وعذابه ، وأيضا هو أهل لأن يرحم العباد ويغفر لمن تاب وأناب .
وبلفظ أقل وأوضح ان اللَّه سبحانه خلق الإنسان مختارا ذا عقل وإرادة ، وميّزه بذلك عن الحيوان ، ولذا كلفه بالطاعة والاستقامة من دونه ، ولوشاء سبحانه لسلب الإنسان إرادة العاقل ، وجعله كالحيوان أو أحط منه .
______________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج7 ، ص464-467.
في الآيات تنزيه للقرآن الكريم عما رموه به، وتسجيل أنه إحدى الآيات الإلهية الكبرى فيه إنذار البشر كافة وفي اتباعه فك نفوسهم عن رهانة أعمالهم التي تسوقهم إلى سقر.
قوله تعالى: {كلا} ردع وإنكار لما تقدم قال في الكشاف: إنكار بعد أن جعلها ذكرى أن يكون لهم ذكرى لأنهم لا يتذكرون، أو ردع لمن ينكر أن يكون إحدى الكبر نذيرا.
انتهى.
فعلى الأول إنكار لما تقدم وعلى الثاني ردع لما سيأتي، وهناك وجه آخر سيوافيك.
قوله تعالى: {والقمر والليل إذ أدبر والصبح إذا أسفر} قسم بعد قسم، وإدبار الليل مقابل إقباله، وإسفار الصبح انجلاؤه وانكشافه.
قوله تعالى: {إنها لإحدى الكبر} ذكروا أن الضمير لسقر، والكبر جمع كبرى، والمراد بكون سقر إحدى الكبر أنها إحدى الدواهي الكبر لا يعادلها غيرها من الدواهي كما يقال: هو أحد الرجال أي لا نظير له بينهم، والجملة جواب للقسم.
والمعنى أقسم بكذا وكذا أن سقر لإحدى الدواهي الكبر - أكبرها - إنذارا للبشر.
ولا يبعد أن يكون {كلا} ردعا لقوله في القرآن: {إن هذا إلا سحر يؤثر إن هذا إلا قول البشر} ويكون ضمير {أنها} للقرآن بما أنه آيات أومن باب مطابقة اسم إن لخبرها.
والمعنى: ليس كما قال أقسم بكذا وكذا أن القرآن - آياته - لإحدى الآيات الإلهية الكبرى إنذارا للبشر.
وقيل: الجملة {أنها لإحدى الكبر} تعليل للردع، والقسم معترض للتأكيد لا جواب له أو جوابه مقدر يدل عليه كلا.
قوله تعالى: {نذيرا للبشر} مصدر بمعنى الإنذار منصوب للتمييز، وقيل: حال مما يفهم من سياق قوله: {إنها لإحدى الكبر} أي كبرت وعظمت حالكونها إنذارا أي منذرة.
وقيل فيه وجوه أخر لا يعبأ بها كقول بعضهم: أنه صفة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والآية متصلة بأول السورة والتقدير قم نذيرا للبشر فأنذر، وقول بعضهم: صفة له تعالى.
قوله تعالى: {لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر} تعميم للإنذار و{لمن شاء} بدل من البشر، و{أن يتقدم} إلخ مفعول {شاء} والمراد بالتقدم والتأخر: الاتباع للحق ومصداقه الإيمان والطاعة، وعدم الاتباع ومصداقه الكفر والمعصية.
والمعنى: نذيرا لمن اتبع منكم الحق ولمن لم يتبع أي لجميعكم من غير استثناء.
وقيل: {أن يتقدم} في موضع الرفع على الابتداء و{لمن شاء} خبره كقولك لمن توضأ أن يصلي، والمعنى مطلق لمن شاء التقدم أو التأخر أن يتقدم أو يتأخر، وهو كقوله.
{فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} والمراد بالتقدم والتأخر السبق إلى الخير والتخلف عنه انتهى.
قوله تعالى: {كل نفس بما كسبت رهينة} الباء بمعنى مع أو للسببية أو للمقابلة و{رهينة} بمعنى الرهن على ما ذكره الزمخشري قال في الكشاف،: رهينة ليست بتأنيث رهين في قوله: {كل امرىء بما كسب رهين} لتأنيث النفس لأنه لو قصدت لقيل: رهين لأن فعيلا بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث، وإنما هي اسم بمعنى الرهن كالشتيمة بمعنى الشتم كأنه قيل: كل نفس بما كسبت رهن.
انتهى.
وكان العناية في عد كل نفس رهينة أن لله عليها حق العبودية بالإيمان والعمل الصالح فهي رهينة محفوظة محبوسة عند الله حتى توفي دينه وتؤدي حقه تعالى فإن آمنت وصلحت فكت وأطلقت، وإن كفرت وأجرمت وماتت على ذلك كانت رهينة محبوسة دائما، وهذا غير كونها رهين عملها ملازمة لما اكتسبت من خير وشر كما تقدم في قوله تعالى: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور: 21] .
والآية في مقام بيان وجه التعميم المستفاد من قوله: {نذيرا للبشر لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر} فإن كون النفس الإنسانية رهينة بما كسبت يوجب على كل نفس أن تتقي النار التي ستحبس فيها إن أجرمت ولم تتبع الحق.
قوله تعالى: {إلا أصحاب اليمين} هم الذين يؤتون كتابهم بأيمانهم يوم الحساب وهم أصحاب العقائد الحقة والأعمال الصالحة من متوسطي المؤمنين، وقد تكرر ذكرهم وتسميتهم بأصحاب اليمين في مواضع من كلامه تعالى، وعلى هذا فالاستثناء متصل.
والمتحصل من مجموع المستثنى منه والمستثنى انقسام النفوس ذوات الكسب إلى نفوس رهينة بما كسبت وهي نفوس المجرمين، ونفوس مفكوكة من الرهن مطلقة وهي نفوس أصحاب اليمين، وأما السابقون المقربون وهم الذين ذكرهم الله في مواضع من كلامه وعدهم ثالثة الطائفتين وغيرهما كما في قوله تعالى: {كُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ } [الواقعة: 7 - 10] ، فهؤلاء قد استقروا في مستقر العبودية لا يملكون نفسا ولا عمل نفس فنفوسهم لله وكذلك أعمالهم فلا يحضرون ولا يحاسبون قال تعالى: {فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} [الصافات: 127، 128] ، فهم خارجون عن المقسم رأسا.
وعن بعضهم تفسير أصحاب اليمين بالملائكة، وعن بعضهم التفسير بأطفال المسلمين وعن بعضهم أنهم الذين كانوا عن يمين آدم يوم الميثاق، وعن بعضهم أنهم الذين سبقت لهم من الله الحسنى، وهي وجوه ضعيفة غير خفية الضعف.
قوله تعالى: {في جنات يتساءلون عن المجرمين ما سلككم في سقر} {في جنات} خبر لمبتدإ محذوف وتنوين جنات للتعظيم، والتقدير هم في جنات لا يدرك وصفها، ويمكن أن يكون حالا من أصحاب اليمين.
وقوله: {يتساءلون عن المجرمين} أي يتساءل جمعهم عن جمع المجرمين.
وقوله: {ما سلككم في سقر} أي ما أدخلكم في سقر بيان لتساؤلهم من بيان الجملة بالجملة، أو بتقدير القول أي قائلين ما سلككم في سقر.
قوله تعالى: {قالوا لم نك من المصلين} ضمير الجمع للمجرمين، والمراد بالصلاة التوجه العبادي الخاص إلى الله سبحانه فلا يضره اختلاف الصلاة كما وكيفا باختلاف الشرائع السماوية الحقة.
قوله تعالى: {ولم نك نطعم المسكين} المراد بإطعام المسكين الإنفاق على فقراء المجتمع بما يقوم به صلبهم ويرتفع به حاجتهم، وإطعام المسكين إشارة إلى حق الناس عملا كما أن الصلاة إشارة إلى حق الله كذلك.
قوله تعالى: {وكنا نخوض مع الخائضين} المراد بالخوض الاشتغال بالباطل قولا أو فعلا والغور فيه.
قوله تعالى: {وكنا نكذب بيوم الدين} وهو يوم الجزاء فهذه خصال أربع من طبع المجرم أن يبتلي بها كلا أو بعضا، ولما كان المجيب عن التساؤل جمع المجرمين صحت نسبة الجميع إلى الجميع وإن كان بعضهم مبتلى ببعضها دون بعض.
قوله تعالى: {حتى أتانا اليقين} قيد للتكذيب، وفسروا اليقين بالموت لكونه مما لا شك فيه فالمعنى وكنا في الدنيا نكذب بيوم الجزاء حتى أتانا الموت فانقطعت به الحياة الدنيا أي كنا نكذب به ما دامت الحياة.
وقيل: المراد به اليقين الحاصل بحقية يوم الجزاء بمشاهدة آيات الآخرة ومعاينة الحياة البرزخية حين الموت وبعده، وهو معنى حسن.
قوله تعالى: {فما تنفعهم شفاعة الشافعين} تقدم في بحث الشفاعة أن في الآية دلالة على أن هناك شافعين يشفعون فيشفعون لكن لا تنفع هؤلاء شفاعتهم لأنهم محرومون من نيلها.
وقد أوردنا جملة من أخبار الشفاعة في الجزء الأول من الكتاب.
وقوله تعالى : {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً (52) كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ } [المدثر: 49 - 56]
في معنى الاستنتاج مما تقدم من الوعيد والوعد أورد في صورة التعجب من إعراضهم عن تذكرة القرآن وتنفرهم عن الحق الصريح كأنه قيل: فإذا كان كذلك فعليهم أن يجيبوا دعوة الحق ويتذكروا بالتذكرة فمن العجب أنهم معرضون عن ذلك كلا بل لا يؤمنون بالرسالة ويريد كل امرىء منهم أن ينزل عليه كتاب من الله.
كلا بل لا يخافون الآخرة فلا يرتدعون عن وعيد.
ثم يعرض عليهم التذكرة عرضا فهم على خيرة من القبول والرد فإن شاءوا قبلوا وإن شاءوا ردوا، لكن عليهم أن يعلموا أنهم غير مستقلين في مشيتهم وليسوا بمعجزين لله سبحانه فليس لهم أن يذكروا إلا أن يشاء الله، وحكم القدر جار فيهم البتة.
قوله تعالى: {فما لهم عن التذكرة معرضين} تفريع على ما تقدم من التذكرة والموعظة، والاستفهام للتعجيب، و{لهم} متعلق بمحذوف والتقدير فما كان لهم: و{معرضين} حال من ضمير {لهم} و{عن التذكرة} متعلق بمعرضين.
والمعنى: فإذا كان كذلك فأي شيء كان - عرض - للمشركين الذين يكذبون بتذكرة القرآن حال كونهم معرضين عنها أي كان من الواجب عليهم أن يصدقوا ويؤمنوا لكنهم أعرضوا عنها وهومن العجب.
قوله تعالى: {كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة} تشبيه لهم من حيث حالهم في الإعراض عن التذكرة، والحمر جمع حمار، والمراد الحمر الوحشية والاستنفار بمعنى النفرة والقسورة الأسد والصائد، وقد فسر بكل من المعنيين.
والمعنى: معرضين عن التذكرة كأنهم حمر وحشية نفرت من أسد أومن الصائد.
قوله تعالى: {بل يريد كل امرىء منهم أن يؤتى صحفا منشرة} المراد بالصحف المنشرة الكتاب السماوي المشتمل على الدعوة الحقة.
وفي الكلام إضراب عما ذكر من إعراضهم، والمعنى ليس إعراضهم عن التذكرة لمجرد النفرة بل يريد كل امرىء منهم أن ينزل عليه كتاب من عند الله مشتمل على ما تشتمل عليه دعوة القرآن.
وهذه النسبة إليهم كناية عن استكبارهم على الله سبحانه أنهم إنما يقبلون دعوته ولا يردونها لودعا كل واحد منهم بإنزال كتاب سماوي إليه مستقلا وأما الدعوة من طريق الرسالة فليسوا يستجيبونها وإن كانت حقة مؤيدة بالآيات البينة.
فالآية في معنى ما حكاه الله سبحانه من قولهم: {لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ} [الأنعام: 124] ، وفي معنى قول الأمم لرسلهم: {إن أنتم إلا بشر مثلنا} على ما قررنا من حجتهم على نفي رسالة الرسل.
وقيل: إن الآية في معنى قولهم للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي حكاه الله في قوله: {وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ} [الإسراء: 93].
ويدفعه أن مدلول الآية أن ينزل على كل واحد منهم صحف منشرة غير ما ينزل على غيره لا نزول كتاب واحد من السماء على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقرؤه الجميع كما هو مدلول آية الإسراء.
وقيل: المراد نزول كتب من السماء عليهم بأسمائهم أن آمنوا بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم).
وقيل: المراد أن ينزل عليهم كتب من السماء بالبراءة من العذاب وإسباغ النعمة حتى يؤمنوا وإلا بقوا على كفرهم وقيل غير ذلك.
وهي جميعا معان بعيدة من السياق والتعويل على ما تقدم.
قوله تعالى: {كلا بل لا يخافون الآخرة} ردع لهم بما يريدونه من نزول كتاب سماوي على كل واحد منهم فإن دعوة الرسالة مؤيدة بآيات بينة وحجج قاطعة لا تدع ريبا لمرتاب فالحجة تامة قائمة على الرسول وغيره على حد سواء من غير حاجة إلى أن يؤتى كل واحد من الناس المدعوين صحفا منشرة.
على أن الرسالة تحتاج من طهارة الذات وصلاحية النفس إلى ما يفقده نفوس سائر الناس كما هو مدلول جوابه تعالى في سورة الأنعام عن قولهم: {لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله} بقوله: {الله أعلم حيث يجعل رسالته}.
وقوله: {بل لا يخافون الآخرة} إضراب عن قوله: {يريد كل امرىء منهم} إلخ، والمراد أن اقتراحهم نزول كتاب على كل امرىء منهم قول ظاهري منهم يريدون به صرف الدعوة عن أنفسهم، والسبب الحقيقي لكفرهم وتكذيبهم بالدعوة أنهم لا يخافون الآخرة، ولو خافوها لآمنوا ولم يقترحوا آية بعد قيام الحجة بظهور الآيات البينات.
قوله تعالى: {كلا إنه تذكرة} ردع ثان لاقتراحهم نزول كتاب سماوي لكل امرىء منهم، والمعنى لا ننزل كتابا كذلك أن القرآن تذكرة وموعظة نعظهم به لا نريد به أزيد من ذلك، وأثر ذلك ما أعد للمطيع والعاصي عندنا من الجزاء.
قوله تعالى: {فمن شاء ذكره} أي فمن شاء اتعظ به فإنما هي دعوة في ظرف الاختيار من غير إكراه.
قوله تعالى: {وما يذكرون إلا أن يشاء الله هو أهل التقوى وأهل المغفرة} دفع لما يمكن أن يتوهموه من قوله تعالى: {فمن شاء ذكره} أن الأمر إليهم وأنهم مستقلون في إرادتهم وما يترتب عليها من أفعالهم فإن لم يشاءوا الذكر ولم يذكروا غلبوه تعالى فيما أراد وأعجزوه فيما شاء من ذكرهم.
والمحصل من الدفع أن حكم القدر جاء في أفعالهم كغيرها من الحوادث، وتذكرهم إن تذكروا وإن كان فعلا اختياريا صادرا عنهم باختيارهم من غير إكراه فالمشية الإلهية متعلقة به بما هو اختياري بمعنى أن الله تعالى يريد بإرادة تكوينية أن يفعل الإنسان الفعل الفلاني بإرادته واختياره فالفعل اختياري ممكن بالنسبة إلى الإنسان وهو بعينه متعلق الإرادة الإلهية ضروري التحقق بالنسبة إليها ولولاها لم يتحقق.
وقوله: {هو أهل التقوى وأهل المغفرة} أي أهل لأن يتقى منه لأن له الولاية المطلقة على كل شيء، وبيده سعادة الإنسان وشقاوته، وأهل لأن يغفر لمن اتقاه لأنه غفور رحيم.
والجملة أعني قوله: {هو أهل التقوى وأهل المغفرة} صالحة لتعليل ما تقدم من الدعوة في قوله: {إنه تذكرة فمن شاء ذكره} وهو ظاهر، ولتعليل قوله: {وما يذكرون إلا أن يشاء الله} فإن كونه تعالى أهل التقوى وأهل المغفرة لا يتم إلا بكونه ذا إرادة نافذة فيهم سارية في أعمالهم فليسوا بمخلين وما يهوونه وهم معجزون لله بتمردهم واستكبارهم.
___________________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج20 ، ص83-88.
استمراراً للبحث مع المنكرين لنبوة الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) واليوم الآخر تؤكّد الآيات التالية في أقسام عديدة على مسألة القيامة والجحيم وعذابها، فيقول تعالى: {كلا والقمر}.
«كلاّ»: حرف ردع وإنكار لما تقدم أو ردع لما سيأتي، ويعني هنا نفي تصور المشركين والمنكرين بجهنّم وعذابها، والساخرين بخزنة جهنّم بقرينة الآيات السابقة.
وأقسم بالقمر لأنّه إحدى الآيات الإلهية الكبرى، لما فيه من الخلقة والدوران المعظم والنور والجمال والتغييرات التدريجية الحاصلة فيه لتعيين الأيّام باعتباره تقويماً حيّاً كذلك.
ثمّ يضيف: {والليل إذ أدبر}، {والصبح إذا أسفر}.(2)
في الحقيقة أنّ هذه الأقسام الثلاثة مرتبطة بعضها بالآخر ومكملة للآخر، وكذلك لأنّنا كما نعلم أنّ القمر يتجلى في الليل، ويختفي نوره في النهار لتأثير الشمس عليه، والليل وإن كان باعثاً على الهدوء والظلام وعنده سرّ عشاق الليل، ولكن الليل المظلم يكون جميلاً عندما يدبر ويتجه العالم نحو الصبح المضيء وآخر السحر، وطلوع الصبح المنهي لليل المظلم أصفى وأجمل من كل شيء حيث يثير في الإنسان إلى النشاط ويجعله غارقاً في النور الصفاء.
هذه الأقسام الثلاثة تتناسب ضمنياً مع نور الهداية (القرآن) واستدبار الظلمات (الشرك) وعبادة (الأصنام) وطلوع بياض الصباح (التوحيد)، ثمّ ينتهي إلى تبيان ما أقسم من أجله فيقول تعالى: {إنّها لأحدى الكبر}. (3)
إنّ الضمير في (إنّها) إمّا يرجع إلى «سقر»، وإمّا يرجع إلى الجنود، أوإلى مجموعة الحوادث في يوم القيامة، وأيّاً كانت فإنّ عظمتها واضحة.
ثمّ يضيف تعالى: {نذير للبشر}.(4)
لينذر الجميع ويحذرهم من العذاب الموحش الذي ينتظر الكفّار والمذنبين وأعداء الحق.
وفي النهاية يؤكّد مضيفاً أنّ هذا العذاب لا يخص جماعة دون جماعة، بل: {لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر} فهنيئاً لمن يتقدم، وتعساً وترحاً لمن يتأخر.
واحتمل البعض كون التقدم إلى الجحيم والتأخر عنه، وقيل هو تقدم النفس الإنسانية وتكاملها أو تأخرها وانحطاطها، والمعنى الأوّل والثّالث هما المناسبان، دون الثّاني.
وقوله تعالى : {كُلُّ نَفْس بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ(38) إِلاَّ أَصْحَبَ الْيَمِينِ(39) فِى جَنَّت يَتَسآءَلُونَ(40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ(41) مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ(42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ(43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ(44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَآئِضِينَ(45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الْدِّينِ(46) حَتَّى أَتَنا الْيَقِينُ(47) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَعَةُ الْشَّفِعِينَ}
لِمَ صرتم من أصحاب الجحيم؟
إكمالاً للبحث الذي ورد حول النّار وأهلها في الآيات السابقة، يضيف تعالى في هذه الآيات: {كلّ نفس بما كسبت رهينة}.
«رهينة»: من مادة (رهن) وهي وثيقة تعطى عادة مقابل القرض، وكأن نفس الإنسان محبوسة حتى تؤدي وظائفها وتكاليفها، فإن أدت ما عليها فكت وأطلقت، وإلاّ فهي باقية رهينة ومحبوسة دائماً، ونقل عن أهل اللغة أنّ أحد معانيها الملازمة والمصاحبة(5)، فيكون المعنى: الكلّ مقترنون بمعية أعمالهم سواء الصالحون أم المسيئون.
لذا يضيف مباشرة: {إلاّ أصحاب اليمين}.
إنّهم حطموا أغلال وسلاسل الحبس بشعاع الإيمان والعمل الصالح ويدخلون الجنّة بدون حساب.(6)
وهناك أقوال كثيرة حول المقصود من أصحاب اليمين:
فقيل هم الذين يحملون كتبهم بيمينهم، وقيل هم المؤمنون الذين لم يرتكبوا ذنباً أبداً، وقيل هم الملائكة، وقيل غير ذلك والمعنى الأوّل يطابق ظاهر الآيات القرآنية المختلفة، وما له شواهد قرآنية، فهم ذوو إيمان وعمل صالح، وإذا كانت لهم ذنوب صغيرة فإنّها تمحى بالحسنات وذلك بحكم {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ } [هود: 114].
فحينئذ تغطّي حسناتهم سيئاتهم أو يدخلون الجنّة بلا حساب، وإذا وقفوا للحساب فسيخفف عليهم ذلك ويسهل، كما جاء في سورة الإنشقاق آية (7): {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا } [الانشقاق: 7، 8] .
ونقل المفسّر المشهور «القرطبي» وهومن أهل السنة تفسير هذه الآية عن الإمام الباقر(عليه السلام) فقال: «نحن وشيعتنا أصحاب اليمين وكل من أبغضنا أهل البيت فهم مرتهنون».(7)
وأورد هذا الحديث مفسّرون آخرون منهم صاحب مجمع البيان ونور الثقلين والبعض الآخر أورده تذييلاً لهذه الآيات.
ثمّ يضيف مبيّناً جانباً من أصحاب اليمين والجماعة المقابلة لهم:
{في جنّات يتساءلون(8) عن المجرمين ما سلككم في سقر}.
يستفاد من هذه الآيات أن الرابطة غير منقطعة بين أهل الجنان وأهل النّار، فيمكنهم مشاهدة أحوال أهل النّار والتحدث معهم، ولكن ماذا سيجيب المجرمون عن سؤال أصحاب اليمين؟ إنّهم يعترفون بأربع خطايا كبيرة كانوا قد ارتكبوها:
الاُولى: {قالوا لم نكُ من المصلين}.
لوكنّا مصلّين لذكّرتنا الصلاة باللّه تعالى، ونهتنا عن الفحشاء والمنكر ودعتنا إلى صراط اللّه المستقيم.
والأُخرى: {ولم نك نطعم المسكين}.
وهذه الجملة وإن كانت تعطي معنى إطعام المحتاجين، ولكن الظاهر أنه يراد بها المساعدة والإعانة الضرورية للمحتاجين عموماً بما ترتفع بها حوائجهم كالمأكل والملبس والمسكن وغير ذلك.
وصرّح المفسّرون أنّ المراد بها الزكاة المفروضة، لأنّ ترك الإنفاق المستحب لا يكون سبباً في دخول النّار، وهذه الآية تؤكّد مرّة أُخرى على أنّ الزّكاة كانت قد فرضت بمكّة بصورة إجمالية، وإن كان التشريع بجزئياتها وتعيين خصوصياتها وتمركزها في بيت المال كان في المدينة.
والثّالثة: {وكنّا نخوض مع الخائضين}.
كنّا نؤيد ما يصدر ضدّ الحقّ في مجالس الباطل .نقوم بالتريج لها، وكنّا معهم أين ما كانوا، وكيف ما كانوا، وكنّا نصدق أقوالهم، ونضفي الصحة على ما ينكرون ويكذبون ونلتذ باستهزائهم الحقّ.
«نخوض»: من مادة (خوض) على وزن (حوض)، وتعني في الأصل الغور والحركة في الماء، ويطلق على الدخول والتلوث بالاُمور، والقرآن غالباً ما يستعمل هذه اللفظة في الإشتغال بالباطل والغور فيه.
(الخوض في الباطل) له معان واسعة فهو يشمل الدخول في المجالس التي تتعرض فيها آيات اللّه للإستهزاء أو ما تروج فيها البدع، أو المزاح الواقح، أو التحدث عن المحارم المرتكبة بعنوان الإفتخار والتلذذ بذكرها، وكذلك المشاركة في مجالس الغيبة والإتهام واللهو واللعب وأمثال ذلك، ولكن المعنى الذي انصرفت إليه الآية هو الخوض في مجالس الإستهزاء بالدين والمقدسات وتضعيفها وترويج الكفر والشرك.
وأخيراً يضيف: {وكنّا نكذّب بيوم الدين حتى أتانا اليقين}.
من الواضح أنّ إنكار المعاد ويوم الحساب والجزاء يزلزل جميع القيم الإلهية والأخلاقية، ويشجع الإنسان على ارتكاب المحارم، ويرفع كلّ مانع هذا الطريق، خصوصاً إذا استمر إلى آخر العمر، على كل حال فإنّ ما يستفاد من هذه الآيات أنّ الكفّار هم مكلّفون بفروع الدين، كما هم مكلّفون بالأصول، وكذلك تشير إلى أن الأركان الاربعة، أي الصلاة والزّكاة وترك مجالس أهل الباطل، والإيمان بالقيامة لها الأثر البالغ في تربية وهداية الإنسان، وبهذا لا يمكن أن يكون الجحيم مكاناً للمصلين الواقعيين، والمؤتين الزّكاة، والتاركين الباطل والمؤمنين بالقيامة.
بالطبع فإنّ الصلاة هي عبادة اللّه، ولكنّها لا تنفع إذا لم يمتلك الإنسان الإيمان به تعالى، ولهذا فإنّ أداءها رمز للإيمان والإعتقاد باللّه والتسليم لأوامره، ويمكن القول إنّ هذه الاُمور الأربعة تبدأ بالتوحيد ينتهي بالمعاد، وتحقق العلاقة والرابطة بين الإنسان والخالق، وكذا بين المخلوقين أنفسهم.
والمشهور بين المفسّرين أنّ المراد من (اليقين) هنا هو الموت، لأنّه يعتبر أمرٌ يقيني للمؤمن والكافر، وإذا شك الإنسان في شيء ما فلا يستطيع أن يشك بالموت ونقرأ أيضاً في الآية (99) من سورة الحجر: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } [الحجر: 99].
ولكن ذهب البعض إلى أنّ اليقين هنا يعني المعرفة الحاصلة بعد موت الإنسان وهي التي تختص بمسائل البرزخ والقيامة، وهذا ما يتفق نوعاً ما مع التّفسير الأوّل.
وفي الآية الأخيرة محل البحث إشارة إلى العاقبة السيئة لهذه الجماعة فيقول تعالى: {فما تنفعهم شفاعة الشافعين}.
فلا تنفعهم شفاعة الأنبياء ورسل اللّه والائمّة، ولا الملائكة والصديقين والشهداء والصالحين، ولأنّها تحتاج إلى عوامل مساعدة وهؤلاء أبادوا كل هذه العوامل، فالشفاعة كالماء الزلال الذي تسقى به النبتة الفتية، وبديهي إذا ماتت النبتة الفتية، لا يكن للماء الزلال أن يحييها، وبعبارة أُخرى كما قلنا في بحث الشفاعة، فإنّ الشفاعة من {الشفع) وتعني ضم الشيء إلى آخر، ومعنى هذا الحديث هو أنّ المُشفّع له يكون قد قطع قسطاً من الطريق وهو متأخر عن الركب في مآزق المسير، فتضم إليه شفاعة الشافع لتعينه على قطع بقية الطريق(9).
وهذه الآية تؤكّد مرّةً أُخرى مسألة الشفاعة وتنوع وتعدد الشفعاء عند اللّه، وهي جواب قاطع لمن ينكر الشفاعة، وكذلك توكّد على أنّ للشفاعة شروطاً وأنّها لا تعني اعطاء الضوء الأخضر لارتكاب الذنوب، بل هي عامل مساعد لتربية الإنسان وايصاله على الأقل إلى مرحلة تكون له القابلية على التشفع، بحيث لا تنقطع وشائج العلاقة بينه وبين اللّه تعالى والأولياء.
وقوله تعالى :{فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ(49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنفِرَةٌ (50)فَرَتْ مِن قَسْوَرَة(51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِىء مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفاً مُّنَشَّرَةً(52) كَلاَّ بَل لاَّ يَخَافُونَ الاْخِرَةَ(53) كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ(54) فَمَن شَاءَ ذَكَرَهُ(55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ هُو أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ}
يفرّون من الحق كما تفرّ الحمر من الأسد:
تتابع هذه الآيات ما ورد في الآيات السابقة من البحث حول مصير المجرمين وأهل النّار، وتعكس أوضح تصوير في خوف هذه الجماعة المعاندة ورعبها من سماع حديث الحقّ والحقيقة.
فيقول اللّه تعالى أوّلاً: {فما لهم عن التذكرة معرضين}(10) لِمَ يفرّون من دواء القرآن الشافي؟ لِمَ يطعنون في صدر الطبيب الحريص عليهم؟ حقّاً إنّه مثيرٌ {كأنّهم حمر مستنفرة فرت من قسورة}.
«حمرٌ»: جمع (حمار) والمراد هنا الحمار الوحشي، بقرينة فرارهم من قبضة الأسد والصياد، وبعبارة أُخرى أنّ هذه الكلمة ذات مفهوم عام يشمل الحمار الوحشي والأهلي.
«قسورة»: من مادة (قسر) أي القهر والغلبة، وهي أحد أسماء الأسد، وقيل هو السهم، وقيل الصيد، ولكن المعنى الأوّل أنسب.
والمشهور أنّ الحمار الوحشي يخاف جدّاً من الأسد، حتى أنّه عندما يسمع صوته يستولي عليه الرعب فيركض إلى كلّ الجهات كالمجنون، خصوصاً إذا ما حمل الأسد على فصيل منها، فإنّها تتفرق في كل الجهات بحيث يعجب الناظر من رؤيتها.
وهذا الحيوان وحشي ويخاف من كل شيء، فكيف به إذا رأى الأسد المفترس؟!
على كل حال فإنّ هذه الآية تعبير بالغٌ عن خوف المشركين وفرارهم من الآيات القرآنية المربية للروح، فشبههم بالحمار الوحشي لأنّهم عديمو العقل والشعور، وكذلك لتوحشّهم من كل شيء، في حين أنّه ليس مقابلهم سوى التذكرة.
{بل يريد كل امرىء منهم أن يؤتى صحفاً منشرة}(11)، وذلك لتكبّرهم وغرورهم الفارغ بحيث يتوقعون من اللّه تعالى أن ينزل على كلّ واحد منهم كتاباً.
وهذا نظير ما جاء في الآية (93) من سورة الإسراء: {وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ} [الإسراء: 93]
وكذا في الآية (124) من سورة الأنعام حيث يقول {قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ} [الأنعام: 124].
وعلى هذا فإنّ كلاًّ منهم يتنظر أن يكون نبيّاً من اُولي العزم! وينزل عليه كتاباً خاصّاً من اللّه بأسمائهم، ومع كل هذا فليس هناك من ضمان في أن يؤمنوا بعد كل ذلك.
وجاء في بعض الرّوايات أنّ أبا جهل وجماعة من قريش قالوا للنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): لا نؤمن بك حتى تأتينا بصحف من السماء عليها فلان ابن فلان من ربّ العالمين، ويأتي الأمر علناً بإتباعك والإيمان بك.(12)
ولذا يضيف في الآية الأُخرى: (كلاّ) ليس كما يقولون ويزعمون، فإنّ طلب نزول مثل هذا الكتاب وغيره هي من الحجج الواهية، والحقيقة {بل لا يخافون الآخرة}.
إذا كانوا يخافون الآخرة فما كانوا يتذرعون بكل هذه الذرائع، ما كانوا ليكذبوا رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم)، وما كانوا ليستهزئوا بآيات اللّه تعالى، ولا بعدد ملائكته، ومن هنا يتّضح أثر الإيمان بالمعاد في التقوى والطهارة من المعاصي والذنوب الكبيرة، والحقّ يقال إن الإيمان بعالم البعث والجزاء وعذاب القيامة يهب للإنسان شخصية جديدة يمكنه أن يغير إنساناً متكبراً ومغروراً وظالماً إلى إنسان مؤمن متواضع ومتق عادل.
ثمّ يؤكّد القرآن على أنّ ما يفكرون به فيما يخصّ القرآن هو تفكّر خاطئ: {كلاّ إنّه تذكرة فمن شاء ذكره}.
فإنّ القرآن الكريم قد أوضح الطريق، ودعانا إلى التبصر فيه، وأنار لنا السبيل ليرى الإنسان موضع أقدامه، وفي الوقت نفسه لا يمكن ذلك إلاّ بتوفيق من اللّه وبمشيئته تعالى، وما يذكرون إلاّ ما يشاء اللّه.
ولهذا الآية عدّة تفاسير:
إحداها: مكا ذكرناه سابقاً، وهو أن الإنسان لا يمكنه الحصول على طريق الهداية إلاّ بالتوسل باللّه تعالى وطلب الموفقية منه.
وطبيعي أن هذا الإمداد والتوفيق الإلهي لا يتمّ إلاّ بوجود أرضية مساعدة لنزوله.
والتّفسير الآخر: ما جاء في الآية السابقة: {فمن شاء ذكره} يمكن أن يوجد وهماً وأنّ كل شيء مرتبط بإرادة الإنسان نفسه، وأنّ إرادته مستقلة في كل الأحوال، وتقول هذه الآية رافعة بذلك هذا الإشتباه، إنّ الإنسان مرتبط بالمشيئة الإلهية، وإن هذه الآية مختاراً حرّاً وهذه المشيئة هي الحاكمة على كل هذا العالم الموجود، وبعبارة اُخرى: إنّ هذا الاختبار والحرية والمعطاة للإنسان في بمشيئته تعالى وإرادته، ويمكن سلبها أنّى شاء.
وأمّا التّفسير الثّالث فإنّه يقول: إنّهم لا يمكنهم الإيمان إلاّ أن يشاء اللّه ذلك ويجبرهم ، ونعلم أنّ اللّه لا يجبر أحداً على الإيمان أو الكفر، والتّفسير الأوّل والثّاني أنسب وأفضل.
وفي النهاية يقول: {هو أهل التقوى وأهل المغفرة}.
فهو أهل لأن يخافوا من عقابه وأن يتقوا في اتّخاذهم شريكاً له تعالى شأنه، وأن يأملوا مغفرته، وفي الحقيقة، أنّ هذه الآية إشارة إلى الخوف والرجاء والعذاب والمغفرة الإلهية، وهي تعليل لما جاء في الآية السابقة، لذا نقرأ في حديث ورد عن الإمام الصّادق(عليه السلام) في تفسير هذه الآية أنّه قال: «قال اللّه: أنا أهل أن اتقى ولا يشرك بي عبدي شيئاً وأنا أهل إن لم يشرك بي شيئاً أن اُدخله الجنّة»(13).
وبالرغم من أنّ المفسّرين ـ كما رأينا ـ قد أخذوا التقوى هنا بمعناها المفعولي، وقالوا إنّ اللّه تعالى أهل لأن يتّقى من الشرك والمعصية، ولكن هناك احتمالاً آخر، وهو أنّ تؤخذ بمعناها الفاعلي، أي أن اللّه أهل للتقوى من كلّ أنواع الظلم والقبح ومن كل ما يخالف الحكمة، وما عند العباد من التقوى هو قبسٌ ضعيف من ما عند اللّه، وإنّ كان التعبير بالتقوى بمعناه الفاعلي والذي يُقصد به اللّه تعالى قليل الإستعمال، على كل حال فإنّ الآية قد بدأت بالإنذار والتكليف، وإنتهت بالدعوة إلى التقوى والوعد بالمغفرة.
_____________________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج14 ، ص 456-575.
2 ـ «أسفر» من مادة (سفر) على وزن (قفر) ويعني انجلاء الملابس وانكشاف الحجاب، ولذا يقال للنساء المتبرجات (سافرات) وهذا التعبير يشمل تشبيهاً جميلاً لطلوع الشمس.
3 ـ «كبر»: جمع كبرى وهي كبيرة، وقيل المراد بكون سقر إحدى الطبقات الكبيرة لجهنّم، هذا المعنى لا يتفق مع ما أشرنا إليه من قبل وكذا مع الآيات.
4 ـ «نذيراً»: حال للضمير في «أنّها» الذي يرجع إلى سقر، وقيل هو تمييز، ولكنه يصح فيما لوكان النذير مصدراً يأتي بمعنى (الإنذار)، والمعنى الأوّل أوجه.
5 ـ لسان العرب مادة: رهن.
6 ـ قال الشّيخ الطوسي في التبيان أن الإستثناء هنا هو منقطع وقال آخرون كصاحب (روح البيان) أنّه متصل، وهذا الإختلاف يرتبط كما ذكرنا بالتفسيرات المختلفة لمعنى الرهينة، وما يطابق ما اخترناه من التّفسير هو أن الإستثناء هنا منقطع وعلى التفسير الثّاني يكون متصلاً.
7 ـ تفسير القرطبي، ج10، ص6878.
8 ـ «يتساءلون»: وهو وإن كان من باب (تفاعل) الذي يأتي عادةً في الأعمال المشتركة بين اثنين أو أكثر، ولكنه فقد هذا المعنى هنا كما في بعض الموارد الأُخرى، ولمعنى يسألون، وتنكير الجنات هو لتبيان عظمتها و(في جنات) خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هو في جنات.
9 ـ التّفسير الأمثل، المجلد الأوّل، ذيل الآية (48) من سورة البقرة.
10 ـ «ما» مبتدأ و(لهم) خبر و(معرضين) حال الضمير لهم (وعن التذكرة) جار ومجرور ومتعلق بالمعرضين، وقيل تقديم (عن التذكرة) على (معرضين) دلالة على الحصر أي أنّهم أعرضوا عن التذكرة المفيدة فقط، على كل حال فإنّ المراد من التذكرة هنا كلّ ما هو نافع ومفيد وعلى رأسها القرآن المجيد.
11 ـ «صحف»: جمع صحيفة، وهي الورقة التي لها وجهان، وتطلق كذلك على الرسالة والكتاب.
12 ـ تفسير القرطبي، والمراغي، وتفاسير اُخرى.
13 ـ تفسير البرهان، ج4، ص405.
|
|
مخاطر عدم علاج ارتفاع ضغط الدم
|
|
|
|
|
أكثر 5 ماركات سيارات تعاني من مشاكل في المحرك في 2024
|
|
|
|
|
مدرسة دار العلم.. صرح علميّ متميز في كربلاء لنشر علوم أهل البيت (عليهم السلام)
|
|
|