أقرأ أيضاً
التاريخ: 13-2-2018
36258
التاريخ: 13-2-2018
10887
التاريخ: 13-2-2018
13216
|
قال تعالى : {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} [المدثر: 1 - 10].
خاطب سبحانه نبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) فقال {يا أيها المدثر} أي المتدثر بثيابه قال الأوزاعي سمعت يحيى بن أبي كثير يقول سألت أبا سلمة أي القرآن أنزل من قبل قال {يا أيها المدثر} فقلت أو اقرأ باسم ربك فقال سألت جابر بن عبد الله أي القرآن أنزل قبل قال {يا أيها المدثر} فقلت أو اقرأ فقال جابر أحدثكم ما حدثنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال ((جاورت بحراء شهرا فلما قضيت جواري نزلت فاستبطنت الواد فنوديت فنظرت أمامي وخلفي وعن يميني وشمالي فلم أر أحدا ثم نوديت فرفعت رأسي فإذا هو على العرش في الهواء يعني جبرائيل فقلت دثروني دثروني فصبوا علي ماء فأنزل الله عز وجل يا أيها المدثر)) وفي رواية ((فحييت منه فرقا حتى هويت إلى الأرض فجئت إلى أهلي فقلت زملوني فنزل {يا أيها المدثر})).
{قم فأنذر} أي ليس بك ما تخافه من الشيطان إنما أنت نبي فأنذر الناس وادعهم إلى التوحيد وفي هذا ما فيه لأن الله تعالى لا يوحي إلى رسوله إلا بالبراهين النيرة والآيات البينة الدالة على أن ما يوحى إليه إنما هومن الله تعالى فلا يحتاج إلى شيء سواها ولا يفزع ولا يفرق وقيل معناه يا أيها الطالب صرف الأذى بالدثار اطلبه بالإنذار وخوف قومك بالنار وإن لم يؤمنوا وقيل إنه كان قد تدثر بشملة صغيرة لينام فقال يا أيها النائم قم من نومك فأنذر قومك وقيل إن المراد به الجد في الأمر والقيام بما أرسل به وترك الهوينا فيه فكأنه قيل له لا تنم عما أمرتك به وهذا كما تقول العرب فلان لا ينام في أمره إذا وصف بالجلد والانكماش وصدق العزيمة وكأنهم يخطرون النوم على ذي الحاجة حتى يبلغ حاجته وبذلك نطقت أشعارهم كما قيل :
ألا أيها الناهي فزارة بعد ما ** أجدت لأمر إنما أنت حالم
أرى كل ذي وتر يقوم بوتره ** ويمنع عنه النوم إذ أنت نائم(2)
ويقال لمن أدرك ثاره هذا هو الثأر المنيم وقال الشاعر يصف من أورد إبلا له :
أوردها سعد وسعد مشتمل ** ما هكذا تورد يا سعد الإبل(3)
والاشتمال مثل التدثر {وربك فكبر} أي عظمه ونزهه عما لا يليق به وقيل كبره في الصلاة فقل الله أكبر {وثيابك فطهر} أي وثيابك الملبوسة فطهرها من النجاسة للصلاة وقيل معناه ونفسك فطهر من الذنوب والثياب عبارة عن النفس عن قتادة ومجاهد وعلى هذا فيكون التقدير وذا ثيابك فطهر فحذف المضاف ومما يؤيد هذا القول قول عنترة :
فشككت بالرمح الأصم ثيابه ** ليس الكريم على القنا بمحرم(4)
وقيل معناه طهر ثيابك من لبسها على معصية أو غدرة كما قال سلامة بن غيلان الثقفي أنشده ابن عباس :
وإني بحمد الله لا ثوب فاجر ** لبست ولا من غدرة أتقنع
قال الزجاج معناه(5) ويقال للغادر دنس الثياب وفي معناه قول من قال وعملك فأصلح .
قال السدي يقال للرجل إذا كان صالحا أنه لطاهر الثياب وإذا كان فاجرا إنه لخبيث الثياب وقيل معناه وثيابك فقصر عن طاووس وروي ذلك عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال الزجاج لأن تقصير الثوب أبعد من النجاسة فإنه إذا انجر على الأرض لم يؤمن أن يصيبه ما ينجسه وقيل معناه وثيابك فاغسلها عن النجاسة بالماء لأن المشركين كانوا لا يتطهرون عن ابن زيد وابن سيرين وقيل لا يكن ثيابك من حرام عن ابن عباس وقيل معناه وأزواجك فطهرهن عن الكفر والمعاصي حتى يصرن مؤمنات صالحات والعرب تكني بالثياب عن النساء عن أبي مسلم وروى أبو بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال قال أمير المؤمنين (عليه السلام) غسل الثياب يذهب الهم والحزن وهو طهور المصلاة وتشمير الثياب طهور لها وقد قال الله سبحانه {وثيابك فطهر} أي فشمر.
{والرجز فاهجر} أي اهجر الأصنام والأوثان عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والزهري وقيل معناه اجتنب المعاصي عن الحسن قال الكسائي الرجز بالكسر العذاب وبالضم الصنم وقال المعنى أهجر ما يؤدي إلى العذاب ولم يفرق غيره بينهما وقيل معناه جانب الفعل القبيح والخلق الذميم عن الجبائي وقيل معناه أخرج حب الدنيا من قلبك لأنه رأس كل خطيئة {ولا تمنن تستكثر} أي لا تعط عطية لتعطى أكثر منها وهذا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) خاصة أدبه الله سبحانه بأكرم الآداب وأشرفها عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والنخعي والضحاك وقيل معناه ولا تمنن حسناتك على الله تعالى مستكثرا لها فينقصك ذلك عند الله عن الحسن وربيع بن أنس وقيل معناه لا تمنن ما أعطاك الله من النبوة والقرآن مستكثرا به الأجر من الناس عن ابن زيد وقيل هو نهي عن الربا المحرم أي لا تعط شيئا طالبا أن تعطي أكثر مما أعطيت عن أبي مسلم وقيل لا تضعف في عملك مستكثرا لطاعاتك عن مجاهد وقيل ولا تمنن بعطائك على الناس مستكثرا ما أعطيته فإن متاع الدنيا قليل ولأن المن يكدر الصنيعة وقيل معناه إذا أعطيت عطية فأعطها لربك واصبر حتى يكون هو الذي يثيبك عليها عن زيد بن أسلم وقيل معناه لا تمنن بإبلاغ الرسالة على أمتك عن الجبائي.
{ولربك} أي لوجه ربك {فاصبر} على أذى المشركين عن مجاهد وقيل فاصبر على ما أمرك الله به من أداء الرسالة وتعظيم الشريعة وعلى ما ينالك من التكذيب والأذى لتنال الفوز والذخر وقيل فاصبر عن المعاصي وعلى الطاعات والمصائب وقيل فاصبر لله على ما حملت من الأمور الشاقة في محاربة العرب والعجم عن ابن زيد {فإذا نقر في الناقور} معناه إذا نفخ في الصور وهي كهيئة البوق عن مجاهد وقيل إن ذلك في النفخة الأولى وهو أول الشدة الهائلة العامة وقيل إنه النفخة الثانية وعندها يحيي الله الخلق وتقوم القيامة وهي صيحة الساعة عن الجبائي {فذلك يومئذ} قد مر معناه في الأعراف {يوم عسير} أي شديد {على الكافرين} لنعم الله الجاحدين لآياته {غير يسير} غير هين ولا سهل وهو بمعنى قوله {عسير} إلا أنه أعاده بلفظ آخر للتأكيد كما تقول إني واد لفلان غير مبغض وقيل معناه عسير في نفسه وغير عسير على المؤمنين لما يرون من حسن العاقبة .
__________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج10 ، ص173-176.
2- يعني : ادركت ثارك فنمت ، ولكن فزارة على الانتقام . ويجب على كل ذي وتر ان يدافع عن نفسه النوم.
3- البيت لمالك بن زيد مناة ، وكان آبل أهل زمانه – اي : الحاذق في مصلحة الابل – ثم انه تزوج وبنى بامرأته ، فأورد الابل اخوه سعد ، ولم يحسن القيام عليها ، والرفق بها . فقال مالك هذا البيت ، يريد : ان من يورد الابل لا بد وان يكون متشمرا لا مشتملا . وفي بعض النسخ : ((يا سعد لا تروي بهذاك الابل )) بدل المصراع الاخير .
4- البيت من المعلقات . والشك : الانتظام . والاصم : الصلب . يقول : فانتظمته برمحي الصلب اي طعنته طعنة أنفذت في جسمه ، وثيابه كلها ، ثم قال : ليس الكريم محرما على الرماح .
5- [لا تكن غادراً].
في هذه الآيات إشارة إلى وظيفة محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) كرسول من الحق إلى الخلق ، وفيها أيضا إشارة إلى ان جميع الناس سواء أمام اللَّه تعالى ، وإليك التوضيح :
{يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} هو الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلّم) وقد خاطبه الجليل بهذا الوصف لأنه كان آنذاك مشتملا بثيابه لسبب من الأسباب كما قلنا عند قوله تعالى : {يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} . {قُمْ فَأَنْذِرْ} . قد يكون للكلمة الواحدة معنى لغوي واحد ، ولكن هذا المعنى الواحد كثيرا ما يختلف باختلاف المتكلم والمخاطب - مثلا - كلمة {أنذر} معناها في قواميس اللغة حذّر وخوّف ، فإذا قال قائل : رأيت شخصا يضع لغما في الطريق ، وقلت له : {أنذر} فان معنى قولك هذا : أعلن وخوّف المارة من اللغم ، وإذا قلت : أنذر لفقيه في قرية فالمعنى علَّم أهلها أحكام الدين وخوّفهم من مخالفتها ، أما قول العلي الأعلى لنبيه الكريم : {قُمْ فَأَنْذِرْ} فان معناه : تحدّ الطغاة وتلقّ منهم الضربات . . معناه جابه بكلمة الحق الأقوياء وأهل الكبر والخيلاء ، وقل لهم : أنتم الضالون المفسدون ، وستعلمون ما يحلّ بكم من الخزي والهوان إذا لم تؤوبوا إلى رشدكم ، وترجعوا عن غيكم ، قل لهم هذا وأكثر ، واصبر على ما يصيبك منهم وسبح بحمد ربك واشكره أيضا .
وإذا علمنا ان محمدا (صلى الله عليه وآله وسلّم) تحدى قريشا ، وهم في أعلى ذروة من القوة ونفوذ الكلمة ، وهو أعزل من كل شيء إلا من الايمان والإخلاص ، إذا علمنا ذلك تبين لنا ما أصابه منهم . . لقد وصفوه بالساحر والكاذب والشاعر بل والمجنون أيضا . . وأغروا به الأطفال يسخرون منه ويرشقونه بالحجارة ، وأغروا به النساء يضعن الشوك في طريقه ، والسفهاء يلقون عليه القذارات والنجاسات حتى ان أحدهم نزع عمامة الرسول عن رأسه ، وشدها في عنقه . وفوق ذلك كله قررت قريش نبذ محمد وذويه وسجنهم في الشّعب وحرمانهم من كل علاقة مع المجتمع ، ولما أ صر النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) على دعوته بالرغم مما لاقاه وقاساه حزبت قريش ضده الأحزاب ، وجيشت الجيوش لحربه . . فتحمل وثبت وصبر واحتسب تلبية لقوله تعالى :
{يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ} .
وبهذا يتضح ان وظيفة الرسول هي الانذار مع الصبر على متاعبه وأهواله ، هذا هو الأمر الأول ، أما الثاني أعني المساواة بين الناس أجمعين فيدل عليها قوله تعالى : {ورَبَّكَ فَكَبِّرْ} . إذا قلت لإنسان عادي : كبّر اللَّه ، فهمنا من قولك هذا انك ترغب إليه أن يقول : {اللَّه أكبر} تماما كما لوقلت له : صلّ على محمد ، أما قوله تعالى لنبيه الكريم : {ورَبَّكَ فَكَبِّرْ} بعد قوله : {قُمْ فَأَنْذِرْ} فإن له معنى آخر أكبر وأضخم ، وهو اصرخ يا محمد في وجوه الجبابرة المتكبرين المتعالين ، اصرخ بهم : ان العزة للَّه جميعا ، وانه وحده الكبير المتعالي ، وان القوة والعظمة والسلطان للواحد الأحد لا شريك له من آلهتكم ولا منكم ولا من غيركم ، وان الناس كلهم متساوون في العبودية للَّه ، لا فرق بين اسود وابيض ، ولا بين غني وفقير . . واستجاب محمد لدعوة ربه ، وقال للطغاة فيما قال : {إِنَّكُمْ وما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ} - 98 الأنبياء .
{وثِيابَكَ فَطَهِّرْ} . وهذا أيضا من متعلقات الدعوة والانذار . . وليس من شك ان نظافة البدن والثياب من الايمان ، ولكن المعنى المراد هنا أعم وأشمل ، وهوان يدعو الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلّم) إلى طهارة الظاهر من الأقذار ، والباطن من القبائح والرذائل كالغدر والخيانة ، والرياء والنفاق ، والجهل والغرور ، وما إلى ذلك من الذنوب والآثام . . وانما عبّر سبحانه عن ذلك بتطهير الثياب جريا على عادة العرب ، فيقولون : فلان طاهر الذيل والأردان ، وهم يريدون طهارة القلب والذات .
{والرُّجْزَ فَاهْجُرْ} . قيل : المراد بالرجز كل قبيح ، وعليه يكون تفسيرا وتوضيحا لقوله : {وثِيابَكَ فَطَهِّرْ} على ما ذكرناه من التفسير . وقيل : المراد به الشرك وعبادة الأوثان {ولا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} لك يا محمد حسنات كثيرة ، وفضل كبير على الناس ، ولكن لا تمنن بذلك على أحد ، فتقدّر في نفسك انك أعطيت كثيرا ، وتقول : أنا فعلت وتفضلت ، فإن كل ما تبذله وتضحي به
هو فضل عليك من اللَّه ، وكرامة خصك بها ، وأي فضل وكرامة أعظم من التوفيق إلى عمل الخير ؟ . وسبق أكثر من مرة ان النهي يصح حتى ولولم يكن المخاطب به عازما على فعل المنهيّ عنه ، بالإضافة إلى ان أوامر اللَّه ونواهيه تعم جميع عباده حتى المتقين . . وفي نهج البلاغة : لا يستقيم قضاء الحوائج إلا بثلاث :
باستصغارها لتعظم ، وباستكتامها لتظهر ، وبتعجيلها لتهنؤ .
{ولِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} . وما أمر اللَّه نبيّه الكريم بشيء من تكاليف الدعوة والنبوة إلا وقرن ذلك بالأمر بالصبر - على ما قيل - لعلمه تعالى بأنه سيلاقي الأذى المرير من المتمردين والمعاندين {فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} فإذا نقر في الناقور مثل : {فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ} 101 المؤمنون ج 5 ص 390 ، وذلك إشارة إلى يوم القيامة المفهوم من سياق الكلام . . بعد أن أمر سبحانه نبيه الكريم بالصبر على أذى المكذبين هددهم بيوم القيامة ، وهو عليهم شديد وعسير لا يسر معه ولا بعده . وسبق الكلام في عشرات الآيات عما أعد اللَّه في هذا اليوم للمجرمين من طعام وشراب ، وأليم العذاب .
__________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج7 ، ص455-457.
تتضمن السورة أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالإنذار في سياق يلوح منه كونه من أوامر أوائل البعثة ثم الإشارة إلى عظم شأن القرآن الكريم وجلالة قدره، والوعيد الشديد على من يواجهه بالإنكار والرمي بالسحر، وذم المعرضين عن دعوته.
والسورة مكية من العتائق النازلة في أوائل البعثة وظهور الدعوة حتى قيل: إنها أول سورة نزلت من القرآن وإن كان يكذبه نفس آيات السورة الصريحة في سبق قراءته (صلى الله عليه وآله وسلم) القرآن على القوم وتكذيبهم به وإعراضهم عنهم ورميهم له بأنه سحر يؤثر.
ولذا مال بعضهم إلى أن النازل أولا هي الآيات السبع الواقعة في أول السورة ولازمه كون السورة غير نازلة دفعة وهو وإن كان غير بعيد بالنظر إلى متن الآيات السبع لكن يدفعه سياق أول سورة العلق الظاهر في كونه أول ما نزل من القرآن.
واحتمل بعضهم أن تكون السورة أول ما نزل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عند الأمر بإعلان الدعوة بعد إخفائها مدة في أول البعثة فهي في معنى قوله: { فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ } [الحجر: 94] ، وبذلك جمع بين ما ورد من أنها أول ما نزل، وما ورد أنها نزلت بعد سورة العلق، وما ورد أن سورتي المزمل والمدثر نزلتا معا، وهذا القول لا يتعدى طور الاحتمال.
وكيف كان فالمتيقن أن السورة من أوائل ما نزل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من السور القرآنية، والآيات السبع التي نقلناها تتضمن الأمر بالإنذار وسائر الخصال التي تلزمه مما وصاه الله به.
قوله تعالى: {يا أيها المدثر} المدثر بتشديد الدال والثاء أصله المتدثر اسم فاعل من التدثر بمعنى التغطي بالثياب عند النوم.
والمعنى: يا أيها المتغطي بالثياب للنوم خطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد كان على هذه الحال فخوطب بوصف مأخوذ من حاله تأنيسا وملاطفة نظير قوله: {يا أيها المزمل}.
وقيل:.
المراد بالتدثر تلبسه (صلى الله عليه وآله وسلم) بالنبوة بتشبيهها بلباس يتحلى به ويتزين وقيل: المراد به اعتزاله (صلى الله عليه وآله وسلم) وغيبته عن النظر فهو خطاب له بما كان عليه في غار حراء، وقيل: المراد به الاستراحة والفراغ فكأنه قيل له (صلى الله عليه وآله وسلم): يا أيها المستريح الفارغ قد انقضى زمن الراحة وأقبل زمن متاعب التكاليف وهداية الناس.
وهذه الوجوه وإن كانت في نفسها لا بأس بها لكن الذي يسبق إلى الذهن هو المعنى الأول.
قوله تعالى: {قم فأنذر} الظاهر أن المراد به الأمر بالإنذار من غير نظر إلى من ينذر فالمعنى افعل الإنذار، وذكر بعضهم أن مفعول الفعل محذوف، والتقدير أنذر عشيرتك الأقربين لمناسبته لابتداء الدعوة كما ورد في سورة الشعراء.
وذكر آخرون أن المفعول المحذوف عام وهو جميع الناس لقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} [سبأ: 28].
ولم يذكر التبشير مع الإنذار مع أنهما كالمتلازمين في تمام الدعوة لأن السورة مما نزل في ابتداء الدعوة والإنذار هو الغالب إذ ذاك.
قوله تعالى: {وربك فكبر} أي أنسب ربك إلى الكبرياء والعظمة اعتقادا وعملا قولا وفعلا وهو تنزيهه تعالى من أن يعادله أو يفوقه شيء فلا شيء يشاركه أو يغلبه أو يمانعه، ولا نقص يعرضه، ولا وصف يحده.
ولذا ورد عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أن معنى التكبير: الله أكبر من أن يوصف، فهو تعالى أكبر من كل وصف نصفه به حتى من هذا الوصف، وهذا هو المناسب للتوحيد الإسلامي الذي يفوق ما نجده من معنى التوحيد في سائر الشرائع السماوية.
وهذا الذي ذكرناه هو الفرق بين كلمتي التكبير والتسبيح - الله أكبر وسبحان الله - فسبحان الله تنزيه له تعالى عن كل وصف عدمي مبني على النقص كالموت والعجز والجهل وغير ذلك، والله أكبر تنزيه مطلق له تعالى عن كل وصف نصفه به أعم من أن يكون عدميا أو وجوديا حتى من نفس هذا الوصف لما أن كل مفهوم محدود في نفسه لا يتعدى إلى غيره من المفاهيم وهو تعالى لا يحيط به حد، فافهم ذلك.
وقيل: المراد الأمر بالتكبير في الصلاة.
والتعبير عنه تعالى بربك لا يخلو من إشعار بأن توحيده تعالى يومئذ كان يختص به.
قال في الكشاف، في قوله: {فكبر}: ودخلت الفاء لمعنى الشرط كأنه قيل: وما كان فلا تدع تكبيره.
قوله تعالى: {وثيابك فطهر} قيل: كناية عن إصلاح العمل، ولا يخلو من وجه فإن العمل بمنزلة الثياب للنفس بما لها من الاعتقاد فالظاهر عنوان الباطن، وكثيرا ما يكنى في كلامهم عن صلاح العمل بطهارة الثياب.
وقيل: كناية عن تزكية النفس وتنزيهها عن الذنوب والمعاصي.
وقيل: المراد تقصير الثياب لأنه أبعد من النجاسة ولو طالت وانجرت على الأرض لم يؤمن أن تتنجس.
وقيل: المراد تطهير الأزواج من الكفر والمعاصي لقوله تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ } [البقرة: 187].
وقيل: الكلام على ظاهره والمراد تطهير الثياب من النجاسات للصلاة والأقرب على هذا أن يجعل قوله: {وربك فكبر} إشارة إلى تكبير الصلاة وتكون الآيتان مسوقتين لتشريع أصل الصلاة مقارنا للأمر بالدعوة.
ولا يرد عليه ما قيل: إن نزول هذه الآيات كان حيث لا صلاة أصلا وذلك أن تشريع الفرائض الخمس اليومية على ما هي عليها اليوم وإن كان في ليلة المعراج وهي جميعا عشر ركعات ثم زيد عليها سبع ركعات إلا أن أصل الصلاة كان منذ أوائل البعثة كما يشهد به ذكرها في هذه السورة وسورتي العلق والمزمل، ويدل عليه الروايات.
وقيل: المراد بتطهير الثياب التخلق بالأخلاق الحميدة والملكات الفاضلة.
وفي معنى تطهير الثياب أقوال أخر أغمضنا عن نقلها لإمكان إرجاعها إلى بعض ما تقدم من الوجوه، وأرجح الوجوه المتقدمة أولها وخامسها.
قوله تعالى: {والرجز فاهجر} قيل: الرجز بضم الراء وكسرها العذاب، والمراد بهجره هجر سببه وهو الإثم والمعصية، والمعنى اهجر الإثم والمعصية.
وقيل: الرجز اسم لكل قبيح مستقذر من الأفعال والأخلاق فالأمر بهجره أمر بترك كل ما يكرهه الله ولا يرتضيه مطلقا، أو أمر بترك خصوص الأخلاق الرذيلة الذميمة على تقدير أن يكون المراد بتطهير الثياب ترك الذنوب والمعاصي.
وقيل: الرجز هو الصنم فهو أمر بترك عبادة الأصنام.
قوله تعالى: {ولا تمنن تستكثر} الذي يعطيه سياق الآيات ويناسب المقام أن يكون المراد بالمن تكدير الصنيعة بذكرها للمنعم عليه كما في قوله تعالى: {لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى } [البقرة: 264] ، وقوله: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا} [الحجرات: 17] والمراد بالاستكثار رؤية الشيء وحسبانه كثيرا لا طلب الكثرة.
والمعنى: لا تمنن امتثالك لهذه الأوامر وقيامك بالإنذار وتكبيرك ربك وتطهيرك ثيابك وهجرك الرجز حال كونك ترى ذلك كثيرا وتعجبه - فإنما أنت عبد لا تملك من نفسك شيئا إلا ما ملكك الله وأقدرك عليه وهو المالك لما ملكك والقادر على ما عليه أقدرك فله الأمر وعليك الامتثال -.
وللقوم في الآية وجوه أخر من التفسير لا تلائم السياق تلك الملاءمة فقيل المعنى لا تعط عطية لتعطى أكثر منها.
وقيل: المعنى لا تمنن ما أعطاك الله من النبوة والقرآن على الناس مستكثرا به الأجر.
وقيل: أي لا تمنن إبلاغ الرسالة على أمتك.
وقيل: المعنى لا تضعف في عملك مستكثرا لطاعاتك.
وقيل: المعنى لا تمنن بعطائك على الناس مستكثرا له.
وقيل: أي إذا أعطيت عطية فأعطها لربك واصبر حتى يكون هو الذي يثيبك.
وقيل: هو نهي عن الربا المحرم أي لا تعط شيئا طالبا أن تعطي أكثر مما أعطيت.
قوله تعالى: {ولربك فاصبر} أي لوجه ربك، والصبر مطلق يشمل الصبر عند المصيبة والصبر على الطاعة والصبر عن المعصية، والمعنى ولوجه ربك فاصبر عند ما يصيبك من المصيبة والأذى في قيامك بالإنذار وامتثالك هذه الأوامر واصبر على طاعة الله واصبر عن معصيته، وهذا معنى جامع لمتفرقات ما ذكروه في تفسير الآية كقول بعضهم: إنه أمر بنفس الفعل من غير نظر إلى متعلقه، وقول بعضهم: إنه الصبر على أذى المشركين، وقول بعضهم: إنه الصبر على أداء الفرائض، إلى غير ذلك.
وقوله تعالى : {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ } [المدثر: 8 - 10]
في الآيات وعيد شديد للطاعنين في القرآن الرامين له بأنه سحر والمستهزءين لبعض ما فيه من الحقائق.
قوله تعالى: {فإذا نقر في الناقور} النقر القرع والناقور ما ينقر فيه للتصويت، والنقر في الناقور كالنفخ في الصور كناية عن بعث الموتى وإحضارهم لفصل القضاء يوم القيامة والجملة شرطية جزاؤها قوله {فذلك} إلخ.
قوله تعالى: {فذلك يومئذ يوم عسير على الكافرين غير يسير} الإشارة بقوله {فذلك} إلى زمان نقر الناقور ولا يبعد أن يكون المراد بيومئذ يوم إذ يرجعون إلى الله للحساب والجزاء أو يوم إذ يرجع الخلائق إلى الله فيكون ظرفا ليوم نقر الناقور فمن الجائز أن تعتبر قطعة من الزمان ظرفا لبعض أجزائه كالسنة تجعل ظرفا للشهر والشهر يجعل ظرفا لليوم لنوع من العناية أو يعتبر زمان متعددا مختلفا باختلاف صفاته أو الحوادث الواقعة فيه ثم يجعل باعتبار بعض صفاته ظرفا لنفسه باعتبار صفة أخرى.
والمعنى فزمان نقر الناقور الواقع في يوم رجوع الخلائق إلى الله زمان عسير على الكافرين أو زمان نقر الناقور زمان عسير على الكافرين في يوم الرجوع - بناء على كون قوله: {يومئذ} قيدا لقوله: {فذلك} أو لقوله: {يوم}.
وقال في الكشاف،: فإن قلت: بم انتصب إذا وكيف صح أن يقع يومئذ ظرفا ليوم عسير؟ قلت: انتصب إذا بما دل عليه الجزاء لأن المعنى إذا نقر في الناقور عسر الأمر على الكافرين، والذي أجاز وقوع يومئذ ظرفا ليوم عسير أن المعنى فذلك وقت النقر وقوع يوم عسير لأن يوم القيامة يأتي ويقع حين ينقر في الناقور.
انتهى.
وقال: ويجوز أن يكون يومئذ مبنيا مرفوع المحل بدلا من ذلك، ويوم عسير خبر كأنه قيل: فيوم النقر يوم عسير.
انتهى.
وقوله: {غير يسير} وصف آخر ليوم مؤكد لعسره ويفيد أنه عسير من كل وجه من وجه دون وجه.
_________________________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج20 ، ص70-76.
قم وانذر النّاس:
لا شك من أنّ المخاطب في هذه الآيات هو النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وإن لم يصرح باسمه، ولكن القرائن تشير إلى ذلك، فيقول أوّلاً: {يا أيّها المدثر قم فانذر} فلقد ولى زمن النوم الإستراحة، وحان زمن النهوض والتبليغ، وورد التصريح هنا بالانذار مع أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) مبشرٌ ونذير، لأنّ الإنذار له أثره العميق في إيقاظ الأرواح النائمة خصوصاً في بداية العمل.
وأورد المفسّرون احتمالات كثيرة عن سبب تدثره(صلى الله عليه وآله وسلم) ودعوته إلى القيام والنهوض.
1 ـ اجتمع المشركون من قريش في موسم الحج وتشاور الرؤساء منهم كأبي جهل وأبي سفيان والوليد بن المغيرة والنضر بن الحارث وغيرهم في ما يجيبون به عن أسئلة القادمين من خارج مكّة وهم يناقشون أمر النّبي الذي قد ظهر بمكّة، وفكروا في وأن يسمّي كلّ واحد منهم النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) باسم، ليصدوا الناس عنه، لكنّهم رأوا في ذلك فساد الأمر لتشتت أقوالهم، فاتفقوا في أن يسمّوه ساحراً، لأنّ أحد آثار السحرة الظاهرة هي التفريق بين الحبيب وحبيبه، وكانت دعوة النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) قد أثّرت هذا الأثر بين الناس! فبلغ ذلك النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فتأثر واغتم لذلك، فأمر بالدثار وتدثر، فأتاه جبرئيل بهذه الآيات ودعاه إلى النهوض ومقابلة الأعداء.
2 ـ إنّ هذه الآيات هي الآيات الأُولى التي نزلت على النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لما نقله جابر بن عبد اللّه قال: جاورت بحراء فلمّا قضيت جواري نوديت يا محمّد، أنت رسول اللّه، فنظرت عن يميني فلم أر شيئاً، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئاً، ونظرت خلفي فلم أر شيئاً، فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فملئت منه رعباً، فرجعت إلى خديجة وقلت: «دثروني دثروني، وأسكبوا عليّ الماء البارد»، فنزل جبرئيل بسورة: (يا أيّها المدّثر).
ولكن بلحاظ أن آيات هذه السورة تطرقت للدعوة العلنية، فمن المؤكّد أنّها نزلت بعد ثلاث سنوات من الدعوة الخفية، وهذا لا ينسجم والروية المذكورة، إلاّ أن يقال بأنّ بعض الآيات التي في صدر السورة قد نزلت في بدء الدعوة، والآيات الاُخرى مرتبطة بالسنوات التي تلت الدعوة.
3 ـ إنّ النّبي كان نائماً وهو متدثر بثيابه فنزل عليه جبرائيل(عليه السلام) موقظاً إيّاه، ثمّ قرأ عليه الآيات أن قم واترك النوم واستعد لإبلاغ الرسالة.
4 ـ ليس المراد بالتدثر التدثر بالثياب الظاهرية، بل تلبسه(صلى الله عليه وآله وسلم) بالنبوّة والرسالة كما قيل في لباس التقوى.
5 ـ المراد به اعتزاله(صلى الله عليه وآله وسلم) وانزواؤه واتّخاذه الوحدة، ولهذا تقول الآية اخرج من العزلة والإنزواء، واستعد لإنذار الخلق وهداية العباد(2) والمعني الأوّل هو الأنسب ظاهراً.
ومن الملاحظ أنّ جملة (فانذر) لم يتعين فيها الموضوع الذي ينذر فيه، وهذا يدل على العمومية، يعني انذار الناس من الشرك وعبادة الأصنام والكفر والظلم والفساد، وحول العذاب الإلهي والحساب المحشر...الخ (ويصطلح على ذلك بأن حذف المتعلق يدل على العموم). ويشمل ضمن ذلك العذاب الدنيوي والعذاب الاُخروي والنتائج السيئة لأعمال الإنسان التي سيبتلى بها في المستقبل.
ثم يعطي للنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) خمسة أوامر مهمّة بعد الدعوة إلى القيام والإنذار، تعتبر منهاجاً يحتذى به الآخرون، والأمر الأوّل هو في التوحيد، فيقول: {وربّك فكبر}(3).
ذلك الربّ الذي هو مالكك مربيك، وجميع ما عندك فمنه تعالى، فعليك أن تضع غيره في زاوية النسيان وتشجب على كلّ الآلهة المصطنعة، وامح كلّ آثار الشرك وعبادة الأصنام.
ذكر كلمة (ربّ) وتقديمها على (كبّر) الذي هو يدل على الحصر، فليس المراد من جملة «فكبر» هو(اللّه أكبر) فقط، مع أنّ هذا القول هومن مصاديق التكبير كما ورد من الرّوايات، بل المراد منهُ أنسب ربّك إلى الكبرياء والعظمة اعتقاداً وعملاً، قولاً فعلاً وهو تنزيهه تعالى من كلّ نقص وعيب، ووصفه بأوصاف الجمال، بل هو أكبر من أن يوصف، ولذا ورد في الرّوايات عن أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) في معنى اللّه أكبر: «اللّه أكبر من أن يوصف»، ولذا فإنّ التكبير له مفهوم أوسع من التسبيح الذي هو تنزيهه من كل عيب ونقص.
ثمّ صدر الأمر الثّاني بعد مسألة التوحيد، ويدور حول الطهارة من الدنس فيضيف: (وثيابك فطهّر)، التعبير بالثوب قد يكون كناية عن عمل الإنسان، لأنّ عمل الإنسان بمنزلة لباسه، وظاهره مبين لباطنه، وقيل المراد منه القلب والروح، أي طهر قلبك وروحك من كلّ الأدران، فإذا وجب تطهير الثوب فصاحبه اولى بالتطهير.
وقيل هو اللباس الظاهر، لأنّ نظافة اللباس دليل على حسن التربية والثقافة، خصوصاً في عصر الجاهلية حيث كان الإجتناب من النجاسة قليلاً وإن ملابسهم وسخة غالباً، وكان الشائع عندهم تطويل أطراف الملابس (كما هو شائع في هذا العصر أيضاً) بحيث كان يُسحل على الأرض، وما ورد عن الإمام الصّادق(عليه السلام)في معنى أنّه: «ثيابك فقصر»(4)، ناظر إلى هذا المعنى.
وقيل المراد بها الأزواج لقوله تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ } [البقرة: 187] ، والجمع بين هذه المعاني ممكن، والحقيقة أنّ الآية تشير إلى أنّ القادة الإلهيين يمكنهم إبلاغ الرسالة عند طهارة جوانبهم من الأدران وسلامة تقواهم، ولذا يستتبع أمر إبلاغ الرسالة ولقيام بها أمر آخر، هو النقاء والطهارة.
ويبيّن تعالى الأمر الثّالث بقوله: (والرّجز فاهجر) المفهوم الواسع للرجز كان سبباً لأن تذكر في تفسيره أقوال مختلفة، فقيل: هو الأصنام، وقيل: المعاصي، وقيل: الأخلاق الرّذيلة الذميمة، وقيل: حبّ الدنيا الذي هو رأس كلّ خطيئة، وقيل هو العذاب الإلهي النازل بسبب الترك والمعصية، وقيل: كل ما يلهي عن ذكر اللّه.
والأصل أنّ معنى «الرجز» يطلق على الإضطراب والتزلزل(5) ثمّ اُطلق على كل أنواع الشرك، عبادة الأصنام، والوساوس الشيطانية والأخلاق الذميمة والعذاب الإلهي التي تسبب اضطراب الإنسان، فسّره البعض بالعذاب(6)، وقد اُطلق على الشرك والمعصية والأخلاق السيئة وحبّ الدّنيا تجلبه من العذاب.
وما تجدر الإشارة إليه أنّ القرآن الكريم غالباً ما استعمل لفظ «الرجز» بمعنى العذاب(7)، ويعتقد البعض أنّ كلمتي الرجز والرجس مرادفان(8).
وهذه المعاني الثلاثة، وإن كانت متفاوتة، ولكنّها مرتبطة بعصها بالآخر، وبالتالي فإنّ للآية مفهوماً جامعاً، وهو الإنحراف والعمل السيء، وتشمل الأعمال التي لا ترضي اللّه عزّوجلّ، والباعثة على سخط اللّه في الدنيا والآخرة، ومن المؤكّد أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قد هجر واتقى ذلك حتى قبل البعثة، وتاريخه الذي يعترف به العدو والصديق شاهد على ذلك، وقد جاء هذا الأمر هنا ليكون العنوان الأساس في مسير الدعوة إلى اللّه، وليكون للناس اُسوة حسنة.
ويقول تعالى في الأمر الرّابع: {ولا تمنن تستكثر}(9).
هنا التعلق محذوف أيضاً، ويدل على سعة المفهوم كليته، ويشمل المنّة على اللّه والخلائق، أي فلا تمنن على اللّه بسعيك واجتهادك، لأنّ اللّه تعالى هو الذي منّ عليك بهذا المقام المنيع.
ولا تستكثر عبادتك وطاعتك وأعمالك الصالحة، بل عليك أن تعتبر نفسك مقصراً وقاصراً، واستعظم ما وفقت إليه من العبادة.
وبعبارة أُخرى: لا تمنن على اللّه بقيامك بالإنذار ودعوتك إلى التوحيد وتعظيمك للّه وتطهيرك ثيابك وهجرك الرجز، ولا تستعظم كل ذلك، بل أعلم أنّه لو قدمت خدمة للناس سواءاً في الجوانب المعنوية كالإرشاد والهداية، أم في الجوانب المادية كالإنفاق والعطاء فلا ينبغي أن تقدمها مقابل منّة، أو توقع عوض أكبر ممّا اُعطيت، لأنّ المنّة تحبط الأعمال الصالحة: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى } [البقرة: 264].
«لا تمنن» من مادة «المنّة» وتعني في هذه الموارد الحديث عن تبيان أهمية النعم المعطاة للغير، وهنا يتّضح لنا العلاقة بينه وبين الإستكثار، لأنّ من يستصغر عمله لا ينتظر المكافأة، فكيف إذن بالإستكثار، فإنّ الإمتنان يؤدي دائماً إلى الإستكثار، وهذا ممّا يزيل قيمة النعم، وما جاء من الرّوايات يشير لهذا المعنى: «لا تعط تلتمس أكثر منها»(10) كما جاء في حديث آخر عن الإمام الصادق (عليه السلام)في تفسير الآية: «لا تستكثر ما عملت من خير للّه»(11) وهذا فرع من ذلك المفهوم.
ويشير في الآية الأُخرى إلى الأمر الأخير في هذا المجال فيقول: (ولربّك فصبر)، ونواجه هنا مفهوماً واسعاً عن الصبر الذي يشمل كلّ شيء، أي اصبر في طريق أداء الرسالة، واصبر على أذى المشركين الجهلاء، واستقم في طريق عبودية اللّه وطاعته، واصبر في جهاد النفس وميدان الحرب مع الأعداء.
ومن المؤكّد أنّ الصبر هو ضمان لإجراء المناهج السابقة، والمعروف أنّ الصبر هو الثروة الحقيقية لطريق الإبلاغ والهداية، وهذا ما اعتمده القرآن الكريم كراراً، ولهذا نقرأ في حديث أمير المؤمنين(عليه السلام): «الصبر من الإيمان كالرأس من الجسد»(12)، ولقد كان الصبر والإعتدال أحد الاُصول المهمّة لمناهج الأنبياء والمؤمنين. وكلما ازدادت عليهم المحن ازداد صبرهم.
ورد في حديث عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال حول أجر الصابرين: «قال اللّه تعالى: إذا وجهت إلى عبد من عبيدي مصيبة في بدنه أو ماله أو ولده، ثمّ استقبل ذلك بصبر جميل استحييت منه يوم القيامة أن أنصب له ميزاناً أو أنشر له ديواناً»(13).
ثمّ أنّ الآيات الشريفة وفي تعقيب لأمر ورد في الآيات السابقة في إطار القيام وإنذار المشركين، توكّد مرّة اُخرى على الإنذار والتحذير، فيقول تعالى: {فإذا نقرّ في الناقور فذلك يومئذ يوم عسير على الكافرين غير يسير}.
وردت احتمالات متعددة في تركيب هذه الجملة، أفضلها ما جاء في كتاب (البيان في غريب إعراب القرآن) والذي يقول: (ذلك مبتدأ ويومئذ بدل ويوم عسير خبره)، والملاحظ أنّ (ناقور) هي في الأصل من نقر، ويعني الدق المؤدي إلى الأثقاب ومنها سمّي المنقار، وهوما تمتلكه الطيور لدق الأشياء وثقبها، ولذلك يطلق اسم النّاقور على مزمار الذي يخرق صوته اُذن الإنسان وينفذ إلى دماغه.
ويستفاد من الآيات القرآنية أنّ في نهاية الدنيا وبدء المعاد بنفخ في الصور مرّتين، أي أن له صوتين موحشين ومرعبين يملآن مسامع العالم بأسره، أوّلهما صوت الموت، والثّاني صوت اليقظة والحياة، ويعبر عنهما (نفخة الصور الاُولى) و(نفخة الصور الثّانية) وهذا الآية تشير إلى نفخة الصور الثّانية، والتي يكون معها يوم البعث وهو يوم صعب وثقيل على الكفّار، ولقد كان لنا بحث مفصل حول الصور ونفخة الصور في ذيل الآية (68) من سورة الزمر.
على كل حال فإنّ الآيات المذكورة أعلاه تشير إلى حقيقة أنّ مشاكل الكفّار تظهر الواحدة بعد الأُخرى في يوم نفخة البعث، وهو يوم أليم ومفجع، ويركّع أقوى الناس.
____________________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج14 ، ص545-550.
2 ـ أورد الفخر الرازي هذه التفاسير الخمسة بالإضافة إلى إحتمالات أُخرى في تفسيره الكبير، واقتبس منه البعض الآخر من المفسّرين (تفسير الفخر الرازي، ج30، ص189 ـ 190).
3 ـ الفاء من (فكبر) زائدة للتأكيد بقول البعض، وقيل لمعنى الشرط، والمعنى هو: لا تدع التكبير عند كلّ حادثة تقع، (يتعلق هذا القول بالآيات الاُخرى الآتية أيضاً).
4 ـ مجمع البيان، ج10، ص385.
5 ـ مفردات الراغب.
6 ـ الميزان، في ظلال القرآن. ذيل الاية مورد البحث.
7 ـ راجع الآيات، 134 ـ 135 من سورة الاعراف، والآية 5 من سورة سبأ، والآية 11 من سورة الجاثية، والآية 59 من سورة البقرة، والآية162 من سورة الأعراف، والآية 34 من سورة العنكبوت.
8 ـ وذكر ذلك في تفسير الفخر الرازي بصورة احتمال، ج30، ص193.
9- ملاحظة ان كلمة ((تستكثر)) وردت هنا بصيغة ((الحال)) وليس جوابا للنهي (لانها مرفوعة) فعليه يكون مفهوم الاية ((من وقت الاستزادة او تجلل عملك)).
10 ـ نور الثقلين، ج5، ص454، وتفسير البرهان، ج4، ص400.
11 ـ المصدر السابق.
12 ـ نهج البلاغة، الكلمات القصار، 82.
13- تفسير روح المعاني ، ج29 ، ص120.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مدرسة دار العلم.. صرح علميّ متميز في كربلاء لنشر علوم أهل البيت (عليهم السلام)
|
|
|