المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

الفقه الاسلامي واصوله
عدد المواضيع في هذا القسم 8127 موضوعاً
المسائل الفقهية
علم اصول الفقه
القواعد الفقهية
المصطلحات الفقهية
الفقه المقارن

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر
اية الميثاق والشهادة لعلي بالولاية
2024-11-06
اية الكرسي
2024-11-06
اية الدلالة على الربوبية
2024-11-06
ما هو تفسير : اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ؟
2024-11-06
انما ارسناك بشيرا ونذيرا
2024-11-06
العلاقات الاجتماعية الخاصة / علاقة الوالدين بأولادهم
2024-11-06

العلاقة بين الظاهرة والمشكلة- مفهوم الظاهرة
25-8-2022
رجوع الزوجة عن النشوز بعد التأديب
11-4-2021
عيد الله وتناسبه مع عظمته
6-11-2021
تطبيقات نظم المعلومات الجغرافية- اتخاذ القرارات المناسبة
9-7-2022
Silicones
30-10-2018
خدمة تربة ومحصول القطن
2024-09-20


قاعدة « إلزام المخالفين بما ألزموا به أنفسهم » (*)  
  
3086   10:27 صباحاً   التاريخ: 19-9-2016
المؤلف : آية الله العظمى السيد محمد حسن البجنوردي
الكتاب أو المصدر : القواعد الفقهية
الجزء والصفحة : ج3 ص178 - 206.
القسم : الفقه الاسلامي واصوله / القواعد الفقهية / قاعدة الالزام - الزام المخالفين بما الزموا به انفسهم /


أقرأ أيضاً
التاريخ: 23-11-2021 1393
التاريخ: 2024-07-28 375
التاريخ: 19-9-2016 1551
التاريخ: 1-12-2021 1661

ومن القواعد المشهورة في فقه الإماميّة قاعدة « إلزام المخالفين بما ألزموا به أنفسهم ».

وفيها جهات من البحث :  

[ الجهة ] الأولى

في مدركها‌ :

وهو أمران‌ :

الأوّل : إجماع الإماميّة ـ رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ـ على صحّة هذه القاعدة ، وقد تقدّم منّا مرارا في هذا الكتاب أنّ هذه الإجماعات ـ مع وجود المدرك للمسألة من الروايات أو سائر الأدلّة ـ ليس من الإجماع المصطلح في الأصول الذي بنينا على حجّيته وكشفه عن رأي المعصوم عليه السلام .

الثاني : الروايات :

فمنها : قوله عليه السلام في التهذيب بإسناده عن علي بن أبي حمزة ، عن أبي الحسن عليه السلام : « ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم ، وتزوّجوهنّ ولا بأس بذلك » (1).

ومنها : ما عن عبد الله بن محرز‌ قال قلت لأبي عبد الله عليه السلام : رجل ترك ابنته وأخته لأبيه وأمّه فقال عليه السلام : « المال كلّه لابنته وليس للأخت من الأب والأمّ شي‌ء ».

فقلت : إنّا قد احتجنا إلى هذا والميّت رجل من هؤلاء الناس وأخته مؤمنة عارفة ، قال عليه السلام : « فخذ لها النصف ، خذوا منهم ما يأخذون منكم في سنّتهم وأحكامهم ». قال ابن أذينة : فذكرت ذلك لزرارة ، فقال : إنّ على ما جاء به ابن محرز لنورا (2).

ومنها : ما عن محمّد بن مسلم ، عن أبي جعفر عليه السلام قال : سألته عن الأحكام؟ قال عليه السلام : « يجوز على أهل كلّ ذي دين ما يستحلّون » (3).

وهناك روايات أخر‌ خصوصا في مسألة جواز تزويج المطلّقة على غير السنّة ، يقول عليه السلام في بعضها « اختلعها » (4) وفي البعض الآخر « ابنها » (5) ، وفي بعضها « من دان‌ بدين لزمته أحكامهم » (6) وفي بعضها « إنّ المرأة لا تترك بغير زوج » (7).  

تركنا ذكرها لعدم الاحتياج إليها ، لأنّ فيما ذكرنا غنى وكفاية ، والعمدة هو فهم المراد من قوله عليه السلام : « ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم » لأنّ المراد من هذه القاعدة هو مفاد هذه الجملة وما هو الظاهر منها.

فنقول : أمّا سند الرواية المشتملة على هذه الجملة فلا ينبغي البحث عنه ؛ لكمال الوثوق بصدورها عنهم ، وتكرّرها في جملة من الموارد كمورد أخذ المال منهم بالتعصيب وأيضا في مورد تزويج الزوجة المطلّقة على غير السنّة ، وغير ذلك ممّا تقدّم.

فالإنصاف أنّه إذا ادّعى أحد القطع بصدور هذا الكلام عنهم : ليس مجازفا فيما يدّعيه.

وأمّا ظاهر هذه الجملة ومعناها ، فهو عبارة عن أنّ المخالفين كلّ ما يرون أنفسهم ملزمين به من ناحية أحكامهم الدينيّة ويعتقدون أنّه عليهم ، سواء كان ذلك الشي‌ء من الماليّات أو الحقوق ، أو كان من الاعتباريّات الآخر كحصول الطلاق مثلا أو غيره وإن لم يكن ذلك ثابتا في أحكامكم الدينيّة ، فالزموهم بذلك مثلا إذا يرون أنفسهم ضامنين للمبيع إذا تلف عند المشتري وكان الخيار لذلك المشتري فالزموهم بذلك ، أي يكون الثمن لكم ويكون التلف عليه ، وإن كنتم لا تقولون بذلك وتقولون بأنّ الخيار لما كان للمشتري كما أنّه كذلك في خيار الحيوان بناء على اختصاصه بالمشتري ، أو من جهة كون المبيع حيوانا دون الثمن ، فالخيار للمشتري فقط دون البائع ، فالتلف يقع في‌ ملك من لا خيار له ، فلا بدّ للبائع أن يردّ الثمن إلى المشتري.

فإذا بعتم حيوانا من أحد هؤلاء وتلف عنده بعد قبضه ، فالزموه بضمان المسمّى وإن كان في زمان خياره وأنتم لا تقولون به ، لقاعدة « التلف في زمن [ الخيار ] من مال من لا خيار له » وفي المفروض من لا خيار له هو البائع ، فبمقتضى تلك القاعدة يكون ضمان المبيع التالف على البائع ، فيجب على البائع ردّ الثمن إلى ذلك المشتري.

ولكن حيث أنّهم يلزمون أنفسهم بأنّ التلف وقع في ملك المشتري فألزموهم بذلك ولا تردّوا إليهم الثمن.

وفي بعض أخبار هذا الباب تعليل هذا الحكم بأنّه خذوا منهم كما أنّهم يأخذون منكم ، بمعنى أنّ البائع لو كان واحد منهم لكان لا يردّ إليكم الثمن ، فأنتم أيضا لا تردّوا إليه الثمن وعاملوا معهم معاملة المثل.

وأمّا قول أبي جعفر عليه السلام في رواية محمّد بن مسلم عنه عليه السلام قال : « يجوز على أهل كلّ ذي دين ما يستحلّون » فظاهره أنّ أصحاب كلّ دين أي المتديّنين به الملتزمين بأحكامه ينفذ عليهم ما يستحلّون ، مثلا إذا كانوا يستحلّون أكل أقرباء الميّت ـ أي العصبة ـ نصف المال من تركة الميّت ، فينفذ هذا الحكم عليهم ، أي إذا كانت العصبة منّا أي من أهل الولاية ، فيجوز له أن يأخذ منهم نصف تركة الميّت ، كما كان هذا صريح رواية عبد الله بن محرز حين ما قال ابن محرز له عليه السلام : إنّ الميّت رجل من هؤلاء الناس وأخته مؤمنة عارفة ، قال عليه السلام : « خذ لها النصف ، خذوا منهم كما يأخذون منكم ».

الجهة الثانية

في بيان شرح مفاد هذه القاعدة وسعة دلالتها وشمولها للموارد‌ :

فنقول : في كلّ مورد يلتزم المخالف بمقتضى مذهبه بورود ضرر عليه ، سواء كان‌ ذلك الضرر ماليّا ، أو ذهاب حقّ منه عبده ، أو عتق عبده ، أو فراق زوجته ووقوع طلاقه ، أو ضمانه لمال تالف ، أو كون حقّ الأخذ بالشفعة لشريك أو شركة غيره في ميراثه ، ففي جميع تلك الموارد للموافق إلزام المخالف وإن لم يكن ورد ذلك الضرر حقّا عند الموافق ، بل ينكره ولا يعترف به حسب مذهبه وما يدين به.

فلو كان المخالف حسب مذهبه يرى نفسه ضامنا لمال تالف بأحد أسباب الضمان عنده ، وليس ذلك السبب سببا للضمان عند الموافق ، كموارد ضمان ما لم يجب أو ضمان العارية غير المضمونة مثلا لو تلف عند المستعير المخالف ما استعاره ، وهو ممّا يمكن إخفاؤه كالثياب مثلا ففي بعض المذاهب ـ وهو مذهب المالكيّة ـ القول بضمان التالف ، فإذا كان المستعير منهم يرى نفسه ملزما بضمان ذلك التالف ، والموافق المعير لا يرى لماله التالف ضمانا ، لأنّ العارية التي غير الذهب والفضة ما لم يشترط ليس فيه ضمان وإن كان ممّا يمكن إخفائه ، ولكن مع ذلك له أن يلزم المستعير المخالف ويأخذ منه ضمان ماله التالف بهذه القاعدة ، أي قاعدة الإلزام ، لقوله عليه السلام : « ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم » ولقوله عليه السلام : « خذوا منهم كما يأخذون منكم ».

وكذلك لو حلف المخالف بالطلاق والعتاق وصدقة ما يملك ، بأن قال مثلا : زوجتي طالق ، أو عبدي حرّ ، أو جميع ما أملك أو بعضه المعيّن صدقة إن فعلت كذا ، أو إن لم أفعل كذا ، فهذا الحلف من أسباب الطلاق والعتاق والصدقة عند المخالف ، ولكن لا اثر له عندنا أصلا ، فيرون صحّة مثل هذا الطلاق وباقي المذكورات ، فيجوز إلزامهم بما ألزموا به أنفسهم ، وتزويج تلك المرأة المطلقة بمثل ذلك الطلاق وأخذ ذلك المال من باب الصدقة وإن كان نادما من حلفه ، وأيضا ترتيب آثار الحرّية على مثل ذلك العبد ، كلّ ذلك لأجل هذه القاعدة ، أي قاعدة الإلزام.

وخلاصة الكلام في المقام : أنّ ظاهر قوله عليه السلام : « ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم » هو صحة إلزامهم بما يدينون به ، وإن كان ما يدينون به ممّا لا نقول بصحّته ، بل محلّ‌ جريان هذه القاعدة هو فيما إذا لا نقول بصحّة ما يدينون به ، وإلاّ فإن قلنا نحن أيضا بصحّته وكان ممّا ندين به أيضا ، فليس موردا لقاعدة الإلزام ، بل يكون حينئذ ترتيب الأثر عليه كترتيب الأثر على سائر الأحكام الشرعيّة.

فقاعدة الإلزام تشبه الأحكام الثانويّة ، أو هي منها على أحد الوجهين الذين نذكرهما إن شاء الله تعالى ؛ لأنّ الحكم الأوّلى عدم جواز تزويج المرأة المطلّقة التي طلاقها باطل ، فجوازه فيما إذا كان زوجها يدين بصحّة هذا الطلاق يكون من قبيل الأحكام الثانويّة ، وهكذا الحال في سائر الموارد التي تجري فيها هذه القاعدة.

مثلا بعد الفراغ عن أنّ القول بالتعصيب باطل عندنا ، فأخذ العصبة ـ أي أقرباء الميّت كأخته وأخيه ـ ميراث بنته يكون أخذ مال الغير بدون إذنه ورضاه ، ولا شكّ في حرمة ذلك بعنوانه الأوّلى فحكمهم : بجواز أخذه ـ إذا كان المأخوذ منهم ممّن يدينون باستحقاق العصبة وشركتهم مع البنت فيما إذا كان الآخذ ، أي العصبة ممّن لا يدين بجواز الأخذ وبالاستحقاق ـ يكون شبيها بالأحكام الثانويّة أو هو منها.

ثمَّ إنّ الظاهر من قوله عليه السلام : « ألزموهم » أنّ مرجع ضمير الجمع هم المسلمون من سائر الطوائف غير الطائفة الإماميّة الاثني عشريّة ، ولا يشمل أرباب سائر الأديان والملل ، فلو أنّ ذميّا طلّق زوجته بطلاق غير صحيح عندنا ولكنّه صحيح عندهم ، فلا تشمله هذه القاعدة بناء على ما ذكرنا من أنّ مرجع الضمير « هم » المسلمون من سائر الطوائف.

اللهمّ إلاّ أنّ يتمسّك بغير هذه الرواية التي مدرك هذه القاعدة ، مثل قوله عليه السلام الذي تقدّم ذكره « يجوز على أهل كلّ ذي دين ما يستحلون ».

ولكنّه لا يخلو من تأمّل ونظر.

أو يتمسّك بقوله عليه السلام في موثّق عبد الرحمن البصري عن أبي عبد الله عليه السلام قال : قلت له : امراة طلّقت على غير السنّة ، فقال عليه السلام : « تتزوّج هذه المرأة لا تترك بغير تزويج » (8) فإذا كان بقاؤها بدون تزويج علّة لجواز تزويجها ، فهذه العلّة في مورد الكافر أيضا موجودة ، لأنّ كون ما ذكر علّة تامّة وملاكا تامّا للحكم غير معلوم ، بل معلوم العدم ، لأنّه من قبيل حكمة الحكم.

والضابط في الفرق بين ما هو علّة الحكم وبين ما هو حكمته هو أنّ العلّة لا تكون إلاّ فيما إذا كان من الممكن إلقاؤها إلى الطرف بصورة كبرى كلّية ، بحيث تكون هي موضوع الحكم ، كقوله عليه السلام : « لا تشرب الخمر لأنّه مسكر » فيصحّ أن يقول : لا تشرب المسكر.

وأمّا فيما إذا لا يمكن ذلك ، كقوله عليه السلام : « يجب على المطلّقة المدخولة أن تعتدّ بثلاثة أقراء لعدم تداخل المياه واختلاط الأنساب » ، فهو من قبيل حكمة الحكم ولا اطّراد فيه ، كما أنّه لو علمنا أنّها عقيمة ولا تحبل ، فمع ذلك يجب عليها أنّ تعتدّ.

وأمّا إنّ هذا لا يمكن أن يكون موضوعا ، فلأنّ موضوع الحكم لا بدّ وأن يكون قابلا للتشخيص وإن يعرفه المكلّف ، وإلاّ يكون الحكم على مثل ذلك الموضوع ـ الذي ليس قابلا لأن يعرفه المكلّف ولأن يشخّصه ـ لغوا ، ومعلوم أنّ اختلاط المياه وتداخل الأنساب ليس قابلا لأن يعرفه المكلّف ، وفي المفروض من الواضح الجليّ أنّه لا يعلم أنّ هذه المرأة ـ المطلّقة بالطلاق على غير السنّة أو طلاق الكافر الباطل ـ تبقى بلا تزويج ، لأنّه من الممكن بل الغالب هو أن يتزوّجها من يقول ويدين بصحّة هذا الطلاق من أبناء دينها ومذهبها.

وأيضا ظاهر قوله عليه السلام « ألزموهم » أنّ المخاطب بهذا الخطاب هم الطائفة الإماميّة الاثني عشريّة ، فلا يشمل المخالفين بعضهم بالنسبة إلى بعض إن كانت طائفة منهم ترى صحّة معاملة وترى الأخرى فسادها ، فيلزم إحديهما الأخرى بما يدين وإن كان في نظرهم عدم صحّة تلك المعاملة.

مثلا لو أعار من لا يدين بمذهب مالك مالكيّا ما يمكن إخفاؤه ، كثوب حيث يمكن وضعه في صندوق وإخفاؤه فتلف ، فمذهب المستعير أنّ التلف في مثل هذه العارية موجب للضمان ، ومذهب المعير أنّه ليس في هذا التلف ضمان ، فهل يمكن إلزام المعير للمستعير بأخذ الضمان منه بهذه القاعدة أم لا؟ الظاهر هو العدم ، لما ذكرنا من أنّ المخاطب هم الطائفة الإماميّة ، ولا يشمل الحديث سائر الطوائف.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ هذا الحديث وإن كان لا يشمل إلزام المخالف للمخالف وإن كان ما يريد إلزامه به مخالفا لما يدين به ، فضلا عمّا إذا كان موافقا معه ، لما ذكرنا أنّ ظاهر الحديث أنّ ضمير الخطاب المقدّر في قوله عليه السلام « ألزموهم » مرجعه الطائفة الإماميّة.

ولكن هناك روايات أخر مفادها عامّ ولا يختصّ بالإماميّة ، مثل رواية محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال : « يجوز على أهل كلّ ذي دين ما يستحلّون » .

فبناء على ما استظهرنا منها من أنّ ظاهرها عبارة عن نفوذ كلّ ما يستحلّون عليهم ، فلو كان أحد المخالفين يعتقد فساد المعاملة التي وقعت بينهما ، والآخر يعتقد صحّتها ، ومضت على تلك المعاملة أعوام ، فالذي يعتقد فساد المعاملة يعتقد أنّ نتاج ما حصل في يده ومنافعه ملك لطرفه لفساد المعاملة ، فلو أنتجت مثلا هذه البقرة أو هذه الفرس بقرات أو أفراس ، فحيث يعتقد بفساد هذه المعاملة ـ اجتهادا أو تقليدا ـ يرى ويعتقد أنّ هذه البقرات أو الأفراس ملك لصاحب البقرة أو الفرس قبل وقوع هذه المعاملة ، فيستحلّها له فينفذ عليه ذلك ، ويجوز لذلك الآخر أن يأخذها منه وإن كان معتقدا بصحّة هذه المعاملة وأنّ هذه المذكورات ليس له.

وكذلك بالنسبة إلى المنافع ، فلو اشترى دارا مثلا من زيد وسكن فيها سنين وهو يرى ويعتقد فساد هذه المعاملة ، فعليه أجرة تلك الدار التي سكن فيها سنين ، ويجوز للمخالف الآخر ـ أي البائع ـ أن يأخذ منه أجرة تلك السنين ، وإن كان معتقدا صحّة هذه المعاملة وأنّ هذه الدار ليست له.

وعلى كلّ تقدير لو قلنا بصحّة إلزام المخالف للمخالف فيما يلزم به نفسه ، فهذا خارج عن مفاد قاعدة الإلزام ، بل يكون له مدرك آخر ، وهو قوله عليه السلام : « يجوز على أهل كلّ ذي دين ما يستحلّون ».

ثمَّ إنّ ذكرنا من إمكان القول بصحّة إلزام المخالف للمخالف ـ مستندا إلى رواية محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام ، وهو قوله عليه السلام : « يجوز على أهل كلّ ذي دين ما يستحلّون » ـ مبني على أن يكونا مختلفين في المذهب بحيث يكون المراد من الدين المذهب ، فإذا استحل شيئا في مذهبه يصحّ أن يقال يستحلّه في دينه ، فلا يشمل مورد اختلاف المجتهدين في مذهب الإماميّة ، لأنّ لهما مذهب واحد وهو مذهب أهل البيت : ، لا أنّ فتوى هذا المجتهد دين ومذهب له ، وفتوى ذلك الآخر دين ومذهب للآخر. نعم يكون أحدهما مخطئا والآخر مصابا إن كان الفتويان متناقضين.

كما أنّ تطبيقه على اختلاف المذاهب الأربعة أيضا لا يخلو عن إشكال ، لأنّه هناك أيضا ليس إلاّ اختلاف فتوى المجتهدين.

وحاصل الكلام : أنّ رواية محمّد بن مسلم لا يستفاد منها حتّى إلزام المخالف للمخالف ، بل ولا الموافق للمخالف ، لأنّ دين الكلّ واحد وهو الإسلام ، فالمراد من قوله عليه السلام « أهل كلّ ذي دين » هي الأديان المقابلة للإسلام ، فقاعدة الإلزام تستفاد من‌ قوله عليه السلام : « ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم » وقوله عليه السلام « خذوا منهم كما يأخذون منكم » وما يكون بمضمونهما.

الجهة الثالثة

في موارد تطبيق هذه القاعدة‌ :

منها : مسألة التعصيب ، وهو توريث ما فضل عن السهام من كان من العصبة ، أي قوم الإنسان الذين يتعصّبون له ، والمراد هاهنا أقرباء الميّت وهم الأب والابن ومن يتدلى بهما الى الميت ، فلو كانت للميّت بنت واحدة وأخ مثلا أو عمّ فللبنت النصف ، وبناء على القول بعدم التعصيب وبطلانه ـ كما هو كذلك عند الإماميّة ـ يكون باقي التركة أي النصف الآخر أيضا للبنت ، ولكن ردّا لا فرضا.

وعلى القول بالتعصيب ـ أي : إعطاء ما زاد على الفرض لأقرباء الميّت ، أي ابنه وأبيه والمتقرّب بهما إليه ، وعدم الردّ إلى صاحب الفرض وهي البنت في المفروض ـ يعطى باقي التركة ، أي النصف الآخر لأخ الميّت في المفروض. وهكذا لو كانت له بنت وعمّ ، فعلى مذهب الإماميّة يعطي جميع المال للبنت ، نصفه فرضا ونصفه الآخر ردّا ، وعلى قول المخالفين يعطى نصف المال للبنت فرضا ولا ردّا ، وباقي المال يعطى للعم.

ولو كانت للميّت بنتان فصاعدا وكان له أخ أو عمّ أو ابن أخ أو ابن عمّ ، فعلي القول بعدم التعصيب فلهما أو لهنّ الثلثان فرضا ، والباقي أيضا لهما أو لهنّ ردّا ، والعصبة بفيها التراب كما في الرواية (9) وأمّا على القول بالتعصيب فالباقي للعصبة ، أي الأخ والجد ـ أي أب الأب ـ والعمّ وأولادهما وابن الابن ، على الترتيب المقرّر في الإرث.

وبعد ما عرفت ما قلنا ، فإن كان من هو من العصبة إماميّا اثنى عشريّا ـ ولا يقول‌ بالتعصيب بل يقول بوجوب إعطاء الباقي ، أي ما زاد على الفرض أيضا إلى ذوي الفروض ، فمع أنّه يعتقد عدم استحقاقه وكون التركة كلّها لذوي الفروض فرضا وردّا ـ يجوز له الأخذ ويصير ملكا له بالأخذ ، لأجل دلالة هذه القاعدة ، أي قاعدة الإلزام على جواز الأخذ ، وفروع الأخذ بالتعصيب كثيرة.

والضابط الكلّي هو أنّه في كلّ مورد يورثونه المخالفون بحسب مذهبهم ، ولكن هو حيث أنّه إماميّ لا يعتقد استحقاقه لذلك الميراث ، لأنّه ليس من مذهبه ، فهذه القاعدة تجوز أخذه منهم وإلزامهم بما هو مذهبهم.

ومنها : مسألة الطلاق على غير السنة ، أي الطلاق الذي فاقد لأحد الشرائط المعتبرة في صحّته ، سواء أكان من شرائط المطلّق ككونه عاقلا بالغا مختارا ، أو المطلقة ككونها طاهرة من الحيض والنفاس مع حضور الزوج ومع كونها مدخولة وحائلا. وأيضا من شرائط صحّة طلاقها أن لا يقرّبها زوجها في ذلك الطهر الذي يقع الطلاق فيه. وأيضا من شرائط صحّة الطلاق أن يكون بحضور شاهدين عدلين.

فإذا كان الطلاق فاقدا لأحد هذه الشرائط أو أكثر يكون باطلا عند فقهاء الإماميّة ، وكذلك الطلاق الثلاث من غير رجعة بينها يكون باطلا عند الإماميّة الاثنى عشريّة ، فإذا طلّق المخالف زوجته ولم يكن الطلاق واجدا لجميع هذه الشرائط ، فيكون ذلك الطلاق باطلا عندنا ، وتكون الزوجة باقية على زوجيّتها ، ولكن مع ذلك كلّه لو كان الزوج ـ أي المطلّق المذكور ـ يعتقد صحّة ذلك الطلاق حسب مذهبه ، فللإماميّ الاثني عشري أن يلزمه بما ألزمه به نفسه ، أي يلزمه بصحّة ذلك الطلاق الباطل ، ويرتّب عليه آثار الصحّة بهذه القاعدة ويتزوّج بها.

إن قلت : بناء على ما ذكرت من بطلان ذلك الطلاق ، وبقاء تلك الزوجة على زوجيّتها لذلك الزوج المطلّق ، فإذنه بل أمره عليه السلام بتزويج تلك المرأة في ما رواه عليّ بن أبي حمزة في قوله عليه السلام بعد أن قال : أيتزوّجها الرجل؟ فقال عليه السلام : « ألزموهم من ذلك ما‌ ألزموه أنفسهم وتزوّجوهنّ ولا بأس بذلك » يكون معناه ومرجعه إلى أنّه عليه السلام أمر بتزويج ذات البعل. وهنا في غاية الاستبعاد ، بل لا يجوز أنّ يتفوّه به.

قلنا : إنّ مرجع أمره عليه السلام بتزويج مثل تلك المرأة إلى خروجها عن الزوجيّة بنفس العقد الواقع عليها ممّن لا يعتقد بصحّة ذلك الطلاق ، فيكون من قبيل وطي ذي الخيار للأمة التي باعها ، وكان للبائع الخيار ؛ فيتحقّق الفسخ بنفس الوطي. وحيث أنّ الفسخ يحصل بنفس الوطي فيكون الوطي علّة لحصول الملكيّة ، أي رجوع ملكيّة الأمة إلى البائع ، والعلّة والمعلول متّحدان زمانا ، والتقدّم والتأخّر بينهما رتبيّ فقط. فيكون الوطي والملكيّة في زمان واحد ، فهذا الوطي ليس وطيا في غير ملك كي يكون حراما ، لقوله تعالى {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ } [المؤمنون: 6] .

وفيما نحن فيه نقول : حيث أنّ عقد القائل ببطلان ذلك الطلاق علّة لخروجها عن الزوجيّة ، فالعقد وعدم الزوجيّة يكونان في زمان واحد ، لأنّهما علّة ومعلول ـ كما ذكرنا ـ فلم يقع العقد على زوجة الغير.

إن قلت : من أي سبب صار العقد علّة لخروجها عن الزوجيّة؟

نقول : من قوله عليه السلام « ألزموهم » ومن قوله عليه السلام « تزوّجوهنّ » نستكشف ذلك ، بعد القطع بأنّه عليه السلام لا يأمر بتزويج امرأة ذات بعل ، وبعد القطع بأنّ هذا الطلاق باطل ، فلا يمكن الجمع بين هذه الأمور إلاّ بأن يقال : بأنّ الزوجيّة للمطلّق باقية إلى زمان عقد الصادر من الذي يعتقد ببطلان ذلك الطلاق ، فبعقده عليها تصير خلية بالنسبة إلى زوجها الذي طلّقها ، وتصير زوجة للذي عقد عليها.

وأمّا حديث حكومة قوله عليه السلام « ألزموهم » أو قوله عليه السلام « تزوّجوهنّ » فلا يرفع هذا الإشكال أصلا ، وذلك من جهة أنّ الحكومة ـ على أدلّة اشتراط الطلاق‌ بالشرائط المذكورة في باب الطلاق ـ معناها صحّة هذا الطلاق ، وهذا مخالف للضرورة في مذهب الشيعة ، حيث أنّ الفقهاء كلّهم متّفقون على بطلان هذا الطلاق ، ولم يقل أحد منهم بصحّته ولو بالعنوان الثانوي ، أي بعنوان أنّه الطلاق الصادر عن المخالفين.

وأيضا مخالف للأخبار الصريحة في أنّه « إيّاكم وتزويج المطلّقات ثلاثا في مجلس واحد ، فإنّهنّ ذوات أزواج » (10).

وحاصل الكلام : أنّه في العناوين الثانوية جعل الشارع لفعل واحد من حيث الماهيّة حكمين واقعيّين مختلفين ، غاية الأمر بعنوانين : أحدهما هو العنوان الأوّلي للشي‌ء ، والثاني هو العنوان الثانوي ، مثل أكل لحم الميتة الذي هو بعنوانه الأوّلى حرام واقعا ، وبعنوانه الثانوي مثل أن يكون الأكل عن اضطرار أو إكراه أو غير ذلك هو حلال واقعا ، فيرجع الأمر فيما نحن فيه إلى أنّ الشارع جعل للطلاق حكمين : إذا كان صادرا عن الشيعة يكون صحّته مشروطا بتلك الشرائط ، وإذا كان صادرا من المخالف فليس مشروطا بتلك الشرائط.

وبعبارة أخرى : الطلاق الفاقد للشرائط المعتبرة فيه إذا كان المطلّق من الشيعة يكون فاسدا ، وإذا كان من مخالفيهم يكون صحيحا. وهذا كلام لا يمكن الالتزام به.

اما أوّلا : فلاستنكارهم : لصحّة مثل هذا الطلاق ، واستدلالهم على بطلانه بالكتاب العزير عليهم ، وهذا لا يناسب مع كون طلاقهم على غير السنة طلاقا صحيحا شرعيّا.

وثانيا : ما رواه في دعائم الإسلام عن جعفر بن محمّد عليهما السلام أنّ رجلا من أصحابه سأله عن رجل من العامّة طلّق امرأته لغير عدّة ، وذكر أنّه رغب في تزويجها ، قال عليه السلام : « انظر إذا رأيته فقل له : طلّقت فلانة؟ إذا علمت أنّها طاهرة في طهر لم يمسّها فيه ، فإذا قال : نعم فقد صارت تطليقة فدعها حتّى تنقضي عدّتها من ذلك الوقت ، ثمَّ تزوّجها إن شئت ، فقد بانت منه بتطليقة بائنة ولكن معك رجلان حين تسئله ليكون الطلاق بشاهدين عدلين » (11).

وهذه الرواية ظاهرة ـ بل صريحة ـ في فساد الطلاق على غير السنّة ، وإن كان فيها إشكال من جهة أخرى ، وهي مخالفتها لقاعدة الإلزام ، ولكن يمكن أن يقال إنّها محمولة على الاستحباب من هذه الجهة.

وهناك روايات رواها في الوسائل تدلّ على أنّ المطلّقة ثلاثا باقية على زوجيّتها لزوجها المطلّق (12).

وخلاصة الكلام : أنّ القول بصحّة الطلاق الثلاث من غير رجعة بينها فيما إذا كان المطلّق ممّا يقول بصحّة مثل هذا الطلاق ـ أي كان من مخالفينا بحيث يكون هاهنا موضوعين : أحدهما موضوع للصحّة وهو الطلاق الصادر ممّن يعتقد بصحّة مثل هذا الطلاق ، والثاني موضوع للبطلان وهو الطلاق الصادر ممّن يقول ببطلان مثل هذا الطلاق ، فالصحة والفساد يكونان منوطين بالقول بالصحّة والفساد ـ عجيب.

وبعد الإحاطة على ما ذكرنا تعرف أنّ مقتضي الجمع بين الأدلّة هو ما ذكرناه من أنّ الطلاق الثلاث من غير رجعة بينها ، سواء كان بلفظ واحد أو بتكرار الطلاق ثلاثا من غير رجعة بينها لا يقع الثلاث ، بل لا يقع حتّى واحد منها ، وإن كان من هذه الجهة الأخيرة محلّ خلاف بيننا.

وكذلك يكون الطلاق فاسدا إذا كان فاقدا لسائر شرائط الصحّة ، وإن كان‌ المطلّق ممّن يقول بصحّته ، وتكون الزوجة باقية على زوجيّتها. والقول بصحّة مثل هذا الطلاق ممّا يأباه المذهب وإن كان صادرا ممّن يعتقد بصحّة مثل هذا الطلاق.

وأيضا لا شكّ في أنّهم : أمروا بصحّة تزويج مثل هذه المطلّقة ، مع عدم إمكان أن يسند إليهم : القول بصحّة تزويج المزوّجة والتي هي زوجة الغير ، فلا بدّ من القول بأنّ تلك المطلّقة باقية على زوجيّتها للمطلّق ، ولكن بنفس العقد الواقع عليها من الذي يعتقد بطلان ذلك الطلاق يخرج عن كونها زوجة للمطلّق ، فذلك العقد يكون طلاقا بالنسبة إلى الزوج الأوّل ، ونكاحا بالنسبة إلى الثاني.

وهذا في مقام الثبوت ممكن ، لما ذكرنا من أنّه من قبيل وقف ذي الخيار أو عتقه لمن باعه في زمان خياره ، فعقد الوقف وكذلك إيقاع العتق يكون فسخا وإخراجا عن ملك المبتاع ، ووقفا أو عتقا أيضا في زمان واحد ، وليس أحدهما متقدّما على الآخر بحسب الزمان أصلا ، نعم التقدّم والتأخّر بينهما إنّما هو بحسب الرتبة ، وفيما نحن فيه أيضا كذلك الخروج عن الزوجيّة للزوج الأوّل ، وصيرورتها زوجة للثاني في زمان واحد ، فلم يقع العقد على زوجة الغير كما ربما يتوهّم.

هذا في مقام الثبوت ، وأمّا في مقام الإثبات فأمرهم : بتزويجهم ، أو أخذ المال في مورد التعصيب ، أو المعاملات الفاسدة والضمانات غير الصحيحة ـ مع أنّ لهم الولاية العامّة ـ يدلّ على أنّهم : جعلوا نفس العقد عليهنّ طلاقا لهنّ ، وتزويجا للزوج الثاني ، وبناء على ما ذكرنا يكون العقد واقعا على امرأة خلية ، لأنّ زمان حصول زوجيّتها للثاني مع زمان عدم زوجيّتها للأوّل واحد ، لأنّهما معلولان لعلّة واحدة ، وهو العقد الواقع عليها.

وعلى هذا الأساس بنينا صحّة الأمر الترتّبي بالنسبة إلى الضدّين بأن قلنا : إنّ عصيان الأهمّ الذي هو شرط فعليّة الأمر بالمهمّ مع نفس الأمر بالمهمّ وامتثاله أيضا‌ الثلاثة في زمان واحد. والتفصيل في محلّه في كتابنا « منتهى الأصول » (13) وقد أطلنا الكلام لرفع شبهة ربما تقع في بعض الأذهان.

وأمّا القول بالإباحة فلا أساس له أصلا ، إذ هذا القائل لو يقول بفساد مثل ذلك الطلاق فنسبة إباحة وطي الزوجة الباقية على زوجيّتها للأوّل إلى الإمام عليه السلام مع علم الواطي بأنّها زوجة الغير ـ عجيب ، وقلنا ينبغي أنّ لا يتفوّه بذلك أحد ، وإن كان يقول بصحّة هذا الطلاق فتكون هي زوجته حقيقة ، فالإباحة المجرّدة لا معنى لها.

ويتفرّع على ما ذكرنا أنّ المخالف لو استبصر بعد أن طلّق زوجته بالطلاق الفاقد لشرائط صحّة الطلاق ولم يعقد عليها غيره ممّن يجوز له العقد عليها ، فله أن يرجع إلى زوجته المطلّقة بدون الاحتياج إلى عقد جديد ، لأنّها زوجته ولم تبن منه ولم تخرج عن زوجيّتها ، لما قلنا من أنّ الخروج بنفس العقد.

فما دام كان مخالفا حيث أنّه يعتقد صحّة طلاقه وكان مخطئا في اعتقاده هذا ، فلو كان يرجع إليها فأمّا كان متجرّيا متهتّكا غير مبال بارتكاب حرمات الله ، كما إذا أخطأ في اعتقاده واشتبه عليه فقارب زوجته باعتقاد أنّها زوجة الغير ، أو كان مرتكبا للحرام الواقعي ، بناء على أنّ الشارع نزل هذا الطلاق الفاسد بالنسبة إلى نفس المطلّق في حكم الطلاق الواقعي ، من حيث حرمة مباشرته ومقاربته معها.

وأمّا إذا استبصر فلا معنى لأن يكون متجرّيا ، لعلمه بفساد الطلاق وبقائها على زوجيّتها له على المبنى المذكور. وأمّا بناء على تنزيل هذا الطلاق الفاسد منزلة الطلاق الصحيح من حيث أثر حرمة وطيها وسائر انتفاعات الزوجيّة بالنسبة إليه ، فهذا كان فيما إذا كان مخالفا وما دام أنّه معتقد بصحّته ، كما هو ظاهر قوله عليه السلام في رواية عبد الله بن طاوس ، عن أبي عبد الله عليه السلام : « أنّه من دان بدين قوم لزمته أحكامهم » (14).

وأيضا ظاهر قول مولانا الرضا عليه السلام في رواية هيثم بن أبي مسروق ، حيث ذكر عنده بعض العلويّين ، فقال عليه السلام : « أما إنّه مقيم على حرام » قلت : جعلت فداك كيف وهي امرأته؟ قال عليه السلام : « لأنّه قد طلّقها » قلت : كيف طلّقها؟ قال عليه السلام : « طلّقها وذلك دينه ، فحرمت عليه » (15).

فهاتان الروايتان وما هو نظيرهما علّق الحرمة ولزوم التزامه بأحكام دين بما إذا كان معنونا بعنوان « أنّه دان بدين قوم » أو عنوان « ذلك دينه » فإذا زال هذا العنوان عنه بواسطة استبصاره ، يزول مع زواله حكمه أيضا ، لأنّ ظاهر أخذ كلّ عنوان في موضوع حكم أنّ لذلك العنوان دخل في الحكم حدوثا وبقاء ، لا حدوثا فقط. ولعمري هذا واضح جدّا ولا ينبغي أن يشكّ فيه.

فبناء على هذا لو استبصر قبل أن يعقد عليها شخص آخر ، له أن يرجع إليها. وأمّا إنّه إذا عقد عليها من يجوز له ذلك ، فلا يبقى مورد للرجوع إليها البتّة ، لما قلنا أنّ العقد بمنزلة الطلاق ، ويوجب خروجها عن حبالة الزوج المطلّق.

ومنها : أنّه لو تزوّج الشيعي بامرأة من المخالفين بدون حضور شاهدين‌ على العقد ، فلو مات هذا الشيعي بعد الدخول بها ، فيجوز لورثة الميّت إن كانوا من الشيعة منعها من الإرث ومن مهرها أيضا ، وعن كلّ ما تستحقّ المرأة على زوجها من ناحية كونها زوجة لذلك الميّت ، لأنّها ترى هذا العقد فاسدا ، بناء على ما هو من مذهبها من بطلان النكاح بغير حضور شاهدين ، كما نقول نحن في الطلاق ، فمذهبهم على العكس من مذهبنا ، فالإماميّة قائلون بلزوم شاهدين عدلين في الطلاق دون النكاح ، ومخالفوهم يقولون بلزومهما في النكاح دون الطلاق.

ومنها : أنّ المخالف لو طلّق زوجته مكرها على ذلك ، فحيث أنّ طلاق المكره عند أبي حنيفة وجمع آخر صحيح ونافذ على ما نقل عنهم (16).  

فيجوز للشيعي ، أن يرتّب آثار الصحّة على هذا الطلاق ـ وإن لم يكن عنده صحيحا ـ بقاعدة الإلزام ، فيتزوّج بها بعد انقضاء عدّتها.

وكذلك الأمر في كلّ مورد يكون مذهبهم صحّة الطلاق مع عدم صحّته عند الإماميّة ، فيجوز للإمامي الاثني عشري ترتيب آثار الصحّة على ذلك الطلاق الفاسد في مذهبه إن كان صحيحا في مذهب المخالف ، كما إذا حلف بالطلاق إن فعل الأمر الفلاني أو إن لم يفعل ، فهذا الطلاق عندنا باطل ، لكن عندهم صحيح ، فيجوز أن يرتّب عليه آثار الصحّة بقاعدة الإلزام.

وخلاصة الكلام : أنّ موارد قاعدة الإلزام في أبواب النكاح والطلاق كثيرة ، والضابط الكلّي هو أنّ كلّ نكاح أو طلاق كان فاسدا حسب مذهب الإماميّة وكان صحيحا عندهم ، فيجوز للإمامي ترتيب آثار الصحّة عليه بهذه القاعدة إن كان في صحّته ضرر على المخالف ، لأنّ الإلزام لا معنى له إلاّ فيما إذا كان الملزم به ضررا عليه.

وكذلك العكس ، أي كلّ نكاح أو طلاق كان صحيحا حسب مذهب الإماميّة وكان فاسدا عندهم ، يجوز للإمامي ترتيب آثار الفساد عليه إذا كان آثار الفساد ضررا عليه ، وذلك لما ذكرنا من عدم صدق الإلزام عرفا إلاّ مع كون الملزم به ضررا عليه.

وأيضا يدلّ على ما ذكرنا من لزوم كون الآثار ضررا عليه قوله عليه السلام في بعض روايات القاعدة : « خذوا منهم كما يأخذون منكم » فبناء على ما ذكرنا لو عقد المخالف‌ على المطلّقة اليائسة قبل انقضاء عدّتها ، فهذا العقد عندنا صحيح ، لأنّ اليائسة عندنا لا عدّة لها ، وعندهم فاسد ، لقولهم بوجوب العدّة عليها ، فيجوز للإمامي ترتيب آثار الفساد على هذا العقد ـ وإن كان في مذهبه صحيح ـ بهذه القاعدة ، فله أن يتزوّج بها بدون أن يطلّقها الزوج المخالف.

وكذلك الأمر لو تزوّج المخالف بنت الأخ أو بنت الأخت على عمّتها في الأوّل ، وعلى خالتها في الثاني ، برضاء العمّة في الأوّل ، وبرضاء الخالة في الثاني ، فهذا العقد عند الإماميّة صحيح ، لكن المنقول عنهم عدم صحّته وفساده ، فإنّهم لا يجوّزون الجمع بين العمّة وبنت الأخ ، ولا بين الخالة وبنت الأخت ولو برضاء العمّة في الأوّل وبرضاء الخالة في الثاني ، فيجوز للإمامي ترتيب آثار الفساد على عقد بنت الأخ وبنت الأخت ـ إن كان العقد عليهما متأخّرا عن العقد على العمّة أو الخالة ـ بأن يعقد عليهما بدون أن يطلّقهما الزوج المخالف.

وممّا ذكرنا ظهر لك حال طلاق السكران ، وطلاق الحائض مع حضور الزوج ، والطلاق في الطهر الذي قاربها وجامعها فيه ، ففي جميع ذلك يكون الطلاق فاسدا على مذهبنا ، ويكون صحيحا عند فقهائهم جميعا أو في بعض مذاهبهم ، فيجوز إلزامهم بصحّة الطلاق في الموارد المذكورة ، وإن كان فاسدا عندنا ، كلّ ذلك لأجل شمول قاعدة الإلزام لهذه الموارد المذكورة وأمثالها ممّا لم نذكرها.

ومنها : لو طلّق المخالف امرأته معلّقا على أمر محتمل الحصول أو متيقّن الحصول ، فالأوّل كما لو قال : امرأتي فلانة طالق لو قدم زيد من سفره هذا غدا مثلا أو مطلقا ، ثمَّ جاء في ذلك الوقت المعيّن في الأوّل أو مطلقا في الثاني. وبعبارة أخرى : حصل المعلّق عليه المحتمل الوقوع ، فهذا الطلاق عندنا فاسد إجماعا ، لمكان التعليق ، وصحيح عندهم ، فيجوز ترتيب آثار الصحّة على هذا الطلاق الفاسد عندنا بقاعدة الإلزام.

وأمّا في الصورة الثانية ، أي لو كان طلاقه معلّقا على أمر معلوم الحصول ، كما لو‌ قال لامرأته : أنت طالق لو طلعت الشمس أو غربت مثلا ، فمن يقول بصحّة مثل هذا الطلاق من فقهائنا فلا إشكال في أنّه يجوز له ترتيب آثار الصحّة على مثل هذا الطلاق ، لأنّه رأيه وفتواه ، سواء أكانت قاعدة الإلزام في البين أو لم تكن.

وأمّا من يقول بفساده لأجل الإجماع على بطلان التعليق في العقود وفي الإيقاعات ـ التي منها الطلاق ـ بطريق أولى ، فله ترتيب آثار الصحّة على هذا الطلاق بقاعدة الإلزام ، لأنّهم قائلون بصحّة الطلاق المعلّق على أمر محتمل الوقوع أو متعيّن الوقوع فيما إذا حصل المعلّق عليه.

ومنها : أبواب الضمانات ، سواء أكان الضمان ضمانا واقعيّا ، أو كان هو ضمان المسمّى كباب المعاوضات.

والضابط الكلّي هاهنا هو أنّه في كلّ مورد كان الضمان على المخالف ـ سواء أكان ضمان المسمّى أو الضمان الواقعي ـ باعتقاده ، وإن لم يكن عليه ضمان حسب مذهب فقهاء أهل البيت ، فيجوز إلزامه بذلك الضمان الذي يعتقد به حسب مذهبه بقاعدة الإلزام ، وهذا المعنى ـ أي : كون الضمان عليه ـ أعمّ من الواقعي والمسمّى حسب مذهبه يختلف سببه عندهم ، فقد يكون سبب الضمان عليه صحّة المعاملة عندهم ، وقد يكون فساد المعاملة موجبا لذلك ، وقد يكون فعل موجبا للضمان عندهم وليس موجبا عندنا.

وعلى كلّ واحد من التقديرين لا بدّ في إجراء قاعدة الإلزام أن يقول فقهائنا بعدم الضمان عليه ، وإلاّ لا معنى لإجراء القاعدة ، كما ذكرنا ذلك مفصّلا فلا نعيد.

وموارد هذا القسم كثيرة في أغلب أبواب المعاملات والضمانات بقسميه ، أي المسمّى والواقعي ، نذكر جملة منها :

أحدها : ما تقدّم منّا من أنّه لو باع حيوانا من المخالف‌ وقبضه المشتري المذكور فتلف في يده قبل انقضاء ثلاثة أيّام ، أي وقع التلف في زمان خيار المشترى ، فيكون الضمان عندنا على البائع الإمامي ، لقاعدة « التلف في زمن الخيار من مال من لا خيار له » وفي الفرض من لا خيار له هو البائع ، فيكون الضمان عليه حسب مذهبه. ولكن المخالفين قائلون بأنّ الضمان على المشتري ، لأنّه بعد أن قبض المبيع ـ كما هو المفروض ـ ينتقل الضمان من البائع إلى المشتري بواسطة القبض ، لأنّهم لا يعتبرون قاعدة « التلف في زمن الخيار من مال من لا خيار له » دليلا يعتمد عليه ويركن إليه.

وبناء على هذا للبائع الشيعي أن لا يردّ إليه الثمن بقاعدة الإلزام وإن كان بحسب مذهبه يجب عليه ردّ الثمن بناء على أحد القولين ، أو قيمة المبيع إن كان قيميّا ومثله إن كان مثليّا على القول الآخر.

ثانيها : ما تقدّم أيضا من أنّه لو أعار للمخالف ما يمكن اختفاؤه ، مع أنّه ليس من الذهب والفضّة ، وأيضا ليس بدرهم ولا دينار ، ولم يشترط أيضا عليه الضمان ، فعلى مذهب المعير الشيعي ليس في مثل هذه العارية ضمان إذا تلف المعار ، ولكنّهم في بعض مذاهبهم يقولون بالضمان ، فإذا كان المستعير من أهل ذلك المذهب ، للمعير الشيعي إلزامه بالضمان إذا تلف بهذه القاعدة وإن كان مذهبه عدم الضمان.

ثالثها : لو باع شيئا من المخالف ، وكان المخالف حنفيّا ولم يشترطا خيارا لهما أو لخصوص المشتري الحنفي ، فلو فسخ ذلك المشتري وهما بعد في المجلس ولم يتفرّقا فللبائع الشيعي إلزامه ببقاء المعاملة ، وعدم صحّة هذا الفسخ وعدم تأثيره في انحلال العقد ، وذلك من جهة أنّ مذهب ذلك المشتري أنّه لا خيار في المجلس إلاّ بالشرط ، فإذا لم يكن شرط الخيار في المجلس فلا خيار ، وإن كان هذا خلاف مذهب البائع ، لأنّ‌ الشيعة متّفقون على ثبوت خيار المجلس ، لقوله صلى الله عليه واله : « البيّعان بالخيار ما لم يفترقا » (17).

وكذلك الأمر أيضا لو كان المشتري مالكيّا ، لأنّ مذهبهم أنّه لا خيار في المجلس أصلا ، ويقولون : إنّ الحديث الشريف المتقدّم ، وإن كان روايته صحيحة ، إلاّ أنّ عمل أهل المدينة كان على خلافه ، وعملهم مقدّم على الحديث وإن كان صحيحا ، لأنّه في حكم المتواتر الموجب للقطع بخلاف الحديث ، فإنّه وإن كان صحيحا لكنّه خبر آحاد يفيد الظنّ ، فالأوّل مقدّم عليه ، انتهى ، ولا يخفى أنّ كلامهم هذا صرف ادّعاء بلا بيّنة ولا برهان.

رابعها : لو باع الشيعي للمخالف ما اشتراه قبل أن يقبضه عن المالك الأوّل ، فهذا البيع صحيح عند فقهاء الإماميّة ، غاية الأمر يقول بعضهم بالكراهة في خصوص ما إذا كان المبيع ممّا يكال أو يوزن ، وقول شاذّ بالتحريم إذا كان ذلك المبيع الذي لم يقبضه طعاما ، ولكن هذا البيع ـ أي بيع ما اشتراه قبل أن يقبضه ـ باطل عند الشافعي ، فلو باع الشيعي من أحد من الشافعيّة مثل هذا المبيع ، أي : ما اشتراه قبل أن يقبضه ، فندم يجوز له أن يلزم المخالف بما هو طبق مذهبه من فساد المعاملة ويسترجع المبيع ، وإن كان مذهب البائع صحّة هذه المعاملة.

وكذلك الأمر لو كان المشتري حنفيّا وكان المبيع الذي لم يقبضه عن المالك الأوّل وباعه قبل أن يقبضه من الأعيان المنقولة ، فإنّ الحنفيّة يقولون بفساد بيع الأعيان المنقولة قبل أن يقبضها (18) ، سواء باعها لمن اشتراها منه أو لغيره ، فالبيع الثاني باطل وفاسد ، وأمّا البيع الأوّل فيبقى على صحّته.

خامسها : لو باع حرّا وعبدا صفقة واحدة لحنفي ، فعندنا البيع بالنسبة إلى الحرّ‌ باطل ، وبالنسبة إلى العبد صحيح ولكن عند أبي حنيفة أبطل في الجميع ، فللبائع إلزام ذلك المشتري بالبطلان في الجميع إذا ندم من بيع عبده ، وإن كان صحيحا عند البائع بالنسبة إلى العبد ، وكذلك الأمر بعينه فيما إذا كان بعض الصفقة الواحدة مالا وبعضها ليس بمال ، كما إذا باع خمرا أو خلاّ أو شاة وخنزيرا.

سادسها : لو باع شاة في ضرعها لبن بشاة في ضرعها لبن ، والمشتري كان شافعيّا ، فعندنا هذا البيع جائز ، وعند الشافعيّة باطل ، فإذا ندم البائع من بيعه هذا يجوز له إلزام المشتري بالبطلان بقاعدة الإلزام.

فهذه الموارد التي ذكرناها من موارد الخلاف بين فقهائنا وفقهاء مخالفينا في كتاب البيع موارد قليلة من الموارد الكثيرة فالتي ذكرها الأصحاب ربما يزيد عددها على المئات.

السابع : ذكر الشيخ في الخلاف : أنّ الراهن إذا شرط أن يكون الرهن عند عدل صحّ هذا الشرط (19). ثمَّ ذكر بعد هذا الفرع فرعا آخر ، وهو : أنّ العدل في مقام أداء دين المرتهن لا يجوز له أن يبيع الرهن إلاّ بثمن مثله حالاّ ، فلا يجوز أن يبيعه نسيئة ولا بأقلّ من ثمن مثله.

ونسب إلى أبي حنيفة (20) أنّه قال : يجوز له أن يبيعه نسيئة وبأقلّ من ثمن المثل ، حتّى إنّه لو باع ضيعة تساوي مائة ألف دينار بدانق إلى ثلاثين سنة نسيئة جاز ذلك. وبناء على هذه الفتوى الغريبة من أبي حنيفة لو كان الراهن حنفيّا ، فيجوز إلزامه بصحّة هذا البيع بهذه القاعدة ، وإن كان غير صحيح عندنا.

وأيضا نسب الشيخ إلى أبي حنيفة أنّ الرهن مضمون بأقلّ الأمرين (21) والظاهر‌ أنّ مراده بالأمرين ، أي الدين وقيمة العين المرهونة ، والصحيح عندنا لا ضمان في الرهن إلاّ مع التعدّي والتفريط ، لأنّه من قسم الأمانة المالكيّة ، وقد بيّنّا عدم الضمان بدون التعدّي والتفريط في الأمانات مطلقا في إحدى قواعد هذا الكتاب ، فلو كان المرتهن حنفيّا وتلف عنده الرهن بدون تعدّ ولا تفريط ، يجوز إلزامه بأخذ أقلّ الأمرين منه بهذه القاعدة ، وإن كان لا يجوز عندنا ولا ضمان.

وأيضا نسب الشيخ إلى أبي حنيفة أنّ العدل لو باع الرهن لأداء الدين وقبض الثمن ، فلو تلف الثمن بعد القبض يسقط من الدين بمقدار الثمن (22).  

وبعبارة أخرى : يكون ثمن الرهن في ضمان المرتهن. وهذا وإن كان غير صحيح عندنا ، لأنّ المرتهن ما لم يقبض دينه لا وجه لسقوط دينه ، ولكن المرتهن إن كان حنفيّا يجوز إلزامه بسقوط دينه بهذه القاعدة.

وأيضا نسب الشيخ إلى أبي حنيفة أنّ منفعة الرهن لا للراهن ولا للمرتهن ، مثلا لو رهن دارا فليس أن يسكنها الرهن أو يؤجرها ، ولا يجوز أيضا للمرتهن أن يسكنها أو يؤجرها (23) ؛ وحاصل كلامه : أنّ منفعة الرهن لا يملكه الراهن ولا المرتهن ، وأمّا نماؤه المنفصل فيدخل في الرهن ، فيكون رهنا مثل أصله.

وهذه الفتوى وإن كانت غير صحيحة عندنا ، لأنّ منافع الشي‌ء تابعة لأصله ، وكلّ من كان مالكا للأصل يكون مالكا للمنفعة والنماء ، متّصلة كانت النماء أم منفصلة ، ولكن لو كان الراهن حنفيّا يجوز إلزامه بدخول النماء المنفصل في الرهن ، فلو رهن بقرة مثلا فولدت عجلا ، يكون ذلك العجل أيضا مثل أمّه رهنا.

وهناك فروع كثيرة في كتاب الرهن تكون من موارد قاعدة الإلزام تركنا ذكرها خوفا من التطويل.

الثامن : إذا كان هناك اثنان ، أحدهما راكب على دابّة ، والآخر آخذ بلجامها‌ فتنازعا في تلك الدابّة ولم تكن لأحدهما بيّنة على ما يدّعيه من ملكيّة تمام الدابة ، أو أمارة أخرى ، أو دليل آخر ولو كان أصلا عمليّا كالاستصحاب ، فتجعل بينهما نصفين ، عملا بقاعدة العدل والإنصاف ، أو لكون يد كلّ واحد منهما على تلك الدابّة ، حيث أنّها ليست يدا مستقلّة على التمام ، فتكون عند العرف والعقلاء بمنزلة اليد التامّة المستقلّة على النصف إذا كانا اثنين ، وعلى الثلث إن كانوا ثلاثة ، وهكذا بالنسبة إلى عدد الشركاء قلّة وكثرة ، فبكثرة الشركاء ينقص الكسر ، وبقلّتهم يتصاعد حتّى يصل إلى النصف فيما إذا كان الشريك ـ في كونه أيضا ذا اليد ـ واحدا ، أو من جهة التصالح القهري ، هذا ما عندنا.

وباقي الفقهاء من مخالفينا قالوا : يحكم بأنّها للراكب ، فلو كان الراكب منّا يجوز له إلزام آخذ اللجام بذلك إن كان منهم.

التاسع : قال الشيخ في الخلاف : لو أتلف شخص مال آخر وكان من القيميّات ، كما أنّه لو أتلف شاة له مثلا وكانت قيمتها ثلاث دنانير ، فأقرّ بأنّه أتلفها وصالحه على أقلّ من قيمتها الواقعيّة أو على أكثر منها ، فهذا الصلح باطل ، لأنّه يكون من الرباء المحرّم المبطل للمعاملة (24).

وهذا بناء على جريان حكم الرباء في الصلح مثل البيع ، مع كون ما في الذمّة بعد التلف قيمة التالف لا عينه بوجودها الاعتباري ، كما ربما يكون هذا ظاهر قوله صلى الله عليه واله : « وعلى اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه » (25). وهو ما اخترناه.

وأمّا كونه من الرباء فمن جهة أنّه بعد أن أتلف مال الغير وكان من القيميّات‌ تشتغل ذمّته بقيمة ذلك المال ، فالمصالحة تقع بين قيمة ذلك المال التي على عهدته وبين ما يتصالحان به ، وحيث أن المفروض أنّ القيمة أقلّ منه أو أكثر ، فيكون من الرباء ، فلا يجوز. وقال أبو حنيفة : يجوز ، فلو كان طرف المصالحة حنفيّا وكانت تلك المصالحة على ضرره ، يجوز للآخر الذي يخالفه في المذهب إلزامه بذلك ، بهذه القاعدة.

العاشر : المنافع تضمن بالغصب عندنا ، سواء أكانت المنافع مستوفاة أو غير مستوفاة ، فلو غصب دارا وسكنها أو آجرها ، فكما أنّه ضامن لأصل الدار كذلك ضامن للمنافع التي استوفاه بالسكنى فيها أو بأن آجرها ، بل الحقّ كما قلنا أنّه يضمن المنافع وإن لم يستوفاه. ولتحقيق هذه المسألة مقام آخر.

وقال أبو حنيفة : إنّ الغاصب لا يضمن المنافع أصلا وإن استوفاها ، فضلا عمّا إذا لم يستوفها ، ويقول أيضا : إذا غصب أرضا فزرعها ببذره ، كانت الغلّة له ولا أجرة عليه ، إلاّ أن تنقص الأرض بذلك ، فيكون عليه جبران ما نقص.

وكذلك قال : إن آجر مثلا دارا أو دكّانا غصبهما ، فالأجرة لذلك الغاصب إن أخذها ويملكها دون مالكهما ، هذا ما حكاه الشيخ عنه في الخلاف (26) ، فبناء على هذا لو كان المغصوب منه حنفيّا يمكن إلزامه بهذه القاعدة ولا يعطى اجرة ملكه أو أملاكه التي استوفاها الغاصب ، وإن كانت لسنين متعدّدة.

الحادي عشر : لا يصحّ ضمان المجهول عندنا ، فإن كان الذي يريد أن يضمن عن شخص لشخص آخر وكان مقدار دين المضمون عنه مجهولا ويحتمل أن يكون واحدا ويحتمل أن يكون ألفا ، فلا يصحّ مثل هذا الضمان وإن كان واجبا ، أي كان الدين محقّقا فعلا.

وبعبارة أخرى : لم يكن من قبيل ضمان ما لم يجب ، بل كان ضمان ما وجب عليه واشتغلت ذمّته به ، وكذا لا يصحّ ضمان ما لم يجب وإن كان المقدار معلوما ، مثلا يقول‌ للبزّاز : أعط هذا مقدار عشرين دينارا بالدين وأنا ضامن ، أو يقول : إن أخذ هذا الرجل منك بالدين عشرين دينارا فأنا ضامن.

وهذا يسمّى بحسب اصطلاح الفقهاء بضمان ما لم يجب ، لأنّه بعد لم يجب عليه شي‌ء ، لأنّه لا دين فعلا في البين كي يكون أداؤه عليه واجبا ، أو يكون فعلا ذمّته مشغولة به ، وعلى كلّ حال لا يصحّ ضمان ما لم يجب وإن كان مقداره معلوم.

وقال أبو حنيفة ومالك : يصحّ مثل هذا الضمان (27) ، فإذا كان الضامن مالكيّا أو حنفيّا وضمن ما لم يجب أو ما ليس بمعلوم ، فيجوز إلزامهما بهذه القاعدة وإن كان غير صحيح عندنا.

الثاني عشر : شركة الأبدان عندنا باطلة ، وهي أن يشترك العاملان أو أكثر ، سواء أكانا متّفقي الصنعة والمهنة كالحدّادين أو النجّارين ، أو مختلفي الصنعة والمهنة كما إذا كان أحدهما نجّارا والآخر خبّازا على أنّ كلّ ما يحصل من كسبهما لهما أو كسبهم لهم ، يكون مشتركا بينهما أو بينهم بالسويّة ، أو بالاختلاف حسب شرطهم.

وقال أبو حنيفة : يجوز ذلك (28) ، فإذا كان أحد الشريكين في شركة الأبدان حنفيّا ويكون صحّة هذه الشركة ـ بعد أن عملا مدّة ـ مضرّة له ونافعا للطرف الآخر الذي مذهبه بطلان هذه الشركة ، يجوز لهذا الأخير إلزامه للآخر بصحّة هذه الشركة بهذه القاعدة ، وإن كانت في مذهبه باطلة.

الثالث عشر : لا شفعة عند أكثر فقهائنا في المنقولات‌ وكلّ ما يمكن تحويله بحسب المتعارف من مكان إلى مكان آخر ، كالأثواب والفروش والحبوبات والحيوانات.

ومنها : السفن ، وقال مالك : إذا باع سهمه من السفينة المشتركة ، يجوز لشريكه الآخر إلزامه بالأخذ بالشفعة منه بهذه القاعدة ، وإن كان هو لا يقول بها (29).

الرابع عشر : لا تثبت الشفعة بالجوار عندنا ، وقال أبو حنيفة وبعض آخر من الفقهاء : للجار حقّ الأخذ بالشفعة (30) ، ولكن في طول الشريك لا في عرضه ، بمعنى أنّ الشريك لو ترك ولم يأخذ فالجار أحقّ من غيره ، فإذا كان المشتري حنفيّا ، أو ممّن يقول بحقّ الشفعة للجار من سائر الفقهاء ، فللجار إلزامه بهذه القاعدة إن كان منّا ، وإن لم يكن هذا الحقّ من مذهبنا.

وما ذكرنا في موارد هذه القاعدة قليل من كثير ممّا لم نذكرها ، لأنّ استقصاء جميع موارد الخلاف يحتاج إلى تأليف مجلّدات كبيرة ، خصوصا إذا كان مع أدلّة الطرفين ، وهو الذي يسمّى الآن بالفقه المقارن ، وقد كتب شيخ الطائفة كتابا في موارد الخلاف سمّاه « الخلاف ».

والحمد لله أوّلاً وآخراً وظاهراً وباطناً.

_______________

(*) « خزائن الأحكام » العدد 12 ، « دلائل السداد وقواعد فقه واجتهاد » ص 32 ، « مجموعه قواعد فقه » ص 174 ، « القواعد » ص 59 ، « قواعد فقه » ج 1 ، ص 136 ، « قواعد الفقه » ص 27 ، « قواعد فقهية » ص 241 ، « القواعد الفقهية » ( فاضل اللنكراني ) ج 1 ، ص 167 ، « القواعد الفقهية » ( مكارم الشيرازي ) ج 4 ، ص 159.

(1) تهذيب الأحكام » ج 8 ، ص 58 ، ح 190 ، باب أحكام الطلاق ، ح 109 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 292 ، ح 1032 ، باب ان المخالف إذا طلق امرأته ثلاثا. ، ح 6 ، « وسائل الشيعة » ج 15 ، ص 321 ، أبواب مقدمات الطلاق وشرائطه ، باب 30 ، ح 5.

(2) « الكافي » ج 7 ، ص 100 ، باب ميراث الإخوة والأخوات مع الولد ، ح 2 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 321 ، ح 1153 ، باب ميراث الإخوة والأجداد ، ح 9 ، « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 484 ، أبواب ميراث الإخوة والأجداد ، باب 4 ، ح 1.

(3) « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 322 ، ح 1155 ، باب ميراث الإخوة والأجداد ، ح 11 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 148 ، ح 554 ، باب إن الإخوة والأخوات على اختلاف. ، ح 10 ، « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 484 ، أبواب ميراث الإخوة والأجداد ، باب 4 ، ح 4.

(4) « تهذيب الأحكام » ج 8 ، ص 57 ، ح 186 ، باب أحكام الطلاق ، ح 105 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 291 ، ح 1027 ، باب إنّ المخالف إذا طلق امرأته. ، ح 1 ، « وسائل الشيعة » ج 15 ، ص 320 ، أبواب مقدّمات الطّلاق وشرائطه ، باب 30 ، ح 1.

(5) « عيون أخبار الرضا 7 » ج 1 ، ص 310 ، ح 74 ، « معاني الأخبار » ص 263 ، « وسائل الشيعة » ج 15 ، ص 322 ، أبواب مقدمات الطلاق وشرائطه ، باب 30 ، ح 11.

(6) المصدر.

(7) « تهذيب الأحكام » ج 8 ، ص 58 ، ح 189 ، باب أحكام الطلاق ، ح 108 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 292 ، ح 1030 ، باب انّ المخالف إذا طلّق امرأته. ، ح 4 ، « وسائل الشيعة » ج 15 ، ص 320 ، أبواب مقدمات الطلاق وشرائطه ، باب 30 ، ح 4.

(8) « تهذيب الأحكام » ج 8 ، ص 58 ، ح 188 ، باب أحكام الطلاق ، ح 107 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 291 ، ح 1029 ، باب انّ المخالف إذا طلّق. ، ح 3 ، « وسائل الشيعة » ج 15 ، ص 320 ، أبواب مقدمات الطلاق وشرائطه ، باب 30 ، ح 3.

(9) « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 431 ، أبواب موجبات الإرث ، باب 8.

(10) « الفقيه » ج 3 ، ص 406 ، ح 4418 ، باب ما حلّ الله من النكاح ، « تهذيب الأحكام » ج 8 ، ص 56 ، ح 183 ، باب أحكام الطلاق ، ح 102 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 289 ، ح 1022 ، باب من طلّق امرأته. ، ح 16 ، « وسائل الشيعة » ج 15 ، ص 316 ، أبواب مقدمات الطلاق وشرائطه ، باب 29 ، ح 20.

(11) « دعائم الإسلام » ج 2 ، ص 263 ، ح 1002 ، « مستدرك الوسائل » ج 15 ، ص 304 ، أبواب مقدّمات الطلاق وشرائطه ، باب 23 ، ح 1.

(12) « وسائل الشيعة » ج 15 ، ص 311 ، أبواب مقدّمات الطلاق ، باب 29.

(13) « منتهى الأصول » ج 1 ، ص 336.

(14) « عيون أخبار الرضا 7 » ج 1 ، ص 310 ، ح 74 ، « معاني الأخبار » ص 263 ، « وسائل الشيعة » ج 15 ، ص 322 ، أبواب مقدمات الطلاق وشرائطه ، باب 30 ، ح 11.

(15) « تهذيب الأحكام » ج 8 ، ص 58 ، ح 187 ، باب أحكام الطّلاق ، ح 106 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 291 ، ح 1028 ، باب إنّ المخالف إذا طلّق امرأته. ، ح 2 ، « وسائل الشيعة » ج 15 ، ص 320 ، أبواب مقدمات الطلاق وشرائطه ، باب 30 ، ح 2.

(16) « بدائع الصنائع » ج 3 ، ص 100 ، « الباب » ج 2 ، ص 226 ، « شرح العناية على الهداية » ج 3 ، ص 39 ، « شرح فتح القدير » ج 3 ، ص 39 ، « تبيين الحقائق » ج 2 ، ص 194 ، « حاشية إعانة الطالبين » ج 4 ، ص 5 ، « فتح الباري » ج 9 ، ص 390 ، « المغني لابن قدامة » ج 8 ، ص 260 ، « الشرح الكبير » ج 8 ، ص 243 ، « المجموع » ج 17 ، ص 67 ، ونقله عنه من أصحابنا الشيخ في « الخلاف » ج 4 ، ص 478.

(17) « الكافي » ج 5 ، ص 170 ، باب الشرط والخيار في البيع ، ح 6 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 20 ، ح 85 ، باب عقود البيع ، ح 2 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 72 ، ح 240 ، باب ان الافتراق بالأبدان. ، ح 2 ، « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 346 ، أبواب الخيار ، باب 1 ، ح 3.

(18) « الفقه على المذاهب الأربعة » ج 2 ، ص 234.

(19) « الخلاف » ج 3 ، ص 242 ، المسألة : 40 ، وص 244 ، المسألة : 44.

(20) « المبسوط للسرخسى » ج 21 ، ص 84 ، « الفتاوى الهنديّة » ج 5 ، ص 443 ، « بدائع الصنائع » ج 6 ، ص 149 ، « تبيين الحقائق » ج 6 ، ص 81 ، « المغني لابن قدامة » ج 4 ، ص 426 ، « الشرح الكبير » ج 4 ، ص 452.

(21) « الخلاف » ج 3 ، ص 245 ، المسألة : 46.

(22) « الخلاف » ج 3 ، ص 245 ، المسألة : 47.

(23) « الخلاف » ج 3 ، ص 251 ، المسألة : 58.

(24) « الخلاف » ج 2 ، ص 177.

(25) « السنن الكبرى » ج 6 ، ص 90 ، « كنز العمال » ج 10 ، ص 360 ، ش 29811 ، « مستدرك الوسائل » ج 14 ، ص 437 ، باب 6 ، ح 17216 وج 17 ، ص 88 ، باب 1 ، ح 20819.

(26) « الخلاف » ج 3 ، ص 402 ، المسألة : 11.

(27) « المجموع » ج 14 ، ص 19 ، « فتح العزيز » ج 10 ، ص 370 ، « بداية المجتهد » ج 2 ، ص 294 ، « البحر الزخار » ج 6 ، ص 76.

(28) « اللباب » ج 2 ، ص 75 ـ 76 ، « النتف » ج 1 ، ص 535 ، « المبسوط » ج 11 ، ص 154 و216 ، « المغني لابن قدامة » ج 5 ، ص 111 ، « الشرح الكبير » ج 5 ، ص 185 ، « المحلّى » ج 8 ، ص 123 ، « بداية المجتهد » ج 2 ، ص 252 ، « سبل السلام » ج 3 ، ص 893 ، « فتح العزيز » ج 10 ، ص 414 ، « البحر الزخار » ج 5 ، ص 94.

(29) « بداية المجتهد » ج 2 ، ص 245 ، « بدائع الصنائع » ج 5 ، ص 12 ، « شرح فتح القدير » ج 7 ، ص 405 ، « تبيين الحقائق » ج 5 ، ص 252 ، « فتح العزيز » ج 11 ، ص 364.

(30) « المبسوط للسرخسي » ج 14 ، ص 94 ، « بدائع الصنائع » ج 5 ، ص 8 ، « المجموع » ج 14 ، ص 303 ، « المغني لابن قدامة » ج 5 ، ص 461 ، « الشرح الكبير » ج 5 ، ص 466 ، « البحر الزخار » ج 5 ، ص 8 ، « نيل الأوطار » ج 6 ، ص 81.

 




قواعد تقع في طريق استفادة الأحكام الشرعية الإلهية وهذه القواعد هي أحكام عامّة فقهية تجري في أبواب مختلفة، و موضوعاتها و إن كانت أخصّ من المسائل الأصوليّة إلاّ أنّها أعمّ من المسائل الفقهيّة. فهي كالبرزخ بين الأصول و الفقه، حيث إنّها إمّا تختص بعدّة من أبواب الفقه لا جميعها، كقاعدة الطهارة الجارية في أبواب الطهارة و النّجاسة فقط، و قاعدة لاتعاد الجارية في أبواب الصلاة فحسب، و قاعدة ما يضمن و ما لا يضمن الجارية في أبواب المعاملات بالمعنى الأخصّ دون غيرها; و إمّا مختصة بموضوعات معيّنة خارجية و إن عمّت أبواب الفقه كلّها، كقاعدتي لا ضرر و لا حرج; فإنّهما و إن كانتا تجريان في جلّ أبواب الفقه أو كلّها، إلاّ أنّهما تدوران حول موضوعات خاصة، و هي الموضوعات الضرريّة و الحرجية وبرزت القواعد في الكتب الفقهية الا ان الاعلام فيما بعد جعلوها في مصنفات خاصة بها، واشتهرت عند الفرق الاسلامية ايضاً، (واما المنطلق في تأسيس القواعد الفقهية لدى الشيعة ، فهو أن الأئمة عليهم السلام وضعوا أصولا كلية وأمروا الفقهاء بالتفريع عليها " علينا إلقاء الأصول وعليكم التفريع " ويعتبر هذا الامر واضحا في الآثار الفقهية الامامية ، وقد تزايد الاهتمام بجمع القواعد الفقهية واستخراجها من التراث الفقهي وصياغتها بصورة مستقلة في القرن الثامن الهجري ، عندما صنف الشهيد الأول قدس سره كتاب القواعد والفوائد وقد سبق الشهيد الأول في هذا المضمار الفقيه يحيى بن سعيد الحلي )


آخر مرحلة يصل اليها طالب العلوم الدينية بعد سنوات من الجد والاجتهاد ولا ينالها الا ذو حظ عظيم، فلا يكتفي الطالب بالتحصيل ما لم تكن ملكة الاجتهاد عنده، وقد عرفه العلماء بتعاريف مختلفة منها: (فهو في الاصطلاح تحصيل الحجة على الأحكام الشرعية الفرعية عن ملكة واستعداد ، والمراد من تحصيل الحجة أعم من اقامتها على اثبات الاحكام أو على اسقاطها ، وتقييد الاحكام بالفرعية لإخراج تحصيل الحجة على الاحكام الأصولية الاعتقادية ، كوجوب الاعتقاد بالمبدء تعالى وصفاته والاعتقاد بالنبوة والإمامة والمعاد ، فتحصيل الدليل على تلك الأحكام كما يتمكن منه غالب العامة ولو بأقل مراتبه لا يسمى اجتهادا في الاصطلاح) (فالاجتهاد المطلق هو ما يقتدر به على استنباط الاحكام الفعلية من أمارة معتبرة أو أصل معتبر عقلا أو نقلا في المورد التي لم يظفر فيها بها) وهذه المرتبة تؤهل الفقيه للافتاء ورجوع الناس اليه في الاحكام الفقهية، فهو يعتبر متخصص بشكل دقيق فيها يتوصل الى ما لا يمكن ان يتوصل اليه غيره.


احد اهم العلوم الدينية التي ظهرت بوادر تأسيسه منذ زمن النبي والائمة (عليهم السلام)، اذ تتوقف عليه مسائل جمة، فهو قانون الانسان المؤمن في الحياة، والذي يحوي الاحكام الالهية كلها، يقول العلامة الحلي : (وأفضل العلم بعد المعرفة بالله تعالى علم الفقه ، فإنّه الناظم لأُمور المعاش والمعاد ، وبه يتم كمال نوع الإنسان ، وهو الكاسب لكيفيّة شرع الله تعالى ، وبه يحصل المعرفة بأوامر الله تعالى ونواهيه الّتي هي سبب النجاة ، وبها يستحق الثواب ، فهو أفضل من غيره) وقال المقداد السيوري: (فان علم الفقه لا يخفى بلوغه الغاية شرفا وفضلا ، ولا يجهل احتياج الكل اليه وكفى بذلك نبلا) ومر هذا المعنى حسب الفترة الزمنية فـ(الفقه كان في الصدر الأول يستعمل في فهم أحكام الدين جميعها ، سواء كانت متعلقة بالإيمان والعقائد وما يتصل بها ، أم كانت أحكام الفروج والحدود والصلاة والصيام وبعد فترة تخصص استعماله فصار يعرف بأنه علم الأحكام من الصلاة والصيام والفروض والحدود وقد استقر تعريف الفقه - اصطلاحا كما يقول الشهيد - على ( العلم بالأحكام الشرعية العملية عن أدلتها التفصيلية لتحصيل السعادة الأخروية )) وتطور علم الفقه في المدرسة الشيعية تطوراً كبيراً اذ تعج المكتبات الدينية اليوم بمئات المصادر الفقهية وبأساليب مختلفة التنوع والعرض، كل ذلك خدمة لدين الاسلام وتراث الائمة الاطهار.