المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

العقائد الاسلامية
عدد المواضيع في هذا القسم 4870 موضوعاً
التوحيد
العدل
النبوة
الامامة
المعاد
فرق و أديان
شبهات و ردود
أسئلة وأجوبة عقائدية
الحوار العقائدي

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر

الرحيل بن معاوية بن حديج الجعفي
15-8-2017
وفاء المنظمة بالتزاماتها
8-3-2017
علي نفس النبي (صلى الله عليه واله)
23-01-2015
الطاقة
17-5-2017
ابو العبـاس السفاح
27-6-2017
عموميات
2023-07-05


المليّون يذهبون الى عموم القدرة  
  
1188   11:47 صباحاً   التاريخ: 24-10-2014
المؤلف : مهدي النراقي
الكتاب أو المصدر : جامع الأفكار وناقد الأنظار
الجزء والصفحة : ص396.ج1
القسم : العقائد الاسلامية / التوحيد / صفات الله تعالى / الصفات الثبوتية / القدرة و الاختيار /


أقرأ أيضاً
التاريخ: 28-3-2017 807
التاريخ: 24-10-2014 1009
التاريخ: 24-10-2014 1189
التاريخ: 24-10-2014 2750

ذهب المليون إلى عموم قدرة الله ـ تعالى ـ ؛ أي : كون قدرته عامّة شاملة لجميع الممكنات ... وهذا العنوان وإن كان مجمعا عليه إلاّ أنّه يحتمل احتمالات لا بدّ من ذكرها والاشارة إلى أنّ أيّ الاحتمالات هو المقصود.

الأوّل : أن يكون المراد منه انّ قدرته ـ تعالى ـ شاملة لجميع الممكنات الموجودة ـ أي : جميع الموجودات مستند إلى قدرته وارادته بلا واسطة غيره تعالى ـ.

الثاني : أن يكون المراد انّ جميع الموجودات مستند إلى قدرة الله ـ تعالى ـ ، سواء كان بلا واسطة أو بواسطة.

الثالث : أن يكون المراد انّ جميع ما هو ممكن بالإمكان الذاتي مقدور له ـ تعالى ، أي : انّه تعالى يقدر على ايجاده بلا واسطة أو بواسطة ـ ، فجميع الممكنات الموجودة مستند إليه بلا واسطة أو بواسطة ، وجميع الممكنات المعدومة ـ أي : ما هو ممكن في حاقّ الواقع ومتن نفس الأمر ، سواء وجد في وقت أو لا يوجد لأجل مصلحة ـ مقدور له بواسطة أو بدونها ، ويمكن له ـ تعالى ـ ايجاده بالنظر إلى ذاته.

الرابع : أن يكون المراد انّه ـ تعالى ـ يقدر على ايجاد كلّ ممكن ذاتي بلا واسطة غيره ، مثلا يقدر على ايجاد حركة زيد بلا توسّط زيد ، فالموجودات بأسرها واقعة بقدرته ـ تعالى ـ بلا واسطة والممكنات المعدومة مقدورة له بلا واسطة أيضا.

وإذ عرفت ذلك فاعلم! انّه لا ريب في أنّ الاحتمالين الأوّلين غير مقصودين لاحد من العنوان المذكور ، لأنّه بعد اثبات التوحيد وحدوث العالم بأيّ معنى كان يثبت استناد جميع الموجودات إليه ـ تعالى ـ بلا واسطة شيء أو بتوسط بعض الأسباب والشرائط المنتهية إليه ـ تعالى ـ بالنسبة إلى بعض الوجودات ، بل يثبت احد هذين الاحتمالين من ادلّة اثبات الصانع البتة ، ولا حاجة إلى تجشّم استدلال آخر. مع أنّهم ذكروا لاثبات هذا العنوان ادلّة على حدة ، فتعيّن أن يكون المراد أحد الاحتمالين الآخرين.

فنقول : الاحتمال الأخير هو مراد الأشاعرة من العنوان المذكور ، فانّهم يفسّرونه بأنّ ما سوى الذات والصفات من الموجودات واقعة بقدرته وارادته ابتداء بلا توسّط موجد غيره، وكلّ ممكن الوجود بذاته فانّما يمكن صدوره عنه بحيث لا يجب عليه شيء ولا يمتنع عليه شيء. نعم! عادة الله جارية بإيجاد بعض دون آخر. والاحتمال الثالث هو مراد المحقّقين من المتكلّمين والحكماء من العنوان المذكور ، فانّهم قالوا : انّه ـ تعالى ـ من حيث ذاته وقدرته الكاملة قادر على ايجاد كلّ ممكن ذاتي ، لكن ارادته وعنايته متعلّقة بنظام الكائنات على الوجه الأكمل الأصلح بحال مجموع الممكنات ، والقوابل مستعدّة حسب مشيته لقبول بعض انحاء الموجودات دون بعض. فكلّما يدخل من الممكنات في الوجود فانّما هو على وفق مشيته وعنايته وملاحظته لنظام الخير، إمّا بالذات ـ كالخيرات ـ أو بالعرض ـ كالشرور والآفات ـ ، وجميعها مستندة إليه ـ تعالى ـ. ولا يدخل في الوجود شيء إلاّ وهو معلول قدرته وإن كان بوساطة اسباب راجعة إليه. وليس شيء من تلك الوسائط مضادّا له في حكمه ومنازعا له في سلطانه. وكلّما لا يدخل في الوجود من الممكنات فانّما هو أيضا لأجل عنايته وعلى وفق مشيته وملاحظته للنظام الأصلح ، ولكنّها مقدورة له ـ تعالى ـ بالنظر إلى ذاته الكاملة وقدرته الشاملة ، إمّا بلا واسطة أو بتوسّط اسباب راجعة إليه ـ تعالى ـ. فهو قادر على ايجاد ما لم يوجد ولن يوجد من الممكنات من حيث ذاته ، إلاّ أنّ عدم ايجاده لأجل العناية وملاحظة نظام الخبر ـ كما يقولون في سائر الممتنعات الواقعة في نظام الكلّ ـ.

ثمّ لمّا كان حديث العادة الّذي يثبته الأشعري باطلا عندنا ـ بل كلّ من ايجاد بعض الممكنات وعدم ايجاد بعض آخر هو لأجل المصلحة وملاحظة نظام الخير ـ ، فالمتعيّن من العنوان المذكور هو إرادة أنّ ذاته ـ تعالى ـ من حيث هو قادر على ايجاد جميع الممكنات الذاتية سواء كان بلا واسطة مطلقا أو بتوسّط بعض الاسباب لبعض الممكنات من حيث جهاتها المستندة إليه ـ تعالى ـ ، إلاّ انّ المصلحة الراجعة إلى نظام الخير اقتضت ايجاد بعض الممكنات ـ وهو ما وجد ويوجد وعدم ايجاد بعض آخر وهو ما لم يوجد ولن يوجد اصلا ـ. فكما انّ ايجاد كلّ من الممكنات الموجودة في وقت دون وقت آخر معلّل بالعلم بالمصلحة وملاحظة نظام الكلّ ، فكذلك ايجاد بعض الممكنات الذاتية دون بعض آخر معلّل بذلك وإن كان ايجاد ما لم يوجد ولن يوجد أيضا مقدورا بالنظر إلى الذات.

وأنت تعلم انّ هذا على فرض تحقّق الامكان الذاتي لبعض المهيات الّتي لا توجد قطّ ، سواء كان مشابها لبعض ما وجد من الممكنات ـ كإمكان كرات أخرى غير الكرات الموجودة ـ أو لا ـ كإمكان حقيقة أخرى سوى الحقائق المحصّلة ـ.

ولو منع تحقق الامكان الذاتي لغير ما وجد وما يوجد وعقل عدم وجود ما لم يوجد ولن يوجد بعدم امكانه وعدم قبوله للوجود تعيّن أحد الاحتمالين الأوّلين من العنوان المذكور ، لأنّه تكون الممكنات حينئذ منحصرة بالموجودات. والحاصل انّ المراد من العنوان المذكور : انّ ما هو ممكن ذاتى في حاقّ الواقع مقدور له ـ تعالى ـ ، فان وجد فانّما هو بتأثيره وايجاده ـ تعالى ـ ، وإن لم يوجد قطّ فلمصلحة وحكمة راجعة إلى نظام الخير ؛ ولا ريب في صحّة هذا العنوان وحقّيته.

ثمّ على ما فسّر ـ بكون المراد من القدرة المعنى الثاني الّذي قال به الحكماء أيضا على ما نسب إليهم ، أعني : قوّة يتمكّن بها المؤثّر من الفعل والترك مع العلم والشعور ـ فان ضمّت إليها الإرادة وجب الفعل ، وإلاّ فلا. ويمكن أن يراد منها : المعنى الاخصّ أي : القدرة الملزومة للحدوث الّتي تفرّد المليون بإثباتها حتّى يكون المراد من العنوان المذكور تعميمها بالنسبة إلى كلّ الممكنات الذاتية. ويكون معناه : انّ ذاته ـ تعالى ـ من شأنه الانفكاك عن جميع الممكنات الذاتية ، فكما هو منفكّ عن الممكنات الموجودة ـ أعني : العالم بجملته ـ كذلك يكون منفكّا عمّا سواه ممّا هو ممكن بالإمكان الذاتي إذا فرض وجوده وإن لم يوجد قطّ. وهذا إذا اريد بالقدرة بالمعنى الأخصّ ما هو الملزوم للحدوث ـ أي : صحّة انفكاك الواجب عن أحد الطرفين بالنظر إلى الداعي ، وهو طرف الوجود ـ ؛ إذ لو أريد به صحّة الانفكاك عن كلّ من طرفي الوجود والعدم بالنظر إلى الداعي لم يصحّ أن يراد بعموم القدرة عمومها بالنسبة إلى جميع الممكنات أو جميع ما له امكان الصدور عن الغير ، إذ لا ريب في أنّ الممكنات الّتي لم توجد اصلا يكون عدمها ممتنع الانفكاك عنه ـ تعالى ـ بالنظر إلى الداعي والعلم بالأصلح وان كان ممكنا بالنظر

إلى ذاته ـ تعالى ـ لتحقّق القدرة بالمعنى المشهور. نعم! لو أريد بعموم القدرة عمومها بالنسبة إلى جميع الموجودات دون جميع الممكنات يجوز أن يراد من القدرة صحّة الانفكاك من كلّ من الطرفين بالنظر إلى الداعي أيضا بشرط أن لا يشترط ايجاد الوقت ـ كما مرّ ـ ؛ هذا.

والظاهر انّ ما يستدلّ به على عموم القدرة بأحد المعنيين يمكن أن يستدلّ به على المعنى الآخر أيضا.

ثم انّ بعضهم استدلّ عليه بأنّ علّة المقدورية عامّة في جميع الممكنات ، فالقدرة عامّة في جميعها ؛ أمّا إنّ علّة المقدورية عامّة في جميعها فلأنّ علّتها الامكان ، وهو وصف مشترك بين جميع الممكنات ، فيكون جميع الممكنات مقدورا له ـ تعالى ـ.

وأورد عليه : بأنّا لا نسلّم انّ الامكان علّة المقدورية ، بل انّما هو علّة الحاجة إلى المؤثر ، والمؤثّر إمّا موجب أو قادر ؛ فاللازم احتياج جميع الممكنات إلى المؤثّر ـ سواء كان قادرا أو موجبا ـ. فلا يلزم مقدورية الجميع ، لأنّ ما يحتاج إلى المؤثّر الموجب لا يكون مقدورا.

وأجيب عنه : بأنّه لمّا كان الامكان علّة الحاجة إلى المؤثّر ، والتأثير لا امكان له في صورة الايجاب بالمعنى المذكور سابقا باتفاق المليين ، فثبت بذلك كون الامكان علّة الحاجة إلى المؤثّر القادر. والتوضيح : انّ الامكان علّة الحاجة إلى المؤثّر الواجب ـ لما سبق من أنّه لا بدّ من الانتهاء إليه ، إمّا بلا واسطة أو بواسطة ـ ، فكلّ مؤثّر ـ سواء كان موجبا أو قادرا ـ ينتهي إلى المؤثّر الواجب ، وتأثير المؤثّر الواجب ـ سواء كان بلا واسطة بينه وبين الأثر أو بواسطة ـ لا يمكن أن يكون على سبيل الايجاب بالمعنى المذكور سابقا ـ أي : بمعنى استحالة الانفكاك ـ للإجماع على حدوث العالم ؛ فلا بدّ أن يكون على سبيل الاختيار بمعنى جواز الانفكاك. والحاصل : انّ حدوث العالم ولزوم الانفكاك بينه وبين الواجب في الممكنات وقدرته بالمعنى المذكور متساوقين ، فما يكون علّة للحاجة إلى أحدهما يكون علّة للحاجة إلى الآخر. ولما كان المفروض كون الامكان علّة للحاجة إلى تأثيره ـ لانتهاء الجميع إليه ـ فيكون علّة للحاجة إلى قدرته ،فثبت بذلك كون الامكان علّة للاحتياج إلى المؤثّر الواجب القادر بالقدرة الملزومة للحدوث. وغير خفي انّه إذا وجبت سلسلة الاحتياج إلى المؤثّر الواجب فنقول : تأثيره بالواسطة أو بدونها لا يمكن أن يكون على سبيل الايجاب بمعنى وجوب أحد الطرفين بالنظر إلى ذاته ؛ لما مرّ من اثبات صحّة الصدور واللاصدور بالنظر إلى ذاته ؛ فثبت كون الامكان علّة للحاجة إلى المؤثّر القادر بالقدرة بالمعنى المشهور أيضا.

واعترض على الجواب المذكور : بأنّه انّما يتمّ في الموجودات دون غيرها ، إذ الامكان لا يستدعي إلاّ الحاجة إلى المؤثّر ولا يستدعي وجود المؤثّر ، فيجوز في غير ما وجد من الممكنات أن لا يصلح شيء للتأثير فيه ؛ أو يصلح معدوم حاله مثله ؛ أو يصلح الواجب على فرض الايجاب.

هذا لو أريد بالمؤثّر المؤثّر في الوجود. أمّا لو أريد بالمؤثّر. لأعمّ من أن يكون مؤثّرا في الوجود أو العدم ، فالممكن لا بدّ له من مؤثّر بالفعل البتة ، لكن نقول : انّه حينئذ يجوز أن تكون المعدومات الممكنة عدمها مستندا إلى الواجب على سبيل الايجاب ؛ والاجماع المنقول لا ينفيه ؛ أو إلى عدم آخر ، بناء على ما قالوا : انّ عدم العلّة علّة العدم ؛ انتهى.

وفيه : انّه إذا كان الامكان علّة الحاجة إلى المؤثّر فكلّ ممكن في حدّ ذاته وحاقّ مرتبته محتاج إلى المؤثّر ، فالممكنات المعدومة أيضا تكون محتاجة إلى المؤثّر وكلّ ما هو محتاج إلى المؤثّر يكون من شأنه في حدّ ذاته قبول التأثير من مؤثّر.

ثمّ نقول : قاطع البرهان ـ : هو المشاهدة والعيان ـ دلّ على أنّ ذات الواجب مؤثّر في الممكن بأجناسه المختلفة وانواعه المتباينة ، إمّا بلا واسطة أو بواسطة بعض الاسباب والشروط. ففي ذاته ـ تعالى ـ قوّة التأثير في الممكن من حيث هو ، فلو فرض في غير ما وجد من الممكنات ممكن وادّعى أنّ الواجب لا يصلح للتأثير فيه لا بواسطة ولا بدونها نقول : انّ عدم الصلاحية إمّا راجع إلى ذات الواجب ـ فهو باطل ، لأنّ ذاته تعالى من حيث هي صالحة للتأثير في الممكن، وإلاّ لم يؤثّر في ممكن أصلا ـ ؛ أو إلى ذات الممكن ـ فهو أيضا باطل ، لأنّ ذات الممكن من حيث هي من شأنها قبول الأثر من الواجب ، وإلاّ لم يقبل ممكن منه التأثير مطلقا ـ. فأيّ ممكن فرض يكون قبوله التأثير من الواجب ثابتا له بالنظر إلى ذاته وإلى ذات الواجب ـ تعالى شأنه ـ. فلو فرض ممكن لم يقبل الأثر منه فليس ذلك بالنظر إلى ذات الواجب أو ذات الممكن ، بل إنّما هو بالنظر إلى أمر خارج من ذاتهما ، وما هو إلاّ ملاحظة أصلحية النظام الأكمل وعدم كون ايجاد ذاته أو ايجاد بعض ما يتوقّف عليه من الشروط والاسباب صلاحا بالنظر إلى النظام الأصلح.

ثم تحلّل الواسطة في بعض الممكنات إنّما هو إذا أخذت القدرة بمعنى صحّة الصدور واللاصدور بالنظر إلى الداعي في بعض الأوقات ـ أي : صحّتها بالامكان الوقوعي وعلى فرض الصدور أو اللاصدور فعلا ـ. وانّما لا بدّ في ايجاد بعض الممكنات من تحلّل الواسطة إمّا لنقصان جوهره وذاته من قبول الوجود بلا واسطة ، أو بملاحظة النظام الأصلح. وكذا ربّما كان عدم بعض الممكنات المعدومة بواسطة عدم بعض الممكنات الأخر ، ولو كان هذا البعض موجودا لكان البعض الأوّل أيضا موجودا ، فعدمه مستند إلى عدمه ، لكونه شرطا وواسطة  له. وأمّا إذا أريد بالقدرة المعنى المشهور ـ أعني : صحّة الصدور واللاصدور بالنظر إلى ذات الفاعل ـ فلا حاجة إلى الواسطة ، بل القدرة بهذا المعنى ثابت له ـ تعالى ـ بالنسبة إلى جميع الممكنات بلا واسطة ؛ لأنّ كلّما يفرض من الممكنات إمّا مقدور له ، أو مقدور لمقدوره ، ومقدور المقدور مقدور بالنظر إلى الذات وإن توقّف تعلّق القدرة به بالفعل على واسطة.

فان قيل : كما انّه يجوز اختلاف الممكنات في العلل ـ واختلاف عللها باختلافها ، ولذا بعضها يصدر عن الواجب بلا واسطة وبعضها يصدر عنه بواسطة عقل وبعضها بواسطة نفس وبعضها بواسطة حركة أو جسم ... إلى غير ذلك ـ فيجوز أن يكون بعضها ممّا لا يصلح شيء للتأثير فيه ، أو يكون علّته المستقلّة أو شرطه ممكنا معدوما حاله مثل ذلك البعض. والحاصل : انّه يجوز أن يكون ما به الاختلاف في بعض الممكنات على حقيقتها الخاصّة مقتضية لعدم صلاحية شيء للتأثير فيه أو مقتضية لقبول التأثير من معدوم حاله مثله سواء كان هذا المعدوم مؤثّرا مستقلاّ فيه أو واسطة لإيصال الأثر من الواجب إليه ، وإن كان قبول التأثير من الواجب بالنسبة إلى ما به الاشتراك ـ أعني : الامكان ـ ثابتا له ، فيكون ما به الاشتراك بين المهيات الامكانية ـ أعني : الامكان ـ مقتضيا للاحتياج إلى مطلق المؤثّر وما به الاختلاف بينها ـ أعني : خصوص الماهية ـ مقتضيا لعدم صلاحية شيء للتأثير فيه ، أو للاحتياج إلى ممكن معدوم هو أيضا محتاج إلى معدوم آخر ، وهكذا ؛

قلنا : لمّا سلّمتم اقتضاء ما به الاشتراك ـ أعني : امكان (1) الاحتياج إلى مطلق المؤثّر واقتضاء خصوصية (2) الماهية الاحتياج إلى مؤثّر خاصّ فنقول : يلزم منه احتياج كلّ ممكن إلى مؤثّر خاصّ ، فيكون بعض الممكنات المعدومة الّذي نقل الكلام إليه.

وقيل : يجوز أن لا يصلح شيء للتأثير فيه أو كان محتاجا إلى مؤثّر معدوم محتاجا إلى مؤثّر خاصّ. فهذا المؤثّر الخاصّ إمّا أن يكون ممتنعا أو واجبا بلا واسطة أو بواسطة ممكن موجود أو بواسطة ممكن معدوم ، أو يكون ممكنا موجودا أو معدوما. والأوّل بديهي البطلان ، لأنّ احتياج الممكن إلى الممتنع غير معقول ؛ وعلى الثاني والثالث ـ أعني : كون المؤثّر واجب الوجود بلا واسطة أو بواسطة ممكن موجود ـ ثبت المطلوب ؛ والأخيران ـ أعني : كون الممكن مؤثّرا مستقلاّ ، سواء كان موجودا أو معدوما ـ أيضا باطلان ، لأنّ الممكن من حيث هو لا وجود له ، فكيف يجوز أن يستقلّ بإفاضة الوجود؟! بل إذا ثبت افتقار شيء إليه فلا بدّ أن ينتهي إلى الواجب البتة ؛ وعلى الرابع ـ أعني : كون المؤثّر واجبا بواسطة معدوم ـ هو أيضا يتوقّف على واسطة معدوم آخر ، وهكذا إن انتهت سلسلة الوسائط إلى واسطة موجودة ثبت به المطلوب وإلاّ لزم التسلسل في تلك الوسائط المعدومة ، والعقل يحكم ببطلان مثل هذا التسلسل.

على أنّه لو قطع النظر عنه نقول : انّ تلك السلسلة المعدومة بحيث لا يشذّ عنها شيء إن كان وجودها ممتنعا فيكون ما فرضناه ممكنا ممتنعا ، هذا خلف. وإن كان وجودها ممكنا فيكون مجموع هذه السلسلة محتاجة إلى مؤثّر ، ولا يتصوّر حينئذ مؤثّر سوى الواجب ، فيكون مؤثّرها واجب الوجود لذاته. وعدم تأثيره فيها حينئذ وبقائها على العدم انّما هو لملاحظة النظام الأصلح لعدم تصوّر شيء سواه ، وبذلك يثبت المطلوب.

وليس لأحد أن يقول : انّ كلّ واحد من تلك السلسلة المعدومة وإن كان ممكنا لكن مجموعها ممتنع ؛ لأنّ حكم المجموع حكم الآحاد بالضرورة ، والمنكر مكابر!.

ثمّ إذا انتهى الاحتياج إلى الواجب يكون تأثيره على سبيل القدرة والاختيار ـ لمّا ثبت من كونه تعالى قادرا مختارا ـ ، فما ذكره المعترض من جواز أن يكون بعض الممكنات المعدومة بحيث يصلح الواجب للتأثير فيه على سبيل الايجاب ساقط.

وعلى ما ذكرناه يظهر اندفاع ما قيل : انّ كون الامكان علّة للحاجة إلى المؤثّر وانتهاء جميع المؤثّرات إلى الواجب ـ تعالى ـ وكون تأثيره مساوقا للقدرة بمعنى انفكاك ذاته عن العالم لا يثبت مقدورية كلّ ممكن بمعنى امكان تعلّق القدرة به بلا واسطة ، مع

أنّ المقدورية بهذا المعنى هي الّتي وقع التنازع فيها بعد الاتفاق في مقدورية الفعل المطلق له ـ تعالى ـ. وانّما قلنا : لا يثبت المقدورية بالمعنى المذكور ، إذ للخصم أن يقول : صدور بعض الممكنات إنّما يكون عن بعض مقدوراته ـ تعالى ـ طبعا أو اختيارا أو عنه بدون إرادة مشروطا بوقوع بعض مقدوراته ـ كما قد يكون صدور بعض الأفعال الطبيعية للحيوان مشروطا ببعض أفعاله الارادية ـ ، وانفكاك الفاعل عن فعل انّما يستلزم (3) مقدوريته له إذا كان هذا الانفكاك بسبب علمه وارادته لا مطلقا ـ أي : ولو كان لأجل توقّفه على بعض الشرائط فعلا كان أو غيره ـ ، إذ القدرة بأيّ معنى فسّرت يعتبر فيها سببية المشية للصدور وعدمه. نعم! عدم صدور الفعل عنه أزلا اصلا وصدور العالم وقت حدوثه حيث لا يتصوّر إلاّ بمشية العلم والإرادة لا لأجل التوقّف على فعل آخر استلزم مطلقا القادرية ومقدورية المطلق له ؛ انتهى.

ووجه الاندفاع ما تقدّم من أنّ كون الامكان علّة للحاجة إلى المؤثّر وانتهاء جميع المؤثّرات إليه ـ سبحانه ـ يوجب كون جميع المقدورات بلا واسطة إذا أخذ القدرة بالمعنى المشهور ، لأنّ مقدور المقدور للشيء مقدور له بالنظر إلى الذات ؛ أو بواسطة أو بدونها إذا أريد من القدرة القدرة المستجمعة لجميع شرائط التأثير. فما قال المعترض : من أنّه لا يثبت مقدورية كلّ ممكن ـ بمعنى امكان تعلّق القدرة بلا واسطة ـ إن اراد انّه لا يثبت مقدورية الكلّ بالقدرة بالمعنى المشهور فهو بيّن الفساد ؛ وإن أراد أنّه لا يثبت مقدورية الكلّ بالقدرة المستجمعة لجميع شرائط التأثير ، ففيه : انّه غير ضارّ ، لأنّ المطلوب أعمّ. على أنّه لو سلّم ما نقلناه من بهمنيار ـ من أنّ الممكن لا شيء محض ، فلا يمكن أن يكون موجدا لشيء ـ يثبت مقدورية الكلّ له ـ تعالى ـ بالقدرة المستجمعة لجميع شرائط التأثير أيضا بلا واسطة ـ كما ذهب إليه الأشاعرة ـ. وعلى أيّ تقدير إذا انتهى الكلّ إليه ـ تعالى ـ ولو بتخلّل الوسائط في بعض الممكنات يكون صدوره منه ـ تعالى ـ بالقدرة والإرادة لقيام الأدلّة على ذلك.

فما ذكره من أنّ صدور بعض الممكنات عن بعض مقدوراته ـ تعالى ـ طبعا أو اختيارا ، ففيه : انّه إنّما ينافي مقدورية الكلّ له ـ تعالى ـ بلا واسطة القدرة المستجمعة لجميع شرائط التأثير ، لا بالقدرة بالمعنى المشهور ؛ فلا ضير فيه.

وما ذكره من جواز صدور بعض الممكنات عنه ـ تعالى ـ بدون إرادة ـ ... إلى آخره ـ ، ففيه : انّه مدفوع بما دلّ على أنّ كلّ فعل منه ـ تعالى ـ بالعلم والإرادة. وعلى ما ذكرناه من أنّ المدّعى انّ كلّ الممكنات مقدورة له ـ تعالى ـ سواء كان بلا واسطة أو بواسطة وانّ قدرة جميع القادرين ينتهى إليه ـ تعالى ـ يندفع أيضا ما أورد على الدليل المذكور : بأنّا لا نسلّم أنّ كلّ ما هو مقدور هو مقدور له ـ تعالى ـ ، لم لا يجوز أن تكون لبعض المقدورات خصوصية بالنسبة إلى بعض القادرين؟! ، فانّ المعتزلة ـ : القائلين بأنّ افعال العباد مقدورة لهم ـ يخصّصون خلق الاجسام بقدرة الباري ـ تعالى ـ.

ووجه الاندفاع : انّه مع تسليم تحقّق الخصوصية لبعض المقدورات بالنسبة إلى بعض القادرين نقول : لا ريب في انتهاء قدرة بعض القادرين إليه ـ تعالى ـ ، لأنّه لمّا كان مقدور المقدور للشيء مقدورا له ، وجب انتهاء جميع المقدورات إلى الواجب بالذات ؛ وبه يثبت المطلوب من شمول تعلّق قدرته بجميع المقدورات.

ثمّ لا يخفى انّه إذا كان مقدور المقدور للشيء مقدورا له ـ كما هو الحقّ الصريح ـ فيثبت للواجب عموم القدرة بالنسبة إلى كلّ الممكنات بلا واسطة نظرا إلى ذاته ـ كما اشير إليه ـ. وتخلل الوسائط إنّما هو لأجل قصور ونقصان في المعلول أو لمصلحة راجعة إلى النظام الأصلح لا لعدم القدرة بالنظر إلى الذات بدونها ، فعموم القدرة بمعنى امكان الصدور بالنظر إلى الذات ثابت له ـ تعالى ـ بلا واسطة. فما ذكرناه من أنّ المدّعى اثبات عموم القدرة ـ سواء كان بلا واسطة أو بالواسطة ـ انّما هو إذا أريد بالقدرة امكان الفعل والترك امكانا وقوعيا ـ أي : الامكان بالنظر إلى داعي الصدور واللاصدور ـ ؛ هذا.

على أنّ ما نسب إلى المعتزلة ، ففيه : انّ المعتزلة لم ينفوا امكان تعلّق قدرة الواجب بأفعال العباد بالنظر إلى مجرّد ذاته ، بل إنّما ينفون تعلّق الإرادة بإيجاد الأفعال ـ كما يعلم من التأمّل في أدلّتهم ـ.

والحاصل : انّه لا ريب في تحقّق الفرق بين التعلّق بالفعل وبين امكان التعلّق ، والمعتزلة إنّما نفوا التعلّق بالفعل لا امكان التعلّق ، والمطلوب اثبات امكان التعلّق لا التعلق بالفعل.

فان قيل : انّ العلاوة انّما يرد إذا كان مراد المورد انّ المعتزلة خصّوا خلق الأجسام بقدرة الباري ـ تعالى ـ ، بمعنى انّ قدرته مقصورة عليه ولا يتناول أفعال العباد ، وليس كذلك ؛ بل مراده انّ المعتزلة نفوا قدرة العباد على خلق الأجسام وقالوا : انّه مختصّ بالواجب ـ تعالى ـ وليس العباد قادرين عليه ، وإذا جاز ذلك ـ أي : جاز أن تكون لبعض المقدورات ، أعني : الاجسام ، خصوصية مع قدرة الباري تعالى دون قدرة العباد ـ فلم لا يجوز العكس بأن تكون لبعض المقدورات خصوصية مع قدرة العباد دون قدرته ـ تعالى ـ؟! ، فيكون مقدورا للعباد لا له ـ تعالى ـ ، والظاهر انّه لا يتوجّه عليه حينئذ ما ذكر في العلاوة ؛

قلنا : هذا خلاف ظاهر كلام المورد ، إذ على هذا يكون قولنا : « وإذا جاز ذلك فلم لا يجوز العكس ـ ... إلى آخره ـ » مطلوبا في كلام المورد ؛ بل هو خلاف ما يقتضيه المقام ، لأنّ مقصود المورد أن يمنع ما اتّفق عليه المليون من شمول قدرة الواجب ـ تعالى ـ لجميع الممكنات بلا واسطة أو بواسطة في بعضها ، وظاهر انّ منع ذلك والقول بجواز خصوصية بعض المقدورات لقدرة العباد ـ نظرا إلى أنّ بعض المقدورات له خصوصية بقدرة الباري تعالى دون العباد ـ ممّا لا وقع له اصلا ، لان المدّعي لعموم القدرة يقول : لجميع المقدورات خصوصية بالنسبة إلى قدرة الباري وليست لغيره قدرة في نفسه ، فكيف يصير ذلك سند المنع؟!.

والحاصل : انّ قولهم : خلق الجسم مختصّ بقدرة الله دون العبد لا يضرّ قولنا : كلّما هو مقدور فهو مقدور له ـ تعالى ـ ؛ وانّما يضرّ لو قلنا : كلّ مقدور فهو مقدور كلّ قادر ، ولم نفعل.

على أنّ المتعارف الشائع في الاستعمال ـ على ما ذكره المحقّق التفتازاني ـ قصر مدخول «الباء» على ما قبله ؛ يقال : خصّصت الفلان بالذكر ، أي : ذكرته دون غيره.

فقول المورد : يخصّصون خلق الاجسام بقدرة الباري ، معناه : انّ قدرته ـ تعالى ـ مخصوصة بخلق الاجسام ولا يتعلّق بخلق افعال العباد.

وبما ذكرناه يظهر أنّه لا يمكن أن يستدلّ صريحا أيضا بخصوصية بعض المقدورات بالنسبة إلى قدرة الباري ـ تعالى ـ على جواز خصوصية بعض المقدورات بالنسبة إلى قدرة غيره ، لأنّه لو سلّمت تلك الخصوصية فانّما هي الخصوصية الشرطية والوسطية دون الخصوصية الاستقلالية ، لانتهاء كلّ قدرة إلى قدرته ـ تعالى ـ. وإذا انتهى الكلّ إليه ـ تعالى ـ فلا يخلوا ممكن من كونه مقدورا له أو مقدورا لمقدوره ، ومقدور المقدور مقدور له ـ تعالى ـ بالنظر إلى ذاته وإن اقتضى نقصان جوهره أو صلاح نظام الخير لتخلّل الواسطة ، فيثبت عموم القدرة بالمعنى المشهور بلا واسطة ؛ هذا.

واعترض بعض الأفاضل على الدليل المذكور أيضا : بأنّه لا خصوصية له لعموم قدرة الواجب ـ تعالى ـ ، بل لو تمّ لدلّ على عموم قدرة كلّ واحد ، إذ الامكان الذاتي يكون نسبته إلى كلّ الفاعلين على السواء ، فلو كان كافيا كان كافيا بالنسبة إلى كلّ واحد وليس في الدليل ما يفيد خصوصية العموم بالواجب.

والتحقيق انّ المقدورية الّتي معنى مضائف للقادرية أمر بين الفاعل والمفعول ، وكما أنّه لا بدّ لحصولها من عدم اباء المعلول عن الوجود ورفع المانع من قبله عن تعلّق القدرة كذلك لا بدّ له من طرف الفاعل من شيئين : أحدهما : قوّة يتمكّن الفاعل بها من التأثير ، وإلاّ لكان كلّ ممكن يمكن صدوره عن كلّ أحد ، وهذا مشترك بين الموجب والمختار ؛ والثاني : عدم كون هذا الصدور لازما ، بل كون لزومه سبب الإرادة. والامكان وإن كان مصحّحا للمعنى الأوّل ـ أعني : عدم اباء المعلول عن الموجود ـ لكنّه نسبته متساوية إلى كلّ الفاعلين ؛ فلا يكفي مجرّد هذا المصحّح لصدور كلّ ممكن عن كلّ فاعل. ولكون هذا الصدور على سبيل القدرة بل لو حصل الأمران المذكوران أيضا ـ أعني : القوة المذكورة وعدم كون الصدور لازما لفاعل ـ حصلت القادرية والمقدورية ؛ فان حصلا له بالنسبة إلى جميع الممكنات حصل له عموم القدرة ، وإن حصلا له بالنسبة إلى بعضها حصلت القدرة بالنسبة إليه ، فانّه قد يحصل الأمران المذكوران بالنسبة إلى بعض الممكنات دون البعض ـ كما نرى من أنفسنا بالنسبة إلى بعض الأفعال دون بعضها مع تساوي الكلّ في المصحّح الّذي هو الامكان ـ ، فلا يستلزم الامكان في المعلول حصول الأمرين المذكورين في كلّ فاعل أو في الواجب لتحصيل القادرية والمقدورية. بل لو لم يحصل الأمر الثاني ـ أعني : عدم كون الصدور لازما بالنظر إلى ذات الفاعل ـ لم تحصل القادرية والمقدورية وإن حصل للفاعل الأمر الأوّل ـ أعني : القوّة الّتي يتمكّن بها من التأثير ـ لما ذكرنا من أنّها مشتركة بين الموجب والمختار. فربّما كانت قوّة التأثير ثابتة للواجب بالنسبة إلى كلّ الممكنات ولكن كان التأثير لازما لذاته ـ تعالى ـ بالنظر إلى بعضها ، فلا تثبت قدرته ـ تعالى ـ بالنسبة إليه ؛ انتهى ما ذكره بتوضيحه.

ولا يخفى ضعفه وسقوطه! ، لانّه إذا قلنا بأنّ الممكن لا يجوز أن يوجد ممكنا آخر لا من جهته المستندة إليه ولا من جهته المستندة إلى الواجب ـ على ما تقرّر عليه آراء الفلاسفة كما نقلناه عن بهمنيار ـ فلا يكون لغيره ـ تعالى ـ فعلية وتأثير حتّى يكون الامكان نسبته إليه وإلى الواجب على السواء.

ويعترض على الدليل حينئذ بأنّه لو تمّ لدلّ على عموم قدرة كلّ أحد ، لأنّه لا يكون أحد غيره ـ تعالى ـ حينئذ فاعلا ، بل الفاعلية منحصرة به ـ تعالى ـ. وإذا كان الفاعلية والتأثير بالنسبة إلى الكلّ منحصرة به ـ تعالى ـ يثبت شمول قدرته ـ تعالى ـ على الكلّ ، لما تقرّر وثبت من أنّ فعله وتأثيره انّما هو على سبيل القدرة والاختيار دون الايجاب.

وإن قلنا : يجوز أن يكون الممكن واسطة في الايجاد بجهته المستندة إلى الواجب ـ تعالى ـ ، فيكون المطلوب حينئذ اثبات عموم قدرته ـ تعالى ـ ولو كان بالواسطة بالنسبة إلى بعض الممكنات ؛

فنقول : لا ريب في انتهاء قدرة جميع الفاعلين إليه ـ تعالى ـ وليست لغيره قوّة استقلالية على ايجاد شيء حتى يثبت له عموم القدرة بالنسبة إليه ، بل كلّ فاعل سواه يكون واسطة في الافاضة وتنتهي قدرته إليه ـ تعالى ـ ، فكلّ ما له قدرة وقوّة التأثير عموما أو خصوصا تنتهي قدرته إليه ، وإذا انتهت إليه يثبت له عموم القدرة بلا واسطة في القدرة بالمعنى المشهور ، وبلا واسطة أو بواسطة في القدرة المستجمعة. لما تبيّن من أنّ تأثيره إنّما هو على سبيل القدرة والاختيار ؛ هذا.

وقيل : المشهور في الاستدلال على عموم القدرة انّ المقتضى للقدرة هو الذات لوجوب استناد صفاته إلى ذاته ، والمصحّح للمقدورية هو الامكان ـ فانّ الوجوب والامتناع يحيلان المقدوريةـ، ونسبة الذات إلى جميع الممكنات على السواء ، فاذا ثبت قدرته على السواء على بعضها ثبت على كلّها.

وأنت تعلم انّه لا فرق بين هذا الاستدلال المشهور وبين الاستدلال المذكور فى ورود ما تقدّم ؛ والجواب مشترك.

ولقائل أن يمنع وجوب استناد جميع صفاته إلى ذاته ـ تعالى ـ إن اريد بالاستناد عدم التوسّط مطلقا ـ لانتقاضه بمثل الإرادة الّتي تتعلّق ببعض الممكنات دون بعض ـ ، فلا بدّ حينئذ من توسّط صفة أخرى شأنها التخصيص والترجيح ، كما تعلم بالأصلح.

هذا على قواعد المعتزلة ؛ وأمّا على قواعد الأشاعرة فينتقض بمثل أقدار العبد قدرة مؤثّرة أو كاسبة ، فانّه لاختصاصه ببعض دون بعض لا بدّ من توسّط الإرادة.

وإن اريد بالاستناد الانتهاء إلى الذات بدون توسيط مباين فلا يكون الدليل حينئذ مفيدا ـ لاحتمال وساطة صفة شأنها الترجيح والتخصيص ، كما يعلم بالأصلح والإرادة ـ ؛ وحينئذ كما يتعلّق العلم بالأصلح والإرادة ببعض دون بعض تتعلّق القدرة أيضا ببعض دون بعض ، فلا يثبت عموم القدرة.

نعم! يمكن أن يخصّص الصفات بالقدرة ويدّعى عدم تقديم مخصّص عليها.

ولقائل أيضا أن يمنع استلزام احالة الوجوب وامتناع المقدورية لكون الامكان مصحّحا لها ، لجواز أن يكون المصحّح أمرا آخر ؛ أو المراد بالصحّة هنا الامكان الوقوعي ورفع الامتناع بكلّه ، فهذا مثل أن يقال : المصحّح للتلوّن هو الامكان ، إذ الوجوب والامتناع يحيلانه مع أنّ الشفيف مثلا لا يقبله.

ثم أنت خبير بأنّه إن كان المراد من أمثال هذا الاستدلال اثبات عموم القدرة بمعنى الامكان الوقوعي والصدور واللاصدور الفعليين ـ أي : صحّتها بالنظر إلى الداعي في بعض الاوقات بالنسبة إلى جميع الممكنات بلا واسطة ـ فإتمامها مشكل ، إذ لا يلزم من كون الامكان علّة للمقدورية أو الاحتياج إلى المؤثّر كون جميع الممكنات الذاتية مقدورا للواجب بلا واسطة ، إذ اللازم من العلّة كون الجميع مقدورا أو محتاجا إلى المؤثّر ، فعلى الأوّل لا يلزم إلاّ اشتراك الجميع في الاستناد إلى فاعل قادر ؛ وليس بلازم أن يكون ذلك الفاعل هو الواجب. فيجوز أن يكون الفاعل لبعض الممكنات الذاتية ـ على فرض وجودها ـ بعضا آخر من الممكنات على سبيل القدرة ؛ وعلى الثاني يجوز أن يكون الفاعل لبعضها بعضا آخر على سبيل القدرة والايجاب.

وأمّا إذا كان المراد اثبات عموم قدرته بالمعنى المذكور بالنسبة إلى جميع الممكنات سواء كانت بلا واسطة أو بواسطة بعض الأسباب والشروط فلا يرد شيء من الايرادات المذكورة ، لأنّه لا ريب في أنّ الامكان إمّا علّة المقدورية أو علّة الحاجة إلى المؤثّر ، فكلّ ممكن ذاتي له حاجة إلى مؤثّر يمكن أن يصدر بتلك الحاجة منه ـ إمّا على سبيل القدرة أو على سبيل الايجاب ـ. فمؤثّره إن كان واجبا مختارا ثبت المطلوب ، وإن كان ممكنا آخر لا بدّ له من الانتهاء إلى الواجب. وإذا انتهى سلسلة الاحتياج إليه يثبت كون المؤثّر في جميع ما هو ممكن ذاتي واجب الوجود لذاته على سبيل القدرة ـ بمعنى صحّة الصدور واللاصدور بالنظر إلى الداعي في بعض الاوقات ، أي : القدرة الملزومة للحدوث ـ. لأنّ الممكنات الذاتية إمّا موجودة أو معدومة ، واستناد وجود الأولى إلى الواجب بعد تعميم المدّعى ظاهر.

ولمّا ثبت حدوث العالم يثبت الانفكاك بينها وبين الواجب أيضا. واستناد اعدام الثابتة إليه ـ تعالى ـ أيضا ظاهر ، لأنّ عدم ما هو ممكن في نفسه إمّا مستند إلى عدم إرادة الواجب لمصلحة راجعة إلى نظام الكلّ أو إلى عدم الواسطة والشروط المنتهى بالأخرة إلى عدم إرادة الواجب ـ كما مرّ مفصّلا ـ. وعلى التقديرين يثبت استناد اعدام الممكنات المعدومة إليه ـ تعالى ـ ، فبالتعميم المذكور يثبت استناد وجودات الموجودات إليه مع تحقّق الانفكاك بينها وبين الواجب واستناد أعدام الممكنات المعدومة إليه ـ تعالى ـ أيضا. وبه تثبت القدرة الملزومة للحدوث.

ثمّ التعميم المذكور لا ضير فيه ، لأنّه لا مانع في استناد بعض الممكنات إليه ـ تعالى ـ بواسطة بعض الاسباب والشروط من حيث جهاتها المستندة إليه ـ تعالى ـ ، امّا بأن يكون واسطة في الافاضة من الله ـ تعالى ـ ، حتّى يكون أصل الافاضة في الكلّ منه ـ تعالى ـ والوسائط إنّما هي شروط ومعدّات لتحقّق الافاضة منه ـ تعالى ـ ، أو يكون بعضها مفيضا أيضا بما اودع الله فيه من التمكّن والاقتدار بقدرته ؛ وهذا أيضا منه ـ تعالى ـ بالحقيقة.

قال بعض الأعلام : الظاهر انّ مدّعى القوم شمول قدرته لجميع المقدورات مطلقا ـ : سواء كانت بواسطة أو بلا واسطة ـ ، فانّ من قال بالوسائط لم يقل بأنّها مستقلّة فى الايجاد ، بل الوسائط انّما هي ادوات وآلات واسباب ووسائل إلى بعض الأفعال. بل أفعال الله ـ تعالى ـ كلّها كذلك ، فانّ بعضها سبب لبعض ، فمن أراد أن يفعل فعلا له اسباب وأدوات فلا بدّ أن يحصل تلك الاسباب أوّلا حتّى يفعل ذلك الفعل بتلك الاسباب ، فليس لأحد حينئذ أن يقول : انّ ذلك الفعل ليس مقدورا لذلك الفاعل لتوقّفه على تلك الاسباب. نعم! لو لم تكن تلك الاسباب مقدورة له يصحّ ذلك ؛ لكن الله ـ تعالى ـ ليس كذلك ، بل الكلّ بفعله ـ تعالى ـ. فاذا فعل الله ـ تعالى ـ فعلا بأسباب مخلوقة له ـ تعالى ـ لم يقدح ذلك في كون ذلك الفعل مقدورا له ـ تعالى ـ. اذ الظاهر انّ معنى كون حركات العباد مقدورة له ـ تعالى ـ ليس انّه يمكن صدور تلك الحركات من الله ـ تعالى ـ بلا واسطة ، كيف والحركة لا بدّ لها من محرّك قريب مباشر للتحريك ومسافة تصحّ فيها تلك الحركة واعضاء وجوارح ، فكيف يمكن صدور تلك الحركة عمّن هو منزّه عن امثال ذلك؟!. فالحقّ انّ صدور تلك الحركة مقدورة له ـ تعالى ـ بأن يخلق اسبابا وادواتا تحصل بسببها تلك الحركة. فالقول ببعض الوسائط من ضروريات تنزيه الله ـ تعالى ـ وتقديسه.

والحكماء القائلون بالوسائط في الايجاد ـ كالجواهر المجرّدة والعقول الفعّالة والنفوس المدبّرة ـ قد جعلوا تلك الوسائط بالنسبة إلى كلّيات العالم كالأسباب الجزئية بالنسبة إلى تلك الأمور الجزئية مثلا ، فليس في العالم موجود ولا في رتبة الامكان ممكن إلاّ وهو مقدور لله ـ تعالى ـ عندهم ؛ فالظاهر انّه لم يذهب إلى عدم الاحتياج إلى الوسائط واثبات القدرة المستجمعة لجميع شرائط التأثير بالنسبة إلى جميع الموجودات سوى الاشاعرة الّذين لا يقولون بالربط العقلي والنسبة الايجابي اصلا ، لا له ـ تعالى ـ ولا لغيره.

وبذلك يندفع ما ذكره بعض الأفاضل حيث قال : من جوّز أن تكون لبعض المقدورات خصوصية بالنسبة إلى بعض القادرين له أن يمنع المقدّمة القائلة بأنّ مقدور المقدور للشيء مقدور له بلا واسطة. وإن أريد من هذه المقدّمة انّ مقدور المقدور للشيء مقدور له ـ أعمّ من أن يكون بواسطة أو بدونها ـ ، فممنوع ؛ لكن لا يثبت حينئذ شمول قدرته لجميع المقدورات بواسطة أو لا ، لكن الظاهر انّ المراد اثبات شمولها لجميعها بلا واسطة ؛ انتهى.

ثمّ على ما ذكر انّما يكفي الشمول ـ سواء كان بواسطة أو بدونها ـ في القدرة المستجمعة لجميع شرائط التأثير.

وأمّا القدرة بالمعنى ـ المشهور ـ أعني : امكان الصدور واللاصدور بالنظر إلى الذات ـ ، فالحقّ ثبوت عمومها له ـ تعالى ـ بلا واسطة ـ كما أشرنا إليه مرارا ـ لما ثبت بالبراهين من أنّ كلّما يصدر عن الواجب فانّما يصدر عنه بالقدرة بهذا المعنى دون الايجاب المقابل له ، وإذا انتهى سلسلة الموجودات إليه ـ تعالى ـ فلا يخلوا موجود من كونه صادرا عنه أو صادرا عمّا صدر عنه ، والصادر عن الصادر عن الشيء ممكن الصدور عنه ، فكلّ موجود إمّا مقدوره أو مقدور مقدوره ، ومقدور المقدور للشيء مقدور لهذا الشيء بالنظر إلى ذاته. وتخلّل الوسائط إنّما هو للمصالح الراجعة إلى نظام الخير أو لقصور بعض الممكنات عن استفاضة الوجود بدون الواسطة.

ثمّ ما يدلّ على ثبوت عموم قدرته بهذا المعنى بالنسبة إلى الممكنات الموجودة ـ أي : كون الجميع ممكن الصدور والعدم بالنظر إلى ذاته في جميع الاوقات ، ووجوب وجوده في وقت حدوثه انّما هو للعلم بالأصلح ـ يدلّ بعينه على ثبوت عموم قدرته بالنسبة إلى الممكنات المعدومة ـ أي : كون جميعها ممكن الصدور واللاصدور بالنسبة إلى ذاته تعالى ـ ، ووجوب عدم صدورها انّما هو للعلم بالأصلح. وان استند عدم بعض إلى عدم بعض آخر فانّما هو لقصوره أو للمصلحة الراجعة إلى نظام الكلّ.

ويمكن أن يكون عدمه مستندا إليه ـ تعالى ـ نظرا إلى ذاته ، لأنّ جميع اعدام الموجودات لا يخلوا من أن يكون مستندا إليه ـ تعالى ـ أو مستندا إلى عدم ينتهي بالأخرة إليه ـ تعالى ـ ، والمستند إلى المستند إلى الشيء مستند إلى هذا الشيء ، فيمكن أن يكون عدم كلّ معدوم مستندا إليه ـ تعالى ـ بالنظر إلى ذاته. وإذا استند إليه ـ تعالى ـ يكون الاستناد على سبيل القدرة والاختيار بالمعنى المشهور ، لما تقرّر من البراهين من أنّ تأثيره انّما هو بالقدرة بهذا المعنى.

وقد تلخّص ممّا تقرّر انّ الحقّ في هذه المسألة انّ القدرة بمعنى صحّة الصدور واللاصدور بالنظر إلى الداعي في بعض الاوقات ـ أي : القدرة الملزومة للحدوث ـ ، فعمومها ثابت بشرط أن يكون المراد اثبات عمومها بالنسبة إلى جميع الممكنات سواء كان بواسطة أو بدونها. فأصل القدرة بهذا المعنى انّما يثبت بأمرين ثابتين : أحدهما : استناد بعض الممكنات إليه ـ تعالى ـ ، وثانيهما : حدوث العالم. وعمومها يثبت بمقدّمة بديهية عقلية هي انّ سلسلة الافتقار ووجود كلّ موجود ينتهي إليه ـ تعالى ـ.

وأمّا القدرة بالمعنى المشهور ـ أي : صحّة الفعل والترك بالنظر إلى الذات ـ فعمومها ثابت بلا واسطة ، فأصل القدرة بهذا المعنى انّما يثبت بما تقدّم من الأدلّة الدالّة على ثبوت القدرة بهذا المعنى للواجب ـ تعالى ـ. وعمومها يثبت بمقدّمة ظاهرة هي انّ مقدور المقدور للشيء مقدور لهذا الشيء.

فان قلت : على ما ذكرت من تجويز تخلّل الوسائط يلزم صدور بعض الممكنات من بعض آخر البتّة إمّا على سبيل الاختيار أو على سبيل الايجاب ، ويلزم منه عدم امكان صدور بعض الممكنات عنه ـ تعالى ـ فضلا عن صدوره عنه بالقدرة والاختيار ؛

قلت : قد أومأنا إلى انّ تخلّل الواسطة بأيّ معنى كان لا يدفع كون استناد جميع الممكنات إليه ـ تعالى ـ ، فانّ لزوم تخلّل الوسائط في بعض الممكنات لأجل عدم قبوله لإفاضة الوجود بلا واسطة لقصوره ونقصه ، فلا بدّ في افاضة الوجود عليه من الوسائط. فان كان أصل الافاضة على الجميع منه ـ تعالى ، كما هو المقرّر عند الحكماء ـ فلا يكون وجود ممكن مستندا إلى ممكن آخر ؛ وإن كانت الافاضة على بعض من بعض آخر بجهته المستندة إليه ـ تعالى ـ وبما أودع الله فيه من اقداره وتمكينه لهذه الافاضة فيكون أيضا بفعله ـ تعالى ـ ، ويكون تأثيره وافاضته في هذا البعض بهذا الطريق ؛ فلا يكون وجود هذا البعض أيضا مستندا إلى ممكن ، بل يكون مستندا إليه ـ تعالى ـ بالحقيقة.

ثمّ لمّا قام البرهان على لزوم كون تأثيره وفعله بطريق القدرة والاختيار دون الايجاب ، فجميع ما صدر عنه ـ بواسطة أو بدونها ـ يكون بطريق الاختيار ؛ وكان عدم صدوره ممكنا له بالنظر إلى ذاته وإن وجب صدوره بالنظر إلى ارادته وعلمه بالأصلح.

فان قيل : لعلّ من الممكنات ما لا يمكن صدوره بطريق الاختيار والقدرة ، بل لزم صدوره بطريق الايجاب ؛

قلنا : لمّا ثبت انتهاء سلسلة الاحتياج ووجود كلّ موجود إليه ـ تعالى ـ وثبت أيضا انّ كلّما يصدر عنه ـ تعالى ـ فانّما يصدر عنه بطريق القدرة فثبت انّ كلّما صدر عنه بواسطة أو بدونها فانّما يصدر عنه بالقدرة والاختيار ، وكان عدم صدوره ممكنا عنه بالنظر إلى ذاته ؛ وجميع ما لم يصدر عنه فلم يصدر عنه أيضا بالقدرة والاختيار وإن كان صدوره ممكنا بالنظر إلى ذاته. ووجوب الصدور في الأوّل ووجوب عدمه في الثاني انّما هو لأجل المصالح الراجعة إلى نظام الخير.

فان قيل : الافعال الصادرة عن الطبائع بالإيجاب ـ كالإحراق للنار ـ كيف يمكن أن يصدر عنه ـ تعالى ـ بالقدرة والاختيار؟! ؛

قلت : لمّا كان أصل الطبائع صادرا عنه ـ تعالى ـ فما صدر عنه ممكن الصدور عنه ـ تعالى ـ ، لأنّ الصادر عن الصادر عن الشيء ممكن الصدور عن ذلك الشيء. وإذا كان ممكن الصدور عنه فيكون مقدورا له ـ تعالى ـ بالنظر إلى ذاته وان وجب صدوره الفعلي الوقوعي بطريق الايجاب عن الطبائع بالنظر إلى الأمور الخارجة من المصالح الراجعة إلى أحسن النظام.

فان قيل : يجوز أن تكون مهيات بعض الممكنات مانعة من تعلّق القدرة بها وان لم يمتنع ذلك بالنظر إلى ذات الواجب ، فانّ اثبات عموم قدرته بالنسبة إلى جميع الممكنات الموجودة والمعدومة يتوقّف على استواء نسبة ذاته ـ تعالى ـ إلى الجميع. وهذا على ما ذهب إليه الأشاعرةـ : من أنّ المعدوم ليس بشيء وانّما هو نفى محض لا امتياز فيه اصلا ولا تخصّص فيه قطعا ، ومن أنّ المعدوم لا مادّة له ولا صورة ـ صحيح ، لانّه لا يتصوّر اختلاف في نسبة الذات إلى المعدومات الّتي لا تمايز فيه اصلا بوجه من الوجوه. وأمّا على ما ذهب إليه المعتزلة من أنّ المعدومات متميّزة أو على ما ذهب إليه الحكماء من أنّ للمعدوم مادّة فلا يمتنع اختصاص البعض بمقدوريته ـ تعالى ـ دون بعض. فعلى قاعدة الاعتزال جاز أن تكون خصوصية بعض المعدومات الثابتة المتميّزة مانعة من تعلّق القدرة به ، وعلى قانون الحكمة جاز أن يستعدّ المادّة لحدوث ممكن دون آخر ؛ وعلى التقديرين لا تكون نسبة الذات إلى جميع الممكنات على السواء.

ثمّ لا ريب في أنّ مذهب الأشاعرة ظاهر الفساد ، لانّه لو صحّ لزم أن لا يتصوّر اختلاف بنسبة الإرادة وتعلّقها ـ أيضا ـ إلى الممكنات ، فلا يتصوّر اختلاف نسبة الايجاد بأن يوجد بعض الممكنات دون بعض ، بل لا بدّ أن يوجد الجميع أو لا يوجد شيء أصلا. بل لا يتصوّر اختلاف النسبة إلى الاوقات أيضا ، فلا بدّ أن يوجد ما يوجد في وقت واحد ؛ بل إذا كان المعدوم نفيا محضا لم يثبت له الامكان حتّى يثبت له المقدورية. وإن يثبت له الامكان يثبت له سائر لوازم الماهية ، فيثبت التمييز ويتحقّق اختلاف النسبة. وإذا كان هذا المذهب ظاهر الفساد فلا يمتنع اختصاص البعض بمقدوريته ـ تعالى ـ دون بعض! ؛

قلنا : جواب هذا الايراد وإن ظهر من الكلمات السابقة ولكن نعيده توضيحا ونقول : لا ريب في تمايز المعدومات نظرا إلى ثبوت الوجود الذهني ، فهي متمايزة في التعقّل. لكن التمايز لا يصير منشئا لعدم تعلّق قدرة الواجب ببعضها ، لأنّه لا ريب في أنّ الامكان علّة للاحتياج إلى المؤثّر ، فجميع الممكنات محتاجة إلى المؤثّر. فما يفرض من أنّه يمكن أن لا يتعلّق قدرة الواجب به نقول : لا ريب في احتياجه إلى مؤثّر ، فمؤثّره إن لم يكن واجب الوجود وافترض مميزه (4) أن يكون مؤثّره غيره ـ تعالى ـ فان كان هذا المؤثّر موجودا ينتهى وجوده إليه ـ تعالى ـ البتة ؛ لدلالة ادلّة اثبات الصانع على انتهاء جميع الموجودات وقوّة جميع الفواعل وتأثير جميع المؤثّرات إليه ـ تعالى ـ ، فيكون هذا البعض معلولا له بالواسطة. وإذا كان معلولا له يكون معلولا له بالقدرة والاختيار ولو كان عدم ايجاده أيضا ممكنا له ، وانّما وجب وجوده بالداعي ـ لما مرّ مرارا من أنّ تأثيره تعالى في جميع معلولاته إنّما هو بطريق الاختيار ـ.

ثمّ لمّا كان هذا البعض موجودا منه ـ تعالى ـ بالواسطة فينتهي سلسلة الوسائط إلى ما هو موجود منه ـ تعالى ـ بلا واسطة. وما يوجد ممّا وجد عن الشيء يمكن أن يوجد عن هذا الشيء بالنظر إلى ذاته وان لزم تخلّل الوسائط بالنظر إلى الأمور الخارجة ، فالبعض المذكور ممكن الصدور عنه ـ تعالى ـ بلا واسطة. فتتعلّق القدرة بالمعنى المشهور به بلا واسطة. وإن كان هذا المؤثّر ـ أي : مؤثّر ما فرض عدم تعلّق القدرة به ـ معدوما نظرا إلى فرض عدم هذا البعض الّذي فرض أن القدرة لا يتعلّق به وادّعى انّ مؤثّر هذا المؤثّر أيضا معدوم ـ ... وهكذا إلى غير النهاية ـ فقد عرفت انّه لا بدّ لجميع هذه المعدومات الممكنة من مؤثّر وينتهى إلى الواجب ـ كما مرّ توضيحه ـ. وإذا انتهى إلى الواجب ثبت تعلّق القدرة به ، فان لم يوجد فظاهر ـ فانّما ذلك لأجل المصالح الراجعة إلى أحسن النظام ـ ، وتعلّق القدرة به نظرا إلى ذاته ـ تعالى ـ ثابت ؛ هذا.

وقال بعض المشاهير في دفع المنع المذكور : على قاعدة الاعتزال ـ أعني : جواز كون الخصوصية مانعة من تعلّق القدرة ـ انّ كلّ ما يمكن صدوره من الغير يمكن صدوره عن  الواجب باعتبار كونه فاعلا ـ أي : بدون اعتبار كونه مريدا وعالما بنظام الخير ـ وإن لم يجز صدور بعض ما يصدر عن الغير عنه ـ تعالى ـ مع هذا الاعتبار ـ إذ لا يلزم من كون الشيء ممكن الصدور عن الغير كونه متعلّقا لقدرة الواجب المستجمعة لجميع شرائط التأثير ـ ، فعلى قاعدة الاعتزال لا يلزم إلاّ جواز أن تكون خصوصية بعض المعدومات الممكنة مانعة من تعلّق القدرة الشاملة لجميع شرائط التأثير الّتي من جملتها الإرادة ، لا جواز أن تكون الخصوصية مانعة من تعلّق مطلق القدرة ، بمعنى انّه لو اراد ما له تلك الخصوصية لم يقع بقدرته. فالمدّعى : انّ نسبة الذات مع اعتبار كونه عين العلم والإرادة بالنسبة إلى جميع الممكنات الّتي لها امكان الصدور عن الواجب على سواء وانّ نسبة الذات من حيث هي بدون اعتبار كونه عين العلم والإرادة بالنسبة إلى جميع الممكنات الّتي لها امكان الصدور عن الغير على سواء ، ولا خفاء في صدق هذين الحكمين ؛ انتهى ما ذكره بأدنى تغيير.

وحاصله : انّ خصوصية بعض الممكنات ليست مانعة من كونه متعلّقة للقدرة بالمعنى المشهور ـ أعني : امكان الصدور واللاصدور بالنظر إلى الذات ـ ، فهو ممكن الصدور عن الواجب بالنظر إلى ذاته وإن امتنع صدوره عنه بالنظر إلى داعي الإرادة والعلم بنظام الخير ـ أي : ليس مقدورا له بالقدرة المستجمعة لجميع شرائط التأثير ، أعني : القدرة بمعنى صحّة الصدور واللاصدور بالنظر إلى الداعي في بعض الاوقات ـ ، وهي القدرة الملزومة للحدوث ؛ فانّ متعلّق تلك القدرة انّما هو ما يمكن صدوره عن الواجب.

وأنت تعلم انّ أحد الجزءين من كلامه ـ أعني : عدم كون الخصوصية مانعة من تعلّق مطلق القدرة ـ مطابق لما ذكرناه في بيان أنّ الخصوصية ليست مانعة من تعلّق القدرة بالمعنى المشهور ، فمراده من مطلق القدرة هي القدرة بالمعنى المشهور.

فان أورد عليه : بأنّه لم لا يجوز أن تكون تلك الخصوصية مانعة من تعلّق مطلق قدرة الواجب ـ تعالى ـ؟ ، فلا بدّ لإبطال هذا الاحتمال من دليل! ؛

فجوابه : انّ مقدور المقدور مقدور ومعلول المعلول معلول ، فكلّ ما هو قادر على الفاعل قادر على فعله أيضا بحسب ذاته مع قطع النظر عن العلم بالمصلحة ، وكلّ ما هو مقدور لغيره ـ تعالى ـ يكون مقدورا له ـ تعالى ـ بحسب ذاته.

وأمّا الجزء الآخر من كلامه ـ أعني : كون الخصوصية مانعة من تعلّق القدرة المستجمعة لجميع شرائط التأثير ـ إن كان هو القدرة بمعنى صحّة الفعل والترك في بعض الأوقات بالنظر إلى الداعي وغيره من شرائط التأثير ـ أي : امكان الفعل والترك بالإمكان الوقوعي ـ ولو في زمانين بأن يختلف زمان الفعل والترك ـ أي : يقع الترك في زمان والفعل في زمان آخر ، لأنّ امكانهما معا بالنظر إلى الداعي غير جائز على التحقيق كما مرّ ـ ، فالقدرة بهذا المعنى هو ما يوجب الترك في زمان والفعل في زمان آخر. ومقابله ما يوجب احدهما دائما وهي القدرة المستلزمة لصحّة الانفكاك بين الواجب وبين كلّ من طرفي الفعل والترك ؛ وهي القدرة المستلزمة للحدوث. وقد بيّنا انّ الخصوصية ليست مانعة من تعلّق تلك القدرة بالواسطة ، وانّما هي مانعة من تعلّق القدرة بهذا المعنى بلا واسطة.

فكان على هذا القائل أن يشير إلى هذا التفصيل.

وإن كان المراد عنها ـ أي : من القدرة المستجمعة لجميع شرائط التأثير ـ هي القوّة الموجبة للفعل أو الترك ـ أي : التمكّن الّذي صار منشئا للوجود أو العدم بالفعل ، سواء كان مستلزما للانفكاك أم لا ، بل وجب معها أحدهما دائما ولم يرد منها القدرة الملزومة للحدوث ـ ، نقول : لو صحّ ذلك فلا ريب في لزوم كون التمكّن المذكور بالعلم والمشيّة ، فرجع إلى القدرة بالمعنى الأوّل من معاني القدرة المتقدّمة ـ أي : كون الصدور واللاصدور بالعلم والمشيّة وإن وجب أحدهما ـ. ولا ريب في كون جميع الممكنات متعلّقا للقدرة بهذا المعنى ولو جعل التعلّق أعمّ من التعلّق بلا واسطة أو بواسطة. وبالجملة لا شبهة في أنّ الخصوصية ليست مانعة من تعلّق القدرة المستجمعة لجميع شرائط التأثير بالواسطة ، سواء أريد منها أحد المعاني المذكورة أو معنى آخر غيرها. والاطلاق بكون الخصوصية مانعة منها غير مناسب.

على أنّ هذا القائل صرّح بأنّ القدرة المتنازع فيها بين الفلاسفة والمليين هي القدرة الملزومة للحدوث ، وهي الّتي كان هذا القائل بصدد اثباتها واثبات عمومها دون القدرة بالمعنى المشهور، لتصريحه بأنّه متّفق عليه بين الكلّ. فما ذكره من أنّ الخصوصية ليست مانعة من تعلّق القدرة بالمعنى المشهور لا يفيده ، بل لا بدّ له من بيان عدم كونها مانعة من تعلّق القدرة الملزومة للحدوث ؛ هذا.

وما ذكر في الايراد المذكور من انّه على قانون الحكمة جاز أن تستعدّ المادّة لحدوث ممكن دون آخر ، فلا يكون نسبة الذات إلى الجميع على السواء ؛

ففيه : أمّا أوّلا : انّه على قانون الحكمة لا يمكن أن يؤثّر ويوجد إلاّ واجب الوجود بالذات ، فكلّ شيء له امكان قبول الوجود فانّما يوجد من الواجب الوجود بالذات الّذي هو باعتبار ذاته موجود، فانّ الممكن الّذي ليس له في حدّ ذاته وجود محال عندهم اتصافه بالإيجاد.

والحاصل : انّ الحكماء لمّا لم يجوّزوا التأثير في الموجود لغيره ـ تعالى ـ فكلّ ما هو مقدور للغير لا بدّ أن يكون مقدورا له ـ تعالى ـ ، بل اطلاق كلامهم وادلّتهم يدلّ على انّ افعال العباد أيضا ليست صادرة عنهم ، بل بقدرته ـ تعالى ـ وإن كان الحقّ خلافه.

نعم! قبول الوجود وقبول الحركات والأفعال يتحقّقان في الممكنات. و (5) يدلّ على ذلك ما نقلناه سابقا عن التحصيل.

وأمّا ثانيا : فلأنّ ذلك ـ نعني جواز استعداد المادّة لحدوث ممكن دون آخر ـ لا يوجب تجويز صدور ممكن عن غير الواجب ، بل يوجب عدم امكان صدوره عن الواجب لا تجويز صدوره عن غير الواجب ، فهو لا ينافي قولنا : كلّ ما هو مقدور الغير مقدور له ـ تعالى ـ. ولا يقدح ذلك في عموم قدرته ، لأنّ المدّعى منه شمول قدرته لجميع ما له امكان الصدور عن مؤثّر ، فلو فرض ما لم يمكن تعلّق قدرة فاعل به ـ لعدم استعداد المادّة لحدوثه ـ وصحّ اطلاق اسم الممكن على مثله فلا ضير في عدم تعلّق قدرته ـ تعالى ـ به ؛ ولو لم يصدق عليه اسم الممكن وكان معدودا في الممتنع فالأمر فيه ظاهر.

وبما ذكرنا يندفع ما قيل : انّ مقصود المورد انّه إذا كانت المادّة مستعدّة لحدوث ممكن دون آخر لم تكن نسبة الذات إلى جميع الممكنات على السواء ، لا أنّه يجوز صدور ممكن عن غير الواجب ؛ ولم يلزم من الجواب المذكور ثبوت تساوي النسبة ، بل اللازم منه عدم ايجاب كون المادّة مستعدّة لحدوث ممكن دون آخر ـ لجواز صدور ممكن عن غير الواجب ـ ، وهو غير المقصود.

ووجه الاندفاع : انّ ما يقدح في عموم القدرة انّما هو جواز صدور ممكن عن غير الواجب ، لا عدم جواز صدور ممكن عن فاعل اصلا ؛ فالمورد إن ادّعى انّه يلزم على قاعدة الحكمة صدور ممكن عن غير الواجب يكون مقدورا له ـ تعالى ـ ، فلا يثبت عموم القدرة ؛ فيندفع دعواه بالجواب المذكور ؛ وإن لم يدع واكتفى بمجرّد لزوم عدم جواز صدور ممكن عن فاعل ؛

فيجاب عنه : بأنّه غير قادح في عموم القدرة.

والحقّ انّ هذا الجواب غير صحيح على القواعد الّتي قرّرناها ، لأنّ كلّما صدق عليه اسم الممكن وهو ممكن في حدّ ذاته وحاقّ مرتبته يكون متعلّقا للقدرة المطلقة وإن لم تتعلّق به القدرة المستجمعة لجميع شرائط التأثير ـ نظرا إلى أمر خارج عن ذاته من عدم استعداد المادّة لحدوثه أو غير ذلك من المصالح الراجعة إلى نظام الكلّ ـ كيف لا؟! وكلّ ممكن محتاج إلى مؤثّر ، فلا بدّ لكلّ ماهية ممكنة من مؤثّر ؛ وفرض ممكن لا يحتاج إلى المؤثّر فرض انقلاب الحقيقة. وإذا كان لكلّ ممكن مؤثّر ـ سواء كان موجودا أو معدوما ـ يكون لهذا الممكن الّذي لم تستعدّ المادّة لحدوثه أيضا مؤثّر إمّا موجود أو معدوم. وإذا احتاج إلى مؤثّر بأيّ نحو كان ينتهي اختصاصه بالآخرة إلى الواجب ـ كما مرّ مفصّلا ـ ، فيكون متعلّقا للقدرة المستجمعة لشرائط التأثير بالواسطة وللقدرة بالمعنى المشهور بلا واسطة ، نظرا إلى أنّ مقدور المقدور للشيء مقدور له بالنظر إلى ذاته. فالقول بأنّ مثل هذا الممكن لا تتعلّق به قدرة الواجب اصلا غير صحيح.

فالحقّ في الجواب أن يقال : إنّ استعداد المادّة لحدوث ممكن دون آخر لا يوجب عدم تجويز صدور ممكن عن الواجب ؛ يعنى : كون استعداد المادّة شرطا لحدوث الممكن لا يوجب تجويز عدم امكان صدور ممكن عن الواجب بالنسبة إلى نفس القدرة الّتي هي معتبرة عندهم ، بمعنى إن شاء فعل وإن لم يشاء لم يفعل ، لا أنّ المشية عندهم لا تتعلّق بما لم يستعدّ المادّة لحدوثه ـ لاستلزامه الترجيح بلا مرجّح ـ ، فكلّ ممكن لو تعلّقت كان صادرا عنه ـ تعالى ـ.

والحاصل انّ هذا الممكن مقدور له ـ تعالى ـ بالقدرة بالمعنى المشهور ـ أعنى : صحّة الصدور واللاصدور بالنظر إلى ذاته تعالى ـ وإن لم يكن مقدورا بالقدرة بمعنى صحّة الفعل بالنظر إلى الداعي وغيره من شرائط التأثير.

فان قيل : إذا لم تستعدّ المادّة لحدوث ممكن فلعلّه لا يقدر الواجب ـ تعالى ـ على ايجاد ذلك الممكن بالنسبة إلى اصل القدرة أيضا من غير اعتبار استجماع الشرائط ، ولا بدّ لنفيه من دليل؛

قلنا : بعد تسليم انّ مثل هذا الممكن محتاج إلى مؤثّر وتسليم انتهاء سلسلة المؤثّرات ـ موجودة كانت أو معدومة ـ إلى الواجب يثبت قدرة الله ـ تعالى ـ على ايجاد هذا الممكن نظرا إلى مطلق القدرة ، وانكار ذلك مكابرة. وقد ظهر ووضح انّ المنع المذكور ـ أعني : جواز كون الخصوصية في الممكنات مانعة من تعلّق القدرة ـ مدفوع على قاعدة الاعتزال والحكمة وأمّا على اصول الأشاعرة فلا يرد أصلا حتّى يحتاج إلى الدفع ، لعدم التمايز والتخصيص عندهم في المعدومات وإن كان اصلهم فاسدا!.

وقال بعض المشاهير : لا فرق بين مذهب الأشاعرة ومذهب المعتزلة والحكماء في ورود المنع؛ إنّما الفرق في دفعه ، فانّ الأشعرية لمّا اعتقدوا أن ليس التأثير ثابتا لغير واجب الوجود دفعوا منع كون ممكن غير مقدور للواجب بأنّه يلزم من كونه غير مقدور له عدم امكان صدوره عن الغير ، فانّ كلّ ما يمكن صدوره عن الغير فانّما يصدر عن الواجب بالذات. وأمّا على مذهب المعتزلة فدفع المنع المذكور أن يقال : مرادهم من تساوي نسبة ذات الواجب إلى جميع الممكنات هو تساوي النسبة باعتبار كونه فاعلا مع قطع النظر عن الإرادة والعلم بالأصلح ؛

وأورد عليه : بأنّه لمّا جعل بناء الاستدلال المشهور وصحّته على عدم ثبوت التمايز بين المعدومات وكون المعدوم لا شيئا محضا ونفيا صرفا لا امتياز فيه أصلا ، فلا مجال لورود المنع المذكور اصلا. وانّما يرد على من لم يقل بذلك واثبت الامتياز والخصوصية للمعدومات  ـ كالمعتزلة والحكماء ـ ، فورود المنع على المذاهب الثلاثة لا وجه له. إلاّ أن يكون نظر هذا القائل إلى أنّ القول بعدم التمايز اصلا ممّا لا يعقل ، إذ حينئذ لا يعقل وجود البعض دون البعض ، بل لا معنى حينئذ للبعض والبعض! ؛ فلا بدّ للأشعري أيضا أن يقول بتمايز بين المعدومات في الجملة وإن لم يكن على نحو ما يقوله المعتزلة ، وحينئذ لا فرق بين المذاهب الثلاثة في ورود المنع. ولا يخفى ما فيه من التكلّف ؛ انتهى.

وقال بعض الفضلاء : ولو كان بناء الاستدلال المشهور على عدم تمايز المعدومات بناء على أنّ المعدوم نفي محض يكون بين مذهب الأشاعرة ومذهب المعتزلة فرق قطعا في ورود المنع ، إذ لا مجال على هذا القول للقول بكون البعض مقدورا دون بعض ، بل لا يتصوّر حديث البعض والكلّ ، إذ لا تمايز أصلا. ثمّ قال : والظاهر انّ القائل بعدم الفرق بين المذهبين في ورود المنع أعرض عن هذا البناء لظهور ضعف هذا المبنى ـ بناء على ثبوت الوجود الذهني ـ، وجعل المبنى ما ذهب إليه الأشاعرة من عدم تفاوت الممكنات في نظره باعتبار العلم بالنفع وغيره ، بخلاف مذهب المعتزلة ؛ وحينئذ لا فرق بين المذهبين في ورود المنع. لجواز اختلاف نسبة ذات الواجب إلى الممكنات على مذهب الأشاعرة من جهة أخرى ، فانّ سند تجويز الاختلاف لا ينحصر في ثبوت المعدومات الّذي قال به المعتزلة ، فانّ العلم المقدّم على الايجاد ممّا يصلح سندا للاختلاف قطعا ولو لم تتفاوت الممكنات في نظره ـ تعالى ـ باعتبار العلم عند الأشاعرة ، فيمكن أن يجعل سند المنع جريان العادة بأنحاء البعض دون البعض ، أو اختلاف المهيات في انفسها باللوازم والذاتيات ؛

فدفع عنهم : بأنّه لو لم يكن بعض الممكنات مقدورا له ـ تعالى ـ لم يكن ممكن الصدور عن الغير، فانّما يصدر عن الواجب بالذات ؛

وعن المعتزلة : بان مرادهم تساوي النسبة باعتبار كونه فاعلا مع قطع النظر عن الإرادة والعلم بالأصلح ، وحينئذ يصحّ عموم القدرة على المذهبين ولا ينافيه مذهب المعتزلة ؛ انتهى.

وغير خفيّ انّ امثال هذه التوجيهات تكلّفات باردة!.

والحقّ انّ المنع المذكور على مذهب الأشاعرة غير وارد ـ نظرا إلى ما ذهبوا إليه من عدم التمايز في المعدومات ـ. نعم! أصل مذهبهم فاسد ـ كما أشير إليه ـ. فما ذكره القائل المذكور من عدم الفرق بين المذهبين في ورود المنع غير صحيح.

ثمّ ما ذكره في وجه دفع المنع المذكور من قبل الأشاعرة وإن كان ثابتا من مذهبهم ـ لأنّه لا شكّ انّ الأشاعرة نفوا التأثير عن غيره تعالى ـ ، فعلى ما ذهبوا إليه ظاهر انّ كلّما هو مقدور للغير لا بدّ أن يكون مقدورا له ـ تعالى ـ ، إلاّ أنّ الكلام في صحّة الاستدلال المشهور وفي اثبات ما ذهبوا إليه. ولو بنى الأمر على مجرّد هذا المذهب لم يفتقر اثبات عمومية القدرة إلى استدلال أصلا.

ثمّ بعد اثبات ما ذهبوا إليه من نفي التأثير عن غيره ـ تعالى ـ إنّما يثبت مجرّد انّ كلّما هو مقدور للغير مقدور له ـ تعالى ـ ولا يثبت مقدورية كلّ ممكن له ـ تعالى ـ ، وقد عرفت انّ عموم القدرة يتوقّف على ذلك ؛ هذا.

__________________

(1) الاصل : الامكان.

(2) الاصل : خصوص.

(3) الاصل : يستلزم.

(4) كذا في النسختين.

(5) الاصل : ـ و.




مقام الهي وليس مقاماً بشرياً، اي من صنع البشر، هي كالنبوة في هذه الحقيقة ولا تختلف عنها، الا ان هنالك فوارق دقيقة، وفق هذا المفهوم لا يحق للبشر ان ينتخبوا ويعينوا لهم اماماً للمقام الديني، وهذا المصطلح يعرف عند المسلمين وهم فيه على طوائف تختصر بطائفتين: طائفة عموم المسلمين التي تقول بالإمامة بانها فرع من فروع الديني والناس تختار الامام الذي يقودها، وطائفة تقول نقيض ذلك فترى الحق واضح وصريح من خلال ادلة الاسلام وهي تختلف اشد الاختلاف في مفهوم الامامة عن بقية الطوائف الاخرى، فالشيعة الامامية يعتقدون بان الامامة منصب الهي مستدلين بقوله تعالى: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) وبهذا الدليل تثبت ان الامامة مقام الهي وليس من شأن البشر تحديدها، وفي السنة الشريفة احاديث متواترة ومستفيضة في هذا الشأن، فقد روى المسلمون جميعاً احاديث تؤكد على حصر الامامة بأشخاص محددين ، وقد عين النبي الاكرم(صلى الله عليه واله) خليفته قد قبل فاخرج احمد في مسنده عن البراء بن عازب قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فنزلنا بغدير خم فنودي فينا الصلاة جامعة وكسح لرسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرتين فصلى الظهر وأخذ بيد علي رضى الله تعالى عنه فقال ألستم تعلمون اني أولى بالمؤمنين من أنفسهم قالوا بلى قال ألستم تعلمون انى أولى بكل مؤمن من نفسه قالوا بلى قال فأخذ بيد علي فقال من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه قال فلقيه عمر بعد ذلك فقال له هنيئا يا ابن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة


مصطلح اسلامي مفاده ان الله تعالى لا يظلم أحداً، فهو من كتب على نفسه ذلك وليس استحقاق البشر ان يعاملهم كذلك، ولم تختلف الفرق الدينية بهذه النظرة الاولية وهذا المعنى فهو صريح القران والآيات الكريمة، ( فلا يظن بمسلم ان ينسب لله عز وجل ظلم العباد، ولو وسوست له نفسه بذلك لأمرين:
1ـ تأكيد الكتاب المجيد والسنة الشريفة على تنزيه الله سبحانه عن الظلم في آيات كثيرة واحاديث مستفيضة.
2ـ ما ارتكز في العقول وجبلت عليه النفوس من كمال الله عز وجل المطلق وحكمته واستغنائه عن الظلم وكونه منزهاً عنه وعن كل رذيلة).
وانما وقع الخلاف بين المسلمين بمسألتين خطرتين، يصل النقاش حولها الى الوقوع في مسألة العدل الالهي ، حتى تكون من اعقد المسائل الاسلامية، والنقاش حول هذين المسألتين أمر مشكل وعويص، الاولى مسالة التحسين والتقبيح العقليين والثانية الجبر والاختيار، والتي من خلالهما يقع القائل بهما بنحو الالتزام بنفي العدالة الالهية، وقد صرح الكتاب المجيد بان الله تعالى لا يظلم الانسان ابداً، كما في قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا * فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا).

مصطلح عقائدي، تجده واضحاً في المؤلفات الكلامية التي تختص بدراسة العقائد الاسلامية، ويعني الاعتقاد باليوم الاخر المسمى بيوم الحساب ويوم القيامة، كما نص بذلك القران الحكيم، وتفصيلاً هو الاعتقاد بان هنالك حياة أخرى يعيشها الانسان هي امتداد لحياة الانسان المطلقة، وليست اياماً خاصة يموت الانسان وينتهي كل شيء، وتعدّت الآيات في ذكر المعاد ويوم القيامة الالف اية، ما يعني ان هذه العقيدة في غاية الاهمية لما لها الاثر الواضح في حياة الانسان، وجاء ذكر المعاد بعناوين مختلفة كلها تشير بوضوح الى حقيقته منها: قوله تعالى: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ) ،وهنالك آيات كثيرة اعطت ليوم القيامة اسماء أخرى كيوم القيامة ويوم البعث ويوم النشور ويوم الحساب ، وكل هذه الاشياء جزء من الاعتقاد وليس كل الاعتقاد فالمعاد اسم يشمل كل هذه الاسماء وكذلك الجنة والنار ايضاً، فالإيمان بالآخرة ضرورة لا يُترك الاعتقاد بها مجملاً، فهي الحقيقة التي تبعث في النفوس الخوف من الله تعالى، والتي تعتبر عاملاً مهماً من عوامل التربية الاصلاحية التي تقوي الجانب السلوكي والانضباطي لدى الانسان المؤمن.