أقرأ أيضاً
التاريخ: 15-1-2016
1619
التاريخ: 2023-12-13
1246
التاريخ: 17-09-2014
4134
التاريخ: 6-11-2014
1407
|
تلك دلائل استند إليها أصحاب القول بالصرفة في ظاهر الأمر ، لكنّا نعتقد أنّ السبب الداعي لاختيارهم هذا الرأي أمر آخر وراء هذا الظاهر المريب ؛ إذ ليس فيما استمسكوا به ما يبعث على هذا الاختيار ، ولا سيّما وأصحاب هذا القول هم جهابذة أقحاح وأئمّة نقد وتمحيص ، ليسوا أهل تعسّف في الرأي أو وهن في العقيدة والاختيار ! ومِن ثَمّ فإنّها دلائل ظاهرية ومعاذير شكلية كان خلفها شيء آخر لعلّه رصين ، لأمر مّا جدع قصير أنفه !
نعتقد أنّهم واجهوا أولئك الذين قصروا وجه الإعجاز في جانب لفظ القرآن وحروفه وجودة سبكه وأسلوبه ، وهو جانب جدّ خطير ، يعلو به شأن الكلام ويرتفع قدره ، إلاّ أنّه ليس بمثابةٍ بحيث يخرجه عن حدّ المعتاد غير الممكن على فصحاء الكلام وبلغاء البيان ، ففي كلام العرب وغيرهم من أُمَم ذات لغة راقية مقطعات رائعة ، من بديع النظم ورفيع النثر ممّا يُبهر ويُعجب !
ونرافقهم في هذا الشأن ، غير أنّ جهة الإعجاز البياني للقرآن ـ على ما سنذكر ـ لا تنحصر في جودة سبكه وروعة نظمه ، والوفير من بدائع المُحسِّنات اللفظية ، إنّ هذا كله إنّما هو جزء سبب لروعة القرآن الباهرة ، وإنّ وراءه سبباً آخر أقوى هو كامن وراء هذا القالب الجميل ، هي : خلاّبة روحه ، ونسمة روحه ، فخامة معنى في أناقة تعبير ، وهما مجتمعانِ وليدان توأمان ، الأمر الذي يعزّ وجوده ، بل ينعدم في كلام غيره ، ولا سيّما مع هذا الإطناب في الكلام والتنوّع في المرام ، ميزة خصّ بها القرآن الكريم .
وبعد ، فإليك بعض النقاش مع دلائل القوم في ظاهر المقال :
1 ـ ليس في كلام العرب ما يضاهي القرآن :
فإذا كانت روعة القرآن منبثقةً من تلاحم في جمال لفظه مع جلال معناه ، ومن بديع صورته مع كبرياء محتواه ، فأين يا ترى يوجد له مثيل في مِثل هذه الرفعة وذلك الشموخ ؟! نعم ، سوى شؤون كانت مبتذلةً ، ومعانٍ كانت هابطةً وساقطة إلى حدّ بعيد كانوا يتداولونها ، ولَمُقارنة عابرة بين آيات من الذكر الحكيم وأروع مقطعات العرب لَتكفي شاهداً على ذلك البون الشاسع !
جاء القرآن بسبكٍ غريبٍ على العرب ، وعجيب على الناس أجمعين ، لا هو شعر ولا هو نثر كنثرهم ، نثر في خاصيّة الشعر ، لا هدر سجع ، ولا هذر كهانة ، حلوٌ رشيق ، وخلوبٌ رفيع ، إنّ له لحلاوة ، وإنّ عليه لطلاوة ، وإنّه لمثمرٌ أعلاه ، مغدقٌ أسفله ، إنّه يعلو وما يُعلى ، وإنّه ليُحطّم ما تحته ! كلام قاله عظيم العرب وخلاصتها الفذّ الفريد الوليد (1) .
كانوا كلّما حاولوا مضاهاته افتضح بهم الأمر وفشلوا في نهاية المطاف ، وهكذا على مرّ العصور ، الأمر الذي سجّل على محياه الكريم : أنّه لم يبقَ له نظير ، ولا يخلفه أبداً بديل !
فإن كان النظّام وأصحابه إنّما أرادوا المضاهاة في مجموع هذه الجوانب والمزايا اللفظية والمعنوية ، فنحن نطالبهم أن يأتوا بشاهد من كلام العرب أو غيرهم من باب المثال ، ولكنّهم أعجز من أن يأتوا بمثله ولو اجتمعوا له .
وإن أرادوا المباهاة ببدائع بعض روائع الكلام فهذا شيء لا ننكره ، ولكنّه ليس كلّ شأن الإعجاز ، ولا وقع التحدّي بمثله .
وقوله تعالى : {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [الأنفال : 31] .
قولة قالها النضر بن الحارث بن كلدة ، كان من زعماء قريش ومن شياطينهم الأفّاكين ، صاحب ثروة ونفوذ كلمة ، كان يختلف إلى الحيرة فيسمع سجع أهلها وكلامهم ، فلمّا قَدم مكّة سمع كلام النبي ( صلّى الله عليه وآله ) والقرآن ، فزعم أنّه من قبيل ذاك ، فحسب من نفسه القدرة على مماثلته ، كما كان قد تعلّم بعضاً من أحاديث ملوك فارس ( أساطير رستم واسفنديار ) فكان يقصّها على جهلاء العرب استحواذاً عليهم ليُلهيهم عن حديث الإسلام وذكريات القرآن ، زاعماً أنّه بذلك يُقابل رسول الله في كلامه وتلاوة قرآنه ، كان إذا جلس رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) مجلساً يدعو الناس إلى الله ، ويتلو عليهم آياته ويحذّر قريشاً ممّا أصاب الأُمم الخالية خَلَفه النظر في مجلسه إذا قام عنه ليحدّثهم عن حديث رستم واسفنديار وملوك فارس ، ويقول : والله ما محمّد بأحسن حديثاً منّي ، ومنا أحاديثه إلا { أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفرقان : 5].
قيل : فنزلت فيه : {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7) فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ } [القلم : 7 - 15] .
فكانت الآيات صواقع قوارع هدّمت عليهم بنيانهم وأضرمته ناراً ! هكذا جابههم القرآن بصوته المدوّي الصارخ العنيف ، وذرّ أوهامهم هباءً منثوراً ، فلو كانت لهم بقيّة باقية لقاموا في وجهه ، ولكن أنّى لهم التناوش من مكان بعيد ؟!
وقع النضر أسيراً يوم بدر ، فقال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) لعلي ( عليه السلام ) : ( يا عليُّ عليَّ بالنضر ) ، فأخذ عليٌّ بشعره وجرّه ، وكان رجلاً جميلاً متجمّلاً بشعره ، فجاء به إلى رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) فقال : يا محمّد ، أسألك بالرحم بيني وبينك إلاّ أجريتني كرجل من قريش ، إن قتلتهم قتلتني ، وإن فاديتهم فاديتني . فقال ( صلّى الله عليه وآله ) : ( لا رحم بيني وبينك ، قطع الله الرحم بالإسلام ، قدِّمه يا عليُّ واضرب عنقه ، فقدّمه وضرب عنقه صبراً ، لعنه الله ) (2) .
وبعد ... فلا يؤخذ من قولة صاحب نخوةٍ وأوهامٍ شاهداً على برهان !
2 ـ الاطّراد من روائع البديع :
زعم ابن حزم أن لا أعجوبة في سرد أسماء ... لكن يكذّبه رائعة ( الاطّراد ) (3) في باب البديع ، وهو : أن يطّرد الشاعر أو المتكلّم ـ عند صياغة الكلام إن نظماً أو نثراً ـ في سرد أسماء متعاقبة من غير كلفة ولا حشوٍ فارغ ، قال ابن رشيق : فإنّها إذا اطّردت كذلك دلّت على قوّة طبع الشاعر وقلّة كلفته ومبالاته بالشعر ، قال الأعشى :
أَقيس بن مسعود بن قيس بن خالد وأنت امرؤ يرجو شبابَك وائلُ (4)
فأتى كالماء الجاري اطّراداً وقلّة كلفة ، وبيّن النَسب حتّى أخرجه عن مواضع اللبس والشبهة .
ولمّا سمع عبد الملك قول ابن صمّة :
أبــأتَ بـعـبدِ اللهِ خـيـرِ iiلِـداته ذؤابَ بنِ أسماءَ بن زيد بن قارب .
قال ـ كالمتعجّب ـ : لولا القافية لبلغ به إلى آدم .
وقال أبو تمام :
عـبدُ الـمليكِ بنِ صالحِ بن عليِ بن قسيمِ النبيِّ في نسبهِ
فهذا سهل العنان ، خفيف على اللسان ، قال ابن رشيق : وإن كانت الياء في ( المليك ) ضرورةً وتكلّفاً .
وقال بعضهم :
مَـن يكن رامَ حاجةً iiبعُدت عنه وأعيت عليه كُلَّ العياء
فلما أحمد المرجَّى بن يحيى بن معاذ بن مسلم بن رجاء
فجاء كلامه نسقاً واحداً ، إلاّ أنّه قد شغل البيت وفصل بين الكلام بقوله : ( المرجّى ) ، غير أنّ مجانسة ( رجاء ) هوّنت خطيئته وغفرت ذنبه .
ثمّ جعل ابن رشيق يُعدّد من أنواع الاطّراد وفيها تكلّف من شعراء فصحاء (5) .
وزعم أيضاً أنّ في حكاية أقوال الآخرين تحوّلاً من الممكن إلى المعجز ...! : كلام غريب ، ولعلّه حسبه نقلاً بالحروف ! ولا شكّ أنّه نُقل بالمعنى ، لا سيّما مع النظر إلى لغاتهم غير العربية ، ويَدلّك عليه سرد قضية واحدة في مواضع من القرآن في مختلف العبارات ، وإن كانت في كلّ مرة ذات مزيّة حكميّة لا تشترك فيها أُختها .
وعليه ، فالكلام كلامه تعالى ؛ لأنّه من نظمه وتأليفه بالذات ، ونسبة الكلام إنّما يتحقّق بالنضد والتأليف ، الأمر الذي يكون الإعجاز فيه ، أيّاً كان لفظ المنقول عنه .
وأخيراً ، فإنّ التفاوت في درجة فضيلة البيان هي أيضاً آية أُخرى ، تحلّت بها آيات القرآن الكريم ، فكان هناك بليغ وأبلغ وفصيح وأفصح ، حسب تفاوت المقامات واختلاف المناسبات ، وقد جعل السكّاكي حدّ الإعجاز من بلاغته طرفها الأعلى وما يقرب منه ، فلا تستوي مرتبة البلاغة في الآيات ، وإن كان الجميع بالغاً حدّ الإعجاز .
3 ـ إنّما يَعرف ذا الفضل من العلم ذووه :
ليست معجزة نبيّ الإسلام ( صلّى الله عليه وآله ) بِدعاً من معاجز سائر الأنبياء ( عليهم السلام ) ؛ إذ كان نبهاء الأُمم وأصحاب الاختصاص هم الذين كانوا يلمسون واقع الإعجاز ، وامتياز المُعجز عن الممكن ـ فما يقدّمه الأنبياء ـ إنّما يعرفه أفذاذ الناس .
كانت سَحَرة فرعون هم الذين لمسوا الحقّ في العصا واليد البيضاء ، فآمنوا به وتبعهم الآخرون ، وهكذا ، فكان سبيل القرآن ـ وهو أرقّ المعاجز وأرقاها ـ سبيل سائر المعاجز يعرفه ذوو الاختصاص من أهل الفنّ ، والأذكياء من العلماء ؛ ومِن ثَمّ فإنّهم هم المراجع في وضح الحقّ ودحض الأباطيل {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل : 43] .
ما الفضل إلاّ لأهلِ العلمِ iiأنّهُمُ على الهُدى لمَن استهدى أَدلاّءُ
ومِن ثَمّ كانت شهادات أفذاذ العرب الأقحاح هو القول الفصل بشأن القرآن الكريم ، وأنّها ميزة خارقة فاق بها سائر الكلام .
تلك شهادة طاغية العرب وعظيمها الوليد بن المغيرة : ( يا عجباً لِما يقول ابن أبي كبشة ، فو الله ما هو بعشر ولا بسحر ... وإنّ قوله لمن كلام الله ... ) (6) . وأيضاً قوله : والله لقد سمعت من محمّد آنفاً كلاماً ، ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجنّ ، والله إنّ له لحلاوةً ، وإنّ عليه لطلاوةً ... وإنّه يعلو وما يُعلى . وإنّه ليحطّم ما تحته ... (7) .
وشهادات فصحاء العرب وسادات قريش من هذا القبيل كثيرة ، كلّها تنمّ عن واقعية فخيمة لمسها أُولئك الخواصّ ، فسار من ورائهم العوامّ .
ذكروا أنّ فصحاء قريش أزمعت على معارضة القرآن ، فجمعت لها جمعها ، حتّى إذا ما نزلت {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } [هود : 44] ، نظر بعضهم إلى بعض حيارى مذهولينَ .. فقد يئسوا ممّا طمعوا فيه ، وعرفوا أنّه ليس بكلام مخلوق (8) .
وبذلك تبيّن أنّ لا موضع لقول السيّد المرتضى : ( جميع ما شهد به الفصحاء من فصاحة القرآن فواقع موقعه ؛ لأنّ مَن قال بالصرفة لا ينكر مزيّة القرآن على غيره بالفصاحة والبلاغة وإنّما يقول : هذه المزيّة ليست ممّا تخرق العادة ! (9) ؛ إذ شهادتهم إنّما كانت بكونه فوق مستوى البشر ، وإنّه ليس من كلام المخلوقينَ ، وكفى به دليلاً على كونه معجزاً خارقاً للعادة ، إذ لا يقصد من الإعجاز سِوى كونه فوق مقدور الإنسان ، هذا لا غير !
وقوله : ( والنظم لا يصحّ فيه التزايد والتفاضل ) (10) ولعلّه على العكس فإنّ التفاضل في النظم والأُسلوب شيء معروف ، وبذلك قد فاق شعرُ شاعر عتيد على شعر شاعر جديد ، وكان أهل الصناعة المضطلعون بالرويّ والقصيد قد فاقوا في نظمهم على المبتدئينَ المُتكلّين ، وكان الأُسلوب هو الذي أشال بهؤلاء وأطاح بهؤلاء !
قال أبو عثمان الجاحظ : أجود الشعر ما رأيته متلاحم الأجزاء ، سهل المخارج ، فتعلم بذلك أنّه أُفرغ إفراغاً واحداً ، وسُبك سبكاً واحداً ، فهو يجري على اللسان كما يجري الدهان .
قال ابن رشيق : وإذا كان الكلام على هذا الأُسلوب الذي ذكره الجاحظ لذَّ سمعه ، وخفّ مُحتمله ، وقرُب فهمه ، وعذُب النطق به ، وحلى في فم سامعه ، فإذا كان متنافراً متبايناً عسُر حفظه ، وثقل على اللسان النطق به ، ومجّته المسامع فلم يستقّر فيها منه شيء (11) .
وأنشد الجاحظ :
وبعض قريض القوم أبناءُ علّةٍ يـكدّ لـسانَ الناطقِ المُتحفّظِ
وأيضاً :
وشعرٍ كَبعرِ الكَبشِ فرّق iiبينه لسانٌ دعيٌّ في القريضِ دخيلِ
واستحسن أن يكون البيت بأسره كأنه لفظة واحدة لخفّته وسهولته ، واللفظة كأنّها حرف واحد ، وأنشد قول الثقفي .
مَن كان ذا عَضُد يُدرك ظُلامتَه إنّ الذليلَ الذي ليست لهُ iiعَضُدُ
تـنبو يـداه إذا مـا قـلَّ iiناصرُهُ ويأَنفُ الضيمَ إنْ أثرى له عَدَدُ (2)
اذاً فالنظم نظم ، ووزنه وزن شعر ، لكن شتّان ما بين النظمينِ ، هذا عذب فرات ، وذاك ملح أُجاج ، في هذا سهولة وفي ذاك وعورة ، وهكذا القرآن ، فاق سائر الكلام في عذوبة نظمه ، وسهولة أُسلوبه ، في روعة وأناقة وجلال ، وهذا مِن سرّ إعجازه الخارق .
وأمّا الدليل الذي أقاموه من أنّ القادر على الأبعاض قادر على الجملة ، فقد أجاب عنه التفتازاني بأنّ حكم الجملة يُخالف حكم الأجزاء ، ولو صحّ ما ذُكر لكان كلّ من آحاد العرب قادراً على الإتيان بمثل قصائد فصحائهم كامرئ القيس وأضرابه .
وأمّا تردّد الصحابة في بعض الآيات والسور فلعلّه كان لرعاية الاحتياط والاحتراز عن أدنى ملابسة ... على أنّ الإعجاز في جميع مراتبه وفي جميع الآيات ليس ممّا يظهر لكلّ أحد على سواء (13) .
وقول السيّد : ( لو عارضوه بشعر منظوم لم يكونوا معارضين ) (14) .
هذا إذا كان التحدّي ناظراً إلى جانب النظم والأُسلوب فحسب ، أمّا إذا كانت فضيلة الكلام هي الملحوظة في هذه المباراة والمقصودة من تلك المباهاة فهذا ممّا لا يفترق فيه بين منظوم الكلام ومنثوره ، شعره وخطبه ، في أيّ صيغة بُني عليها الكلام أو رُصفت حروفه وكلماته ، ما دامت العِبرة بجَودة التعبير وحسن الأداء ، هذا ، ولا سيّما قد أُطلق التحدّي في القرآن إطلاقاً : لو يأتوا بحديث مثله ... أي في شرف الكلام وفضيلته ، شعراً منظوماً أو كلاماً منثوراً ، أيّاً كان نمطه إذا كان يماثله في الأُبّهة والبهاء ، ومع ذلك فقد كلّت قرائحهم أن يقابلوه وضنّت أذهانهم أن يعارضوه ؛ لمّا رأوه فوق مستواهم السحيق ، فقصرت الأيدي أن تناله وهو في مستواه ذلك الرفيع .
وفي الختام ، نعود على ما بدأنا به من توجيه كلام الشريف المرتضى في الصرفة ، بأنّها من جهة فقد العرب للإمكانات اللازمة في صياغة كلام مثل القرآن ، فقد سُلبوا التوفيق عليه وخذلهم الله على إصرارهم في معاندة الحقّ ، {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصف : 5].
___________________________
1- نعم ، نسب إلى الجعد بن درهم ( مؤدّب مروان بن محمّد الملقّب بالحمار ، آخر خلفاء بني أُميّة ) القول بأنّ فصاحة القرآن غير معجزة ، وأنّ الناس يقدرون على مثلها ، وعلى أحسن منها ، قيل : هو أَوّل من صرّح بذلك ، وتجّرأ عليه ، قال الأُستاذ الرافعي : ولم يقل بذلك أحد قبله ، ( الإعجاز : ص144 ) .
وله مقالات أُخرى أيضاً أنكروها عليه ، فآل أمره إلى القتل صبراً ، ذبحه ـ كما يُذبح الكبش ـ خالد القسري أمير العراق من قِبَل هشام بن عبد الملك بأمره .
ذكر ذلك ابن الأثير في حوادث ( سنة 125هـ ) : ج5 ، ص263 ، وراجع ص 429 منه أيضاً .
وقد جعل الأُستاذ عَرفة ذلك دليلاً على قوله بالصرفة ، فهو أوّل من ذهب هذا المذهب ، وهو وهمٌ ؛ لأنّه ـ على فرض صحّة النسبة ـ إنّما حاول بذلك إنكار أصل الإعجاز ، كما وَهَم في عليّ بن عيسى الرمّاني أيضاً قوله بالصرفة ، في حين أنّه جعله أحد الوجوه للإعجاز ، ( راجع : النكت في الإعجاز : ص110 ، قضية الإعجاز القرآني : ص148 ـ 149 ) .
2- راجع ابن هشام : ج1 ، ص384 ، ومجمع البيان : ج4 ، ص538 ، والدرّ المنثور : ج3 ، ص180 .
3- قال ابن أبي الإصبع هو أن يطّرد للمتكلّم أسماء لآباء ممدوحة منسوب بعضها إلى بعض ، مرتّبة على حكم ترتيبها في الميلاد ، من ذلك قوله تعالى : ( وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ) يوسف : 38 ، قال : فالحظ ما اتّفق في هذه اللفظات الستّ من أنواع البلاغة ، لتقدّر نظم القرآن العزيز قدره وتعرف فرق ما بينه في هذا الباب وما جاء فيه من أشعار فصحاء العرب .. ثمّ جعل يعدّ موارد الروعة في الآية .
( بديع القرآن : ص141 ) .
4- الوائل : صاحب الحاجة وطالب النجاة من المأزق .
5-العمدة لابن رشيق : ج2 ، ص82 ، رقم 65 .
6- تفسير الطبري : ج29 ، ص98 .
7- مستدرك الحاكم : ج2 ، ص507 .
8- العمدة لابن رشيق : ج1 ، ص211 ، ومجمع البيان : ج5 ، ص165 .
9- راجع التمهيد : ج4 ، ص162 .
10- راجع التمهيد : ج4 ، ص159 .
11- العمدة لابن رشيق : ج1 ، ص257 .
12- ينبو السيف : يكلّ ولا يكون قاطعاً ، وأثرى : كثر وتوفّر .
13- شرح المقاصد : ج2 ، ص184 .
14- راجع التمهيد : ج4 ، ص158 .
|
|
دراسة يابانية لتقليل مخاطر أمراض المواليد منخفضي الوزن
|
|
|
|
|
اكتشاف أكبر مرجان في العالم قبالة سواحل جزر سليمان
|
|
|
|
|
اتحاد كليات الطب الملكية البريطانية يشيد بالمستوى العلمي لطلبة جامعة العميد وبيئتها التعليمية
|
|
|