المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية


Untitled Document
أبحث عن شيء أخر



الصنعة في الخطابة الأموية  
  
5403   03:57 مساءً   التاريخ: 8-10-2015
المؤلف : شوقي ضيف
الكتاب أو المصدر : الفن ومذاهبه في النثر العربي
الجزء والصفحة : ص80-94
القسم : الأدب الــعربــي / الأدب / النثر /

ازدهرت الخطابة ازدهارا رائعا في العصر الأموي، وقد صاحب هذا الازدهار عناية واسعة من الخطباء على اختلاف أغراضهم بإحكام خطابتهم عن طريق البيان التام، والحجة البالغة والألفاظ المونقة، ولا غرابة في ذلك، فإنهم إنما كانوا يريدون بخطبهم في أكثر أحوالها إقناع الناس، وإسكات الخصوم واستمالة القلوب، حتى يصنع فيها صنيع الغيث في التربة الكريمة.
وإذا رجعنا نتصفح آثار الخطباء السياسيين، وجدنا خطباء كل حزب يحاولون أن يحققوا لخطبهم كل ما يمكن من آلات البيان والبلاغة، كل بحسب طاقته ومواهبه، ونعرض في إجمال لطائفة من هؤلاء الخطباء، هم زياد والحجاج من خطباء الحزب الأموي، وقطري بن الفجاءة من حزب الخوارج، والمختار الثقفي من حزب الشيعة، أما زياد فكان حسن الألفاظ جيد المعاني، كأنما أوتي فصل الخطاب، وفيه يقول الشعبي: "ما سمعت متكلما على منبر قط تكلم، فأحسن إلا أحببت أن يسكت خوفا أن يسيء إلا زيادا، فإنه كلما أكثر كان أجود كلاما"(1)، ولعل أشهر خطبة أثرت عنه هي خطبته الملقبة بالبتراء، وإنما سميت بذلك؛ "لأن خطباء السلف الطيب، وأهل البيان من التابعين بإحسان ما زالوا يسمون الخطبة التي لم يبتدئ صاحبها بالتحميد، ويستفتح كلامه بالتمجيد: البتراء، ويسمون التي لم توشح بالقرآن، وتزين بالصلاة على النبي صلى الله عليه  و[آله]وسلم: الشوهاء"(2).
ومن يرجع إلى هذه الخطبة(3) يلاحظ أن زيادا عني بتأليفها عناية شديدة، فهي مقسمة إلى فقرات، إذ يستهلها ببيان ما انغمس فيه أهل البصرة من الغي، والضلال والفسق والفساد متحرفين عن هدي الإسلام، والقرآن الكريم، ثم يبين لهم سياسته التي سيأخذهم بها، وأنها لين في غير ضعف، وشدة في غير عنف، ثم يأخذ في إنذارهم، وبيان العقوبات التي سينزلها على الجانبين منهم، ومن يعيثون فسادًا في الأرض، ويخرج من ذلك إلى بيان حق أئمتهم عليهم من الطاعة، ولزوم الجماعة، ويقول: إنهم يسوسونهم بسلطان يستمدونه من الله، فهم ساستهم المؤدبون، وكهفهم الذي إليه يأوون، ويختمها بالوعيد الشديد يشوبه بالترغيب.
وبون بعيد بين هذه الخطبة وخطب الجاهليين، فقد كانت الأخيرة أمثالًا وحكما، ولما جاء الإسلام أصبح للخطابة موضوع ديني واضح، ثم أخذت تتسع منذ الرسول عليه السلام للأحداث، ولكنها لم تصبح خطابة زمنية على هذا النحو الذي نجده في "البتراء"، والذي أصبحت فيه الخطبة تعرض لسياسة الحكم وتدعو لبني أمية، وتؤكد حقهم في الخلافة بمثل قوله: "أيها الناس إنا أصبحنا لكم ساسة وعنكم ذادة، نسوسكم بسلطان الله الذي أعطانا، ونذود عنكم بفيء الله الذي خولنا، فلنا عليكم السمع والطاعة فيما أحببنا، ولكم علينا العدل والإنصاف فيما ولينا"، وكأنه يقرر هنا نظرية التفويض الإلهي التي عرفها الفرس قبل الإسلام، فبنو أمية وولاتهم مثل زياد يسوسون الناس بتفويض من الله، وليس لهم أن يعارضوا، وأن ينقضوا هذا التفويض، أو تلك السياسة.
والخطبة بدون شك صحيحة النسبة إلى زياد، فهي تصور سياسته التي تحدثنا عنها كتب التاريخ، والتي أجملها في قوله: "لين في غير ضعف وشدة في غير عنف"، ثم هي تصور شدته على الجانين والبغاة، ومن كانت تحدثهم نفوسهم بالخروج على بني أمية، وقد بناها جميعا من ألفاظ جزلة مختارة، ليس فيها غريب مستكره ولا ساقط رديء، وإنما فيها القوة والمتانة، وفيها ضروب من الصور البيانية، وبعبارة أخرى من التشبيهات والاستعارات، غير أنه لا يعمد فيها إلى السجع، آخذا بسنة الخلفاء الراشدين في خطابتهم، وهي محكمة التنسيق كل فقرة تسلم إلى أختها، والأفكار تتسلسل في نظام، مما يدل على أنه لم يكن ذا عقل فطري بسيط، فعقله مدعم بالفكر الجديد، وهو الفكر الذي أخذ يستسيغ ما لدى الأجانب من نظرية التفويض الإلهي وغيرها، ولكن دون أن يذوب فيهم، ودون أن ينسى شخصيته العربية، وأسلوب قومه المحكم القائم على استخدام اللفظ المصقول الرصين، الذي يروعنا برونقه، وسلاسة نظمه ووضوح دلالته.
ولم يكن الحجاج يقل عن زياد بيانا، وإعرابا عما يختلج في صدره، ولعل أشهر خطبه تلك التي خطبها في الكوفة حين قدم على العراق واليا من قبل عبد الملك(4)، حدث معاصروه أنه دخل الكوفة فجأة حين انتشر النهار،
فبدأ بالمسجد فدخله، ثم صعد المنبر وهو ملثم بعمامة خز حمراء، حتى إذا اجتمع الناس في المسجد قام فكشف عن وجهه، ثم قال:
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا ... متى أضع العمامة تعرفوني(5)
أما والله إني لأحتمل الشر بحمله.. وإني لأرى رؤوسا قد أينعت، وحان قطافها وإني لصاحبها، وإني لأنظر إلى الدماء بين العمائم واللحى، ثم أخذ ينشد أبياتا تنذر بما سيأخذهم به من عنف، فهم كما يقول أهل الشقاق والنفاق ومساوئ الأخلاق، وقد نثر عبد الملك جعبة سهامه فوجده أمرها عودا، فرماهم به، ويردد وعيده لهم وتهديده من مثل قوله: "أما والله لألحونكم لحو العصا(6)، ولأعصبنكم عصب السلمة(7)، ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل"(8)، وقوله: "أما لتستقيمن على طريق الحق أولاد عن لكل رجل منكم شغلا في جسده".
والخطبة سياسة خالصة، فهي ذات موضوع زمني واضح، وهي تصور سياسة الحجاج التي اشتهر بها في كتب التاريخ، والتي كانت تقوم على العنف الشديد في غير لين، ولعل ذلك ما أراده الحسن البصري حين قال فيه، وفي زياد: "تشبه زياد بعمر بن الخطاب فأفرط، وتشبه الحجاج بزياد، فأهلك الناس"(9).
وعلى نحو ما تصور الخطبة سياسة الحجاج تصور فصاحته، وبلاغته وحفظه للشعر الغريب، إذ اتخذه مقدمة لكلامه، وكأنما يجعله فاتحة، موسيقية له، وهي فاتحة يتبدى فيها، ويطلب التشبه بالبدو لا في لغته فحسب، بل أيضا ثيابه وملبسه(10)، حتى يغرب على السامعين ويروعهم، ولم يكتف بهذا الضرب من الإغراب، فقد عمد إلى طائفة من الصور الغريبة، وهي تتراكم في الخطبة تراكما شديدا، كما تتراكم في خطبه الأخرى(11). ولعل مما يتصل بميله إلى الإغراب، والتهويل في منطقة ما رواه المبرد من أنه "كان إذا صعد المنبر تكلم رويدًا، فلا يكاد يسمع، ثم يتزيد في الكلام حتى يخرج يده من مطرفه(12)، ويزجر الزجرة، فيفزع بها أقصى من في المسجد"(13)، ومعنى ذلك أنه كان في مظهره أثناء خطابته، وفي صوته وفي لفظه، وما يحوي من شعر وصور نادرة يريد التهويل على السامعين، ويحاول أن يحكم صنعته في الخطابة من جميع أطرافها، حتى في إشارة اليد، وفي الهمس بصوته، والجهر به حتى يخلب القلوب، على أننا نلاحظ أنه كان يتحامى السجع مثله مثل زياد، لكنه بعد ذلك كان يعني باختيار ألفاظه، ملتمسا منها ما ليس متوعرا وحشيا، ولا ساقطا سوقيا، وهو حقا يعد في الذروة من البلاغة لعصره، حتى ليقول عنه مالك بن دينار: "ربما سمعت الحجاج يخطب، يذكر ما صنع به أهل العراق وما صنع بهم، فيقع في نفسي أنهم يظلمونه، وأنه صادق، لبيانه وحسن تخلصه بالحجاج"(14). ومما لا شك فيه أنه يتفوق على زياد في ابتكار الصور والتشبيهات والاستعارات، ولكن زيادا يتفوق عليه في بناء خطبه وإحكام تأليفها، بحيث تتتابع في فقر وأجزاء متسلسلة، وليس معنى ذلك أن الحجاج لم يكن يطيل خطبه، فقد كان كثيرا ما يطنب في خطابته، ويسهب إسهابا شديدا، وخاصة في مواعظه الدينية(15)، وقد بقي له منها قطع تدور في كتب الأدب من مثل: "اللهم أرني الهدى هدى فأتبعه، وأرني الغي غيا فأجتنبه، ولا تكلني إلى نفسي فأضل ضلالا بعيدا"(16)، ومثل: "إنا والله ما خلقنا للفناء، وإنما خلقنا للبقاء، وإنما ننقل من دار إلى دار"(17)، وكان الحسن البصري يقول فيه "يعظ عظة الأزارقة، ويبطش بطش الجبارين(18)"، ويروى أنه قال: "لقد وقذتني كلمة سمعتها من الحجاج، سمعته يقول على هذه الأعواد: إن امرأ ذهبت ساعة من عمره في غير ما خلق له لخليق أن تطول عليها حسرته"(19).
ومر بنا أنه كان للخوارج خطباء كثيرون مفوهون، وكانوا يعنون عناية شديدة بإعداد كلامهم، حتى يجذبوا القلوب إليهم، ولعل ذلك ما جعل عبيد الله بن زياد يقول فيهم: "إن كلامهم أسرع إلى القلوب من النار إلى الهشيم"، وروى المبرد أن عبد الملك بن مروان أتى رجل منهم، فجعل يبسط له من قولهم، ويزين له من مذهبهم بلسان طلق وألفاظ مبينة ومعان واضحة، فقال عبد الملك: "لقد كاد يدفع في خاطري أن الجنة خلقت لهم، وأني أولى بالجهاد منهم، ثم رجعت إلى ما ثبت الله علي من الحجة وقرر في قلبي من الحق"(20)، وفي إحسانهم لخطابتهم يقول عبيدة بن هلال(21):
أدباء إما جئتهم خطباء ... ضمناء كل كتيبة جرار(22)
وكانوا يمزجون خطابتهم السياسية بالدعوة إلى الزهد في الدنيا، والرغبة في الآخرة، وما عند الله من الثواب، وقد يثنون على أبي بكر وعمر، ثم يقدحون في عثمان ومن جاءوا بعده، ويحثون على الجهاد، معلنين أنهم على الحق، أما جماعة المسلمين فاتبعت أهواءها وجارت عن الطريق القاصد. ومن خير ما يصور ذلك خطبة أبي حمزة الخارجي في مكة(23)، وفيها يصف شباب الخوارج هذا الوصف الرائع:
"
شباب والله مكتهلون في شبابهم غضيضة عن الشر أعينهم، ثقيلة عن الباطل أرجلهم، أنضاء عبادة وأطلاح سهر(24)، ينظر الله إليهم في جوف الليل منحنية أصلابهم على أجزاء القرآن، كلما مر أحدهم بآية من ذكر الجنة بكى شوقا إليها، وإذا مر بآية من ذكر النار شهق شهقة كأن زفير جهنم في أذنيه، موصول كلالهم بكلالهم: كلال الليل بكلال النهار.. حتى إذ رأوا السهام قد فوقت(25)، والرماح قد أشرعت والسيوف قد انتضيت، ووعدت الكتيبة بصواعق الموت، وبرقت استخفوا بوعيد الكتيبة لوعد الله، ومضى الشاب منهم قدما حتى اختلفت رجلاه على عنق فرسه، وتخضبت بالدماء محاسن وجهه، فأسرعت إليه سباع الأرض، وانحطت عليه طير السماء، فكم من عين في منقار طائر طالما بكي صاحبها في جوف الليل من خوف الله، وكم من كف زالت عن معصمها طالما اعتمد عليها صاحبها في جوف الليل بالسجود لله".
وواضح أن هذا الوصف يعتمد في جماله على صدق العاطفة وحرارتها، وقوة العقيدة ومتانتها، إذ يمثل صاحبه مدى إيمان الخوارج بمذهبهم، وكيف باعوا الحياة الدنيا بالآخرة، حتى أصبح الاستشهاد أمنيتهم والتهافت على نيران الموت طلبتهم، وهم لذلك يثورون ثورة جامحة، يقدسون فيها عقيدتهم، ويتفانون في سبيلها صادرين في ذلك عن روح تقوى مفرطة. ولعل ذلك ما جعلهم يكثرون من المواعظ الخالصة، وخير من يمثلهم في ذلك قطري بن الفجاءة، وله موعظة طويلة مشهورة، وكلام كثير محفوظ(26)، ونسوق قطعة من موعظته ندل بها على مبلغ تجويده وتحبيره، يقول(27):
"
أما بعد فإني أحذركم الدنيا فإنها حلوة خضرة، حفت بالشهوات وراقت بالقليل وتحببت بالعاجلة وحليت بالآمال وتزينت بالغرور.. مع أن امرأ لم يكن منها في حبرة إلا أعقبته بعدها عبرة، ولم يلق من سرائها بطنا إلا منحته
من ضرائها ظهرا، ولم تطله(28) غيثة رخاء إلا هطلت عليه مزنة بلاء، وحرى إذا أصبحت له منتصرة، أن تمسي له خاذلة متنكرة، وإن جانب منها اعذوذب واحلولى، أمر عليه منها جانب وأوبى(29)، وإن آتت امرأ من غضارتها، ورفاهيتها نعما، أرهقته من نوائبها نقما، ولم يمس امرؤ منها في جناح أمن إلا أصبح منها على قوادم(30) خوف.. لا خير في شيء من زادها إلا التقوى".
والقطعة -مثلها مثل الموعظة جميعها- تمتاز بأنها تتصل بنفس صاحبها، وكأنه سكب فيها روحه، فهو يعبر عن تقوى صادقة تسيل من قبله ونفسه، وهو بعد ذلك دقيق في اختيار لفظه، يعنى برصفه عناية أوسع من عناية أبي حمزة الشاري، إذ تنقلب عنايته في أكثر الموعظة إلى ضرب من السجع الرشيق، وهذه العناية بالسجع إلى حد بعيد تضافرت معها عناية بالطباق والمقابلة، وعناية أخرى بالصور والرسوم المتحركة، وهو يشبه الحجاج في الجانب الأخير، غير أنه لا يكتفي به، بل يضيف إليه فنونا من المقابلات وضروبا من الإيقاعات الصوتية، حتى يبلغ ما يريد من التأثير في نفوس سامعيه.
ولم يكن الشيعة أقل من الخوارج، وولاة بني أمية احتفالا بخطابتهم، ويؤثر عن علي بن الحسين أنه قال: "لو كان الناس يعرفون جملة الحال في فضل الاستبانة، وجملة الحال في صواب التبيين لأعربوا عن كل ما تخلج في صدورهم و لوجدوا من برد اليقين ما يغنيهم عن المنازعة إلى كل حال سوى حالهم، ولكنهم من بين مغمور بالجهل، ومفتون بالعجب، ومعدول بالهوى عن باب التثبت، ومصروف بسوء العادة عن فضل التعلم"(31)، وكان زيد ابنه جدلا لسنا يجتذب الناس بحلاوة لسانه، وسهولة منطقه وعذوبته(32)، مع قوة الحجج وكثرتها، ومع الجزالة والفخامة(33)، ومن خطباء الشيعة، وكبار دعاتهم في هذا العصر المختار الثقفي، وكان خارجيا، ثم صار زبيريا، ثم صار رافضيا(34)، وقد ثار في العراق ثورة عنيفة، غير أن مصعب بن الزبير قضى عليه في سنة 67 للهجرة، وكان يذهب في سيرته وخطابته مذهبا قريبا من مذهب الكهنة في الجاهلية، فكان يزعم لأصحابه أنه يوحى إليه، وكان يتخذ السجع دلالة على هذا الوحي، وفي ذلك يقول ابن قيس الرقيات:
والذي نغص ابن دومة ما تو ... حي الشياطين والسيوف ظماء
وكان يتخذ لأنصاره كرسيا قديم العهد غطاه بالديباج، وكان يقول لهم: "إن محله محل السكينة في بني إسرائيل"(35)، وروى المبرد كثيرا من شعوذته، وكيف كان يدعي أنه يلهم ضربا من السجع لأمور تكون ثم يحتال فيوقعها، فيقول للناس: هذا من عند الله عز وجل، ومن يرجع إلى سجعه يجده يعتمد فيه على الأقسام والإبهام، والإغراب على نحو ما كان يعتمد على ذلك الكهنة قديما من مثل قوله(36):
"
أما ورب البحار، والنخيل والأشجار، والمهامة(37)، والقفار، والملائكة الأبرار، والمصطفين الأخيار، لأقتلن كل جبار، بكل لدن خطار(38)، أو مهند بتار(39)، في جموع من الأنصار، ليسوا بميل أغمار(40)، ولا بعزل(41) أشرار. حتى إذا أقمت عمود الدين، ورأبت شعب(42) صدع المسلمين، وشفيت غليل صدور المؤمنين، وأدركت بثأر النبيين، لم يكبر علي زوال الدنيا، ولم أحفل بالموت إذا أتى".
وكان المختار يكثر من هذه الأسجاع، ويتشبه فيها بصنيع الكهان، وهذا هو لحثه الذي كان يردده في خطبه التي رواها له المؤرخون، وكان يوفر من غير شك في أثناء ذلك لكلامه ضروبا مختلفة من التكلف، حتى يحقق ما يريد من الإيهام البعيد.
وإذا تركنا خطباء الأحزاب السياسية إلى خطباء المحافل، وجدناهم يحاولون جاهدين التأنق في خطابتهم(43)، وهذا طبيعي؛ لأن خطابتهم محدودة، إذ لا تتجاوز في كثير منها كلمات معدودة، وكانوا يلقونها بين أيدي الخلفاء والولاة، فكانوا يطلبون فيها أن تروعهم، وتستميل إليهم قلوبهم، ولعلهم من أجل ذلك كانوا يلتزمون فيها السجع، حتى يستموا لها كل حلية صوتية ممكنة، وأشهر خطباء المحافل في هذا العصر، كما أسلفنا، الأحنف بن قيس زعيم تميم البصرة، فقد كان يفد لقومه على معاوية، فيلقي إليه بحاجتهم في عبارات مسجعة منمقة على شاكلة قوله(44):
"
يا أمير المؤمنين! أهل البصرة عدد يسير، وعظم كسير، مع تتابع من المحول، واتصال من الذحول(45)، فالمكثر فيها قد أطرق(46)، والمقل قد أملق(47)، وبلغ منه المخنق، فإن رأى أمير المؤمنين أن ينعش الفقير، ويجبر الكسير، ويسهل العسير، ويأمر بالعطاء، ليكشف البلاء، ويزيل اللأواء(48)، وإن السيد من يعم ولا يخص ويدعو الجفلى(49)، ولا يدعو النقرى(50)، وإن أحسن إليه شكر، وإن أسيء إليه غفر، ثم يكون من وراء ذلك لرعيته عمادا يدفع عنهم الملمات، ويكشف عنه المعضلات".
وليس الأحنف وحده الذي كان يسجع بين خطباء المحافل، فقد كانت عامتهم تذهب هذا المذهب من التحبير وتنميق الكلام، واستمر ذلك سمتهم طوال عصر بني أمية كما كان سمة أعراف البادية غالبا حين ينزحون من باديتهم إلى المدن، فيتحدثون بين أيدي الخلفاء والولاة، وقد فتح الجاحظ لهم فصلا في بيانه استعرض فيه طائفة من أقوالهم(51)، وهي جماعة تدخل في هذا الأسلوب المسجع، وما يطوي فيه من جمال الصياغة، ويعبر الجاحظ عن انبهاره إزاء ما يروي من كلام هؤلاء الأعراب، فيقول: "ليس في الأرض كلام هو أمتع، ولا آنق ولا ألذ في الأسماع، ولا أشد اتصالا بالعقول السليمة، ولا أفتق للسان، ولا أجود تقويما للبيان، من طول استماع حديث الأعراب العقلاء الفصحاء"(52)، ويقال: إن خالد بن صفوان تكلم في صلح بكلام لم يسمع الناس قبله مثله، فإذا أعرابي في بت(53)، ما في رجليه حذاء، فأجابه بكلام أروع من كلامه وأعجب"(54).
وقد خطا خطباء القصص، والمواعظ بخطابتهم خطوات واسعة نحو الصقل والتجويد لأساليبهم، وتلوين معانيهم وتنويعها وتفريغها فروعا كثيرة، ولم يكن الوعاظ يخطبون وقوفا إلا في صلاة الجماعة والعيدين، أما بعد ذلك فكان مثلهم مثل القصاص يخطبون غالبا، وهم جالسون وحولهم الناس يتحلقون، وهم يسوقون إليهم مواعظهم، فخطابتهم كخطابة القصاص كانت في الأغلب خطابة جالسة، أو قل: كانت أشبه بالمحاضرات والإملاءات، وليس هذا هو كل ما يفرق بين خطابتهم والخطابة السياسية، فهناك فرق آخر مهم يتصل بجمهور المستمعين إلى الطرفين، إذ كان خطباء السياسة يتجهون بخطابتهم إلى العرب وجيوشهم المقاتلة، أما خطباء الوعظ والقصص، فكانوا يخاطبون الهيئة الاجتماعية.
كلها على اختلاف طبقاتها من خاصة وعامة، ومن عرب وموال، ولذلك هبطوا بأساليبهم قليلا عن مستوى أساليب الخطابة السياسية، حتى تفهمهم جميع الطبقات، وحتى لا يرتفعوا بكلامهم عن فئات العامة، ومع هذا الهبوط لم يخرجوا إلى كلام السوقة، بل وازنوا موازنة دقيقة بين كلامهم، ومستوى الفصاحة، فأخلوه من الألفاظ الغريبة، وفي الوقت نفسه لم يسقطوا به إلى ألفاظ مبتذلة، وألجأهم ضيق معانيهم إلى التنويع فيها والتفريغ والتوليد، كما ألجأهم إلى ضروب من الترداد والتكرار والترادف، لم يلبثوا أن تحولوا بها إلى صورة من الأسلوب المزدوج، الذي يقف في منزلة وسطى بين أسلوب السجع، والأسلوب المرسل، ولا نغلو إذا قلنا: إنهم هم الذين هيئوا لبروز هذا الأسلوب الذي شاع فيما بعد بين الكتاب مثل عبد الحميد الكاتب، والجاحظ ومن جرى مجراهما، ونراهم يستخدمون ضروبا من التصوير، أو من التشبيهات والاستعارات، وهم يستلهمون في كثير من جوانبها آي الذكر الحكيم، كما يستلهمونها في أكثر معانيهم، وقد جعلهم حديثهم عن الثواب والعقاب والجنة، والنار والطاعة والعصيان والحياة والموت والإيمان، والكفر أن يقيموا كلامهم على الطباق والمقابلة، مثل قول الحسن البصري: "بع دنياك بآخرتك تربحهما جميعا، ولا تبع آخرتك بدنياك فتخسرها جميعا، وإذا رأيت الناس في الخير فنافسهم فيه، وإذا رأيتهم في الشر فلا تغبطهم به، الثواء ها هنا قليل، والبقاء هناك طويل، فخذوا صفاء الدنيا وذروا كدرها"(55)، وقوله: "إن خوفك حتى تلقى الأمن خير من أمنك حتى تلقى الخوف"(56).
والحسن البصري خير من يصور أسلوب الوعاظ المبني على الازدواج، واستخدام بعض الصور، وتلوين الكلام بألوان الطباق والمقابلة، مما يمثل تلك الصناعة المحكمة، ويغلب الحزن على مواعظه كما يغلب ترداد معنى الخوف والرجاء، ووصفه بعض معاصريه، فقال: "كان إذا أقبل، فكأنما أقبل من دفن حميمه، وكأن إذا جلس فكأنه أسير قد أمر بضرب عنقه، وكان إذا ذكرت النار عنده فكأنها لم تخلق إلا له"(57). ويموج كتاب البيان والتبيين وكتاب عيون(58) الأخبار، والعقد(59) الفريد بمواعظه، ومواعظ معاصريه.
ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا: إن هؤلاء الوعاظ هم الذين ألانوا أساليب اللغة العربية، وحملوها من الطاقات ما تستطيع به التعبير عن المعاني الدقيقة، وكانت كثرتهم من الأجانب، وكانوا مثقفين ثقافة واسعة، وكانوا أصحاب فطن بارعة، ففتحوا أبوابا لا حصر لها من الجدال في مسائل الدين والعقيدة، وتحولوا بمعانيهم يفرعون فيها ويولدون، ويأتون بكل جديد مستطرف، وبديع مستحسن.
وكان بين هؤلاء الوعاظ من بلغ من الحذق أن جعل مواعظه كلها سجعا خالصا كأسرة الرقاشيين، وهي أسرة فارسية كانت تحترف القصص في هذا العصر كما كانت تحترف السجع، ويقال: إنها كانت معروفة في أمتها بالخطابة، فلما دخلت في الإسلام قامت في لغتنا مقامها في لغتها الأصلية، وكأنما نزع أفرادها ذلك العرق القديم، ومنها يزيد بن أبان الرقاشي، وكان قاصا مجيدا، وكان يتكلم في مجلس الحسن البصري، وكان عابدا زاهدا، وهو عم الفضل بن عيسى الرقاشي، وفيه يقول الجاحظ: "كان الفضل سجاعا في قصصه.. وهو الذي يقول: سل الأرض فقل.. من شق أنهارك، وغرس أشجارك، وجنى ثمارك، فإن لم تجبك حوارا أجابتك اعتبارا"(60)، وكان خالد بن صفوان التميمي يسجع كثيرا(61)كما كان يسجع غيره من العرب، ومعنى ذلك أن الرقاشيين لم يستحدثوا السجع في وعظهم، وإنما نسجوا فيه على منوال بطائفة من فصحاء العرب، وبلغائهم.
ومهما يكن فإن الخطباء الوعاظ، والقصاص نموا التحبير البياني، وكثيرا ما يقف الجاحظ في بيانه متعجبا من قدرتهم البلاغية، وقد تعجب طويلا من بلاغة واصل بن عطاء، وكيف استطاع أن ينزع الراء من خطبه للثغته فيها على نحو ما مر بنا غير هذا الموضع.
ولم يكن واصل وحده هو الذي أحرز هذا المقدار من البلاغة والبيان، بل لقد أحرزه عامة القصاص والوعاظ، وقد تحولوا يعلمون شباب البصرة، والكوفة كيف يتفرقون في الخطابة، وكانوا يسألونهم أسئلة كثيرة عن أساليبها، وألفاظها وكيف ينبغ الخطيب، وما ينبغي أن يراعيه في هيئته وإشاراته ومنطقه، وكيف يقنع خصومه في الجدال ويسكتهم؟ ومتى يستحب الإيجاز في الخطبة؟ ومتى يستحب الإطناب؟ وكيف يلائم الخطيب بين ألفاظه ومعانيه؟ وكيف يوازن بين كلامه، وبين طبقات السامعين؟ وكيف يجعل لكل طبقة كلاما، ولكل حالة مقاما؟ وكيف يقنع خصومه في المناظرة ويلزمهم الحجة؟
وهيأ ذلك كله لاستنباط طائفة من الوصايا البلاغية نجدها منثورة في كتاب البيان والتبيين تجري على ألسنة هؤلاء الوعاظ، وخاصة من كانوا يقارعون الخصوم ويجادلونهم، ونقصد المتكلمين الذين تناقشوا في القدر والعقيدة طويلًا، والذين نصبوا أنفسهم للرد على خصوم الإسلام.
ولعل مما يدل على صحة ما نزعم من ذلك أن أقدم النصوص التي تتصل بماهية البلاغة تضاف إلى واعظ من هؤلاء الوعاظ المتكلمين، وهو عمرو بن عبيد، فقد
روى الجاحظ أنه قيل له: ما البلاغة؟ فقال لسائله(62)
"ما بلغ بك الجنة وعدل بك عن النار، وما بصرك مواقع رشدك وعواقب غيك، قال السائل: ليس هذا أريد.. قال عمرو: فكأنك إنما تريد تخير اللفظ في حسن إفهام؟ قال: نعم، قال: إنك إن أردت تقرير حجة الله في عقول المكلفين، وتخفيف المئوية على المستمعين، وتزيين تلك المعاني في قلوب المريدين، بالألفاظ الحسنة في الآذان، المقبولة عند الأذهان، رغبة في سرعة استجابتهم، ونفي الشواغل عن قلوبهم بالموعظة الحسنة، على الكتاب والسنة كنت قد أوتيت فصل الخطاب، واستحققت على الله جزيل الثواب".
وعلى هذا النحو كان الشباب يتعلمون على هؤلاء الوعاظ، كيف يبلغون ما يريدون من حسن الإفهام ومن البيان والطلاقة، وكيف يحصلون ذلك ويميزونه مع جمال المخارج والسلامة من التكلف، وكان الوعاظ من جانبهم لا يزالون يقدمون لهم النصح والإرشاد، وقد يدعونهم إلى المناظرة بين أيديهم طلبا لترويضهم وتمرينهم، على نحو ما صنع الحسن البصري بواصل، وعمرو بن عبيد إذ دعاهما في مجلسه للمناظرة في مرتكب الكبيرة والوصف الذي يستحقه، حتى يحذقوا الجدال، ومناقشة الخصوم والاحتجاج عليهم، وإذا لم يدعوهم إلى الكلام بين أيديهم نثروا عليهم وصاياهم على نحو ما نجد في وصية شبيب بن شيبة، التي يذكر فيها أن الناس يعجبون بجودة الابتداء، أما هو فيعجب بجودة الخاتمة، ويقول: إذا ابتلي الخطيب بمقام لا بد له فيه من الإطالة، فإياه والإسهاب إلى درجة الخطل(63)، ويقول خالد بن صفوان: "اعلم -رحمك الله- أن البلاغة ليست بخفة اللسان وكثرة الهذيان، ولكنها بإصابة المعنى والقصد إلى الحجة"(64).
ولعل في كل ما قدمنا ما يصور كيف ارتقت الخطابة في بيئات الوعاظ والقصاص، فقد أخذوا يتدارسونها ويبحثون في أدواتها ووسائلها، وانبعثوا يخطبون في كل مناسبة ومقام، موازين بين معانيهم وألفاظهم، وبين كلامهم ومن يخاطبونهم به من العامة والخاصة، وكان خطباء السياسة من حولهم لا يزالون يجودون في خطابتهم، وكذلك كان شأن خطباء المحافل، حتى ليقولون إن شباب الكتاب في دواوين الخلفاء كانوا يحضرون -إذا قدمت الوفود- لاستماع بلاغة خطبائهم(65).
والحق أن هذه البيئات جميعا أتاحت للخطابة في هذا العصر ازدهارا عظيما، لعلها لم تعرفه في أي عصر من العصور الإسلامية الوسيطة، فقد تعانت جهود خطباء السياسة والمحافل، وتعاون معهم الوعاظ والمتكلمون على النهوض بها، بل لقد نفذ الآخرون إلى وضع قواعد، وتعاليم فيها كانت مقدمة للأبحاث البلاغية التي عرفت في العصر العباسي.
__________

1-البيان والتبيين 2/ 65.
2-نفس المصدر 2/ 6.
3- البيان والتبيين 2/ 62، وانظر عيون الأخبار 2/ 241، 243 حيث أوردها ابن قتيبة برواية أخرى، والعقد الفريد 4/ 110.           

 4- البيان والتبيين 2/ 307، وعيون الأخبار 2/ 243، والعقد الفريد 4/ 119، وما بعدها.              

 5- ابن جلا: كناية عن أنه لا يخفى مكانه، والثنايا: الشعاب في الجبال.
6- لحا العصا والشجرة لحوا قشرها.
7-السلمة: واحدة السلم، شجر ذو شوك، وكانوا يعصبون أغصانه، ويشدونها بعضها إلى بعض، ثم يخبطونها بالعصي، فيتناثر ورقها للماشية.
8- كانت الإبل الغريبة إذا وردت الماء على إبل أخرى ضربت لتبتعد عنها، حتى ترتوي.
9- البيان والتبيين 2/ 66.   

10- البيان والتبيين 2/ 308، وعيون الأخبار 2/ 243، وقارن 1/ 169.
11-انظر البيان والتبيين 2/ 138، والعقد الفريد 4/ 119، وما بعدها.
12- المطرف: الثوب.
13-الكامل للمبرد "طبعة رايت" ص173.
14- البيان والتبيين 1/ 394، 2/ 268.
15- نفس المصدر 2/ 298.
16-البيان والتبيين 2/ 137، والعقد الفريد 4/ 115. 

 17-البيان والتبيين 2/ 167، وعيون الأخبار 2/ 251.
18-البيان والتبيين 3/ 164.
19- البيان والتبيين 2/ 193، وقذتني: أفزعتني.
20- الكامل للمبرد ص573.
21- نفس المصدر ص701، وانظر البيان والتبيين 1/ 406، والحيوان للجاحظ 6/ 423.
22- ضمناء: كفلاء.
23- البيان والتبيين 2/ 122، وعيون الأخبار 2/ 249، والعقد الفريد 4/ 144، والأغاني 20/ 104.   

 24- أنضاء: مهزولون، أطلاح: مكدودون.
25- فوقت: جعلت لها الأفواق، وهي موضع الأوتار في السهام.
26- البيان والتبيين 1/ 341-342.
27- نفس المصدر 2/ 126، وعيون الأخبار 2/ 250، والعقد الفريد 4/ 141.

 28- تطل: من الطل وهو المطر الخفيف.
29- أوبى: من الوباء.
30-القوادم: الريش في مقدمة الجناح.
31- البيان والتبيين 1/ 84، وزهر الآداب 1/ 59 

 32-البيان والتبيين 1/ 58، وانظر زهر الآداب 1/ 72.      

33-البيان والتبيين 1/ 309-310، 1/ 325، والعقد الفريد 4/ 32.
34- الكامل للبرد ص 596.
35- نفس المصدر والصفحة، وانظر الحيوان للجاحظ 2/ 271.
36-الطبري، القسم الثاني ص 536.
37- المهامة: الفيافي والقفار.
38-لدن: الرمح القاطع للينه وحدته، والخطار: الضارب.
39- مهند: السيف، بتار، قاطع.
40- ميل: جمع أميل وهو الجبان، أو من لا سلاح معه، الأغماز: جمع غمز، وهو ناقص التجربة.
41-عزل: جمع أعزل، وهو من ليس معه سلاح.
42- شعب: ثلمة، ورأب الصدع: أصلحه.

 43-البيان والتبيين 1/ 204، وما بعدها.
44- زهر الآداب للحصري "طبعة المطبعة الرحمانية" 1/ 46.
45- الذحول: الثارات، والمحلول: الجدب.
46- أطرق: ضعف وهزل.
47- أملق: افتقر.
48- اللأواء: الشدة.
49- الدعوة الجفلى: الدعوة العامة.
50-النقرى: الدعوة الخاصة، دعوة الأفراد. 

51-البيان والتبيين 1/ 284، وما بعدها وانظر 1/ 297، وما بعدها، 1/ 408.
52- البيان والتبيين 1/ 145.
53- البت: كساء غليظ.
54- البيان والتبيين 1/ 173.    

 55-البيان والتبيين 3/ 132.
56- العقد الفريد 3/ 178، وانظر 3/ 214.    

 57- البيان والتبيين 3/ 171.
58- انظر 2/ 344، وفي مواضع متفرقة.
59- انظر فهرس الأعلام الملحق بالكتاب.
60- انظر في الفضل وأسرته البيان والتبيين 1/ 306-308، وراجع زهر الآداب 3/ 220.
61- البيان والتبيين 2/ 93، 3/ 164.  

62- البيان والتبيين 1/ 114، وانظر العقد الفريد 2/ 260، وزهر الآداب 1/ 94.
63- البيان والتبيين 1/ 112.
64- العقد الفريد 2/ 261.
65- العقد الفريد 4/ 449.

 





دلَّت كلمة (نقد) في المعجمات العربية على تمييز الدراهم وإخراج الزائف منها ، ولذلك شبه العرب الناقد بالصيرفي ؛ فكما يستطيع الصيرفي أن يميّز الدرهم الصحيح من الزائف كذلك يستطيع الناقد أن يميز النص الجيد من الرديء. وكان قدامة بن جعفر قد عرف النقد بأنه : ( علم تخليص جيد الشعر من رديئه ) . والنقد عند العرب صناعة وعلم لابد للناقد من التمكن من أدواته ؛ ولعل أول من أشار الى ذلك ابن سلَّام الجمحي عندما قال : (وللشعر صناعة يعرف أهل العلم بها كسائر أصناف العلم والصناعات ). وقد أوضح هذا المفهوم ابن رشيق القيرواني عندما قال : ( وقد يميّز الشعر من لا يقوله كالبزّاز يميز من الثياب ما لا ينسجه والصيرفي من الدنانير مالم يسبكه ولا ضَرَبه ) .


جاء في معجمات العربية دلالات عدة لكلمة ( عروُض ) .منها الطريق في عرض الجبل ، والناقة التي لم تروَّض ، وحاجز في الخيمة يعترض بين منزل الرجال ومنزل النساء، وقد وردت معان غير ما ذكرت في لغة هذه الكلمة ومشتقاتها . وإن أقرب التفسيرات لمصطلح (العروض) ما اعتمد قول الخليل نفسه : ( والعرُوض عروض الشعر لأن الشعر يعرض عليه ويجمع أعاريض وهو فواصل الأنصاف والعروض تؤنث والتذكير جائز ) .
وقد وضع الخليل بن أحمد الفراهيدي للبيت الشعري خمسة عشر بحراً هي : (الطويل ، والبسيط ، والكامل ، والمديد ، والمضارع ، والمجتث ، والهزج ، والرجز ، والرمل ، والوافر ، والمقتضب ، والمنسرح ، والسريع ، والخفيف ، والمتقارب) . وتدارك الأخفش فيما بعد بحر (المتدارك) لتتم بذلك ستة عشر بحراً .


الحديث في السيّر والتراجم يتناول جانباً من الأدب العربي عامراً بالحياة، نابضاً بالقوة، وإن هذا اللون من الدراسة يصل أدبنا بتاريخ الحضارة العربية، وتيارات الفكر العربية والنفسية العربية، لأنه صورة للتجربة الصادقة الحية التي أخذنا نتلمس مظاهرها المختلفة في أدبنا عامة، وإننا من خلال تناول سيّر وتراجم الأدباء والشعراء والكتّاب نحاول أن ننفذ إلى جانب من تلك التجربة الحية، ونضع مفهوماً أوسع لمهمة الأدب؛ ذلك لأن الأشخاص الذين يصلوننا بأنفسهم وتجاربهم هم الذين ينيرون أمامنا الماضي والمستقبل.