أقرأ أيضاً
التاريخ: 24-2-2017
7621
التاريخ: 9-12-2016
5174
التاريخ: 10-2-2017
5044
التاريخ: 24-2-2017
3461
|
قال تعالى : {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92) وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء : 92-93] .
{وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ} معناه : ما أذن الله ، ولا أباح لمؤمن ، فيما عهد إليه ، أن يقتل مؤمنا إلا أن يقتله خطأ ، عن قتادة ، وغيره .
وقيل : معناه ما كان له كما ليس له الآن ، قتل مؤمن ، إلا أن يقع القتل خطأ .
وقيل : تقديره وما كان مؤمن ليقتل مؤمنا ، إلا خطأ كقوله {ما كان لله أن يتخذ من ولد} معناه : ما كان الله ليتخذ ولدا ، وقوله {ما كان لكم أن تنبتوا شجرها} : أي ما كنتم لتنبتوا شجرها ، وإنما قلنا : إن معناه ما ذكرنا ، لان الله لا يلحقه الأمر والنهي ، وإنبات الشجر لا يدخل تحت قدرة العبد ، فلا يصح النهي عنه . فمعنى الآية على ما وصفناه : ليس من صفة المؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ، وعلى هذا يكون الاستثناء متصلا ، ومن قال : إن الاستثناء منقطع ، قال : قد تم الكلام عند قوله {أن يقتل مؤمنا} ثم قال : فإن كان القتل خطأ ، فحكمه كذا ، وإنما لم يحمل قوله إلا خطأ على حقيقة الاستثناء ، لان ذلك يؤدي إلى الأمر بقتل الخطأ ، أو إباحته ، ولا يجوز واحد منهما . والخطأ : هو أن يريد شيئا فيصيب غيره ، مثل أن يرمي إلى غرض ، أو إلى صيد ، فيصيب إنسانا فيقتله . وكذلك لو قتل رجلا ظنه كافرا ، كما ظن عياش بن أبي ربيعة ، وأبو الدرداء ، على ما قلناه قبل .
{ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة} أي : فعليه إعتاق رقبة مؤمنة في ماله ، خاصة على وجه الكفارة ، حقا لله . والرقبة المؤمنة : هي البالغة التي آمنت وصلت وصامت ، فلا يجزي في كفارة القتل الطفل ، ولا الكافر ، عن ابن عباس ، والشعبي ، وإبراهيم ، والحسن ، وقتادة . وقيل : تجزي كل رقبة ولدت على الإسلام ، عن عطاء . والأول أقوى ، لان لفظ المؤمن لا يطلق إلا على البالغ الملتزم للفرائض ، إلا أن من ولد بين مؤمنين ، فلا خلاف أنه يحكم له بالإيمان {ودية} أي : وعليه وعلى عاقلته دية {مسلمة إلى أهله} أي : إلى أهل القتيل . والمسلمة : هي المدفوعة إليهم ، موفرة غير منقصة حقوق أهلها منها ، تدفع إلى أهل القتيل .
والمسلمة : هي المدفوعة إليهم فتقسم بينهم على حسب حساب الميراث {إلا أن يصدقوا} يعني : إلا أن يتصدق أولياء القتيل بالدية على عاقلة القاتل ، ويتركوها عليهم .
{فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن} معناه : فإن كان القتيل من جملة قوم هم أعداء لكم يناصبونكم الحرب ، وهو في نفسه مؤمن ، ولم يعلم قاتله أنه مؤمن ، فقتله وهو يظنه مشركا {فتحرير رقبة} أي : فعلى قاتله تحرير رقبة {مؤمنة} كفارة ، وليس فيه دية ، عن ابن عباس . وقيل : إن معناه إذا كان القتيل في عداد قوم أعداء ، وهو مؤمن بين أظهرهم ، ولم يهاجر ، فمن قتله ، فلا دية له ، وعليه تحرير رقبة مؤمنة فقط ، لان الدية ميراث ، وأهله كفار لا يرثونه ، عن ابن عباس في رواية أخرى ، وإبراهيم ، والسدي ، وقتادة ، وابن زيد {وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق} أي : عهد وذمة ، وليسوا أهل حرب لكم {فدية مسلمة إلى أهله} تلزم عاقلة قاتله {وتحرير رقبة مؤمنة} أي : يلزم قاتله كفارة لقتله ، وهو المروي عن الصادق عليه السلام .
واختلف في صفة هذا القتيل ، أهو مؤمن أم كافر؟ فقيل : إنه كافر ، إلا أنه يلزم قاتله ديته بسبب العهد ، عن ابن عباس ، والزهري ، والشعبي ، وإبراهيم النخعي ، وقتادة ، وابن زيد . وقيل : بل هو مؤمن يلزم قاتله الدية ، يؤديها إلى قومه المشركين ، لأنهم أهل ذمة ، عن الحسن ، وإبراهيم ، ورواه أصحابنا أيضا ، إلا أنهم قالوا : تعطى ديته ورثته المسلمين ، دون الكفار ولفظ الميثاق : يقع على الذمة والعهد جميعا {فمن لم يجد} : أي لم يقدر على عتق الرقبة ، بأن لا يجد العبد ، ولا ثمنه ، {فصيام شهرين} : أي فعليه صيام شهرين ، {متتابعين توبة من الله} : أي ليتوب الله به عليكم ، فتكون التوبة من فعل الله . وقيل : إن المراد بالتوبة هنا : التخفيف من الله ، لان الله إنما جوز للقاتل العدول إلى الصيام ، تخفيفا عليه ، ويكون كقوله تعالى : {علم أن لن تحصوه فتاب عليكم} {وكان الله عليما} : أي لم يزل عليما بكل شئ {حكيما} فيما يأمر به وينهى عنه .
وأما الدية الواجبة في قتل الخطأ فمائة من الإبل ، إن كانت العاقلة من أهل الإبل ، بلا خلاف ، وإن اختلفوا في أسنانها ، فقيل : هي أرباع : عشرون بنت مخاض ، وعشرون ابن لبون ذكر ، وثلاثون بنت لبون ، وثلاثون حقة ، وروي ذلك عن عثمان ، وزيد بن ثابت ، ورواه أصحابنا أيضا ، وقد روي أيضا في أخبارنا خمس وعشرون ، بنت مخاض ، وخمس وعشرون بنت لبون ، وخمس وعشرون حقة ، وخمس وعشرون جذعة وبه قال الحسن ، والشعبي . وقيل : إنها أخماس : عشرون حقة ، وعشرون جذعة ، وعشرون بنت لبون ، وعشرون ابن لبون ، وعشرون بنت مخاض ، وهذا قول ابن مسعود ، وابن عباس ، والزهري ، والثوري ، وإليه ذهب الشافعي . وقال أبو حنيفة : هي أخماس أيضا ، إلا أنه جعل مكان ابن لبون ابن مخاض ، وبه قال النخعي ، ورووه أيضا عن ابن مسعود . قال . الطبري : هذه الروايات متكافئة ، والأولى التخيير .
فأما الدية من الذهب ، فألف دينار ، ومن الورق (2) عشرة آلاف درهم ، وهو الأصح . وقيل : اثنا عشر ألفا ، ودية الخطأ تتأدى في ثلاث سنين ، ولو خلينا وظاهر الآية ، لقلنا : إن دية الخطأ على القاتل ، لكن علمنا بسنة الرسول والإجماع ، أن الدية في الخطأ على العاقلة ، وهم الإخوة ، وبنو الإخوة ، والأعمام ، وبنو الأعمام ، وأعمام الأب ، وأبناؤهم ، والموالي ، وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة : يدخل الوالد والولد فيها ، ويعقل القاتل . وقد روى ابن مسعود عن النبي أنه قال : " لا يؤخذ الرجل بجريرة ابنه ، ولا الابن بجريرة أبيه " .
وليس إلزام الدية للعاقلة على سبيل مؤاخذة البريء بالسقيم ، لان ذلك ليس بعقوبة ، بل هو حكم شرعي تابع للمصلحة ، وقد قيل : إن ذلك على سبيل المؤاساة والمعاونة .
لما بين تعالى قتل الخطأ وحكمه ، عقبه ببيان قتل العمد وحكمه ، فقال : {ومن يقتل مؤمنا متعمدا} : أي قاصدا إلى قتله ، عالما بإيمانه ، وحرمة قتله ، وعصمة دمه . وقيل : معناه مستحلا لقتله ، عن عكرمة ، وابن جريج ، وجماعة . وقيل : معنى التعمد أن يقتله على دينه ، رواه العياشي ، بإسناده عن الصادق عليه السلام . {فجزاؤه جهنم خالدا} مقيما ، {فيها وغضب الله عليه ولعنه} أبعده من الخير ، وطرده عنه ، على وجه العقوبة . {وأعد له عذابا عظيما} ظاهر المعنى ، وصفة قتل العمد أن يقصد قتل غيره ، بما جرت العادة بأن يقتل مثله سواء كان بحديدة حادة كالسلاح ، أو بخنق ، أو سم ، أو إحراق ، أو تغريق ، أو موالاة ضرب بالعصا ، أو بالحجارة ، حتى يموت ، فإن جميع ذلك عمد ، يوجب القود ، وبه قال إبراهيم ، والشافعي ، وأصحابه . وقال قوم : لا يكون قتل العمد إلا بالحديد ، وبه قال سعيد بن المسيب ، وطاووس ، وأبو حنيفة ، وأصحابه .
وأما القتل شبيه العمد فهو أن يضرب بعصا ، أو غيرها مما لم تجر العادة بحصول الموت عنده ، فيموت ، ففيه الدية مغلظة تلزم القاتل خاصة في ماله ، دون العاقلة .
وفي هذه الآية وعيد شديد لمن قتل مؤمنا متعمدا ، حرم الله به قتل المؤمن ، وغلظ فيه . وقال جماعة من التابعين : الآية اللينة وهي {إن الله لا يغفر أن يشرك به ، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} نزلت بعد الشديدة ، وهي : {ومن يقتل مؤمنا متعمدا} وقال أبو مجلز في قوله {فجزاؤه جهنم خالدا فيها} : فهي جزاؤه إن جازاه ، ويروى هذا أيضا عن أبي صالح ، ورواه أيضا العياشي بإسناده عن أبي عبد الله عليه السلام ، وقد روي أيضا ، مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : " هو جزاؤه إن جازاه " . وروى عاصم بن أبي النجود ، عن ابن عباس في قوله {فجزاؤه جهنم} قال : " هي جزاؤه ، فإن شاء عذبه ، وإن شاء غفر له " .
وروي عن أبي صالح ، وبكر بن عبد الله ، وغيره أنه كما يقول الإنسان لمن يزجره عن أمره ، إن فعلته فجزاؤك القتل والضرب ، ثم إن لم يجازه بذلك لم يكن ذلك منه كذبا . واعترض على هذا أبو علي الجبائي فقال : ما لا يفعل ، لا يسمى جزاء . ألا ترى أن الأجير إذا استحق الأجرة ، فالدراهم التي مع مستأجره ، لا تسمى بأنها جزاء عمله ، وهذا لا يصح ، لان الجزاء عبارة عن المستحق سواء فعل ذلك ، أو لم يفعل ، ولهذا يقال جزاء المحسن الإحسان ، وجزاء المسيء الإساءة ، وإن لم يتعين المحسن والمسيء ، حتى يقال إنه فعل ذلك به ، أو لم يفعل ، ويقال لمن قتل غيره جزاء هذا أن يقتل ، وإنما لا يقال للدراهم إنها جزاء الأجير ، لأن الأجير إنما يستحق الأجرة في الذمة ، لا في دراهم معينة ، فللمستأجر أن يعطيه منها ومن غيرها .
ومن تعلق بهذه الآية من أهل الوعيد ، في أن مرتكب الكبيرة لا بد أن يخلد في النار ، فإنا نقول له : ما أنكرت أن يكون المراد به من لا ثواب له أصلا ، بأن يكون كافرا ، أو يكون قتله مستحلا لقتله ، أو قتله لإيمانه ، فإنه لا خلاف أن هذه صفة من يخلد في النار ، ويعضده من الرواية ما تقدم ذكره في سبب نزول الآية ، وأقوال الأئمة في معناها . وبعد : فقد وافقنا على أن الآية مخصوصة بمن لا يتوب ، وأن التائب خارج من عمومها . وأما ما روي عن ابن عباس أنه قال : " لا توبة لقاتل المؤمن إلا إذا قتله في حال الشرك ثم أسلم وتاب " ، وبه قال ابن مسعود ، وزيد بن ثابت ، فالأولى أن يكون هذا القول منهم محمولا على سلوك سبيل التغليظ في القتل ، كما روي عن سفيان الثوري أنه سئل عن توبة القاتل ، فقال : كان أهل العلم إذا سئلوا قالوا : " لا توبة له وإذا ابتلي الرجل قالوا له تب " وروى الواحدي بإسناده مرفوعا إلى عطا ، عن ابن عباس أن رجلا سأله القاتل المؤمن توبة؟ فقال : لا . وسأله آخر القاتل المؤمن توبة؟ فقال : نعم . فقيل له في ذلك ، فقال : جاءني ذلك ، ولم يكن قتل ، فقلت : لا توبة لك ، لكي لا يقتل . وجاءني هذا ، وقد قتل ، فقد قلت : لك توبة لكي لا يلقي نفسه بيده إلى التهلكة .
ومن قال من أصحابنا : إن قاتل المؤمن لا يوفق للتوبة ، لا ينافي ما قلناه ، لان هذا القول إن صح ، فإنما يدل على أنه لا يختار التوبة مع أنها لو حصلت ، لأزالت العقاب . وإذا كان لا بد من تخصيص الآية بالتوبة ، جاز أن يختص أيضا بمن تفضل عليه بالعفو .
وروى الواحدي بإسناده ، مرفوعا إلى الأصمعي ، قال : جاء عمرو بن عبيد إلى أبي عمرو بن العلاء ، فقال : يا أبا عمرو! أيخلف الله ما وعده؟ فقال : لا . قال :
أفرأيت من أوعده على عمل عقابا ، أيخلف الله وعده فيه؟ فقال أبو عمرو : من العجمة أتيت يا أبا عثمان إن الوعد غير الوعيد : إن العرب لا تعد عارا ، ولا خلفا ، أن تعد شرا ، ثم لا تفعله ، يرى ذلك كرما وفضلا ، وإنما الخلف في أن تعد خيرا ، ثم لا تفعله . قال : فأوجدني هذا في كلام العرب . قال : نعم ، سمعت قول الأول :
وإني إن أوعدته أو وعدته * لمخلف إيعادي ومنجز موعدي (3)
ووجدنا في الدعاء المروي بالرواية الصحيحة ، عن الصادقين عليهما السلام : " يا من إذا وعد وفى ، وإذا توعد عفا " وهذا يؤيد ما تقدم ، وقد أحسن يحيى بن معاذ في هذا المعنى ، حيث قال : الوعد حق ، والوعيد حق . فالوعد : حق العباد على الله ، ضمن لهم إذا فعلوا كذا أن يعطيهم كذا ، ومن أولى بالوفاء من الله . والوعيد : حقه على العباد ، قال : لا تفعلوا كذا فأعذبكم ، ففعلوا . فإن شاء عفا ، وإن شاء عاقب ، لأنه حقه ، وأولاهما بربنا العفو والكرم ، إنه غفور رحيم .
وروى إسحاق بن إبراهيم قال : سمعت قيس بن أنس ، يقول : كنت عند عمرو بن عبيد في بيته ، فأنشأ يقول : يؤتى بي يوم القيامة ، فأقام بين يدي الله ، فيقول : قلت إن القاتل في النار؟ فأقول : أنت قلت : {ومن يقتل مؤمنا} الآية .
فقلت له ، وما في البيت أصغر سنا مني : أرأيت أن لو قال لك : فإني قلت {فإن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} من أين علمت أني لا أشاء أن أغفر لهذا؟ قال : فما استطاع أن يرد علي شيئا .
_________________________
1 . مجمع البيان ، ج3 ، ص 156-162 .
2 . الورق : الفضة .
3 . قال الأزهري : " كلام العرب : وعدت الرجل خيرا ، ووعدته شرا ، وأوعدته خيرا ، وأوعدته شرا . فإذا لم يذكروا الخير ، قالوا : وعدته ، ولم يدخلوا ألفا . وإذا لم يذكروا الشر ، قالوا : أوعدته ، ولم يسقطوا الألف . وأنشد لعامر بن الطفيل :
وإني إن أوعدته ، أو وعدته * لأخلف إيعادي ، وأنجز موعدي
{ وما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً ومَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ودِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا } . القتل على أنواع ثلاثة :
1- عمد محض ، وهو ان يتعمد العاقل البالغ قتل غيره مباشرة ، كالذبح والخنق ، أو تسبيبا ، كدس السم بالطعام ، أو منعه عن الطعام ، حتى مات جوعا . فإذا تحققت المساواة بين القاتل والمقتول في الدين والحرية ، ولم يكن القاتل أبا للمقتول كان الخيار لولي المقتول بين ان يقتل القاتل قصاصا ، وبين أن يأخذ منه الدية ، ان رضي القاتل بإعطائها ، فالخيار بين القصاص والدية للولي في قتل العمد ، فان اختار الدية كان الخيار للقاتل بين أن يقدم نفسه للقتل ، أو يدفع الدية ، فلا الولي يجبر القاتل على دفع الدية ، ولا القاتل يجبر الولي على أخذها . والدية الشرعية ألف دينار ، وتبلغ 3 كيلوات ونصفا و 29 غراما من الذهب .
2- شبه العمد ، وهو أن يكون القاتل عامدا في فعله ، مخطئا في قصده ، كمن ضرب صبيا للتأديب فمات ، وهذا النوع من القتل يوجب الدية ، دون القصاص ، وهي ألف دينار تماما كدية العمد ، وتكلمنا عن قتل العمد وشبهه عند تفسير الآية 178 - 179 من سورة البقرة ، المجلد الأول ص 274 .
3- خطأ محض ، وهو أن يكون القاتل مخطئا في فعله وقصده ، كمن رمى حيوانا فأصاب إنسانا فقتله ، فان الإنسان غير مقصود ، لا بالرمي ، ولا بالقتل . وهذا هو المراد بقوله تعالى : { ومَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ودِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} . وقد دل الكتاب والسنة مجتمعين على أن من قتل مسلما متعمدا فعليه أن يكفّر بعتق رقبة ، وصيام شهرين متتابعين ، وإطعام ستين مسكينا ، فيجمع بين هذه الأصناف الثلاثة ، وتسمى هذه بكفارة الجمع .
وان كان القتل خطأ ، أو شبه عمد فيكفّر بعتق نسمة ، فان عجز صام شهرين متتابعين ، فان عجز أطعم ستين مسكينا .
أما دية الخطأ فتتحملها العاقلة ، وهم البالغون العقلاء الأغنياء من الذين يتقربون إلى القاتل بالأب ، كالإخوة والأعمام وأولادهم الذكور دون الإناث ، ومقدار الدية الف دينار ، والدية حق لأولياء المقتول ، ان شاؤوا طالبوا بها ، وان شاؤوا أسقطوها عن القاتل . والى هذا أشار تعالى بقوله : { إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا } . وقال الفقهاء : وجبت الكفارة على من قتل خطأ زجرا له عن التقصير ، وحثا على الحذر في جميع الأمور ، ووجبت الدية على العاقلة رفقا بمن أخطأ ، ووجب القصاص في قتل العمد تأديبا له على تعمد الحرام .
{ فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } . المراد بقوم عدو الكفار المحاربون ، وضمير هو يعود على المقتول . والمعنى ان المسلم إذا قتل شخصا باعتقاد انه كافر ، ثم تبين انه مسلم يقيم بين قومه الكفار ، إذا كان كذلك فلا شيء على القاتل إلا عتق نسمة ، وتسقط عنه الدية ، لأن المفروض ان أهل المقتول كفار ، فإذا أعطوها تقووا بها على حرب المسلمين .
{ وإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ } . أي إذا كان المسلم المقتول خطأ من قوم كفرة ، ولكنهم غير محاربين ، لأن بينهم وبين المسلمين عهد المسالمة ، إذا كان كذلك تعطى دية المقتول إلى أهله ، وان كانوا كفرة ، لأن حكمهم ، والحال هذه ، تماما كحكم المسلمين ، من حيث وجوب الدية .
وعلى القاتل أن يكفّر بعتق نسمة ، فإن عجز صام شهرين متتابعين ، وشرع اللَّه هذه الكفارة على القاتل ، لتكون توبة له على ما صدر منه .
{ ومَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ ولَعَنَهُ وأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً } . أشرنا في صدر الكلام رقم (1) إلى حكم القاتل عمدا ، وانه القتل إلا أن يعفو الولي ، وذكر اللَّه سبحانه في هذه الآية ان جزاءه في الآخرة الخلود في جهنم ، والغضب واللعنة من اللَّه ، والعذاب العظيم . . وهذه العقوبات الأربع كلها تأكيد وعطف تفسير ، والقصد التعظيم من أثر هذه الجريمة الشنعاء ، وانها من الكبائر التي لا يعادلها إلا الكفر ، قال بعض الفقهاء : إنها من أظهر أفراد الكفر ومعانيه . . ويأتي الكلام عن قتل النفس ظلما في المجلد الثالث الآية 32 من سورة المائدة ان شاء اللَّه . وسبق الكلام عن الخلود في النار عند تفسير الآية 257 من سورة البقرة ، فقرة الخلود في النار ، المجلد الأول صفحة 400 .
___________________________
1. تفسير الكاشف ، ج2 ، ص 407-409 .
قوله تعالى : { وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً } الخطأ بفتحتين من غير مد ، ومع المد على فعال : خلاف الصواب ، والمراد به هنا ما يقابل التعمد لمقابلته بما في الآية التالية { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً } .
والمراد بالنفي في قوله { وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً } ، نفي الاقتضاء (2) أي ليس ولا يوجد في المؤمن بعد دخوله في حريم الإيمان وحماه اقتضاء لقتل مؤمن هو مثله في ذلك أي قتل كان إلا قتل الخطأ ، والاستثناء متصل فيعود معنى الكلام إلى أن المؤمن لا يريد قتل المؤمن بما هو مؤمن بأن يقصد قتله مع العلم بأنه مؤمن ، ونظير هذه الجملة في سوقها لنفي الاقتضاء قوله تعالى { وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ } [ الشورى : 51 ] وقوله { ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها } [ النمل : 60 ] وقوله {فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ } [ يونس : 74 ] إلى غير ذلك .
والآية مع ذلك مسوقة كناية عن التكليف بالنهي التشريعي بمعنى أن الله تعالى لم يبح قط ، ولا يبيح أبدا أن يقتل مؤمن مؤمنا وحرم ذلك إلا في قتل الخطأ فإنه لما لم يقصد هناك قتل المؤمن إما لكون القتل غير مقصود أصلا أو قصد ولكن بزعم أن المقتول كافر جائز القتل مثلا فلا حرمة مجعولة هناك.
وقد ذكر جمع من المفسرين : أن الاستثناء في قوله { إِلَّا خَطَأً } منقطع ، قالوا : وإنما لم يحمل قوله { إِلَّا خَطَأً } على حقيقة الاستثناء لأن ذلك يؤدي إلى الأمر بقتل الخطأ أو إباحته. ( انتهى ) وقد عرفت أن ذلك لا يؤدي إلا إلى رفع الحرمة عن قتل الخطأ ، أو عدم وضع الحرمة فيه ، ولا محذور فيه قطعا. فالحق أن الاستثناء متصل.
قوله تعالى : { وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً ـ إلى قوله ـ يَصَّدَّقُوا } التحرير جعل المملوك حرا! والرقبة هي العنق شاع استعمالها في النفس المملوكة مجازا! والدية ما يعطى من المال عوضا عن النفس أو العضو أو غيرهما ، والمعنى : ومن قتل مؤمنا بقتل الخطأ وجب عليه تحرير نفس مملوكة مؤمنة ، وإعطاء دية يسلمها إلى أهل المقتول إلا أن يتصدق أولياء القتيل الدية على معطيها ويعفوا عنها فلا تجب الدية .
قوله تعالى : { فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ } ، الضمير يرجع إلى المؤمن المقتول ، والقوم العدو هم الكفار المحاربون ، والمعنى : إن كان المقتول خطأ مؤمنا وأهله كفار محاربون لا يرثون وجب التحرير ولا دية إذ لا يرث الكافر المحارب من المؤمن شيئا .
قوله تعالى : { وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ } ، الضمير في « كانَ » يعود إلى المؤمن المقتول أيضا على ما يفيده السياق ، والميثاق مطلق العهد أعم من الذمة وكل عهد ، والمعنى : وإن كان المؤمن المقتول من قوم بينكم وبينهم عهد وجبت الدية وتحرير الرقبة ، وقد قدم ذكر الدية تأكيدا في مراعاة جانب الميثاق.
قوله تعالى : { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ } ، أي من لم يستطع التحرير ـ لأنه هو الأقرب بحسب اللفظ ـ وجب عليه صيام شهرين متتابعين.
قوله تعالى : { تَوْبَةً مِنَ اللهِ } (إلخ) أي هذا الحكم وهو إيجاب الصيام توبة وعطف رحمة من الله لفاقد الرقبة ، وينطبق على التخفيف فالحكم تخفيف من الله في حق غير المستطيع ، ويمكن أن يكون قوله { تَوْبَةً } قيدا راجعا إلى جميع ما ذكر في الآية من الكفارة أعني قوله { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } (إلخ) والمعنى : أن جعل الكفارة للقاتل خطأ توبة وعناية من الله للقاتل فيما لحقه من درن هذا الفعل قطعا. وليتحفظ على نفسه في عدم المحاباة في المبادرة إلى القتل نظير قوله تعالى { وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ } [ البقرة : 179 ] .
وكذا هو توبة من الله للمجتمع وعناية لهم حيث يزيد به في أحرارهم واحد بعد ما فقدوا واحدا ، ويرمم ما ورد على أهل المقتول من الضرر المالي بالدية المسلمة.
ومن هنا يظهر أن الإسلام يرى الحرية حياة والاسترقاق نوعا من القتل ، ويرى المتوسط من منافع وجود الفرد هو الدية الكاملة. وسنوضح هذا المعنى في ما سيأتي من المباحث.
وأما تشخيص معنى الخطأ والعمد والتحرير والدية وأهل القتيل والميثاق وغيره المذكورات في الآية فعلى السنة. من أراد الوقوف عليها فليراجع الفقه.
قوله تعالى : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ } ، التعمد هو القصد إلى الفعل بعنوانه الذي له ، وحيث إن الفعل الاختياري لا يخلو من قصد العنوان وكان من الجائز أن يكون لفعل أكثر من عنوان واحد أمكن أن يكون فعل واحد عمديا من جهة خطائيا من أخرى فالرامي إلى شبح وهو يزعم أنه من الصيد وهو في الواقع إنسان إذا قتله كان متعمدا إلى الصيد خاطئا في قتل الإنسان ، وكذا إذا ضرب إنسانا بالعصا قاصدا تأديبه فقتلته الضربة كان القتل قتل خطأ ، وعلى هذا فمن يقتل مؤمنا متعمدا هو الذي يقصد بفعله قتل المؤمن عن علم بأنه قتل وأن المقتول مؤمن .
وقد أغلظ الله سبحانه وتعالى في وعيد قاتل المؤمن متعمدا بالنار الخالدة غير أنك عرفت في الكلام على قوله تعالى { إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ } [ النساء : 48 ] أن تلك الآية ، وكذا قوله تعالى { إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً } [ الزمر : 53 ] تصلحان لتقييد هذه الآية فهذه الآية توعد بالنار الخالدة لكنها ليست بصريحة في الحتم فيمكن العفو بتوبة أو شفاعة.
_________________________
1. تفسير الميزان ، ج5 ، ص 35-37 .
2. يعني أنها تدل على نفي الشأن الذي هو بلغ من نفي الفعل أي لا يوجد في المؤمن بعد دخوله في حريم الإيمان اقتضاءً لقتل مؤمن أبداً بل لا يليق بحالة الإيمان ولا ينبغي له قتل من تشرف بالإيمان مطلقاً أي قتل كان . والنهي الدال على نفي الشأن والاقتضاء كثير في القرآن قال تعالى : {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ} [الأحزاب : 53] وقال { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب : 36] والنفي للشأن والاقتضاء بمعنى النهي للمبالغة وشدة التنزيه عن ارتكاب القتل .
قال في الكشاف " والمعنى أن من شأن المؤمن أن ينتفي عنه وجود قتل المؤمن ابتداءاً البتة إلا إذا وجد منه خطأ من غير قصد بأن يرمي كافراً مسلماً أو يرمي شخصاً على أنه كافر فإذا هو مسلم " .
قال تعالى : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ...} .
أحكام القتل النّاتج عن الخطأ :
لقد أطلقت الآية السابقة أيدي المسلمين في المنافقين الذين كانوا يشكلون خطرا كبيرا على الإسلام ، وسمحت لهم حتى بقتل أمثال هؤلاء المنافقين ، ولكن تفاديا لاستغلال هذا الحكم استغلالا سيئا ، ولسد الطريق أمام الأغراض الشخصية التي قد تدفع صاحبها إلى قتل إنسان بتهمة أنّه منافق ، وأمام أي تساهل في سفك دماء الأبرياء ، بيّنت هذه الآية والتي تليها أحكام قتل الخطأ وقتل العمد ، لكي يكون المسلمون على غاية الدقّة والحذر في مسألة الدّماء التي تحظى باهتمام بالغ في الإسلام ، تقول الآية الكريمة : {وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً} .
هذه الآية تقرر في الواقع حقيقة من الحقائق ، فالمؤمن لا يسمح لنفسه إطلاقا أن يسفك دما بريئا ، لأنّ المشاعر الإيمانية تجعل من الجماعة المؤمنة أعضاء جسد واحد ، وهل يقدم عضو في جسد على قطع عضو آخر إلّا خطأ! من هذه الحقيقة يتّضح أنّ مرتكب جريمة القتل متهم أوّلا في إيمانه.
وعبارة «إلّا خطأ» لا تعني السماح بارتكاب قتل الخطأ! لأنّ مثل هذا القتل لا يكون عن قرار مسبق ، ولا يكون مرتكبه حين الارتكاب على علم بخطئه أنّها ـ إذن ـ تقرير لحقيقة عدم ارتكاب المؤمن مثل هذه الجريمة إلّا عن خطأ.
ثمّ تبيّن الآية الكريمة غرامة قتل الخطأ ، وتقسمها إلى ثلاثة أنواع :
فالنّوع الأوّل : هو أن يحرر القاتل عبدا مسلما ، ويدفع الدية عن دم القتيل إلى أهله إذا كان القتيل ينتمي إلى عائلة مسلمة {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ} فإذا وهب أهل القتيل الدية وتصدقوا بها له فلبس على القاتل أن يدفع شيئا : {إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا ...}.
والنّوع الثّاني : من غرامة قتل الخطأ يكون في حالة ما إذا كان القتيل مسلما ، ولكن من عائلة معادية للإسلام ويجب في هذه الحالة عتق عبد مسلم ولا تدفع الدية إلى أهل القتيل ، لأنّ الإسلام يرفض تعزيز الحالة المالية لأعدائه ، بالإضافة إلى ذلك فإنّ الإسلام قد قطع الصلة بين هذا الفرد وعائلته المعادية للإسلام ، فلا معنى إذن لجبران الخسارة.
أما النّوع الثّالث : من غرامة القتل الناتج عن الخطأ ، فيكون في حالة كون القتيل من عائلة غير مسلمة لكن بينها وبين المسلمين عهدا وميثاقا ، في مثل هذه الحالة أمر بدفع دية القتيل إلى أهله ، كما أمر ـ أيضا ـ بتحرير عبد من العبيد المسلمين احتراما للعهود والمواثيق تقول الآية : {وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} .
واختلف المفسّرون في قتيل الحالة الثالثة ، هل يجب أن يكون من المسلمين ، أم أن الحكم يشمل غيرهم من الكفار الذميين ؟
وظاهر الآية والروايات التي وردت في تفسيرها تدل على أنّ المقصود فيها هو القتيل «المسلم» .
كما اختلف المفسّرون في جواز دفع الدية إلى أهل القتيل غير المسلمين ، حيث أنّ الدية تعتبر جزءا من الإرث ، والكافر لا يرث المسلم ، ولكن ظاهر الآية يدل على وجوب دفع الدية إلى أهل مثل هذا القتيل ، وذلك تأكيدا من الإسلام لاحترامه للعهود والمواثيق .
وذهب بعض المفسّرين إلى أنّ الدية تدفع في هذه الحالة إلى المسلمين من ورثة القتيل دون الكافرين منهم معتمدين على أنّ الكافر لا يرث المسلم وأنّ الدية هي جزء من الإرث ، وقد وردت إشارات إلى هذا المعنى في بعض الروايات أيضا.
بينما ظاهر الآية يدل على أن الورثة ليسوا من المسلمين ، وذلك حين تقول : {مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ ...} لأن العهود والمواثيق كانت في ذلك الزمان بين المسلمين وبين غيرهم ، ولم تكن بين المسلمين أنفسهم ـ حينذاك ـ عهود أو مواثيق ، (وهنا يجب الإمعان والتدقيق كثيرا من الأمر) .
وتستطرد الآية في بيان الحكم فتتطرق إلى أولئك النفر من المسلمين الذين يرتكبون القتل عن خطأ ، ولا يسعهم ـ لفقرهم ـ دفع المال دية عن القتيل ، كما لا يسعهم شراء عبد لتحرير رقبته غرامة عن ارتكابهم للقتل الخطأ ، وتبيّن حكم هؤلاء ، وتعلن أنهم يجب أن يصوموا شهرين متتابعين غرامة عن القتل الخطأ الذي ارتكبوه ، بدلا من الدية وتحرير الرقبة ، وقد اعتبرت ذلك نوعا من تخفيف الجزاء على الذين لا يطيقون الغرامة المالية وتوبة منهم إلى الله ، علما أنّ جميع أنواع الغرامات التي ذكرت في الآية عن القتل الخطأ ، إنما هي توبة وكفارة للذنب المرتكب في هذا المجال ، والله يعلم بخفايا الأمور وقد أحاط علمه بكل شيء حيث تقول الآية : {تَوْبَةً مِنَ اللهِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً} .
قال تعالى : {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا ...} .
عقوبة القتل العمد :
لقد بيّنت الآية السابقة عقوبة ـ أو غرامة ـ القتل الناتج عن الخطأ ، وجاءت الآية الأخيرة عقوبة القتل عن عمد وسبق إصرار ، في حالة إذا كان القتيل من المؤمنين ، وبما أن جريمة قتل الإنسان من أعظم وأكبر الجرائم وأخطر الذنوب ، وان التهاون في مكافحة مثل هذه الجريمة يهدد أمن المجتمع وسلامة أفراده ، الأمن الذي يعتبر من أهم متطلبات المجتمع السليم ، لذلك فإنّ القرآن الكريم قد تناول هذه القضية في آيات مختلفة بأهمية بالغة ، حتى أنّه اعتبر قتل النفس الواحدة قتلا للناس جميعا ، إلّا أن يكون القتل عقابا لقتل مثله أو عقابا لجريمة الإفساد في الأرض حيث يقول القرآن في هذا المجال : {مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً} (2) .
وقد قررت الآية ـ موضوع البحث ـ أربع عقوبات أخروية لمرتكب القتل العمد ، وعقوبة أخرى دنيوية هي القصاص ، والعقوبات الأخروية هي :
١ ـ الخلود والبقاء الأبدي في نار جهنم ، حيث تقول الآية : {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها} .
٢ ـ إحاطة غضب الله وسخطه بالقاتل : {وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ ...} .
٣ ـ الحرمان من رحمة الله : {وَلَعَنَهُ} .
٤ ـ العذاب العظيم الذي ينتظره يوم القيامة : {وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً} والملاحظ هنا أن العقاب الأخروي الذي خصصه الله للقاتل في حالة العمد ، هو أشدّ أنواع العذاب والعقاب بحيث لم يذكر القرآن عقابا أشدّ منه في مجال آخر أو لذنب آخر.
أمّا العقاب الدنيوي الذي وردت تفاصيله في الآية (١٧٩) من سورة البقرة ، فهو القصاص ، وقد تطرقنا إليه لدى تفسير هذه الآية في الجزء الأوّل من كتابنا هذا .
_______________________
1. تفسير الأمثل ، ج3 ، 248-254 .
2. الآية ٣٢ من سورة المائدة .
|
|
دراسة يابانية لتقليل مخاطر أمراض المواليد منخفضي الوزن
|
|
|
|
|
اكتشاف أكبر مرجان في العالم قبالة سواحل جزر سليمان
|
|
|
|
|
اتحاد كليات الطب الملكية البريطانية يشيد بالمستوى العلمي لطلبة جامعة العميد وبيئتها التعليمية
|
|
|