أقرأ أيضاً
التاريخ: 13-2-2017
7973
التاريخ: 14-2-2017
7656
التاريخ: 10-11-2016
8234
التاريخ: 22-2-2017
11443
|
قال تعالى : {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (161) لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا } [النساء : 160-162] .
عطف سبحانه على ما تقدم بقوله {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا} أي : من اليهود ، معناه فبما ظلموا أنفسهم ، بارتكاب المعاصي التي تقدم ذكرها ، وقد مضى فيما تقدم عن الزجاج أنه قال : {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا} بدل من قوله {فبنقضهم ميثاقهم} وما بعده ، والعامل في الباء قوله {حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ} ، ولكنه لما طال الكلام ، أجمل في قوله {فَبِظُلْمٍ} ما ذكره قبل ، وأخبر أنه حرم على اليهود الذين نقضوا ميثاقهم الذي واثقوا الله عليه ، وكفروا بآياته ، وقتلوا أنبياءه ، وقالوا على مريم بهتانا عظيما ، وفعلوا ما وصفه الله ، طيبات من المآكل ، وغيرها {أُحِلَّتْ لَهُمْ} أي : كانت حلالا لهم ، قبل ذلك ، فلما فعلوا ما فعلوا ، اقتضت المصلحة تحريم هذه الأشياء عليهم ، عن مجاهد ، وأكثر المفسرين .
وقال أبو علي الجبائي : حرم الله سبحانه هذه الطيبات على الظالمين منهم ، عقوبة لهم على ظلمهم ، وهي ما بين في قوله تعالى : {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ} الآية . {وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا} أي : وبمنعهم عباد الله عن دينه وسبيله التي شرعها لعباده ، صدا كثيرا ، وكان صدهم عن سبيل الله ، تقولهم على الله الباطل ، وادعاءهم أن ذلك عن الله ، وتبديلهم كتاب الله ، وتحريفهم معانيه عن وجوهه ، وأعظم من ذلك كله ، جحدهم نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وتركهم بيان ما علموه من أمره ، لمن جهله من الناس ، عن مجاهد ، وغيره .
{وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا} أي : ما فضل على رؤوس أموالهم بتأخيرهم له عن محله إلى أجل آخر ، {وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ} أي : عن الربا {وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} أي : بغير استحقاق ، ولا استيجاب ، وهو ما كانوا يأخذونه من الرشى في الأحكام ، كقوله : {وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ} وما كانوا يأخذونه من أثمان الكتب التي كانوا يكتبونها بأيديهم ، ويقولون هذا من عند الله ، وما أشبه ذلك من المآكل الخبيثة ، عاقبهم الله تعالى على جميع ذلك بتحريم ما حرم عليهم من الطيبات {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ} أي : هيأنا يوم القيامة لمن جحد الله ، أو الرسل ، من هؤلاء اليهود {عَذَابًا أَلِيمًا} أي : مؤلما موجعا واختلف في أن التحريم هل كان على وجه العقوبة ، أم لا ؟ فقال جماعة من المفسرين : إن ذلك كان عقوبة ، وإذا جاز التحريم ابتداء على جهة المصلحة ، جاز أيضا عند ارتكاب المعصية على جهة العقوبة . وقال أبو علي : كان تحريمه عقوبة فيمن تعاطى ذلك الظلم ، ومصلحة في غيرهم ، وقال أبو هاشم : إن التحريم لا يكون إلا للمصلحة ، ولما صار التحريم مصلحة عند إقدامهم على هذا الظلم ، جاز أن يقال حرم عليهم بظلمهم . قال : لان التحريم تكليف يستحق الثواب بفعله ، ويجب الصبر على أدائه ، فهو معدود في النعم ، بخلاف العقوبات .
{ لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا } [النساء : 162] .
ثم ذكر سبحانه مؤمني أهل التوراة فقال : {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} والدين ، وذلك أن عبد الله بن سلام وأصحابه قالوا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم : إن اليهود لتعلم أن الذي جئت به حق ، وإنك لعندهم مكتوب في التوراة ، فقال اليهود : ليس كما يقولون إنهم لا يعلمون شيئا ، وإنهم يغرونك ويحدثونك بالباطل ، فقال الله تعالى {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ} ، الثابتون المبالغون {فِي الْعِلْمِ} ، المدارسون بالتوراة {مِنْهُمْ} أي : من اليهود ، يعني : ابن سلام وأصحابه من علماء اليهود ، {وَالْمُؤْمِنُونَ} يعني : أصحاب النبي من غير أهل الكتاب {يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} يا محمد ، من القرآن والشرائع ، أنه حق {وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} من الكتب ، على الأنبياء والرسل .
وقيل : إنما استثنى الله تعالى من وصفهم ممن هداه الله لدينه ، ووفقه لرشده من اليهود الذين ذكرهم فيما مضى ، من قوله {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ} إلى ها هنا . فقال : لكنهم لا يسألونك ما يسأل هؤلاء الجهال من إنزال الكتاب من السماء ، لأنهم قد علموا مصداق قولك بما قرأوا في الكتب المنزلة على الأنبياء ، ووجوب اتباعك عليهم ، فلا حاجة إلى أن يسألوك معجزة أخرى . ولا دلالة غير ما علموا من أمرك بالعلم الراسخ في قلوبهم ، عن قتادة ، وغيره .
{وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ} إذا كان نصبا على الثناء والمدح ، على تقدير : واذكر المقيمين الصلاة ، وهم المؤتون الزكاة ، ويكون على هذا عطفا على قوله {الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ} والمعنى : والذين يؤدون الصلاة بشرائطها ، وإذا كان جرا ، عطفا على ما أنزل ، أي : يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ، والمقيمين الصلاة . فقيل : إن المراد بهم الأنبياء ، أي : ويؤمنون بالأنبياء المقيمين للصلاة . وقيل : المراد بهم الملائكة ، وإقامتهم للصلاة تسبيحهم ربهم ، واستغفارهم لمن في الأرض ، أي : وبالملائكة ، واختاره الطبري ، قال : لأنه في قراءة أبي كذلك ، وكذلك هو في مصحفه . وقيل : المراد بهم الأئمة المعصومون {وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} أي : والمعطون زكاة أموالهم ، {وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} بأنه واحد لا شريك له {وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} وبالبعث الذي فيه جزاء الأعمال ، {أُولَئِكَ} أي : هؤلاء الذين وصفهم الله {سَنُؤْتِيهِمْ} أي : سنعطيهم {أَجْرًا} أي : ثوابا وجزاء على ما كان منهم من طاعة الله ، واتباع أمره {عَظِيمًا} أي : جزيلا وهو الخلود في الجنة .
______________________________
1. تفسير مجمع البيان ، ج3 ، ص 237-240 .
{فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً} . ما زال الكلام عن اليهود وقبائحهم ، فقد ذكر سبحانه في الآيات السابقة وقاحتهم بطلبهم رؤية اللَّه جهرة ، وعبادتهم العجل ، واعتداءهم في السبت ، ونقضهم الميثاق ، وكفرهم بآيات اللَّه ، وقتلهم الأنبياء ، وقولهم قلوبنا غلف ، وافتراءهم على مريم ، وتبجحهم بقتل المسيح . . وذكر هنا صدهم عن سبيل اللَّه ، وأكلهم الربا والرشوة ، وانه سبحانه بسبب هذه القبائح والفضائح حرم عليهم في الدنيا بعض الطيبات التي كانت حلالا لهم ولغيرهم .
{ وأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وقَدْ نُهُوا عَنْهُ } . معطوف على بظلم من الذين هادوا .
وقيل : ان اليهود أول من سنّ الربا وشرّع تحليله ، وتكلمنا عنه مفصلا عند تفسير الآية 275 من سورة البقرة ج 1 ص 433 . { وأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ } . كالرشوة وغيرها من الوجوه المحرمة ، وقد وصفهم سبحانه في الآية 42 من سورة المائدة بأنهم : { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ } . أما الطيبات التي حرمها عليهم فهي التي أشار إليها سبحانه بقوله : { وعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ ومِنَ الْبَقَرِ والْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وإِنَّا لَصادِقُونَ } [ الأنعام - 146] .
وإذا قارنا بين سيرة اليهود منذ القديم ، بخاصة في عهد موسى وعيسى ومحمد ، وبين وسائلهم وطرائقهم اليوم لم نجد أي فرق بين يهود الأمس ويهود اليوم ، من حيث الضلال والفساد ، والعداء للإنسانية وقيمها ، وعدم الخضوع إلا ( للطور ) يرفع فوق رؤوسهم . . وان دل هذا على شيء فإنما يدل على ان الشر طبع أصيل في اليهود ، وجبلة لا تنفك عنهم ، ولا ينفكون عنها ، مهما تغيرت الأزمان ، وتطورت الأحوال ، تماما كما لا ينفك اللدغ عن طبع العقارب ، ونفث السموم عن جبلة الأفاعي ، وإذا وجد في كل انسان استعداد للخير والشر فان طبيعة اليهود متمحضة للشر وحده . وإذا وجد منهم بين الحين والحين من يعرف الحق ، ويعمل به فإنه قليل نادر ، والنادر لا ينقض القاعدة ، بل يكرسها ، وقد استثنى سبحانه هذه القلة بقوله :
{ لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ والْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} . الراسخون في العلم هم العلماء العاملون بعلمهم ، لا المحيطون بما دوّن في الكتب ، والمحققون المدققون في أبحاثهم ونظرياتهم ، وان لم يعملوا - كما يتوهم - . وقد استوحينا هذا المعنى من قول علي أمير المؤمنين ( عليه السلام ) :
« العلم يهتف بالعمل ، فان أجابه والا ارتحل عنه » .
وتسأل : ان اللَّه سبحانه عطف ( المؤمنون ) على ( الراسخون في العلم ) وأخبر انهما معا يؤمنون بالقرآن والتوراة والإنجيل ، وهذا الإخبار يصح بالنسبة إلى الراسخين في العلم من اليهود ، ولا يصح بالنسبة إلى المؤمنين بمحمد ( صلى الله عليه وآله ) ، لأن معناه على هذا ان المؤمنين يؤمنون ، وهو أشبه بقول القائل : الواقفون يقفون ، والنائمون ينامون ، والقرآن منزه عن مثله ، فما هو التأويل ؟ .
الجواب : ان هذا السؤال أو الإشكال إنما يتجه لو فسرنا المؤمنين في الآية بالمؤمنين من صحابة الرسول من غير أهل الكتاب ، كما فعل صاحب مجمع البيان ، ولم يمنعه الرازي وصاحب المنار وأكثر المفسرين . . أما إذا فسرنا المؤمنين باليهود المقلدين للراسخين في العلم منهم فلا يتجه السؤال ، إذا يكون المعنى ان الراسخين في العلم من اليهود والآخذين بأقوالهم من أهل ملتهم يؤمنون بالقرآن والتوراة والإنجيل ، أولئك يؤمنون استدلالا ، وهؤلاء يؤمنون تقليدا . ونحن نميل إلى هذا التفسير : ونرجحه على الأول .
{ والْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ } . وقد كثر الكلام حول نصب المقيمين ، حتى روي عن عثمان وعائشة انه لحن ، وأبطل الرازي ذلك بقوله : « ان المصحف منقول بالتواتر عن رسول اللَّه ( صلى الله عليه وآله ) فكيف يمكن ثبوت اللحن فيه » . والصحيح انه منصوب على المدح ، أي أمدح المقيمين الصلاة ، والغرض الإيماء إلى فضل الصلاة وخطرها ، كما ذكرنا في فقرة اللغة . { والْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ } خبر لمبتدأ محذوف ، أي وهم المؤتون الزكاة ، والمعنى ان المصلين الذين يستحقون المدح هم الذين يقرنون إقامة الصلاة بإيتاء الزكاة . { والْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ } عطف على { الْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ } . أما جزاء الجميع فقد أشار إليه بقوله : { أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً } .
__________________________
1. تفسير الكاشف ، ج2 ، ص 488-490 .
عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ } فقد استوجبوا بمظالمهم من الله جزاءين : جزاء دنيوي عام وهو تحريم الطيبات ، وجزاء أخروي خاص بالكافرين منهم وهو العذاب الأليم.
قوله تعالى : { لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ } استثناء واستدراك من أهل الكتاب ، و { الرَّاسِخُونَ } وما عطف عليه مبتدأ و { يُؤْمِنُونَ } خبره ، وقوله { مِنْهُمْ } متعلق بالراسخون و { مِنْ } فيه تبعيضية .
والظاهر أن { الْمُؤْمِنُونَ } يشارك { الرَّاسِخُونَ } في تعلق قوله { مِنْهُمْ } به معنى والمعنى : لكن الراسخون في العلم والمؤمنون بالحقيقة من أهل الكتاب يؤمنون بك وبما أنزل من قبلك ، ويؤيده التعليل الآتي في قوله { إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ } (إلخ) ، فإن ظاهر الآية كما سيأتي بيان أنهم آمنوا بك لما وجدوا أن نبوتك والوحي الذي أكرمناك به يماثل الوحي الذي جاءهم به الماضون السابقون من أنبياء الله : نوح والنبيون من بعده ، والأنبياء من آل إبراهيم ، وآل يعقوب ، وآخرون ممن لم نقصصهم عليك من غير فرق .
وهذا المعنى ـ كما ترى ـ أنسب بالمؤمنين من أهل الكتاب أن يوصفوا به دون المؤمنين من العرب الذين وصفهم الله سبحانه بقوله { لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ } : ( يس : 6 ) .
وقوله { وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ } معطوف على { الرَّاسِخُونَ } ومنصوب على المدح ، ومثله في العطف قوله { وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ } وقوله { وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } مبتدأ خبره قوله { أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً } ولو كان قوله { وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ } مرفوعا كما نقل عن مصحف ابن مسعود كان هو وما عطف عليه مبتدأ خبره قوله { أُولئِكَ } .
قال في المجمع : اختلف في نصب المقيمين فذهب سيبويه والبصريون إلى أنه نصب على المدح على تقدير أعني المقيمين الصلاة ، قالوا : إذا قلت ، مررت بزيد الكريم وأنت تريد أن تعرف زيدا الكريم من زيد غير الكريم فالوجه الجر ، وإذا أردت المدح والثناء فإن شئت نصبت وقلت : مررت بزيد الكريم كأنك قلت : أذكر الكريم ، وإن شئت رفعت فقلت : الكريم ، على تقدير هو الكريم .
وقال الكسائي ، موضع المقيمين جر ، وهو معطوف « على » ما من قوله { بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ } أي وبالمقيمين الصلاة .
وقال قوم : إنه معطوف على الهاء والميم من قوله { مِنْهُمْ } على معنى : لكن الراسخون في العلم منهم ومن المقيمين الصلاة ، وقال آخرون : إنه معطوف على الكاف من { قَبْلِكَ } أي مما أنزل من قبلك ومن قبل المقيمين الصلاة .
وقيل : إنه معطوف على الكاف في { إِلَيْكَ } أو الكاف في قبلك . وهذه الأقوال الأخيرة لا تجوز عند البصريين لأنه لا يعطف بالظاهر على الضمير المجرور من غير إعادة الجار .
قال : وأما ما روي عن عروة عن عائشة قال : سألتها عن قوله { وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ } وعن قوله { وَالصَّابِئِينَ } وعن قوله { إِنْ هذانِ } فقالت : يا ابن أختي هذا عمل الكتاب أخطئوا في الكتاب ، وما روي عن بعضهم : أن في كتاب الله أشياء ستصلحها العرب بألسنتها ، قالوا : وفي مصحف ابن مسعود : « والمقيمون الصلاة » فمما لا يلتفت إليه لأنه لو كان كذلك لم يكن ليعلمه الصحابة الناس على الغلط وهم القدوة والذين أخذوه عن النبي صلى الله عليه وآله ( انتهى ) .
وبالجملة قوله { لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ } استثناء من أهل الكتاب من حيث لازم سؤالهم النبي صلى الله عليه وآله أن ينزل عليهم كتابا من السماء كما تقدم أن لازم سؤالهم ذلك أن لا يكفي ما جاءهم النبي صلى الله عليه وآله من الكتاب والحكمة المصدقين لما أنزل من قبله من آيات الله على أنبيائه ورسله ، في دعوتهم إلى الحق وإثباته ، مع أنه صلى الله عليه وآله لم يأتهم إلا مثل ما أتاهم به من قبله من الأنبياء ، ولم يعش فيهم ولم يعاشرهم إلا بما عاشوا به وعاشروا به كما قال تعالى { قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ } : ( الأحقاف : 9 ) وقال تعالى : { وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ ـ إلى أن قال ـ لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ } : ( الأنبياء : 10 ) .
فذكر الله سبحانه في فصل من القول : أن هؤلاء السائلين وهم أهل الكتاب ليست عندهم سجية اتباع الحق ولا ثبات ولا عزم ولا رأي ، وكم من آية بينة ظلموها ، ودعوة حق صدوا عنها ، إلا أن الراسخين في العلم منهم لما كان عندهم ثبات على علمهم وما وضح من الحق لديهم ، وكذا المؤمنون حقيقة منهم لما كان عندهم سجية اتباع الحق يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك لما وجدوا أن الذي نزل إليك من الوحي يماثل ما نزل من قبلك على سائر النبيين : نوح ومن بعده .
ومن هنا يظهر ( أولا ) وجه توصيف من اتبع النبي صلى الله عليه وآله من أهل الكتاب بالراسخين في العلم والمؤمنين ، فإن الآيات السابقة تقص عنهم أنهم غير راسخين فيما علموا غير مستقرين على شيء من الحق وإن استوثق منهم بأغلظ المواثيق ، وأنهم غير مؤمنين بآيات الله صادون عنها وإن جاءتهم البينات ، فهؤلاء الذين استثناهم الله راسخون في العلم أو مؤمنون حقيقة.
و ( ثانيا ) وجه ذكر ما أنزل قبلا مع القرآن في قوله « يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ) لأن المقام مقام نفي الفرق بين القبيلين.
و ( ثالثا ) أن قوله في الآية التالية : { إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا } (إلخ) في مقام التعليل لإيمان هؤلاء المستثنين .
___________________________
1. تفسير الميزان ، ج5 ، ص 118-120 .
مصير الصالحين والطالحين من اليهود :
لقد أشارت الآيات السابقة إلى نماذج من انتهاكات اليهود ، أما الآيات الأخيرة فإنما ذكرت نماذج أخرى من تلك الانتهاكات ، وبيّنت العقوبات التي استحقها اليهود بسبب تمردهم وعصيانهم ، والعذاب الذي لا قوه وسيلاقوه نتيجة لذلك في الدنيا والآخرة.
فالآية الأولى من الآيات الأخيرة تبيّن أنّ الله قد حرم بعضا من الأشياء الطاهرة على اليهود بسبب ممارستهم الظلم والجور ، وتصديهم للسائرين في طريق الله ، حيث تقول الآية : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً) كما عاقبهم الله بالحرمان من تلك الطيبات لتعاملهم بالربا على الرغم من منعهم من ممارسة المعاملات الربوية ولاستيلائهم على أموال الآخرين بطرق غير مشروعة ، فتقول الآية في هذا المجال : (وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ ...).
وتؤكّد الآية أنّ عذاب اليهود لمعاصيهم تلك لا يقتصر على العقاب الدنيوي ، بل سيذيقهم الله ـ أيضا ـ عقاب وعذاب الآخرة الأليم الذي يشمل الكافرين من اليهود ، تقول الآية الكريمة : (وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً).
وتجدر الإشارة ـ هنا إلى عدة أمور ، وهي :
١ ـ إنّ المقصود بالطيبات المحرمة على اليهود هي تلك التي ذكرتها الآية (١٤٦) من سورة الأنعام ، والتي شملت بعض الحيوانات وشحوم حيوانات أخرى كالبقر والأغنام التي أحبّها اليهود ، ولم يكن هذا التحريم تحريما تكوينيا ، بل كان تحريما تشريعيا قانونيا ، أي أن اليهود منعوا من استعمال هذه النعم مع أنّها كانت متيسرة في أيديهم.
وقد جاء ذكر بعض هذا التحريم في التوراة المتداولة بيد اليهود حاليا ، في «سفر الآويين» في الفصل الحادي عشر ، ولكن لم تشر التوراة الحالية إلى الطابع العقابي لهذا التحريم (2).
٢ ـ أمّا هل أنّ هذا التحريم يتميز بطابع شمولي ، أي هل يشمل غير الظالمين من اليهود ، أم يخص الظالمين وحدهم؟ فإنّ ظاهر الآية المذكورة أعلاه والآية (١٤٦) من سورة الأنعام ، يدلان على أنّ التحريم له طابع عام بدلالة عبارة «لهم» على عكس العقاب الأخروي الذي تخصصه الآية (لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ) وعلى هذا الأساس فإن هذا التحريم له طابع عقابي بالنسبة للظالمين من اليهود ، كما يحمل طابع الاختبار والامتحان بالنسبة لأخيارهم الذين يشكلون الأقلية فيهم.
وقد ذهب بعض المفسّرين إلى أنّ هذا التحريم يشمل الظالمين من اليهود فقط ، كما تدل بعض الروايات على هذا الرأي ـ أيضا ـ فقد جاء في تفسير البرهان في تفسير الآية (١٤٦) من سورة الأنعام ، نقلا عن الإمام الصّادق عليه السلام : «إنّ زعماء بني إسرائيل كانوا قد حرموا على فقراء طائفتهم أكل لحوم الطيور وشحوم الحيوانات ، ولهذا السبب حرم الله على هؤلاء الظالمين مثل هذه الطيبات عقابا لهم على ظلمهم وجورهم (3)».
٣ ـ وتدل هذه الآية ـ أيضا ـ على أنّ تشريع تحريم «الربا» لم يقتصر على الإسلام وحده ، بل كان محرما لدى الأقوام والديانات السابقة ، والتوراة المتداولة حاليا والمحرفة إنّما تحرم على اليهود أخذ الربا من أبناء عقيدتهم فقط ، ولا تعتبر أخذه من أبناء الديانات الأخرى حراما عليهم (4).
وقد أشارت الآية الثّالثة من الآيات الأخيرة إلى حقيقة مهمّة اعتمدها القرآن الكريم مرارا في آيات متعددة ، وهي أنّ ذمّ اليهود وانتقادهم في القرآن لا يقومان على أساس عنصري أو طائفي على الإطلاق ، لأنّ الإسلام لم يذم أبناء أي طائفة أو عنصر لانتمائهم الطائفي أو العرقي ، بل وجه الذم والانتقاد للمنحرفين والضالمين منهم فقط ، لذلك استثنت هذه الآية المؤمنين الأتقياء من اليهود ومدحتهم وبشرتهم بنيل أجر عظيم ، حيث تقول الآية الكريمة : (لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً) (5).
وقد آمن جمع من كبار الطائفة اليهودية بالإسلام حين بعث النّبي محمّد صلى الله عليه وآله وسلم وحين شاهدوا على يديه الكريمتين دلائل أحقّيّة الإسلام ، ودافع هؤلاء بأرواحهم وأموالهم عن الإسلام ، وكانوا موضع احترام وتقدير النّبي صلى الله عليه وآله وسلم وسائر المسلمين .
__________________________
1. تفسير الأمثل ، ج3 ، ص 370-372 .
2. راجع الجزء الثّاني من تفسيرنا هذا.
3. تفسير البرهان ، الجزء الأوّل ، ص ٥٥٩.
4. التوراة ، سفر التثنية ، الفصل ٢٣ ، الجملتان ١٩ و ٢٠.
5. لقد شرحنا بنوع من التفصيل ، معنى عبارة «الراسخون في العلم» وذلك في الجزء الثّاني من تفسيرنا هذا.
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|