أقرأ أيضاً
التاريخ: 27-2-2017
7624
التاريخ: 10-2-2017
10286
التاريخ: 7-2-2017
21594
التاريخ: 10-2-2017
1982
|
قال تعالى : {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} [النساء : 31] .
لما قدم ذكر السيئات ، عقبه بالترغيب في اجتنابها ، فقال ﴿إن تجتنبوا﴾ : أي تتركوا جانبا { كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} : اختلف في معنى الكبيرة فقيل : كل ما أوعد الله تعالى عليه في الآخرة عقاباً ، وأوجب عليه في الدنيا حداً ، فهو كبيرة وهو المروي عن سعيد بن جبير ومجاهد . وقيل : كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة عن ابن عباس وإلى هذا ذهب أصحابنا فإنهم ، قالوا : المعاصي كلها كبيرة من حيث كانت قبائح لكن بعضها أكبر من بعض وليس في الذنوب صغيرة وإنما يكون صغيرا بالإضافة إلى ما هو أكبر منه ويستحق العقاب عليه أكثر والقولان متقاربان .
وقالت المعتزلة : الصغيرة ما نقص عقابه عن ثواب صاحبه ، ثم أن العقاب اللازم عليه ينحبط بالاتفاق بينهم وهل ينحبط مثله من ثواب صاحبه ؟ فعند أبي هاشم ومن يقول بالموازنة ينحبط ، وعند أبي علي الجبائي لا ينحبط ، بل يسقط الأقل ويبقى الأكثر بحاله والكبيرة عندهم ما يكبر عقابه عن ثواب صاحبه قالوا ولا يعرف شيء من الصغائر ولا معصية إلا ويجوز أن يكون كبيرة فإن في تعريف الصغائر إغراء بالمعصية لأنه إذا علم المكلف أنه لا ضرر عليه في فعلها ودعته الشهوة إليها فعلها وقالوا : عند اجتناب الكبائر يجب غفران الصغائر ، ولا يحسن معه المؤاخذة بها وليس في ظاهر الآية ما يدل عليه ، فإن معناه على ما رواه الكلبي ، عن ابن عباس : إن تجتنبوا الذنوب التي أوجب الله فيها الحد وسمى فيها النار نكفر عنكم ما سوى ذلك من الصلاة إلى الصلاة ومن الجمعة إلى الجمعة ومن شهر رمضان إلى شهر رمضان . وقيل : معنى ذلك إن تجتنبوا كبائر ما نهيتم عنه في هذه السورة من المناكح وأكل الأموال بالباطل وغيره من المحرمات من أول السورة إلى هذا الموضع وتركتموه في المستقبل كفرنا عنكم ما كان منكم من ارتكابها فيما سلف . ولذا قال ابن مسعود : " كلما نهى الله عنه في أول السورة إلى رأس الثلاثين فهو كبيرة " ويعضد هذا القول من التنزيل قوله {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال : 38] وقوله {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء : 22] .
{وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} [النساء : 31] : أي مكانا طيبا حسنا لا ينقصه شيء . وقد ذكرنا المعنى في القراءتين قبل . فأما تفسير الكبائر الموبقة على ما وردت به الروايات فسنذكر منه جملة مقنعة وروى عبد العظيم بن عبد الله الحسني عن أبي جعفر محمد بن علي عن أبيه علي بن موسى الرضا عن موسى بن جعفر (عليه السلام) قال دخل عمرو بن عبيد البصري على أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) فلما سلم وجلس تلا هذه الآية : {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ} [النجم : 32] ، ثم أمسك . فقال أبو عبد الله : ما أسكتك ؟ قال : أحب أن أعرف الكبائر من كتاب الله . قال : نعم يا عمرو ، أكبر الكبائر الشرك بالله لقول الله عز وجل {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء : 48] ، وقال : من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وبعده اليأس من روح الله لأن الله يقول : {لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف : 87] ، ثم الأمن من مكر الله لأن الله يقول : {فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف : 99] ، ومنها عقوق الوالدين لأن الله تعالى جعل العاق جبارا شقيا في قوله : {وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا} [مريم : 32] ، ومنها قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق لأنه يقول : {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النساء : 93] الآية .
وقذف المحصنات ، لأن الله يقول : {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور : 23] ، وأكل مال اليتيم ظلما لقوله : {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} [النساء : 10] الآية ، والفرار من الزحف لأن الله يقول : {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأنفال : 16] ، وأكل الربا لأن الله يقول : {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة : 275] ويقول : {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة : 279] ، والسحر لأن الله يقول : {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} [البقرة : 102] .
والزنا لأن الله يقول : {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} [الفرقان : 68 ، 69] واليمين الغموس لأن الله يقول : {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ} [آل عمران : 77] الآية والغلول قال الله : {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران : 161] ، ومنع الزكاة المفروضة لأن الله يقول : {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ} [التوبة : 35] الآية وشهادة الزور وكتمان الشهادة لأن الله يقول : {وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة : 283] وشرب الخمر لأن الله تعالى عدل بها عبادة الأوثان وترك الصلاة متعمدا أو شيئا مما فرض الله تعالى لأن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) يقول : " من ترك الصلاة متعمدا فقد بريء من ذمة الله وذمة رسوله " ونقض العهد (2) ، وقطيعة الرحم لأن الله يقول : {أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [الرعد : 25] .
قال فخرج عمرو وله صراخ من بكائه ، وهو يقول : هلك من قال برأيه ونازعكم في الفضل والعلم وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال : " الكبائر سبع أعظمهن : الإشراك بالله وقتل النفس المؤمنة وأكل الربا وأكل مال اليتيم وقذف المحصنة وعقوق الوالدين والفرار من الزحف فمن لقي الله تعالى وهو بريء منهن كان معي في بحبوحة جنة مصاريعها من ذهب " . وروى سعيد بن جبير أن رجلا قال لابن عباس : كم الكبائر سبع هي ؟ قال : هي إلى سبعمائة أقرب منها إلى سبع غير أنه لا كبيرة مع استغفار ولا صغيرة مع إصرار رواهما الواحدي في تفسيره بالإسناد مرفوعا.
_________________
1. تفسير مجمع البيان ، ج3 ، ص 70-73 .
2. [لأن الله عزوجل يقول : {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ} [البقرة : 27] الآية وأيضاً قال الله تعالى شأنه : {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة : 1] : أي بالعهود ] .
قسم القرآن الكريم الذنوب إلى قسمين : كبائر وصغائر ، وقد جاء هذا التقسيم في العديد من الآيات ، منها هذه الآية ، لأن المراد من ( سيئاتكم ) في قوله تعالى : {نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ} ، المراد منها ما عدا الكبائر باتفاق المفسرين ، والمعنى : من اجتنب كبائر الذنوب محونا عنه صغائرها .
ومنها قوله تعالى في الآية 32 النجم : {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الإِثْمِ والْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} واللمم هي الصغائر .
ومنها قوله سبحانه في الآية 50 الكهف : {لا يُغادِرُ صَغِيرَةً ولا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها} .
ومنها الآية 7 الحجرات : {وكَرَّهً إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ والْفُسُوقَ والْعِصْيانَ} . وهي صريحة في ان المنهيات أقسام ثلاثة : الكفر ، وهو الجحود والإنكار . والفسوق ، وهو اقتراف الكبائر . والعصيان ، وهو الصغائر .
وبهذا يتبين معنا ان قول من قال : كل الذنوب كبائر ، ولا صغائر فيها ، لأن معصية اللَّه في شيء كبيرة ، مهما كان ذلك الشيء ، ان هذا القول مخالف لظاهر القرآن . بالإضافة إلى ان الشرائع الوضعية تقسم الجريمة إلى جنحة وجناية .
أجل يمكن نفي الصغائر بوجه سنشير إليه .
ومهما يكن ، فإن الكتاب العزيز لم يضع حدا فاصلا بين الكبيرة والصغيرة ، ولذا اختلف الفقهاء في معنى الكبيرة ، فذهب جماعة إلى أن كل ما جاء في القرآن مقرونا بذكر الوعيد فهو كبيرة ، وما عداه صغيرة . . وخير الأقوال قول من قال : ان الذنوب جميعا في نفسها كبائر ، كما قال من نفى الصغائر من الأساس ، وإنما تقسم الذنوب إلى كبائر وصغائر بمقارنة بعضها إلى بعض .
مثلا : النظر إلى الأجنبية بريبة ذنب كبير في نفسه ، صغير بالنسبة إلى القبلة ، والقبلة صغيرة بالنسبة إلى الجنس . وكذا الأكل على مائدة عليها خمر كبير في نفسه ، صغير بالقياس إلى شرب الخمر .
وتجدر الإشارة إلى ان لذات الفاعل وسوابقه وظروفه ودوافعه تأثيرا بالغا في جعل الذنب كبيرا أو صغيرا على حد تعبير الفقهاء ، وجناية أو جنحة على حد تعبير المشرعين الجدد . . فعلينا قبل أن نضفي على الذنب صفة الشدة أو الضعف أن ننظر إلى الفاعل ، هل فعل ما فعل لعدم فطنته وضعف إرادته ، كما لو لبّس عليه غاو أثيم ، أو فعله لحاجة ماسة ، أو لأنه مولع بالإساءة إلى الناس ، كما هو شأن الكثيرين . . وقد تواتر عن الرسول (صلى الله عليه وآله) انه قال : « إنما الأعمال بالنيات ، ولكل امرئ ما نوى . . لا صغيرة مع إصرار ، ولا كبيرة مع استغفار » .
وعن الإمام الصادق (عليه السلام) : « إنما خلد أهل النار في النار لأن نياتهم كانت في الدنيا أن يعصوا اللَّه أبدا لو خلدوا فيها ، وإنما خلد أهل الجنة في الجنة لأن نياتهم أن يطيعوا اللَّه أبدا ، فبالنيات خلد هؤلاء وهؤلاء » . وبسطنا القول في تأثير النية عند تفسير الآية 144 من سورة آل عمران ، فقرة لكل امرئ ما نوى . .
ومن المفيد أن نذكر خبرا عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) يعدد فيه أنواع الكبائر . .
روي ان عمرو بن عبيد دخل على الإمام ، وسأله عن الكبائر في كتاب اللَّه ؟
فقال :
« ان أكبر الكبائر الشرك باللَّه ، لقوله تعالى : {إِنَّ اللَّهً لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} . وقال : {مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ ومَأْواهُ النَّارُ} .
وبعده اليأس من روح اللَّه ، لأن اللَّه يقول : {لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ} .
ثم الأمن من مكر اللَّه ، لأن اللَّه يقول : {فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ} .
ومنها عقوق الوالدين ، لأن اللَّه تعالى جعل العاق جبارا شقيا في قوله :
« وبَرًّا بِوالِدَتِي ولَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا » .
ومنها قتل النفس التي حرّم اللَّه إلا بالحق ، لأنه تعالى يقول : {ومَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها} .
وقذف المحصنات ، لأن اللَّه يقول : {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا والآخِرَةِ ولَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ} .
وأكل مال اليتيم ، لقوله سبحانه : {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} .
والفرار من الزحف ، لأن اللَّه يقول : {ومَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ومَأْواهُ جَهَنَّمُ وبِئْسَ الْمَصِيرُ} .
وأكل الربا ، لقوله سبحانه : {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ} . ولقوله : {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ ورَسُولِهِ} .
والسحر ، لأن اللَّه يقول : {ولَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} .
والزنا ، لأن اللَّه يقول : {ومَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ ويَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً} .
واليمين الغموس (2) ، لأن اللَّه يقول : {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ}.
والغلول (3) ، قال تعالى : {ومَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ} .
ومنع الزكاة ، لقوله جل وعز : {يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وجُنُوبُهُمْ وظُهُورُهُمْ} .
وشهادة الزور ، وكتمان الشهادة ، لأن اللَّه يقول : { ومَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ } .
وشرب الخمر ، لأن اللَّه عدل بها عبادة الأوثان .
وترك الصلاة متعمدا ، أو شيئا مما فرض اللَّه ، لأن رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله) يقول :
« من ترك الصلاة متعمدا فقد برئ من ذمة اللَّه ، وذمة رسوله ، ونقض العهد » .
وقطيعة الرحم ، لأن اللَّه يقول : { أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ ولَهُمْ سُوءُ الدَّارِ } .
فخرج عمرو بن عبيد ، وله صراخ من بكائه ، وهو يقول : هلك من قال برأيه ، ونازعكم في الفضل والعلم يا أهل البيت .
__________________
1. تفسير الكاشف ، ج2 ، ص 306-309 .
2. اليمين الغموس هي الكاذبة التي تغمس صاحبها في النار .
3. الغلول ذو الحقد والغش .
الآية غير عادمة الارتباط بما قبلها فإن فيما قبلها ذكرا من المعاصي الكبيرة.
قوله تعالى : { إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ } ـ إلى قوله : ـ { سَيِّئاتِكُمْ } الاجتناب أصله من الجنب وهو الجارحة بني منها الفعل على الاستعارة ، فإن الإنسان إذا أراد شيئا استقبله بوجهه ومقاديم بدنه ، وإذا أعرض عنه وتركه وليه بجنبه فاجتنبه ، فالاجتناب هو الترك ، قال الراغب : وهو أبلغ من الترك ، انتهى ، وليس إلا لأنه مبني على الاستعارة ، ومن هذا الباب الجانب والجنيبة والأجنبي.
والتكفير من الكفر وهو الستر وقد شاع استعماله في القرآن في العفو عن السيئات والكبائر جمع كبيرة وصف وضع موضع الموصوف كالمعاصي ونحوها ، والكبر معنى إضافي لا يتحقق إلا بالقياس إلى صغر ، ومن هنا كان المستفاد من قوله : { كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ } أن هناك من المعاصي المنهي عنها ما هي صغيرة ، فيتبين من الآية : أولا : أن المعاصي قسمان : صغيرة وكبيرة ، وثانيا : أن السيئات في الآية هي الصغائر لما فيها من دلالة المقابلة على ذلك.
نعم العصيان والتمرد كيفما كان كبير وأمر عظيم بالنظر إلى ضعف المخلوق المربوب في جنب الله عظم سلطانه غير أن القياس في هذا الاعتبار إنما هو بين الإنسان وربه لا بين معصية ومعصية فلا منافاة بين كون كل معصية كبيرة باعتبار وبين كون بعض المعاصي صغيرة باعتبار آخر.
وكبر المعصية إنما يتحقق بأهمية النهي عنها إذا قيس إلى النهي المتعلق بغيرها ولا يخلو قوله تعالى : { ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ } ، من إشعار أو دلالة على ذلك ، والدليل على أهمية النهي تشديد الخطاب بإصرار فيه أو تهديد بعذاب من النار ونحو ذلك .
قوله تعالى : { وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً } المدخل بضم الميم وفتح الخاء اسم مكان والمراد منه الجنة أو مقام القرب من الله سبحانه وإن كان مرجعهما واحدا.
(كلام في الكبائر والصغائر وتكفير السيئات)
لا ريب في دلالة قوله تعالى : { إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ } ، الآية على انقسام المعاصي إلى كبائر وصغائر سميت في الآية بالسيئات ، ونظيرها في الدلالة قوله تعالى : { وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها } الآية : [ الكهف : 49 ] ، إذ إشفاقهم مما في الكتاب يدل على أن المراد بالصغيرة والكبيرة صغائر الذنوب وكبائرها.
وأما السيئة فهي بحسب ما تعطيه مادة اللفظ وهيئته هي الحادثة أو العمل الذي يحمل المساءة ، ولذلك ربما يطلق لفظها على الأمور والمصائب التي يسوء الإنسان وقوعها كقوله تعالى : { وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ } الآية : [ النساء : 79 ] ، وقوله تعالى : { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ } الآية : [ الرعد : 6 ] ، وربما أطلق على نتائج المعاصي وآثارها الخارجية الدنيوية والأخروية كقوله تعالى : { فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا } ، الآية : [ النحل : 34 ] ، وقوله تعالى : { سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا } : [ الزمر : 51 ] ، وهذا بحسب الحقيقة يرجع إلى المعنى السابق ، وربما أطلق على نفس المعصية كقوله تعالى : { وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها } الآية : [ الشورى : 40 ] ، والسيئة بمعنى المعصية ربما أطلقت على مطلق المعاصي أعم من الصغائر والكبائر كقوله تعالى : { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ } : [ الجاثية : 21 ] ، إلى غير ذلك من الآيات.
وربما أطلقت على الصغائر خاصة كقوله تعالى : { إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ } الآية ، إذ مع فرض اجتناب الكبائر لا تبقى للسيئات إلا الصغائر.
وبالجملة دلالة الآية على انقسام المعاصي إلى الصغائر والكبائر بحسب القياس الدائر بين المعاصي أنفسها مما لا ينبغي أن يرتاب فيه.
وكذا لا ريب أن الآية في مقام الامتنان ، وهي تقرع أسماع المؤمنين بعناية لطيفة إلهية أنهم إن اجتنبوا البعض من المعاصي كفر عنهم البعض الآخر ، فليس إغراء على ارتكاب المعاصي الصغار ، فإن ذلك لا معنى له لأن الآية تدعو إلى ترك الكبائر بلا شك ، وارتكاب الصغيرة من جهة أنها صغيرة لا يعبأ بها ويتهاون في أمرها يعود مصداقا من مصاديق الطغيان والاستهانة بأمر الله سبحانه ، وهذا من أكبر الكبائر بل الآية تعد تكفير السيئات من جهة أنها سيئات لا يخلو الإنسان المخلوق على الضعف المبني على الجهالة من ارتكابها بغلبة الجهل والهوى عليه ، فمساق هذه الآية مساق الآية الداعية إلى التوبة التي تعد غفران الذنوب كقوله تعالى : « { قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ } الآية : [ الزمر : 54 ] فكما لا يصح أن يقال هناك : أن الآية تغري إلى المعصية بفتح باب التوبة وتطييب النفوس بذلك فكذا هاهنا بل أمثال هذه الخطابات إحياء للقلوب الآيسة بالرجاء .
ومن هنا يعلم أن الآية لا تمنع عن معرفة الكبائر بمعنى أن يكون المراد بها اتقاء جميع المعاصي مخافة الوقوع في الكبائر والابتلاء بارتكابها فإن ذلك معنى بعيد عن مساق الآية بل المستفاد من الآية أن المخاطبين هم يعرفون الكبائر ويميزون هؤلاء الموبقات من النهي المتعلق بها ، ولا أقل من أن يقال : إن الآية تدعو إلى معرفة الكبائر حتى يهتم المكلفون في الاتقاء منها كل الاهتمام من غير تهاون في جنب غيرها فإن ذلك التهاون كما عرفت إحدى الكبائر الموبقة.
وذلك أن الإنسان إذا عرف الكبائر وميزها وشخصها عرف أنها حرمات لا يغمض من هتكها بالتكفير إلا عن ندامة قاطعة وتوبة نصوح ونفس هذا العلم مما يوجب تنبه الإنسان وانصرافه عن ارتكابها.
وأما الشفاعة فإنها وإن كانت حقة إلا أنك قد عرفت فيما تقدم من مباحثها أنها لا تنفع من استهان بأمر الله سبحانه واستهزأ بالتوبة والندامة. واقتراف المعصية بالاعتماد على الشفاعة تساهل وتهاون في أمر الله سبحانه وهو من الكبائر الموبقة القاطعة لسبيل الشفاعة قطعا.
ومن هنا يتضح معنى ما تقدم أن كبر المعصية إنما يعلم من شدة النهي الواقع عنها بإصرار أو تهديد بالعذاب كما تقدم .
ومما تقدم من الكلام يظهر حال سائر ما قيل في معنى الكبائر ، وهي كثيرة : منها ما قيل : إن الكبيرة كل ما أوعد الله عليه في الآخرة عقابا ووضع له في الدنيا حدا. وفيه أن الإصرار على الصغيرة كبيرة
لقول النبي صلى الله عليه وآله : لا كبيرة مع الاستغفار ، ولا صغيرة مع الإصرار.
رواه الفريقان مع عدم وضع حد فيه شرعا ، وكذا ولاية الكفار وأكل الربا مع أنهما من كبائر ما نهي عنه في القرآن.
ومنها قول بعضهم : إن الكبيرة كل ما أوعد الله عليه بالنار في القرآن ، وربما أضاف إليه بعضهم السنة. وفيه أنه لا دليل على انعكاسه كليا.
ومنها قول بعضهم : إنها كل ما يشعر بالاستهانة بالدين وعدم الاكتراث به قال به إمام الحرمين واستحسنه الرازي. وفيه أنه عنوان الطغيان والاعتداء وهي إحدى الكبائر وهناك ذنوب كبيرة موبقة وإن لم تقترف بهذا العنوان كأكل مال اليتيم وزنا المحارم وقتل النفس المؤمنة من غير حق.
ومنها قول بعضهم : إن الكبيرة ما حرمت لنفسها لا لعارض ، وهذا كالمقابل للقول السابق. وفيه أن الطغيان والاستهانة ونحو ذلك من أكبر الكبائر وهي عناوين طارية ، وبطروها على معصية وعروضها لها تصير من الكبائر الموبقة.
ومنها قول بعضهم : إن الكبائر ما اشتملت عليه آيات سورة النساء من أول السورة إلى تمام ثلاثين آية ، وكان المراد أن قوله : { إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ } الآية إشارة إلى المعاصي المبينة في الآيات السابقة عليه كقطيعة الرحم وأكل مال اليتيم والزنا ونحو ذلك. وفيه أنه ينافي إطلاق الآية.
ومنها قول بعضهم ( وينسب إلى ابن عباس ) : كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة ، ولعله لكون مخالفته تعالى أمرا عظيما ، وفيه أنك قد عرفت أن انقسام المعصية إلى الكبيرة والصغيرة إنما هو بقياس بعضها إلى بعض ، وهذا الذي ذكره مبني على قياس حال الإنسان في مخالفته ـ وهو عبد ـ إلى الله سبحانه ـ وهو رب كل شيء ـ ومن الممكن أن يميل إلى هذا القول بعضهم بتوهم كون الإضافة في قوله تعالى : { كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ } ، بيانية لكنه فاسد لرجوع معنى الآية حينئذ إلى قولنا : إن تجتنبوا المعاصي جميعا نكفر عنكم سيئاتكم ولا سيئة مع اجتناب المعاصي ، وإن أريد تكفير سيئات المؤمنين قبل نزول الآية اختصت الآية بأشخاص من حضر عند النزول ، وهو خلاف ظاهر الآية من العموم ، ولو عمت الآية عاد المعنى إلى أنكم إن عزمتم على اجتناب جميع المعاصي واجتنبتموها كفرنا عنكم سيئاتكم السابقة عليه ، وهذا أمر نادر شاذ المصداق أو عديمه لا يحمل عليه عموم الآية لأن نوع الإنسان لا يخلو عن السيئة واللمم إلا من عصمه الله بعصمته فافهم ذلك.
ومنها : أن الصغيرة ما نقص عقابه عن ثواب صاحبه ، والكبيرة ما يكبر عقابه عن ثوابه ، نسب إلى المعتزلة وفيه أن ذلك أمر لا يدل عليه هذه الآية ولا غيرها من آيات القرآن ، نعم من الثابت بالقرآن وجود الحبط في بعض المعاصي في الجملة لا في جميعها سواء كان على وفق ما ذكروه أو لا على وفقه ، وقد مر البحث عن معنى الحبط مستوفى في الجزء الثاني من هذا الكتاب.
وقالوا أيضا : يجب تكفير السيئات والصغائر عند اجتناب الكبائر ولا تحسن المؤاخذة عليها ، وهذا أيضا أمر لا تدل الآية عليه البتة.
ومنها : أن الكبر والصغر اعتباران يعرضان لكل معصية ، فالمعصية التي يقترفها الإنسان استهانة بأمر الربوبية واستهزاء أو عدم مبالاة به كبيرة ، وهي بعينها لو اقترفت من جهة استشاطة غضب أو غلبة جبن أو ثورة شهوة كانت صغيرة مغفورة بشرط اجتناب الكبائر.
ولما كان هذه العناوين الطارية المذكورة يجمعها العناد والاعتداء على الله أمكن أن يلخص الكلام بأن كل واحدة من المعاصي المنهي عنها في الدين إن أتي بها عنادا واعتداء فهي كبيرة وإلا فهي صغيرة مغفورة بشرط اجتناب العناد والاعتداء.
قال بعضهم : إن في كل سيئة وفي كل نهي خاطب الله به كبيرة أو كبائر وصغيرة أو صغائر ، وأكبر الكبائر في كل ذنب عدم المبالاة بالنهي والأمر واحترام التكليف ، ومنه الإصرار فإن المصر على الذنب لا يكون محترما ولا مباليا بالأمر والنهي فالله تعالى يقول : { إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ } أي الكبائر التي يتضمنها كل شيء تنهون عنه { نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ } أي نكفر عنكم صغيره فلا نؤاخذكم عليه.
وفيه : أن استلزام اقتران كل معصية مقترفة بما يوجب كونها طغيانا واستعلاء على الله سبحانه صيرورتها معصية كبيرة لا يوجب كون الكبر دائرا مدار هذا الاعتبار حتى لا يكون بعض المعاصي كبيرة في نفسها مع عدم عروض شيء من هذه العناوين عليه ، فإن زنا المحارم بالنسبة إلى النظر إلى الأجنبية وقتل النفس المحرمة ظلما بالنسبة إلى الضرب كبيرتان عرض لهما عارض من العناوين أم لم يعرض ، نعم كلما عرض شيء من هذه العناوين المهلكة اشتد النهي بحسبه وكبرت المعصية وعظم الذنب فما الزنا عن هوى النفس وغلبة الشهوة والجهالة كالزنا بالاستباحة.
على أن هذا المعنى ( أن تجتنبوا في كل معصية كبائرها نكفر عنكم صغائرها ) معنى رديء لا يحتمله قوله تعالى : { إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ } الآية بحسب ما لها من السياق على ما لا يخفى لكل من استأنس قليل استيناس بأساليب الكلام.
ومنها : ما يتراءى من ظاهر كلام الغزالي على ما نقل عنه (2) من الجمع بين الأقوال وهو أن بين المعاصي بقياس بعضها إلى بعض كبيرة وصغيرة كزنا المحصنة من المحارم بالنسبة إلى النظر إلى الأجنبية وإن كانت بعض المعاصي يكبر بانطباق بعض العناوين المهلكة الموبقة عليه كالإصرار على الصغائر ، فبذلك تصير المعصية كبيرة بعد ما لم تكن.
فبهذا يظهر أن المعاصي تنقسم إلى صغيرة وكبيرة بحسب قياس البعض إلى البعض بالنظر إلى نفس العمل وجرم الفعل ، ثم هي مع ذلك تنقسم إلى القسمين بالنظر إلى أثر الذنب ووباله في إحباطه للثواب بغلبته عليه أو نقصه منه إذا لم يغلبه فيزول الذنب بزوال مقدار يعادله من الثواب فإن لكل طاعة تأثيرا حسنا في النفس يوجب رفعه مقامها وتخلصها من قذارة البعد وظلمة الجهل كما أن لكل معصية تأثيرا سيئا فيها يوجب خلاف ذلك من انحطاط محلها وسقوطها في هاوية البعد وظلمة الجهل.
فإذا اقترف الإنسان شيئا من المعاصي وقد هيأ لنفسه شيئا من النور والصفاء بالطاعة فلا بد من أن يتصادم ظلمة المعصية ونور الطاعة فإن غلبت ظلمة المعصية ووبال الذنب نور الطاعة وظهرت عليه أحبطته ، وهذه هي المعصية الكبيرة ، وإن غلبت الطاعة بما لها من النور والصفاء أزالت ظلمة الجهل وقذارة الذنب ببطلان مقدار يعادل ظلمة الذنب من نور الطاعة ، ويبقى الباقي من نورها وصفائها تتنور وتصفو به النفس ، وهذا معنى التحابط ، وهو بعينه معنى غفران الذنوب الصغيرة وتكفير السيئات ، وهذا النوع من المعاصي هي المعاصي الصغيرة.
وأما تكافؤ السيئة والحسنة بما لهما من العقاب والثواب فهو وإن كان مما يحتمله العقل في بادي النظر ، ولازمه صحة فرض إنسان أعزل لا طاعة له ولا معصية ، ولا نور لنفسه ولا ظلمة لكن يبطله قوله تعالى : { فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ } . انتهى ملخصا .
وقد رده الرازي بأنه يبتني على أصول المعتزلة الباطلة عندنا ، وشدد النكير على الرازي في المنار قائلا :
وإذا كان هذا ( يعني انقسام المعصية إلى الصغيرة والكبيرة في نفسها ) صريحا في القرآن فهل يعقل أن يصح عن ابن عباس إنكاره؟ لا بل روى عبد الرزاق عنه أنه قيل له : هل الكبائر سبع ؟ فقال : هي إلى السبعين أقرب ، وروى ابن جبير :
أنه قال : هي إلى السبعمائة أقرب ، وإنما عزي القول بإنكار تقسيم الذنوب إلى صغائر وكبائر إلى الأشعرية.
وكأن القائلين بذلك منهم أرادوا أن يخالفوا به المعتزلة ولو بالتأويل كما يعلم من كلام ابن فورك فإنه صحح كلام الأشعرية وقال : معاصي الله كلها كبائر ، وإنما يقال لبعضها : صغيرة وكبيرة بإضافة (3) ، وقالت المعتزلة : الذنوب على ضربين : صغائر وكبائر ، وهذا ليس بصحيح انتهى ، وأول الآية تأويلا بعيدا.
وهل يؤول الآيات والأحاديث لأجل أن يخالف المعتزلة ولو فيما أصابوا فيه ؟ لا يبعد ذلك فإن التعصب للمذاهب هو الذي صرف كثيرا من العلماء الأزكياء عن إفادة أنفسهم وأمتهم بفطنتهم ، وجعل كتبهم فتنة للمسلمين اشتغلوا بالجدل فيها عن حقيقة الدين ، وسترى ما ينقله الرازي عن الغزالي ، ويرده لأجل ذلك ، وأين الرازي من الغزالي ، وأين معاوية من علي. انتهى. ويشير في آخر كلامه إلى ما نقلناه عن الغزالي والرازي.
وكيف كان فما ذكره الغزالي وإن كان وجيها في الجملة لكنه لا يخلو عن خلل من جهات .
الأولى : أن ما ذكره من انقسام المعاصي إلى الصغائر والكبائر بحسب تحابط الثواب والعقاب لا ينطبق دائما على ما ذكره من الانقسام بحسب نفس المعاصي ومتون الذنوب في أول كلامه فإن غالب المعاصي الكبيرة المسلمة في نفسها يمكن أن يصادف في فاعله ثوابا كبيرا يغلب عليها وكذا يمكن أن تفرض معصية صغيرة تصادف من الثواب الباقي في النفس ما هو أصغر منها وأنقص ، وبذلك يختلف الصغيرة والكبيرة بحسب التقسيمين فمن المعاصي ما هي صغيرة على التقسيم الأول كبيرة بحسب التقسيم الثاني ، ومنها ما هي بالعكس فلا تطابق كليا بين التقسيمين.
والثانية : أن التصادم بين آثار المعاصي والطاعات وإن كان ثابتا في الجملة لكنه مما لم يثبت كليا من طريق الظواهر الدينية من الكتاب والسنة أبدا. وأي دليل من طريق الكتاب والسنة يدل على تحقق التزايل والتحابط بنحو الكلية بين عقاب المعاصي وثواب الطاعات ؟ .
والذي أجرى تفصيل البحث فيه من الحالات الشريفة النورية النفسانية والحالات الأخرى الخسيسة الظلمانية كذلك أيضا ، فإنها وإن كانت تتصادم بحسب الغالب وتتزايل وتتفانى لكن ذلك ليس على وجه كلي دائمي بل ربما يثبت كل من الفضيلة والرذيلة في مقامها وتتصالح على البقاء ، وتقتسم النفس كأن شيئا منها للفضيلة خاصة ، وشيئا منها للرذيلة خاصة ، فترى الرجل المسلم مثلا يأكل الربا ولا يلوي عن ابتلاع أموال الناس ، ولا يصغي إلى استغاثة المطلوب المستأصل المظلوم ، ويجتهد في الصلوات المفروضة ، ويبالغ في خضوعه وخشوعه ، أو أنه لا يبالي في إهراق الدماء وهتك الأعراض والإفساد في الأرض ويخلص لله أي إخلاص في أمور من الطاعات والقربات ، وهذا هو الذي يسميه علماء النفس اليوم بازدواج الشخصية بعد تعددها وتنازعها ، وهو أن تتنازع الميول المختلفة النفسانية وتثور بعضها على بعض بالتزاحم والتعارض ، ولا يزال الإنسان في تعب داخلي من ذلك حتى تستقر الملكتان فتزدوجان وتتصالحان ويغيب كل عند ظهور الأخرى وانتهاضها وإمساكها على فريستها كما عرفت من المثال المذكور آنفا .
والثالثة : أن لازم ما ذكره أن يلغو اعتبار الاجتناب في تكفير السيئات فإن من لا يأتي بالكبائر لا لأنه يكف نفسه عنها مع القدرة والتمايل النفساني عليها بل لعدم قدرته عليها وعدم استطاعته منها فإن سيئاته تنحبط بالطاعات لغلبة ثوابه على الفرض على ما له من العقاب وهو تكفير السيئات فلا يبقى لاعتبار اجتناب الكبائر وجه مرضي.
قال الغزالي في الإحياء : اجتناب الكبيرة إنما يكفر الصغيرة إذا اجتنبها مع القدرة والإرادة كمن يتمكن من امرأة ومن مواقعتها فيكف نفسه عن الوقاع فيقتصر على نظر أو لمس فإن مجاهدة نفسه بالكف عن الوقاع أشد تأثيرا في تنوير قلبه من إقدامه على النظر في إظلامه فهذا معنى تكفيره ، فإن كان عنينا أو لم يكن امتناعه إلا بالضرورة للعجز أو كان قادرا ولكن امتنع لخوف أمر الآخرة فهذا لا يصلح للتكفير أصلا ، وكل من لا يشتهي الخمر بطبعه ولو أبيح له لما شربه فاجتنابه لا يكفر عنه الصغائر التي هي من مقدماته كسماع الملاهي والأوتار نعم من يشتهي الخمر وسماع الأوتار فيمسك نفسه بالمجاهدة عن الخمر ويطلقها في السماع فمجاهدته النفس بالكف ربما يمحو عن قلبه الظلمة التي ارتفعت إليه من معصية السماع فكل هذه أحكام أخروية ، انتهى .
وقال أيضا في محل آخر : كل ظلمة ارتفعت إلى القلب لا يمحوها إلا نور يرتفع إليها بحسنة تضادها ، والمتضادات هي المتناسبات فلذلك ينبغي أن تمحى كل سيئة بحسنة من جنسها لكي تضادها فإن البياض يزال بالسواد لا بالحرارة والبرودة وهذا التدريج والتحقيق من التلطف في طريقة المحو ، فالرجاء فيه أصدق والثقة به أكثر من أن يواظب على نوع واحد من العبادات وإن كان ذلك أيضا مؤثرا في المحو ، انتهى كلامه .
وكلامه كما ترى يدل على أن المحبط للسيئات هو الاجتناب الذي هو الكف مع أنه غير لازم على هذا القول.
والكلام الجامع الذي يمكن أن يقال في المقام مستظهرا بالآيات الكريمة هو أن الحسنات والسيئات متحابطة في الجملة غير أن تأثير كل سيئة في كل حسنة وبالعكس بنحو النقص منه أو إفنائه مما لا دليل عليه ، ويدل عليه اعتبار حال الأخلاق والحالات النفسانية التي هي نعم العون في فهم هذه الحقائق القرآنية في باب الثواب والعقاب.
وأما الكبائر والصغائر من المعاصي فظاهر الآية كما عرفت هو أن المعاصي بقياس بعضها إلى بعض كقتل النفس المحترمة ظلما بالقياس إلى النظر إلى الأجنبية وشرب الخمر بالاستحلال بالقياس إلى شربها بهوى النفس بعضها كبيرة وبعضها صغيرة من غير ظهور ارتباط ذلك بمسألة الإحباط والتكفير بالكلية.
ثم إن الآية ظاهرة في أن الله سبحانه يعد لمن اجتنب الكبائر أن يكفر عنه سيئاته جميعا ما تقدم منها وما تأخر على ما هو ظاهر إطلاق الآية ، ومن المعلوم أن الظاهر من هذا الاجتناب أن يأتي كل مؤمن بما يمكنه من اجتناب
الكبائر وما يصدق في مورده الاجتناب من الكبائر لا أن يجتنب كل كبيرة بالكف عنها فإن الملتفت أدنى التفات إلى سلسلة الكبائر لا يرتاب في أنه لا يتحقق في الوجود من يميل إلى جميعها ويقدر عليها عامة أو يندر ندرة ملحقة بالعدم ، وتنزيل الآية هذه المنزلة لا يرتضيها الطبع المستقيم.
فالمراد أن من اجتنب ما يقدر عليه من الكبائر وتتوق نفسه إليه منها وهي الكبائر التي يمكنه أن يجتنبها كفر الله سيئاته سواء جانسها أو لم يجانسها.
وأما إن هذا التكفير للاجتناب بأن يكون الاجتناب في نفسه طاعة مكفرة للسيئات كما أن التوبة كذلك أو أن الإنسان إذا لم يقترف الكبائر خلي ما بينه وبين الصغائر والطاعات الحسنة فالحسنات يكفرن سيئاته ، وقد قال الله تعالى : { إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ } : [ هود : 114 ] ، ظاهر الآية { إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ } الآية ) أن للاجتناب دخلا في التكفير ، وإلا كان الأنسب بيان أن الطاعات يكفرن السيئات كما في قوله : { إِنَّ الْحَسَناتِ } الآية ، أو إن الله سبحانه يغفر الصغائر مهما كانت من غير حاجة إلى سرد الكلام جملة شرطية.
والدليل على كبر المعصية هو شدة النهي الوارد عنها أو الإيعاد عليها بالنار أو ما يقرب من ذلك سواء كان ذلك في كتاب أو سنة من غير دليل على الحصر.
________________________
1. تفسير الميزان ، ج4 ، ص274-282 .
2. نقله الفخر الرازي في تفسيره عن الغزالي في منتخبات كتاب الإحياء .
3. أي الإضافة بحسب قصود المعاصي المختلفة لا إضافة بعض المعاصي إلى بعضها في نفسها.
المعاصي الكبيرة والصّغيرة :
هذه الآية تقول بصراحة : {إِن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفّر عنكم سيئاتكم وندخلكم مُدخلا كريماً} .
ومن هذا التعبير يستفاد أنّ المعاصي والذنوب على قسمين :
القسم الأوّل : هو ما يسمّيه القرآن الكريم بالمعصية الكبيرة .
والقسم الثّاني وهو ما يسمّيه القرآن الكريم بالسّيئة.
وقد عبّر في الآية (32) من سورة النجم «باللمم» (2) بدلا عن السيئة ، وفي الآية (49) من سورة الكهف ذلك لفظة «الصّغيرة» في مقابل الكبيرة عندما يقول : {لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها}.
ومن التعابير المذكورة يثبت ـ بوضوح ـ أنّ الذنوب والمعاصي على صنفين محددين ، يعبر عنهما تارةً بالكبيرة والصغيرة ، وتارةً أُخرى بالكبيرة والسيئة ، وثالثة بالكبيرة و«اللمم» .
والآن يجب أن نعرف ما هو الملاك والضابطة في تحديد الصّغيرة والكبيرة .
يذهب البعض إِلى أنّ هذين الوصفين من الأُمور النسبية ، تكون كل معصية بالنسبة إِلى ما هو أكبر منها صغيرة ، وبالنسبة إِلى ما هو أصغر منها كبيرة (3) .
ولكن من الواضح أنّ هذا المعنى لا ينسجم مع ظاهر الآية الحاضرة ، لأنّ الآية الحاضرة تقسم الذنوب إِلى صنفين مستقلين، وتعتبرهما نوعين متقابلين ، وتعتبر الإِجتناب عن صنف موجباً للعفو والتكفير عن الصنف الآخر.
ولكننا إِذا راجعنا المعنى اللغوي للكبيرة وجدنا أنّ الكبيرة هي كل معصية بالغة الأهميّة من وجهة نظر الإِسلام ، ويمكن أن تكون علامة تلك الأهمية أن القرآن لم يكتف بالنهي عنها فقط ، بل أردف ذلك بالتهديد بعذاب جهنم ، مثل قتل النفس والزنا وأكل الربا وأمثال ذلك ، ولهذا جاء في روايات أهل البيت (عليهم السلام) : «الكبائر التي أوجب الله عز وجل عليها النار» ، وقد روي مضمون هذا الحديث عن الإِمام الباقر (عليه السلام) والإِمام الصادق (عليه السلام) ، والإِمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) (4) .
وعلى هذا الأساس تسهل معرفة المعاصي الكبيرة إِذا أخذنا بنظر الإِعتبار الضابطة المذكورة ، وما قد ذكر في بعض الروايات من أنّ عدد الكبائر سبع وفي بعضها عشرون وفي بعضها سبعون لا ينافي ما ذكرناه قبل قليل ، إِذ أن بعض هذه الروايات يشير ـ في الحقيقة ـ إِلى المعاصي الكبيرة من الدرجة الأُولى، وبعضها الآخر يشير إِلى المعاصي الكبيرة من الدرجة الثّانية، وبعضها الثالث يشير إِلى جميع الذّنوب الكبيرة.
إشكال :
يمكن أن يقال أنّ هذه الآية تشجع الناس على ارتكاب المعاصي والذنوب الصغيرة إذاً ، كأنّها تقول : لا بأس بارتكاب المعاصي الصغيرة شريطة ترك الكبائر من الذنوب .
الجواب :
إِنّ الجواب على هذا الإِشكال يتّضح من التعبير المذكور في الآية الحاضرة ، إِذ يقول القرآن الكريم : {نكفّر عنكم سيئاتكم} يعني إنّ الإِجتناب عن الذنوب الكبار ، خصوصاً مع توفر أرضية ارتكابها ، يوجد حالة من التقوى الروحية لدى الإِنسان يمكنها أن تطهره من آثار الذنوب والمعاصي الصغيرة .
وفي الحقيقة أنّ الآية الحاضرة تشبه الآية (114) من سورة هود التي تقول : {إِنّ الحسنات يذهبن السيئات} فهي إِشارة إِلى أحد الآثار الواقعية للأعمال الصالحة وهو يشبه ما إِذا قلن ، إِذا اجتنب الإِنسان المواد السّامة الخطيرة وتوفرت له صحة جيدة ومناعة قوية أمكنه أن يتخلص من الآثار السيئة لبعض الأطعمة غير المناسبة لسلامة مزاجه ، وبسبب مناعته الجسمية .
وبتعبير آخر إنّ التكفير عن الذنوب الصغيرة وغفرانها يعد نوعاً من «الأجر المعنوي» لتاركي المعاصي والذنوب الكبيرة ، ولهذا ـ في الحقيقة ـ أثر تشجيعي قوي على ترك الكبائر ، محفز على إجتنابها .
______________
1. تفسير الأمثل ، ج3 ، ص 107-109 .
2. «اللمم» (على وزن القسم) تعني الأعمال الصغيرة غير الهامة .
3. وقد نسب العلاّمة الطبرسي (رحمه الله) في مجمع البيان هذا الإِعتقاد إلى علماء الشيعة في حين أنّ الأمر ليس كذلك ، فلكثير من علماء الشيعة رأي آخر سنأتي على ذكره بالتفصيل .
4. نور الثقلين ، ج1، ص 473 ؛ أصول الكافي ، ج2 ، ص 276 .
|
|
مخاطر عدم علاج ارتفاع ضغط الدم
|
|
|
|
|
اختراق جديد في علاج سرطان البروستات العدواني
|
|
|
|
|
مدرسة دار العلم.. صرح علميّ متميز في كربلاء لنشر علوم أهل البيت (عليهم السلام)
|
|
|