لم يشأ «ماكس بلانك» Max Planck ⁽⁷⁾ أن يطوي القرن التاسع عشر صفحته من دون أن ينتهي من تجاربه الفيزيائية الفريدة التي عرض نتائجها خلال جلسة من جلسات اجتماع الجمعية الفيزيائية التابعة لأكاديمية العلوم في برلين. المنعقدة في ديسمبر 1900. وفي خلال هذه الجلسة التاريخية، أعلن بلانك نجاحه في تفسير طبيعة إشعاع الموجات الكهرومغناطيسية للمادة، وذلك من خلال اعتبار أن الإشعاعات الصادرة من جسم المادة ليست مجرد موجات ولكنها تتألف من جسيمات أُطلق عليها اسم الفوتونات Photons، حيث برهن على أن شدة الإشعاع تتناسب تناسبا طرديا مع عدد الفوتونات الصادرة، وأن طاقة الفوتون تعتمد على تردده. كذلك أظهرت نتائجه أن طاقة الذرة ليست متصلة، بل يمكن تقسيمها إلى عدة مستويات للطاقة توجد فيها جسيمات متناهية الصغر وهي الإلكترونات. وقد دعمت نظرية النسبية لآينشتاين في عام 1905 نتائج بلانك والتي صححت ركنا أساسيا من أركان افتراضات نيوتن المتمثلة في العلاقة الرابطة بين الزمان والمكان والمادة، فقد أثبت آينشتاين أنها علاقات ليست مطلقة أو ثابتة، بل هي نسبية ومتغيرة ⁽⁸⁾.

وقد مثلت نتائج تجارب ماكس بلانك ومن بعده آينشتاين إشعارا الميلاد ثورة ميكانيكا الكم Quantum Mechanics وفتحا علميا أدى إلى تصحيح نظريات الفيزياء الكلاسيكية، مما ساعد على دخول الفيزياء إلى مجالات جديدة ومتعددة كان من أبرزها مجال العمليات الحرارية التي تعد أصل علم الديناميكا الحرارية وتأسيس قواعد علم الديناميكا الكهربية. وأود الإشارة إلى أن كلمة «الكم Quantum» هي كلمة لاتينية الأصل معناها «كمية»، وترجع تسمية النظرية بهذا الاسم إلى أن الطاقة التي تكتسبها الأجسام أو تمنحها لجسم أو أجسام أخرى لا تنتقل بصورة مستمرة ومتواصلة، ولكنها تنتقل متقطعة على هيئة كميات – جمع كلمة «كم» – أو دفعات متتالية، لذا عرفت هذه النظرية بميكانيكا الكم.

وخلال الخمسين سنة الأولى من القرن العشرين، توالت فتوحات الفيزياء الحديثة وغزواتها الميدانية إلى جميع أفرع العلوم والتكنولوجيا حيث تأسست النظريات المنطقية الحديثة القائمة على ثورة ميكانيكا الكم، فلم يكن من المستغرب أن يتحقق خلال تلك الفترة الخصبة إنتاج أكثر من 75% من أسس ومبادئ علم الفيزياء المعروف لنا اليوم ⁽⁹⁾، وكان لهمة الباحثين القابعين بمعاملهم ونشاطهم العلمي والبحثي الملتهب خلال الخمسين سنة المتبقية من القرن الماضي أبلغ الأثر في تضاعف عدد الأبحاث وتعدد النظريات الرائدة التي مهدت الطريق لانطلاق ثورة تكنولوجيا النانو.

______________________________________________________________
هوامش

(7) عالم ألماني شهير في علم الفيزياء حصل على جائزة نوبل في الفيزياء العام 1918، على يديه حلت مشكلة الصندوق الأسود حيث حسم الجدل العلمي الناشئ إبان القرن التاسع عشر بشأن مصداقية الفيزياء الكلاسيكية في حل كل المشكلات والظواهر الكونية والفيزيائية، وذلك من خلال صياغته لنظرية جديدة عُرفت باسم ميكانيكا الكم التي تعد أساس علم النانو. والمعرفة مزيد عن هذا العالم الكبير، يرجى الاطلاع على الصفحة الرقم 268 من المرجع الرقم 3 السابق المدون في هوامش هذا الفصل. أما القارئ المهتم بمعرفة أدق التفاصيل عن حياة وإنجازات «بلانك»، فأرشح له الاطلاع على أحد المراجع التالية:

Max Planck, Scientific Autobiography and Other Papers. Philosophical Library, New York, 1949.

Nobel Lectures, Physics 1901–1921, Elsevier Publishing Company, Amsterdam, 1967.

(8) لسنا في حاجة إلى التعريف بعالم الفيزياء والرياضيات الفذ البروفيسور ألبرت آينشتاين حاصد جائزة نوبل في الفيزياء العام 1921 وغيرها من الجوائز العالمية، ولكني أود أن أشير هنا إلى كتاب رشيق كتبه آينشتاين بنفسه عن نظريته المعروفة باسم النظرية النسبية، حيث أوضح فيه كيف تلاحمت تلك النظرية مع ميكانيكا الكم التي أسسها ورسخها العالم الفيزيائي «ماكس بلانك ليكونا معا حجر الزاوية الأول في صرح الفيزياء الحديثة. وعلى المستوى الشخصي فإني أعرف – شأني في ذلك شأن الجميع – آينشتاين كعالم فيزيائي ورياضي فذ، ولكن بعد قراءة الكتاب التالي عرفت أيضا أنه فيلسوف وعالم اجتماع من العيار الثقيل! الكتاب يأتي بأسلوب مبسط ليستفيد منه كل من القارئ المثقف والمتخصص.

Albert Einstein, The World as I see it. A division of Lyle Stuart Inc New Jersey, The U.S.A. (1949).

(9) كتاب «فلسفة العلم في القرن العشرين عالم المعرفة». تأليف الدكتورة يمنى طريف الخولي. العدد الرقم 264 العام 2000، الصفحات من 173 إلى 203، الناشر المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب – دولة الكويت.