أقرأ أيضاً
التاريخ: 27-6-2019
6606
التاريخ: 25-3-2016
4529
التاريخ: 2024-02-25
924
التاريخ: 2023-09-25
3575
|
النطاق التشريعي للاكراه
يرتبط الاكراه ارتباطاً وثيقاً بالقانون الجنائي سواء في جانبه الموضوعي – في التجريم بشقيه الحكم والجزاء او في تعديل احكام المسؤولية الجزائية – او في جانبه الاجرائي وخاصة عند محاولة الحصول على دليل من المتهم او غير المتهم .ويأتي هذا الارتباط كنتيجة حتمية لتعلق الاكراه بالارادة باعتبارها المحل الذي ينصب عليه اثره ، ولايخفى ما للارادة من ادوار متعددة في نطاق القانون الجنائي .
دور الاكراه في نطاق المسؤولية الجزائية
لكي يكون فعل ما جريمة لايكفي ان يتحقق هذا الفعل من الناحية المادية على نحو يضر او يهدد بالخطر مصلحة يحميها قانون العقوبات ، وانما يلزم فضلاً عن ذلك ان يكون ثمرة ارادة لكي يتحقق ذلك الفعل من الناحية المعنوية وهو ما يسمى بالركن المعنوي او كما يسميه البعض الركن الشخصي او الركن الادبي(1).والجريمة شرط لقيام المسؤولية الجزائية ، فلا يتصور ان يثار البحث في قيام المسؤولية الا اذا كانت هناك جريمة وقعت ، ويجب ان تستوفي الجريمة اركانها لانه ان تخلف بعضها او قام من الاسباب ما يبيحها لم يكن في الامر جريمة ، واذا استوفت الجريمة اركانها فلا عبرة بجسامتها ولا بمداها ولا بصورة الركن المعنوي فيها اذ هي في كل درجاتها وصورها صالحة لترتيب المسؤولية الجزائية (2). واذا كانت الجريمة شرطاً لقيام المسؤولية الجزائية فان تحققها تجاه مرتكب الجريمة يشترط ان يكون الشخص اهلا لتحمل العقوبة المقررة لها . والاهلية التي هي مناط المسؤولية الجزائية تقوم على الاساس التقليدي وهي حرية الارادة ومناطها الادراك وحرية الاختيار .غير ان هذه الحقيقة لم تكن مستقرة في جميع الازمنة ، فقديماً كانت المسؤولية تستند الى اعتبارات حماية المجتمع والدفاع عن وجوده بحيث يكفي لانعقادها مجرد ارتكاب الفعل المادي المحقق للضرر وسميت لذلك بالمسؤولية المادية(3).الا ان تطور قانون العقوبات بتطور البشرية وظهور المدارس الفلسفية سرعان ما ازال عن الانسانية غبار هذا النوع من المسؤولية لتحل محلها المسؤولية الشخصية التي نادت بها المدرسة الكلاسيكية ، ومؤداها ان الحرية امر يتمتع به الافراد وبناءاً على ذلك لا يجوز مساءلة الجاني عن جريمته الا اذا توافرت لديه الارادة الحرة (4).ولكن الامر لم يبق على حاله على مستوى الفكر الفلسفي ، فقد جاءت المدرسة الوضعية فانكرت الارادة الحرة واستبعدت المسؤولية الشخصية بناءا على ان الجريمة نتاج اسباب معينة بعضها داخلي يكمن في الانسان ذاته والاخر خارجي يتصل بالوسط الاجتماعي الذي يعيش فيه ، ثم ظهرت مدارس فلسفية اخرى اتجهت الى التوفيق بين المدرستين الكلاسيكسة والوضعية(5).واذا طرحنا الجدل الفلسفي جانباً ، فان الواقع من الامر ان الشعور الواضح بالحرية والاختيار والاحساس بان اعمال الانسان تصدر عن ارادة حرة وليست مفروضة عليه اصبح مرتبطا بالهيكل العقلي لافراد المجتمع وبالمفاهيم السائدة فيه ، وللمفاهيم الاجتماعية في مجال القانون اهمية حاسمة وليس في وسع المشرع ان يطرح هذه المفاهيم او يتجاهلها ، ولعل هذا مايفسر لنا ان معظم التشريعات العقابية الحديثة تأخذ بمبدأ الارادة الحرة كأساس للمسؤولية الجزائية قبل ان تاخذه اليه رغبة التقيد مقدماً بفلسفة دون اخرى(6).ومن ثم اضحى المشرع الجنائي لايفرض العقوبة فرضا اعمى ، فاذا كان ارتكاب الجريمة هو الغرض الضروري لتطبيق كل عقوبة جنائية ، فان تطبيق هذه العقوبة ليس دائماً النتيجة الحتمية لارتكاب الجريمة ، فتوقيع العقوبة مشروط بقيام المسؤولية الجزائية للفاعل(7). ولا قيام لهذه المسؤولية ، اي بمعنى الاهلية للعقوبة ، الا بتوافر الارادة الحرة المستندة الى الادراك وحرية الاختيار ، فالارادة الحرة تؤدي دورها عند تقرير رد الفعل ضد الجريمة لا عند التحقق من وقوعها قانونا(8).واذا كانت التشريعات الجنائية قد ارست المسؤولية الجزائية على اساس الارادة الحرة باعتبارها ضماناً مهماً لحماية الحقوق والحريات في مواجهة سلطة التجريم والعقاب(9). فانها في مقابل ذلك تسلم بامتناع هذه المسؤولية في معظم الحالات التي تتبين فيها ان ارادة الجاني رغم انصرافها الى الفعل المكون للجريمة لم تتجه الى هذا الفعل الا بسبب ظروف شاذة ، فما دامت العقوبة جزاءا بمن اضر بالمجتمع عن طريق مخالفة اوامر المشرع ونواهيه ، فانه يكون من الضروري وتحقيقا للعدالة للوم الفاعل بحث الظروف التي تكونت في ظلها ارادته لمعرفة ما اذا كان من الممكن توجيه اللوم اليه ، فالقانون اذ يقيم المسؤولية على اساس الارادة الحرة فانه في ذات الوقت يتوقع وجود ظروف قد تؤثر في الارادة وفيها تنتفي المسؤولية وفي التالي ابعاد تطبيق العقوبة(10).فاي عامل خارجي يطرأ على مسار الارادة وحريتها فيجعلها تحيد في اختيارها عن هدفها وغرضها يوثر في سلامة هذه الارادة ومن ثم يؤثر في اعتبارها وصلاحيتها لتحقيق المسؤولية وتوقيع العقاب(11) . ولعل اهم عامل ينال من الارادة او من حرية الاختيار هو الاكراه .ويتضح مما تقدم اتصال فكرة الاكراه بمبدا العدالة وذلك ان الاكراه باعتباره اجراءاً او ظرفاً من الظروف الشاذة التي قد تؤثر في الارادة فيعدمها او يشل حريتها في الاختيار فان العدالة تقتضي بان لا توصف الارادة المكروهة بانها ارادة غير سليمة فحسب بل ان العدالة تقتضي بان العيب الذي يشوب الارادة يكون محل اعتبار في الاثر القانوني الذي تولده هذه الارادة في حال سلامتها(12). ومن هنا يتضح الدور القانوني للاكراه في نطاق المسؤولية الجزائية بما يرتبه من اثر قانوني مانع لتلك المسؤولية عمن بوشر الاكراه ضده .وقد اوضح الفقيه الانكليزي بلا كستون حكمة ذلك قائلا ((ان اية ارادة يمتد اليها اي ضغط سواء كان اكراها ام ضرورة من شانه ان يجعل العمل لامفر منه يعتبر قهراً لهذه الارادة المنساقة الى الفعل الذي لاتتقبله حكم الفاعل المتعقل فيما لو تركت له ارادته الطبيعية ، ولما كانت العقوبة توقع على سوء استعمال الارادة الحرة التي وهبها الله للانسان فمن العدل اذن ان يلتمس له العذر عن الاعمال التي يرتكبها تحت هذا الضغط))(13).واذا كانت غالبية التشريعات الجنائية تتفق على الاثر القانوني للاكراه كمانع مسؤولية الا انها تختلف فيما بينها في مداه . وهذا الاختلاف يعود الى ان السياسة الجنائية في اي بلد وان كانت تستمد مبادئها من افكار فلسفية تتسم بالعموم ، فان وضعها موضع التطبيق من خلال قانون العقوبات لابد وان يراعي البنية الاجتماعية والدينية والاخلاقية والاقتصادية للمجتمع الذي يطبق فيه ذلك القانون ، وكذلك بالفكر السياسي للدولة ، فالفكر الذي يعطي للدولة مكانة اعلى واسمى من الفرد قل نصيب الحرية وبعكس ذلك فالفكر الذي ينادي بما يسمى بالحقوق الطبيعية للفرد تمتع باقصى نصيب من هذه الحرية(14).ويؤيد وجهة النظر هذه ان الاختلاف القائم بين التشريعات في مدى هذا الاثر يقوم اساسا على النظر الى مدى وطبيعة وجسامة الجريمة المرتكبة تحت الاكراه وطبيعة المصلحة المستهدفة .على سبيل المثال ان بعض القوانين العربية المتأثرة بالشريعة الاسلامية تستثني جريمة القتل والجرائم التي تستوجب عقوبة الاعدام من الجرائم التي تنتفي المسؤولية الجزائية عن الجاني فيها بسبب الاكراه(15). وفي التشريع السوفييتي القديم فان الاكراه لا ينفي المسؤولية عن الجاني اذا كانت الجريمة المرتكبة من شانها الاخلال بالمصالح الاجتماعية العليا او تعريض كيان النظام الاشتراكي للخطر(16). وكذلك كان الامر بالنسبة لمشروع تعديل قانون العقوبات البغدادي والتي نصت المادة (59) منه ((...على ان حالة الاكراه لاتجب المسؤولية عن الجاني اذا كان الجرم المرتكب من شانه الاخلال بالمصالح الاجتماعية العليا او يؤدي الى موت اكثر من شخص واحد))(17).
دور الاكراه في نطاق التجريم
تهدف نصوص قانون العقوبات الى حماية مصالح متنوعة سواء أكانت مصالح معنوية ام مادية ، فالجريمة تعد اعتداء على مصلحة محمية والعقوبة المقررة قانونا هدفها حماية تلك المصلحة (18).والمصالح التي يحميها قانون العقوبات اما ان تكون مصالح عامة او مصالح فردية ، ولكنه وان كان يحمي مصالح الافراد فانه لايضفي عليها الحماية الا في اطار اهميتها الاجتماعية(19).وشكل الحماية التي يقررها القانون للمصالح المختلفة ليس واحدا فهناك مصالح يحيمها قانون العقوبات حماية موضوعية ، بمعنى ان الاعتداء عليها يستوجب العقاب عليه حتى لو وقع برضا المجني عليه ، وهناك مصالح اخرى يحميها قانون العقوبات حماية ذاتية ، بمعنى ان الاعتداء عليها لاعقاب عليه الا اذا كان ضد ارادة صاحبها ، وحتى هذه المصالح تعد مصالح عامة(20).ومن هنا يبرز الدور القانوني للاكراه في نطاق التجريم في شقيه الحكم والجزاء ، فمن حيث شق الحكم فان بعض الافعال يقرر المشرع ان الكشف عن مشروعيتها او تحقق احد اركانها يتوقف على ارادة المجني عليه ، ذلك ان الغرض من تجريم تلك الافعال وان كان حماية لمصلحة اجتماعية باعتبارها تمس حقا ما للمجتمع ، غير ان المشرع لعلة واسباب يقدرها يقرر ارجحية الجانب الفردي للحق على الجانب الاجتماعي له وبذلك يقيم وزناً كبيراً لتلك الارادة التي يفترض ان يكون لها دور في بعض الاختيارات الشخصية(21).لذلك فان المشرع لا يتدخل بالحماية في بعض الاحوال التي يرى ان وجود مساهمة ارادية من جانب المجني عليه في تحقق الفعل لا يشكل اعتداءاً ، وتتصل تلك الاحوال ببعض الحقوق والحريات التي تقرها الدولة وتحدد لها مجالاً حيوياً او دائرة منطقية تعمل في اطارها فلايجوز اقتحامها من قبل السلطة او غيرها من الافراد ، والمشرع لا يقف امام تلك الحقوق والحريات موقف المتفرج السلبي ، وانما يعمل بصفة ايجابية على ضمان ممارستها من خلال تجريم الافعال التي تعد مساساً بها(22). وهذا التجريم انما يراد به حماية ذلك الحق او الحرية لمصلحة صاحبها خصيصا وبقصد الاستمتاع الحر بها(23).فبعض الممارسات التي ياتيها المجني عليه استخداما لحقه او حريته الفردية وبارادة سليمة تكون مشروعة طالما كانت ممارسة الحق او الحرية ضمن النطاق المرسوم لها ، فالمرأة التي تمارس الجنس انما تمارس حريتها الجنسية ولايعتبر الرجل مغتصبا والفتاة التي تصاحب رجلا تمارس حريتها الشخصية ولايعتبر الرجل خاطفاً والشخص الذي ينقل حيازة مال انما يمارس حق الملكية والتصرف ولايعد من انتقلت اليه الحيازة غاصباً ، ولكن اذا اصبحت الممارسة غير ارادية او بارادة غير سليمة اصبح الفعل في الاولى اغتصابا وفي الثانية خطفاً وفي الثالثة اغتصاباً للمال .ولعل من اهم اسباب عدم ارادية الممارسة هو الاكراه باعتبار ان تاثيره ينصب على الارادة فيعدمها او يشل حريتها في الاختيار فتصبح تلك الممارسة غير ارادية او غير صادرة عن ارادة حرة وبالتالي يشكل ذلك اعتداءا يستوجب تدخل المشرع الجنائي بالحماية .ويتمثل الدور القانوني للاكراه في شق الجزاء من القاعدة الجنائية بالتشديد بالعقوبة وذلك عندما يستعين الجاني في تنفيذ فعله وصولا الى تحقيق النتيجة الاجرامية باكراه المجني عليه مما يعتبره المشرع اعتداءاً مزدوجاً يتمثل الاول في الفعل غير المشروع الذي باشره الجاني ويتمثل الثاني في الاكراه المقترن به لما ينطوي عليه من استخدام وسائل تحقق اذىً معنوياً او مادياً بالمجني عليه ، ولما يمثله من اعتراض الجاني على قرار المجني عليه في مقاومة الاعتداء الواقع عليه ومن ثم اعتداء على حريته في اتخاذ القرار(24).
دور الاكراه في النطاق الاجرائي
اذا كانت التشريعات الجنائية في جانبها الموضوعي تقر بتوافر الارادة الحرة من حيث المبدأ لدى الانسان ، فان النتيجة المنطقية المترتبة على هذا الاقرار تفترض اقرارها بهذه الارادة في جانبها الاجرائي . ويبدو الترابط القائم بين القواعد الاجرائية وبين قاعدة الارادة الحرة في مسائل عدة يجمل بنا التعرض لاهمها وبما يفي لبيان الدور القانوني للاكراه في نطاق المسائل الاجرائية .ان الجريمة امر شاذ خارج عن المألوف والاصل في الانسان عدم ارتكابها ابتداءاً ، اي ان الاصل فيها العدم والعدم يقين واليقين لا يزول الا بيقين مثله فلا يزول مع الشك لذلك كان اثبات الادانة في الجريمة هو الوصول الى درجة الجزم واليقين (25).واذا كان الاثبات الجنائي يقوم على مبدأ حرية الاثبات واقتناع القاضي اياً كان نوع الدليل الا انهما مقيدان من ناحية الطريق المستمد منه دليل الادانة ، فان كان مستقى عن طريق غير مشروع استبعده القاضي مهما كان وزنه في اثبات الواقعة لانه يتضمن اعتداءاً على الحريات الشخصية والحقوق الاساسية للفرد وبالتالي لا يجوزالتعويل عليه ، فدليل الادانة يجب ان يكون مستقى من طريق مشروع(26).لذا كان عبء الاثبات دائما على عاتق الاتهام وليس على عاتق المتهم وبالتالي فانه لايجوز اجباره على ان يدلي بما لايريد قوله ، ذلك ان حق المتهم وحريته بالدفاع والادلاء بما يريد قوله بارادته الحرة دون ضغط او تأثير يعلوان على حق المجتمع الذي لايفيده تبرئة مذنب بقدر ما يؤذيه ويؤذي العدالة معا ادانة بريء )(27).فاذا كان المجرم قد ارتكب جرما يستحق عنه العقاب ، الا انه يجب ان لايسود الاعتقاد ان هذه العقوبة قد شرعت لمجرد الايلام والتعذيب من اجل سداد الدين الاخلاقي الذي يدين به المجرم قبل المجتمع فيتاثر بهذا الاعتقاد التنظيم الاجرائي للدعوى الجزائية فتنعدم كل الضمانات ويشرع التعذيب والتنكيل لحمل المتهم على الاعتراف ، بل يجب ان يكون التنظيم الاجرائي قائما على احترام حقوق الانسان ولابد ان تتاثر بذلك الضمانات الاجرائية خلال سائر اجراءات الدعوى الجزائية ، فاذا كان المشرع يحمي الحقوق والحريات للانسان فان هذه الحماية يجب ان لاتكون بالنظر اليه باعتباره مجنيا عليه وانما باعتباره متهماً(28). واذا كان المجتمع يريد انزال العقاب بالجاني الذي اعتدى على ارادته المعبر عنها بالنص العقابي المنتهك ، فان على المجتمع ايضا ان لايعتدي على ارادة الجاني بالادلاء باقواله بحرية ويوفر له الضمانات الكافية للدفاع عن نفسه ، لذلك فالاعتراف يجب ان يكون صادرا عن تلقائية لا عن مؤثر ما من المؤثرات الخارجية(29).فالاعتراف الذي يصلح دليلاً للاثبات في الدعوى الجزائية يجب ان يكون صادراً عن المتهم بارادته الحرة ، وعليه فانه يجب استبعاد اي اعتراف يمكن الحصول عليه تحت ضغط اي صورة من صور التاثير المادي او المعنوي التي يمكن ان يتعرض لها المتهم لان في ذلك هدمًا لمبدأ مشروعية الحصول على الدليل ، لذلك كان الاكراه مؤثراً في بيان النظرية العامة للاثبات .والامر ذاته يقال بالنسبة للشاهد او الخبير ، فاذا كان هؤلاء ملزمون قانونا بالادلاءباقوالهم على اساس الواجب الملقى على عاتق كل مواطن في مساعدة العدالة فان ضمانات تحقيق العدالة تستوجب ان تكون اقوالهم صادرة عن ارادة حرة لاتكون مؤثرة باي ضغط او تأثير قد يؤدي الى ان تنحرف اقوالهم عن الحقيقة وقد يؤدي بالتالي الى تضليل العدالة بدلا من مساعدتها .من جهة اخرى اذا كانت قاعدة قانون العقوبات باعتبارها قاعدة موضوعية تضع قيداً على ارادة الفرد وتنذر بالعقاب اذا تعدت هذا القيد ، فان قاعدة القانون الاجرائي تملي قيداً على رجال السلطة ، فالرابطة الاجرائية ذات طبيعة قانونية يحكمها وينظمها القانون وليست متروكة للطرف القوي فيها لكي يسيرها حسب هواها وعلى حساب الطرف الضعيف ، ولو لم تكن الرابطة قانونية بهذا المعنى لصارت اشبه بالمبارزة التي تتوقف نتيجتها على المهارة المادية لطرفيها وينعقد النصر فيها لاكثرهما براعة في استخدام اسلوب القوة اطاحة بغريمه ، والواقع ان تدخل القانون في تلك الرابطة تنظيما لها هو الضمان الوحيد لعدم احتكام المواطنين الى اسلحة القوة(30).فالتنظيم القانوني للرابطة الاجرائية بين الدولة والمتهم يعني في جانب منه رسم الطرق والمناهج التي يلتزم اطراف هذه الرابطة بالسير عليها ، وفقا للتحديد المرسوم لدى القانون فلا تعتبر الدولة كطرف قوي فيها طليقة من كل قيد ، فاذا كانت علاقة المتهم بالدولة علاقة خضوع واستسلام فان هذه السلطة ليست مطلقة وانما مقيدة بقواعد القانون وبما قررته هذه القواعد من حقوق للمتهم(31).وعليه فالسياسة الجنائية لمعظم الدول والتي تهدف الى تحقيق العدالة فانها في تلك المسائل توفر الحماية في شقين الشق الاول يتمثل في الجانب الاجرائي بالحماية ضد اي اجبار او اكراه سواء أكان واقعاً على المتهم او الشاهد او الخبير وتتجسد ذلك بعدم الاعتداد بالادلة التي تكون وليدة تلك الظروف ، اما الشق الثاني فيتمثل في الجانب الموضوعي بالحماية ضد مثل هذا الاجبار او الاكراه وتتجسد ذلك بايقاع العقوبات المناسبة على الافراد والسلطات التي تمارسه(32).لذلك تبدو حالة الاكراه من ابرز الحالات التي يبطل فيها الاجراء مع وجود جزاء جنائي مرتبط بها . فالاثر القانوني للاكراه في نطاق الاجراءات لايقف عند تجاهل الاجراء المتخذ وتجريده من انتاج الاثر الذي كان الهدف من اتخاذه وانما يصل الى حد الجزاء الجنائي متخذاً صورة عقوبة تقع على من باشر الاكراه(33). وهذا العقاب كجزاء يرد النص عليه لافي قاعدة اجرائية وانما في قاعدة موضوعية من قواعد قانون العقوبات .وهذا الارتباط حتمي والا كيف نعاقب المجرم على ارادته الاجرامية ونسمح له في الوقت ذاته بان تنتج ارادته هذه شيئا ما مما اتجهت الى انتاجه ، فعلى سبيل المثال ان المادة (333) من قانون العقوبات العراقي تنص على ((يعاقب بالسجن او الحبس كل موظف او مكلف بخدمة عامة عذب او امر بتعذيب متهم او شاهد او خبير لحمله على الاعتراف بجريمة او الادلاء باقوال او معلومات بشانها او لكتمان امر من الامور او لاعطاء راي معين بشانها ويكون بحكم التعذيب استعمال القوة او التهديد )) فاذا ماحدث ان افضى التعذيب الى اعتراف فانه لايعقل ان يؤخذ بهذا الاعتراف مع وجود جريمة معاقب عليها في التعذيب الذي انتجه .لذلك فان تجريم استحصال الاعتراف تحت وطأة شيء من الايذاء البدني او المعنوي واهدار القيمة القانونية لهذا الاعتراف انما ينبع من اعتراف المشرع واقراره للارادة الحرة(34).
________________________________________
1- د.عمر السعيد رمضان ، مصدر سابق ، ص1 .
2- د.عوض محمد ، مصدر سابق ، ص427 .
3- د.احمد فتحي سرور ، الوسيط في قانون العقوبات – القسم العام ، مصدر سابق ، ص493 .
4- ولكن هذه المدرسة قد بالغت في هذه المسالة حيث اعتبرت تلك الارادة الحرة مطلقة ومتساوية عند جميع الافراد ، الامر الذي يعني المساواة في توقيع العقوبة على الاشخاص رغم اختلاف ظروف كل منهم ، انظر في ذلك ، د. محمد السعيد عبد الفتاح ، مصدر سابق ، ص37 .
5- د.احمد فتحي سرور ، اصول السياسة الجنائية ، مصدر سابق ، ص ص58-62 .
6- د.رؤوف عبيد ، مبادئ القسم العام في التشريع العقابي ، مصدر سابق ، ص598 .
7- د.عبد الرؤوف مهدي ، مصدر سابق ، ص 142 .
8- د.احمد فتحي سرور ، اصول السياسة الجنائية ، مصدر سابق ، ص105 .
9- د.احمد فتحي سرور ، القانون الجنائي الدستوري ، مصدر سابق ، ص196 .
10-Donnedieu de vabres , op.cit , p.122 .
11- د.محمد السعيد عبد الفتاح ، مصدر سابق ، ص57 .
12- د.عبد الرزاق السنهوري ، مصدر سابق ، ص349.
13- د.رؤوف عبيد ، في التسيير والتخيير بين الفلسفة العامة وفلسفة القانون ، دار الفكر العربي ، القاهرة ، ط3 ، 1984 ، ص399 .
14-- د.احمد فتحي سرور ، اصول السياسة الجنائية ، مصدر سابق ، ص136 .
15-- انظر على سبيل المثال المادة (35) من قانون العقوبات اليمني والمادة (10) من قانون عقوبات دولة الامارات العربية المتحدة والمادة (20) من قانون عقوبات دولة البحرين والحقيقة ان الشريعة الاسلامية وان كانت العبرة لديها في الاكراه هي بالارادة الا انها تبني قواعد الاكراه في موانع المسؤولية على اعتبار اخر هو اعتبار العدالة .
16-- د.عبد الرحمن الجوراني ، مصدر سابق ، ص113 .
17-- المصدر السابق ، ص105 .
18-- ادوار غالي الذهبي ، حجية الحكم الجنائي امام القضاء المدني ، دار النهضة العربية ، القاهرة ، ط2 ، 1981 ، ص9 .
19-- د.محمود نجيب حسني ، شرح قانون العقوبات اللبناني ، مصدر سابق ، ص260 .
20-د.احمد فتحي سرور ، الوسيط في قانون العقوبات – القسم العام ، مصدر سابق ، ص108 .
21- د.ضاري خليل محمود ، مصدرسابق ، ص99.
22- د.احمد فتحي سرور ، القانون الجنائي الدستوري ، مصدر سابق ، ص27 ، وانظر بنفس المعنى ،
Corinne Mascala, fasc uniqe, faits justificatifs – consentement de la victime, 2003 n.27 .
23- د.عوض محمد ، مصدر سابق ، ص191 .
24- وقد اوصى المؤتمر الدولي الرابع عشر لقانون العقوبات المنعقد في فينا للفترة من 1-7 اكتوبر 1989 بضرورة تدخل المشرع الجنائي بنصوص عقابية لحماية الاشخاص الذين تقع عليهم افعالا تعد اعتداءاً على الارادة وحق الحرية المرتبطة بالشخصية الانسانية والحق في حرية القرار ، أنظر توصيات المؤتمر في المجلة العربية للدراسات الامنية الصادرة من دار النشر بالمركز العربي للدراسات الامنية والتدريب بالرياض، المجلد الخامس ، العدد التاسع ، 1990 ، ص193 .
25- د.محمد محي الدين عوض ، المحاكمة الجنائية العادلة وحقوق الانسان ، المجلة العربية للدراسات الامنية، دار النشر بالمركز العربي للدراسات الامنية والتدريب ، الرياض ، مجلد خامس ، العدد 9 ، 1990، ص23 .
26- محمد زكي ابو عامر ، مصدر سابق ، ص51 .
27- د.محمد محي الدين عوض ، المحاكمة الجنائية العادلة وحقوق الانسان ، مصدر سابق ، ص24 .
28- د.احمد فتحي سرور ، القانون الجنائي الدستوري ، مصدر سابق ، ص137 .
29- بنفس المعنى د.سامي النصراوي ، مصدر سابق ، ص135 .
30- د.رمسيس بهنام ، الاجراءات الجنائية تاصيلاً وتحليلاً ، منشاة المعارف ، الاسكندرية ، 1977 ، ص153 .
31- المصدر السابق ، ص188 .
32-Yuri Stetsovsky, The right of the accused to defense in the USSR, proyress publishers, Moscow, 1982, p.16 .
33-وهذا قد يكون فردا من افراد السلطة كمن يستخدم التعذيب اثناء استجواب المتهم لحمله على الاعتراف وقد يكون فرداً عادياً كمن يهدد شاهدا للادلاء بغير الحقيقة .
34- د.احمد فتحي سرور ، القانون الجنائي الدستوري ، مصدر سابق ، ص198 .
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
خدمات متعددة يقدمها قسم الشؤون الخدمية للزائرين
|
|
|