أقرأ أيضاً
التاريخ: 25-04-2015
1634
التاريخ: 24-04-2015
5302
التاريخ: 27-09-2015
1722
التاريخ: 25-04-2015
2277
|
يمتاز التفسير في عهد التابعين بمميزات ، تفصلها عن تفاسير الصحابة من وجوه :
اولا : الـتـوسع فيه. فقد تعرض التابعون لمختلف ابعاد التفسير ، وخاضوا معاني القرآن ، من مختلف الجهات والمناحي بينما كان تفسير الصحابة مقتصرا على جوانب محدودة من اللغة ، وشان النزول ، وبـعض المفاهيم الشرعية ، لرفع ما ابهم على الناس من هذه الجهات فحسب فقد خطا تفسير التابعي خطوات اوسع وفي جوانب اكثر.
ومـن ثـم فان التفسير في هذا العهد ، يشمل جوانب الادب واللغة في ابعاد مترامية وهكذا التاريخ لأمم سالفة ، وامم معاصرة مجاورة لجزيرة العرب ، تاريخ حياتهم وبلادهم ، على ما وصلت اليهم من اخـبـارهـم وحتى بعض لغاتهم وثقافاتهم ، مما يمس جانب القرآن وهكذا دخل في التفسير بحوث كـلامـية نشأت ذلك العهد ، وارتبطت مع كثير من آي القرآن بعض الربط كيات الصفات والمبدأ والمعاد وما شابه .
وقـد اخـذ هذا التوسع بازدياد مطرد ، وفي ابعاد مستجدة كلما توسعت العلوم والمعارف ، وازداد الـتعرف الى آداب وثقافات كان يملكها امم يدخلون في دين اللّه افواجا ، ومعهم علومهم ومعارفهم ، يحملونها ويجعلونها في خدمة الاسلام والمسلمين ، وكانت لم تزل تتسع مع اتساع رقعة الاسلام .
ولا يـزال حـجـم الـتفسير يتضخم ، حيث وفرة العلوم والمعارف المساعدة لحل قسط وافر من مـشـاكـل غـامـضة مما تحتضنه كثير من آيات كونية او لافتة الى خبايا اسرار الوجود وللعلم والفلسفة في جميع مناحيهما حظهما الاوفر في هذا المجال .
ثانيا : تشكله وثبته ثم تدوينه .
كـان الـتـفسير على عهد الصحابة كحاله في عهد الرسالة ، منتثرا على افواه الرجال ، ومبثوثا بين اظـهـرهـم ، مـحـفـوظا في الصدور لقصر خطاه وقرب مداه ومقتصرا على بضع كلمات لبضع آيات ، كانت خافية المفاد ، او مبهمة المراد حينذاك .
امـا وكـونه منتظما رتيبا ، ومثبتا ذا تشكيل وتدوين فهذا قد حصل او اخذ في الحصول على عهد التابعين وتابعي التابعين كان احدهم يعرض القرآن من بدئه الى الختم ، على شيخه يقرؤه عليه ، يقف لدى كل آية آية يساله عنها ويستفهمه معانيها ، او يستعلم منه مقاصدها ومراميها ، ولا يجوزها حتى يـدونها في سجل ، او يثبتها في دفتر او لوح ، كان يحمله معه وهكذا اخذ التفسير ، يتشكل ويتدون ذلك العهد.
قال مجاهد : عرضت القرآن على ابن عباس ثلاث مرات ، اقف عند كل آية ، اساله فيم انزلت ، وكيف نزلت قال ابن ابي مليكة : رايت مجاهدا يسال ابن عباس عن تفسير القرآن ، ومعه الواحه فيقول له ابن عباس : اكتب حتى ساله عن التفسير كله ومن ثم قيل : اعلمهم بالتفسير مجاهد (1)
وكـان ابـن عـباس يجتهد في تربية عكرمة مولاه ، فرباه فاحسن تربيته ، وعلمه فاحسن تعليمه ، حتى اصبح فقيها ، واعلم الناس بالتفسير ومعاني القرآن (2)
ولـقـتادة كتاب في التفسير ، وربما كان كبير الحجم ضخما فقد استخدمه الخطيب البغدادي ، كما استخدمه الطبري في اكثر من ثلاثة آلاف موضع من تفسيره (3).
وهـكـذا لـجـابـر بـن يـزيـد الـجـعـفي (4) والحسن البصري (5) وابان بن تغلب (6) وزيد بن اسلم (7) وغيرهم كتب معروفة في التفسير وعلوم القرآن .
قـال عـادل نويهض : ابان بن تغلب ، مقرئ جليل ، مفسر ، نحوى ، لغوي ، محدث ، من اهل الكوفة وثقه احـمـد وابـن مـعين وابو حاتم خرج له مسلم والاربعة من آثاره ((معاني القرآن )) و((غريب القرآن )) ولعله اول من صنف في هذا الموضوع توفي سنة (141) (8).
وسنذكر في فصل قادم ، بد التدوين في التفسير ، الامر الذي تحقق منذ عهد التابعين .
وثـالثا : النظر والاجتهاد. كانت هي ميزة كبرى حظي بها عهد التابعين ، ان قام عديد من كبار العلماء ذاك الـعـهد ، فاعملوا النظر في كثير من مسائل الدين ، ومنها مسائل قرآنية ، كانت تعود الى : معاني الـصـفـات ، واسـرار الخليقة ، واحوال الانبياء والرسل ، وما شاكل فكانوا يعرضونها على شريعة العقل ، ويحاكونها وفق حكمه الرشيد ، وربما يؤولونها الى ما يتوافق مع الفطرة السليمة .
واول مدرسة اخذت في الاجتهاد واعمال النظر لاستنباط معاني القرآن ، مدرسة مكة ، التي اشادها الـصـحابي الجليل تلميذ الامام امير المؤمنين (عليه السلام) الموفق ، عبد اللّه بن عباس وكان متخرجوا هذه الـمدرسة هم الذين اسسوا بنيان الاجتهاد في التفسير وعلى يدهم شاعت وذاعت طريقة الاجتهاد في مناحي الشريعة المقدسة ، على الاطلاق .
ثم مدرسة الكوفة ، تأسست على يد عبد اللّه بن مسعود ، وتخرجت منها علما افذاذ ، اصحاب نظر واجـتـهـاد واصبحت مدرسة الكوفة بعدئذ معهد الدراسات الاسلامية ، يقصدها رواد العلم من جميع اطـراف البلاد ، حيث محط جل الصحابة ، ولا سيما بعد مهجر الامام امير المؤمنين (عليه السلام) فقد ارتحل الـيـهـا العلم برمته ، واخذت مجامع الكوفة تحتضن الكبار من علما الاسلام يومذاك وعليهم دارت رحى العلم وفاضت ينابيع المعارف الى ارجاء البلاد.
ولـم تـدم مـدرسـة مـكة طويلا ، واخذت بالأفول بعد وفاة صاحبها ومؤسسها عام (68) وتفرق متخرجيها وانتشارهم في اكناف الارض فقد ارتحلوا الى خراسان ومصر والشام وسائر الديار.
غير ان مدرسة الكوفة اخذت تزدهر وتزداد صيتا ونشاطا مع تقادم الايام .
وهاتان المدرستان هما الاساس لنشر العلم وبث المعارف بين العباد ، وان كانت احداهما اخذت في الاندثار ، بينما الاخرى استمرت في الازدهار والتوسع والانتشار.
واكثر العلماء التابعين بل الغالبية الساحقة ، هم المتخرجون من هاتين المدرستين .
فـكـان لهما الفضل الكبير على الامة ، في تثقيفهم والتنشيط في السعي ورا العلم والمعرفة ويعود الـفـضـل فـي ذلـك الـى الـصـحـابـيين الجليلين : ابن عباس وابن مسعود ، وعلى راسهما الامام اميرالمؤمنين (عليه السلام).
هـذا مـجـاهـد بـن جـبـر ، مـتـخـرج مـدرسـة ابـن عـبـاس ، وقد اجمعت الامة على امامته والاحتجاج بكلامه (9).
رمـي بـحـرية الراي في التفسير ، وان شئت فقل : حظي بقوة الفهم وحدة النظر ووفور العقل والذكاء.
نعم حيث كانت عقلية الجمود ، هي الساطية على غوغاء الناس حينذاك ، كان توجيه هكذا تهم الى امثال هؤلاء الافذاذ ، يبدو طبيعيا في ظاهر الحال .
قيل له : انت الذي تفسر القرآن برايك ؟ مبانيه وطرائق استنباط معانيه ) عن بضعة عشر رجلا من اصحاب النبي (صلى الله عليه واله)
نعم كان مجاهد يحمل ذهنية متحررة عن قيود الاوهام ، وعقلية واعية تمكنه من ادراك الحقائق ولمسها في واقع امرها ، دون الاقتصار على الظاهر والاقتناع بالقشور.
انه كان يعرض الاي القرآنية ـ لغرض فهم معانيهاـ على المتفاهم العام من الالفاظ والكلمات ، ثم على مباني الشريعة وشواهد التاريخ ونحوها مما كان متعارفا لفهم المعاني لدى العرف العام لكن من غير ان يـقـتـنـع بـذلـك ، حتى يعرضها على فهم العقل وتوافق الفطرة ، من غير ان يختفي عنه شيء من الشواهد ودقائق الكلام .
قـال ـ فـي تفسير قوله تعالى : {فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة : 65] لم يمسخوا قردة ، وانما هو مثل ضربه اللّه ، كما قال : {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة : 5] قال : انه مسخت قلوبهم ، فجعلت كقلوب القردة ، لا تقبل وعظا ولا تتقي زجرا (10).
وقـد تكلمنا عن تفسيره هذا لهذه الاية ، في ترجمته السالفة ، وذكر اوجه ترجيحه وكلام السلف وعلما المفسرين بشأنه .
وقال ـ في تفسير قوله تعالى : {رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ } [المائدة : 114] قـال : مـثـل ضـرب لـم ينزل عليهم شيء قال ابو جعفر الطبري : قال قوم : لم يـنزل على بني اسرائيل مائدة ، فقال بعضهم : انما هذا مثل ضربه اللّه تعالى لخلقه نهاهم به عن مسالة نبي اللّه الايات ثم اسند ذلك الى مجاهد (11).
وعـند تفسير قوله تعالى : {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ } [القيامة : 22] ، قال : تنتظر الثواب من ربها قيل له : ان اناسا يقولون : انه تعالى يرى ، فيرون ربهم : فقال : لا يراه من خلقه شيء (12).
قال الاستاذ الذهبي : ان مثل هذا التفسير عن مجاهد ، اصبح متكئا قويا للمعتزلة فيما بعد ، فيما ذهبوا اليه من مذاهب عقلية .
قـلـت : لـيس مجاهد وحده ممن فتح باب الاجتهاد والنظر في مفاهيم القرآن ، بل كان يرافقه ـ ذلك الـعـهـد ـ كـثـير من ارباب العقول الراجحة ، ممن سماهم اللّه تعالى (اولي الا لباب ) ، وهم وفرة في اصحاب النبي (صلى الله عليه واله) والتابعين لهم بإحسان وفي هذا التأليف تنويه بجلة من اعلامهم .
كـمـا ان المعتزلة ليسوا هم وحدهم ـ ممن تبعوا طريقة العقل الرشيد ، ونبذوا الجمود في الراي ورا الـظـهور ففيما عدى السلفيين الحفاة الجفاة واذنابهم الاشاعرة العراة ، خلق كثير وزرافات من الامة المرحومة ، واكبوا اهل الاعتزال او سبقوهم في هذا المضار ، ولا يزال .
ومن الموصوفين بحرية الراي والاجتهاد في التفسير ، عكرمة مولى ابن عباس ، الذي رباه فاحسن تـربـيـتـه وعـلـمـه فـاحـسـن تـعـلـيمه ، حتى اصبح من الفقها واعلم الناس بالتفسير ومعاني القرآن (13).
كـان يـرى مـسـح الارجل في الوضوء مستفادا من الكتاب ، كما فهمه شيخه ابن عباس ويرفض ما استظهره سائر الفقهاء ويخطؤهم في استظهار الخلاف (14).
وهـكـذا فـي الـمـسـح عـلـى الـخفين كان ينكره اشد الانكار كان يقول : ((سبق الكتاب المسح عـلـى الـخـفين )) (15) يعني : ان الكتاب جاء بالمسح على الارجل اما المسح على الخفين فامر حادث ، لا يجوز ترك القرآن بذلك .
امـا الـقوم فكانوا يرون المسح على الخفين ناسخا للمسح على الارجل ذكر الجصاص ان ابا يوسف كان يرى ان سن ة المسح على الخفين نسخت آية المسح على الارجل (16).
وزيـد بـن اسـلم مولى عمر ، الفقيه المفسر ، برع حتى اصبح من كبار التابعين المرموقين كانت له حـلـقـة في مسجد المدينة يحضرها جل الفقها وربما بلغوا اربعين فقيها له تفسير يرويه عنه ولده عـبد الرحمان قال ابن حجر : اخذ العلم من جماعة ، منهم علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) ، وعده ابـو جـعفر الطوسي من اصحاب الامام السجاد قال : كان يجالسه كثيرا له رواية عن الامامين الباقر والصادق (عليه السلام).
وقـد اخـذ عليه حريته في الراي والاجتهاد ، على خلاف مذهب الاحتياط والوقوف لدى المأثور قـال حماد : قدمت المدينة وهم يتكلمون في زيد بن اسلم فقال لي عبيد اللّه بن عمر : ما نعلم به باسا الا انه يفسر القرآن برايه والمعروف عن اهل المدينة انهم اصحاب وقف واحتياط (17)
هـذا وقد راج التفسير العقلي فيما بعد ، ولا سيما عند المعتزلة ومن حذا حذوهم في تقديم العقل على ظاهر النقل .
هـذا ابو مسلم محمد بن بحر الاصفهاني (255 ـ 344) قد وضع تفسيره على اساس من التفكير الـصـحـيح وفق ما يرتضيه الدين الاسلامي الحنيف ، من نبذ التقليد والتمسك بعرى التحقيق {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد : 24] {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل : 44]
هو عند ما يفسر قوله تعالى : {قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} [آل عمران : 41] بان زكريا لما طلب من اللّه تعالى آية تدله عـلى حصول العلوق (انعقاد النطفة في رحم زوجه ) قال : آيتك ان لا تكلم ، اي تصير مأمورا بان لا تـتـكـلم ثلاثة ايام بلياليها مع الخلق (اي اذا جاك الامر بذلك ، فاعلم ان الحمل بيحيى قد تحقق عند ذلك ) اي تكون مشتغلا بالذكر والتسبيح والتهليل ، معرضا عن الخلق والدنيا ، شاكرا للّه تعالى على اعـطـاء مـثل هذه الموهبة فان كانت لك حاجة ، دل عليها بالرمز فاذا امرت بهذه الطاعة فاعلم انه قد حصل المطلوب .
يقول الامام الرازي بشأنه ـ وهو اشعري يخالفه في المذهب ـ : (وهذا القول عندي حسن معقول وابو مسلم حسن الكلام في التفسير ، كثير الغوص على الدقائق واللطائف) (18)
هـذه شـهادة راقية من اكبر علم من اعلام التحقيق في الفلسفة والكلام ، بشان المع شخصية بارزة ، مارس عقله وشاور لبه عند تفهم القرآن ، ممن نبذ التقليد واخذ في التدقيق .
وانت اذا قارنت هذا التفسير لهذا الموضع بالذات ، مع سائر التفاسير التي عرضها القوم ، تجد الفرق بائنا والبون شاسعا.
ذكـر ابو جعفر الطبري : ان عدم التكلم هنا كان عن عجز ، سلبه اللّه القدرة على الكلام ، فيما سوى الـتـسبيح والتحميد وذلك تمحيصا له من هفوته وخطا قيله في سؤاله الاية قيل : انه لما سمع نداء الملائكة يبشرونه بيحيى جاه الشيطان من فوره وقال له : يا زكريا ، ان الصوت الذي سمعت ليس من عـنـد اللّه ، انـمـا هـو الـشـيـطـان يسخر بك قالوا : فشك زكريا في مكانه ، وقال : {أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ} [آل عمران : 40] ومـن ثم طلب من اللّه ان يجعل له آية ، يرتفع بها شكه ، فعاتبه اللّه على مسالته تلك وانه لا ينبغي لنبي ان يشك .
قـال الطبري ـ فيما رواه ـ : انما عوقب بذلك ، لان الملائكة شافهته مشافهة بذلك ، فبشرته بيحيى ، فـلـمـا سـال الايـة بـعـد كـلام الـمـلائكـة مـشافهة ، اخذ اللّه عليه بلسانه ، فكان لا يقدر على الكلام الإيماء (19).
وقـال الـقـرطبي : لما بشر بالولد ولم يبعد عنده هذا في قدرة اللّه ، طلب آية يعرف بها صحة هذا الامر ، وكونه من عند اللّه ، فعاقبه اللّه بان اصابه السكوت عن كلام الناس ، لسؤاله الاية بعد مشافهة الـمـلائكـة ايـاه (20) وهـكذا اكثر المفسرين من اصحاب النقل في التفسير كابن كثير واضرابه (21)
غـير ان ارباب التحقيق رفضوا تلك النقول المنافية لأصول العقيدة الاسلامية ، ولاسيما فيما يمس جانب عصمة الانبياء وصيانتهم عن امكان غلبة الشيطان على مشاعرهم .
قـال الـشيخ محمد عبده : ومن سخافات بعض المفسرين ، والتي لا تليق بمقام الانبياء(عليه السلام) زعمهم ان زكـريا(عليه السلام) اشتبه عليه وحي الملائكة ونداؤهم ، بوحي الشياطين ، ولذلك سال سؤال التعجب ، ثم طلب آية للتثبت روى ابن جرير فيما روى : ان الشيطان هو الذي شككه في ندا الملائكة ، وقال له : انه من الشيطان .
قـال : ولـولا الجنون (22) بالروايات مهما هزلت وسمجت ، لما كان لمؤمن ان يكتب مثل هذا الـهـز والـسخف الذي ينبذه العقل ، وليس في الكتاب ما يشير اليه ولو لم يكن لمن يروي مثل هذا الا هـذا ، لـكفى في جرحه ، وان يضرب بروايته على وجهه فعفا اللّه عن ابن جرير ، اذ جعل هذه الرواية مما ينشر.
ثـم فـسـر الايـة وفق ما فسرها ابو مسلم : (قال رب اجعل لي آية ) اي علامة تتقدم هذه العناية وتؤذن بها(قال آيتك ان لا تكلم الناس ) اي تترك ذلك مختارا لتفرغ لعبادة اللّه (23)
وهـكـذا فـي قـصة ابراهيم الخليل والطيور الاربعة : {قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا} [البقرة : 260]
قـال الـرازي : اجمع اهل التفسير على ان المراد : قطعهن غير ابي مسلم فانه انكر ذلك ، وقال : ان ابـراهـيـم (عليه السلام) لـمـا طـلـب احـيا الميت من اللّه تعالى اراه اللّه مثالا قرب اليه الامر ، والمراد ب ((فـصرهن اليك )) : الامالة والتمرين على الاجابة ، اي فعود الطيور الاربعة ان تصير بحيث اذا دعـوتـهـا اجابتك واتتك ، فاذا صارت كذلك فاجعل على كل جبل واحدا حال حياته ثم ادعهن يأتينك سـعـيا والغرض منه ذكر مثال محسوس في عود الارواح الى الاجساد على سبيل السهولة وانكر القول بان المراد منه : فقطعهن .
قال : واحتج على مذهبه بوجوه :
الاول : ان المشهور في اللغة في قوله (فصرهن) : املهن اما التقطيع والذبح فليس في الاية ما يدل عليه فكان ادراجه في الاية الحاقا لزيادة بالآية لم يدل الدليل عليها ، وانه لا يجوز.
الثاني : انه لو كان المراد ب (صرهن) : قطعهن ، لم يقل : (اليك) ، فان ذلك لا يتعدى بالى ، وانما يـتعدى بهذا الحرف اذا كان بمعنى الامالة فان قيل : لم لا يجوز ان يقال في الكلام تقديم وتأخير ، والـتقدير : فخذ اليك اربعة من الطير فصرهن ؟ قلنا : التزام التقديم والتأخير من غير دليل ملجئ الى التزامه خلاف الظاهر.
وايضا الضمير في (يأتينك) عائد اليها لا الى اجزائها ، وعلى قولكم : اذا سعى بعض الاجزاء الى بعض كان الضمير في (يأتينك) عائدا الى اجزائها لا الى الطيور انفسها (14)
ثـم ان الامـام الـرازي يذكر حجج المشهور رادا على ابي مسلم وقد نقلها صاحب تفسير المنار وضعفها ، وايد مذهب ابي مسلم في تفسير الاية في شرح وتفصيل ، ثم قال :
وجـمـلة القول : ان تفسير ابي مسلم لهذه الاية هو المتبادر الذي يدل عليه النظم ، وهو الذي يجلي الـحـقـيقة في المسالة واخذ في تقريب ذلك واخيرا قال : وللّه در ابي مسلم ، ما ادق فهمه واشد استقلاله فيه (15)
وهذه ايضا شهادة بشان ابي مسلم من اكبر علما التفسير في العصر الاخير.
هـذا ولأمثال ابي مسلم مواقف مشرفة تجاه سائر المفسرين الظاهريين كانت نوافذ قلوب امثاله متفتحة ، يسيرون في ضوء العقل وعلى مناهج التفكير المتين (26).
وهـذا ان دل فإنما يدل على مدى قوة الاجتهاد ودوره المجيد في تفسير القرآن الكريم ، والذي فـتح بابه بمصراعين ، نبها السلف الصالح ايام الصحابة والتابعين ، واستمرت طريقتهم الحميدة ، سنة حسنة متبعة حتى اليوم .
قـال الرازي في تفسير قوله تعالى : {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ } [الأعراف : 189] قـال ـ بـعـد ايـراد اشكال واعتراضات على ظاهر الاية ـ : اذا عرفت هذا فنقول : في تاويل الاية وجوه صحيحة سليمة خالية عن هذه المفاسد :
الاول : فـما ذكره القفال (27) ، انه تعالى ذكر هذه القصة على تمثيل ضرب المثل ، وبيان ان هذه الحالة هي صورة حالة هؤلاء المشركين في جهلهم وقولهم بالشرك .
قال : وتقرير هذا الكلام ، كانه تعالى يقول : هو الذي خلق كل واحد منكم من نفس واحدة ، وجعل من جـنسها زوجها انسانا يساويه في الانسانية فلما تغشى الزوج زوجته وظهر الحمل ، دعا الزوج والـزوجة ربهما لئن آتيتنا ولدا صالحا سويا لنكونن من الشاكرين فلما آتاهما اللّه ولدا صالحا سويا ، جعل الزوج والزوجة للّه شركا فيما آتاهما ، لانهما تارة ينسبون ذلك الولد الى الطبائع كما هو قول الـطـبائعيين ، وتارة الى الكواكب كما هو داب المنجمين ، وتارة الى الاصنام والاوثان كما هو قول عبدة الاصنام .
ثم قال الرازي : وهذا جواب في غاية الصحة والسداد ثم ذكر بقية الوجوه فراجع (28)
وقـد حمل العلامة جار اللّه الزمخشري آية عرض الامانة على السماوات والارض (الاحزاب : 72) على ضرب من التمثيل ثم قال : ونحو هذا من الكلام كثير في لسان العرب ، وما جاء القرآن الا على طرقهم واساليبهم من ذلك قولهم : لو قيل للشحم : اين تذهب ؟ لقال : اسوي العوج وكم وكم لهم من امثال على السنة البهائم والجمادات (29).
ويـروي ابـن كثيرـ في تفسير قوله تعالى : {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} [البقرة : 243] باسناده الى ابن جريج عن عطا ـ قال : هذا مثل يعني انها ضرب مثل لا قصة وقعت (30).
رابعا : رواج الاسرائيليات في هذا العهد.
فـفي هذا الدور دخل كثير من الاسرائيليات في التفسير ، وذلك لكثرة من دخل من اهل الكتاب ، في الاسـلام فـي هذا العهد بالذات ، وكان لا يزال عالقا بأذهانهم من الاقاصيص واساطير اسلافهم ، ما يـعـود الـى بـد الخليقة واسرار الوجود وبدء الكائنات واخبار الامم الخالية واحاديث الانبياء ، وكثير من القصص الاسطورية التي جات في التوارة ، وسائر الكتب السالفة .
وكـانـت الـنـفوس ميالة لسماع تفاصيل ما جاء اجمالها في القرآن الكريم ، ولا سيما فيما يعود الى احـداث يـهـودية او نصرانية ، مما جاء في العهدين فكان المسلمون يستمعون الى اقاصيص هؤلاء ، ويصغون مسامعهم الى تلكم الاساطير.
وقـد تـساهل التابعون ـ رغم مناهي النبي (صلى الله عليه واله) واصحابه الكرام ـ فزجوا في التفسير بكثير من هـذه الاسـرائيليات ، بدون تحر وتمحيص واكثر من روى عنه ذلك من مسلمي اهل الكتاب : عبد اللّه بن سلام ، وكعب الاحبار ، ووهب بن منبه ، وعبد الملك بن جريج واضرابهم .
الامـر الـذي يـؤخذ على التابعين مساهلتهم هذه ، كما هو ما خوذ على من جاء بعدهم ، وسار على نفس المنوال من غير روية وتحقيق (31).
وسوف نستعرض هذه الناحية عرضا موسعا ، عند الكلام عن اسباب الوهن في التفسير بالمأثور ، وان الروايات التفسيرية غير نقية ، هي بحاجة الى تنقيح .
___________________________
1- وقد سبق ذلك في ترجمته .
2- راجع : ترجمته هنا.
3- الشواخ في معجم مصنفات القرآن الكريم ، ج2 ، ص 163 ، رقم999 .
4- فهرست مصنفي الشيعة ، ص 93.
5- الشواخ ، ج2 ، ص 161.
6- طبقات المفسرين ، ج1 ، ص 1.
7-الطبقات للداودي ، ج1 ، ص 176.
8- معجم المفسرين ، ج1 ، ص 7 ـ 8.
9- هكذا ذكر الذهبي وعن سفيان : اذا جاك التفسير عن مجاهد فحسبك به وعن الاعمش : اذا نطق خرج من فيه اللؤلؤ راجع : ترجمته فيما قدمنا.
10- راجـع : مـجـمـع الـبـيـان ـ الـطـبـرسي ـ ، ج1 ، ص 129 والطبري ، ج1 ، ص 263 وتفسير مجاهد ، ص 75 ـ 76.
11- جامع البيان للطبري ، ج7 ، ص 87.
12- القيامة / 23. 1204- تفسير الطبري ، ج29 ، ص 120 وقد اسبقنا الحديث عن ذلك ايضا في ترجمته .
13-ابن خلكان ، ج3 ، ص 265 رقم 421.
14-راجع : الطبري ، ج6 ، ص 82 ـ 83 والطبرسي ، ج3 ، ص 165.
15- تهذيب التهذيب ، ج7 ، ص 268.
16- احكام القرآن للجصاص ، ج2 ، ص 348.
17- طبقات المفسرين للداودي ، ج1 ، ص 176 وميزان الاعتدال للذهبي ، ج2 ، ص 98 ، وراجع : ترجمته هنا.
18- التفسير الكبير ، ج8 ، ص 40ـ 41.
19-جامع البيان للطبري ، ج3 ، ص 176 ـ 177.
20- الجامع لأحكام القرآن ، ج4 ، ص 80.
21-راجع : تفسير ابن كثير ، ج1 ، ص 362.
22- اي الشغف بجمع الاخبار مهما كان نمطها.
23- تـفـسـيـر الـمنار ، ج3 ، ص 298 ـ 299 ولسيدنا العلامة الطباطبائي هنا كلام غريب رجح راي سائر المفسرين وجوز اشتباه الامر على الانبياء لولا عنايته تعالى برفعه منهم هو عجيب منه راجع : الميزان ج 3 ، ص 194.
24- التفسير الكبير ، ج7 ، ص 41 ـ 42.
25- راجع : تفسير المنار ، ج3 ، ص 56 ـ 58.
26- وسـنعرض نماذج من تفاسيرهم التي جاء نسجها على نفس المنوال ، في فصول قادمة ان شاء اللّه .
27- توفي سنة (365 ق ).
28- التفسير الكبير ، ج15 ، ص 86 ـ 87.
29 - الكشاف ، ج3 ، ص 565.
30- تفسير ابن كثير ، ج1 ، ص 298.
31- راجع : احمد امين فجر الاسلام ، ص 205 والتفسير والمفسرون ، ج1 ، ص 130.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|