أقرأ أيضاً
التاريخ: 30-9-2020
2479
التاريخ: 15-12-2019
1500
التاريخ: 26-4-2021
2266
التاريخ: 9-9-2018
4956
|
الثورة ترشح الإمام للخلافة...
استيقظت المدينة المنورة صبيحة مقتل عثمان (رض) شاحبة الظلال، باهتة الألوان، يسودها الفزع والقلق، ويغشاها الهول ولاضطراب. فالحدث خطير في أبعاده ، وجرأة الثوار كبيرة فيما أقدمت عليه ، والناس في حيرة من أمرهم ، ينتاب بعضهم تأنيب الضمير في خذلان عثمان ، ويستبشر آخرون بمقتل عثمان ، ويأسى سواهما لما حلّ بعثمان ، بينما يفكر نفرٌ يسير بمصير الإسلام وحرمة البلد الذي يحكمه الثائرون ، فالأهواء ـ كما ترى ـ متباينة ، والوضع العام في شقاق مرير ، واللغط يشق عنان السماء .
والحاجة الآنية أن لا بد للناس من إمام يخلف الخليفة المقتول ، وقائد تلتقي برحابه أفئدة الناس ، والأمر كله في المدينة لأبي حرب الغافقى زعيم المصريين ، يؤم الناس في الصلاة ، ويتصدر القيادة الثائرة ، ويشرف على إدارة الحكم العرفي دون كفاية أو خبرة ، وينظر في الناس وهم يلتفون حول طلحة والزبير تارة ، ويهتفون باسم الإمام علي تارة أخرى ، ولا رأي سوى هذين ولكن أصابع الاتهام تشير إلى طلحة والزبير بكثير من الحذر والشفقة ، تحذر منهما ، وتشفق على المسلمين من إمارتهما ، فكلٌ منهما قد أجلب على عثمان حتى قتل ، وقد حاولا رفع هذه التهمة بكثير من الدوران الذي لم يخفَ على الناس قريبهم وبعيدهم ، فهما صاحبا عثمان بالأمس ، كثّرا عليه ، وخذّلا عنه ، وألبّا الناس وأسلماه ، فهما في حرج من نصب أنفسهما ، وترشيح ذاتيهما لمقامه .
وكان المصريون ـ وهم زعماء الثورة ضد عثمان ـ أكثر الناس حذراً ، وأشدّهم تحرزاً ، فضيقوا على طلحة والزبير فسحة الأمل ، وبادروا إلى إتخاذ القرار المناسب ، وتوجهوا إلى أهل الحل والعقد من بقية المهاجرين والأنصار في المدينة ، وقالوا : يا أهل المدينة : إنكم أهل الشورى ، وأنتم تعقدون الإمامة ، فانظروا رجلاً تنصبونه ونحن لكم تبع » .
فهتف الناس في ذلك الحشد « عليّ لنا رضى، نحن به راضون ».
قالوا ذلك جميعاً بما فيهم طلحة والزبير ، لم ينافس علياً أحد في الترشيح ، ولم ترشح الجماهير سواه للخلافة ، وقال ممثلهم عمار بن ياسر :
« أيها الناس : إنا لن نألوكم خيراً وأنفسنا إن شاء الله ، وإن علياً من قد علمتم ، وما نعرف مكان أحد أحمل لهذا الأمر منه ، ولا أولى به » .
ورضي الناس بهذا العرض وأمنوا عليه، وانطلقوا إلى أمير المؤمنين وهو في عزلته، وقالوا:
« يا أبا الحسن: إن هذا الرجل قد قتل، ولا بد للناس من إمام، ولا نجد اليوم أحداً أحق بهذا الأمر منك، ولا أقدم سابقة، ولا أقرب من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ».
وتأبّى عليٌّ على القوم، ورّد الطلب برفق وأناة قائلاً: « دعوني والتمسوا غيري، فأنا لكم وزيراً خير مني لكم أميراً ».
وازداد الإصرار، وتكرر الطلب، فعاود عليّ الامتناع قائلاً: « اتركوني فأنا كأحدكم، بل أنا أسمعكم وأطوعكم لم وليتموه أمركم ».
وكان عليّ عَليهِ السَّلام زاهداً في الخلافة ، وهو يتطلع إلى الأفق البعيد فيجد المناخ السياسي مضطرباً ، ويلحظ الناس في اندفاع وغضب ، ويشاهد أولي الأمر بين رغبة ورهبة ، ويرى الوازع الديني ضعيفاً ، والعنف الثوري قائماً ، فيقول لهم : « لا حاجة لي في أمركم أيها الناس ، أنا معكم ، فمن اخترتم فقد رضيت به » . ويعجب الجمع من هذا الإباء ، ويعزّ عليهم هذا الرفض القاطع ، ويشعر الإمام بحيرة القوم ، فيعلل لهم سبب امتناعه ، ويوضح علة إصراره :
« دعوني والتمسوا غيري إيها الناس ، إنا مستقبلون أمراً له وجوه وله ألوان ، لا تثبت عليه العقول ، ولا تقوم له القلوب » .
وهنا يتجلى البعد السياسي الحصين عند الإمام ، فهو يغوص إلى الأعماق ، وهو يستقرئ الغيب المجهول ، وهو يتوجس من الأحداث القادمة ، ويستخرج دغلها وغشها ودناءتها ، وهو ينفذ إلى خفايا القلوب ويسبر أغوارها فلم يكن ليعجبه الحكم ، وهو مجهول المعالم ، ولم تكن تستهويه الخلافة وهي محفوفة بالتنازع ، وما كان ليستسلم لأهواء الناس وهي مشبوبه العواطف ، وإنما كان يريد أن يخضع لمنطق العقل ويخضع الناس له ، ويحكم بسلطان المنطق ويحمل الناس عليه ، وهو الآن يشاهد الثورة جامحة لا تني ، والاندفاع هادراً لا يهدأ ، والمدينة يحكمها الثوار ، والناس تقترب من الفتنة ، وهو يريد أن يغير هذه الظواهر ، فيقطع مادة الثورة ، ويحمل الناس على الجادة ، ويستقبل بالأمر السبيل المستقيم ، ولكن الناس لم يتركوه ، وانثالوا عليه ، وتمسكوا به :
« فما راعني إلا والناس كعرف الضبع إلي ، ينثالون عليّ من كل جانب ، حتى لقد وطئ الحسنان ، وشق عطفاي ، مجتمعين حولي كربيضة الغنم » .
هكذا صور الحال بدقة متناهية ، فما هذا الإصرار من الناس إلا إستنفاراً لا مناص عنه ، وما هذه الغضبة الصارخة إلا نتيجة الألم الدفين ، وما هذا التصوير البليغ إلا بياناً للحال ، فهو بين أن يستجيب للثقة النابعة من الصميم ، وبين أن يتنكب مزلقة النوازل القادمة ، وبين أن يلقي حبلها على غاربها ...
خيارات أهونها الصعب ؛ وبينا هو في هذا التفكير الجدي ، وإذا بالأشتر يندفع قائلاً :
« ننشدك الله، ألا ترى ما نرى، ألا ترى ما حدث في الإسلام، ألا ترى الفتنة، ألا تخاف الله ».
وكان صوت الأشتر جريئاً يستأهل التفكير ، ومجلجلاً يقطع الصمت ، وعنيفاً يدعو إلى الحسم ، وضع الإمام أمام مسؤوليته القيادية ، ليتدارك أمر الإسلام ، ويقطع دابر الفتنة ، فانطلق الإمام يستجيب معللاً ومقرراً :
« قد أجبتكم لما أرى منكم، ألا فاعلموا أني إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم ».
وكانت الاستجابة مقترنة بحملهم على سبيل رسول الله ليس غير ، وهو ما يعلمه الإمام .
استبشر الناس بهذا القرار الحاسم ، ووافقوا على النهج الذي يختطه الإمام ، وهبوا لمبايعته ، ولكنه أبى وقال : « إن كان لا بد من ذلك ففي المسجد ، فإن بيعتي لا تكون خفياً ، ولا تكون إلا عن رضا المسلمين ، وفي ملأ وجماعة » .
وكأن علياً أراد ببيعته الإصحار لا الإسرار حتى لا يدعي أحد الإكراه ، وكأنه أراد المهاجرين والأنصار حتى لا يتخلف أحد ، وكأنه أراد كما في بعض المرويات أهل بدر بخاصة ، فلم يبق بدري إلا أتى علياً ، وقالوا له جميعاً :
ما نرى أحداً أحق بها منك يا أبا الحسن. وكان ما قالوا عين الصواب فهم يعرفون عليّا وسابقته. وقد جاؤوا بعلي عليه السلام إلى المسجد النبوي ، وتمت بيعته جهاراً على كتاب الله وسنة نبيه ، فقال علي : « اللهم اشهد عليهم » .
وكانت البيعة رضا للمهاجرين والأنصار ، وبمباركة أهل بدر خاصة ، وكانت رضا للثوار من الأمصار والأقاليم ، وتخلف عن البيعة من طمع بالخلافة ، أو انحرف عن الإمام ، أو أظهر الاعتزال ، وهم جماعة يعدون بالأصابع ، فما ألح عليهم الإمام ، وفي طليعتهم سعد بن أبي وقاص ، فقد أبى أن يبايع وقال للإمام « ما عليك مني من باس » وعبد الله بن عمر بن الخطاب أبى أن يبايع فطلب إليه الإمام أن يقدم كفيلاً ، فما وجد كفيلاً أو أبى أن يقدم كفيلاً ، فقال الإمام : خلوه وأنا كفيله ، والتفت إليه قائلاً: « ما علمتك إلا سيىء الخلق صغيراً وكبيراً »
وأبى البيعة زيد بن ثابت وهو عثماني الرأي فيما يزعم ، ومحمد بن مسلمة وهو يحب أن يعتزل فيما يرى ، وأسامة بن زيد ، وقد انحرف عن الإمام منذ أن أمّر ، والبيت الأموي بعامة وفي طليعتهم مروان بن الحكم ولم يكن هناك ، وحسان بن ثابت الذي هنأ الإمام بالغدير في حياة النبي ، وانحرف عنه ، وحرضّ الناس عليه .
ما استكره الإمام أحداً على البيعة ، وكف عنهم ، وأبى أن يعرض لهم أحد بسوء ، فما كانت البيعة لينقصها هذا العدد الضئيل ، وهي ليست من الضعف بأن يؤثر عليها هذا النفر المحدود .
تمت البيعة لعلي عَليهِ السَّلام ، وكانت رضا لعامة المسلمين إلا هذا النفر الشاذ ، وكان حرياً أن تستقيم له الأمور ، لأنه ما أرادها ولكنها أرادته ، وما تزين بها ولكنها إزدانت به ، فهو أكبر منها قدراً ، وأعلى منزلة . والجدير بالذكر أن الإمام قد أوجز الحال فيها على الشكل الآتي :
« بسطتم يدي فكففتها ، ومددتموها فقبضتها ، ثم تداككتم عليّ تداك الإبل الهيم على حياضها يوم ورودها ، حتى انقطعت النعل ، وسقطت الرداء ، ووطىء الضعيف ، وبلغ من سرور الناس ببيعتهم إياي أن ابتهج بها الصغير ، وهدج إليها الكبير ، وتحامل نحوها العليل ، وحسرت إليها الكعاب » .
وقد تمت البيعة لأمير المؤمنين بعد مقتل عثمان بخمسة أيام وكان أمام أمير المؤمنين جملة من المشكلات المهمة ، والقضايا العاجلة التي يجب أن يبتّ فيها فوراً ، وقد يطول الحديث عنها ، ولكنه حسم قضيتين مهمتين :
الأولى: سياسة الحكم الجديد، فقال في أول خطاب رسمي له:
« أيها الناس إنما أنا رجل منكم لي ما لكم وعلي ما عليكم ، وإني حاملكم على منهج نبيكم ، ومنفّذ فيكم ما أمرت به » .
وقد وضح المنهج الإسلامي في اتجاه علي عَليهِ السَّلام وهو أنه كأحد المسلمين لا أكثر ولا أقل إلا أنه قائدهم ، وهو المنهج الديمقراطي الحديث بعينه هذا اليوم . والثاني أنه يحملهم على منهج النبي وسبيلة لا تأخذه في ذلك لومة لائم .
الثانية: إصلاح ما أفسده عثمان من المال، واسترجاع ما اقطعه بغير حق، فقد خطب الإمام في اليوم الثاني لبيعته وقال:
« ألا إن كل قطيعة أقطعها عثمان ، وكل مال أعطاه من مال الله ، فهو مردود في بيت المال ، فإن الحق القديم لا يبطله شيء ، ولو وجدته وقد تزوج به النساء ، ومُلِكَ به الإماء لرددته إلى حاله ، فإن في العدل سعة ، ومن ضاق عليه العدل ، فالجور عليه أضيق » .
ثم نفّذ الإمام ما قال ، وأمر بقبض كل سلاح تقوّى به عثمان على المسلمين ، وأمر بقبض نجائب كانت في داره من إبل الصدقة ، وأن ترتجع الأموال التي أجاز بها عثمان حيث أصيبت أو أصيب أصحابها ، وبالكف عن أموال عثمان الخاصة به .
وقد وضحت سياسة الإمام في الحكم بأنه سائر على منهج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يحيد عنه ، وفي المال بأن يعود لبيت المال .
وهنا تنبه أصحاب المطامع والمآرب والإمتيازات السابقة أن لا حياة لهم مع الإمام ، فقد قال الإمام مباشرة :
« فأنتم عباد الله ، والمال مال الله ، يقسم بينكم بالسوية ، ولا فضل فيه لأحد على أحد ، للمتقين عند الله أحسن الجزاء ، فإذا كان الغد فاغدوا علينا إن شاء الله ، ولا يتخلفنّ أحد منكم عربي أو عجمي كان من أهل العطاء » .
وقد تحركت في هذا الإعلان الصريح مكائد القلوب، واستوحشت منه ضمائر أهل الطمع، وتنكر له أصحاب الملايين.
فبدأت الفتن تترى كقطع الليل المظلم ، وعليّ في أول الطريق .
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|