أقرأ أيضاً
التاريخ: 5-08-2015
1399
التاريخ: 6-12-2018
1218
التاريخ: 7-08-2015
1006
التاريخ: 11-4-2017
953
|
من المسائل المهمة التي دار البحث عنها في الامم السابقة هي مسألة اتصال الارض بالسماء وهل أن الله بعد أن خلق الخلق تركهم أم استمر اتصاله بهم، واتخذت هذه المسألة اشكالا متعددة ففي عهد اليهود شاعت مقولة (يد الله مغلولة) بمعنى أن الله عز وجل ترك عالم الخلق يسير كما يشاؤون ولا يتدخل في سيرهم ولا يعيق إرادتهم.
وفي عهد مشركي الجزيرة
العربية قالوا بضرورة توسيط آلهة صغار ليتم الاتصال مع الذات المقدسة اللامحدودة.
وفي العهد الاسلامي ظهرت
مقولة العامة من انقطاع الاتصال بين الارض والسماء بعد الرسول الاكرم (صلى الله
عليه وآله) وأنه لا يمكن أن تتنزل مشيئة إلهية جزئية في الموارد الخاصة... وأن
دعوى العامة وإن لم تكن في انقطاع التشريع الالهي لكنها في انقطاع الارادة
التكوينية المرتبطة بالناموس البشري فتكون هذه العقيدة قريبة المضمون من (يد الله
مغلولة) .
والقران الكريم عالج كل تلك
المقولات فبالنسبة لعقيدة اليهود أجابهم بصراحة {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ ... بَلْ
يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64] وأن الارادة الالهية لم ينقطع اتصالها
بالمخلوقين.
كما أن القران قد عالج مشكلة
المشركين حيث خطّأهم في نقطتين:
1 ـ في اعتقادهم أن الرابطة
مع الغيب يجب أن تكون ذاتاً مستقلة صغيرة (إله صغير) .
2 ـ في اختراعهم لتلك الوسيلة
والواسطة من عند أنفسهم دون الله تعالى، فالقرآن الكريم في نفس الوقت يؤكد على عدم
انقطاع الاتصال بالغيب المطلق، وأن هناك وسيلة للاتصال بالعوالم العلوية وهي في
حقيقتها محكومة لله عز وجل ولا تكون معبودة بل العبودية المطلقة لله عز وجل.
فهذه الصيغ الثلاث تتضمن نفس
المحتوى وهو انقطاع الوحي عن الارض وعدم الاتصال مع السماء. وأما استمرار الاتصال
فهو عين التوحيد وذلك لأن التوحيد الخالص هو توحيد الذات والصفات والافعال بل حتى
التوحيد في التشريع حيث لا يكون للانسان حق التشريع والتقنين بل الله وحده له هذا
الحق الذي بيّنه عن طريق الانبياء والائمة.
وايضا هناك التوحيد في
الولاية أي نتبع الله عز وجل فيمن نتولاه ونستهديه للوصول إلى الكمالات العالية
وهذا هو معنى الامامة فنفي الامامة يكون شركا ونفيا
للتوحيد في الطاعة.
ويمكن لنا أن نضم إلى هذه
الصيغ الثلاث صيغة رابعة نادى بها أصحاب المدرسة المادية الحديثة التي تدعي أن
عالم المادة تحكمه المعادلات المادية والقوانين الخاصة بها حيث أنهم يجعلون مصدر
الخلقة والايجاد هو المادة ثم يختلفون في تفسير هذه المادة فيجعل البعض أن المقصود
منها الطاقة والقدرة ولأجل الأقلمة مع أساس العقيدة يجعلون المادة شاعرة عالمة.
ولكننا نقول - في مقابل
الصياغات المتقدمة - أن ارتباط مراتب الوجود مع الذات المقدسة موجود ودائم غير
منقطع حتى في عالم الانسان الصغير، وهذا الارتباط اختياري لا اجباري وقد برهن عليه
في محله.
الدليل الاول:
وخلاصته:
أنه لابد من ارتباط غيب
الغيوب وهو الذات المقدسة بالعوالم النازلة وبالأخص عالم الانسان الصغير واراداته
وهدايته الارائية والايصالية وهذا التنزل بلا شك يجب أن يكون عبر قناة وجودية
خلقية وإلا لاقتضت وجود طفرة، ولابد لهذه القناة من أن تتصف بصفتين أحدهما
الارتباط بالغيب والاخرى الارتباط بالعالم النازل. وتفصيل ذلك من خلال النقاط
التالية:
- وجوب الارتباط وعدم انقطاع
الاتصال بين الارض والسماء.
- أن الاتصال إما أن يكون من
خلال ارتباط الذات المقدسة بكل فرد فرد وبكل نفس بشرية، وهذا يعني أن تكون كل
النفوس أنبياء ورسل وائمة وهذا وإن أمكن ثبوتا وليس بممتنع على الحق تعالى لكنه
على خلاف نظام الخلقة إذ أنه قائم على أن لا يكون الكل كذلك.
- أن الاتصال حينئذ يكون عبر
أفراد، ولا يخلو أمرهم أن يكونوا إما بشرا او ملائكة أي اننا اشترطنا أن يكون فيهم
جنبة بشرية و ... وجود الجنبة البشرية مطلقا يفقد خيرية الاقتداء والأسوة إذا أنه
لا يحقق البعث والتحريك نحو الكمال فهو بشر يراه الناس كأنفسهم لكنها نفس تعالت عن
مزالق الشهوات إلى مراتب الكمال فأصبحت تهدي بأمر ملكوتي، فهو نموذج بشري توفرت
فيه صفات الكمال، وفي هذا جواب على ما ذكره بعض العرفاء او الصوفية من أن المرتاض
في سير وسلوك وارتباط بالأرواح الكلية و العوالم العلوية أما في عالم الشهادة فإنه
يخطئ في تطبيق تلك الروح المرتبطة بعلي (عليه السلام) فيجعل لها مصداقا من آخرين
كزيد وعمرو... فهو في حقيقة أمره مرتبط ومذعن بالعوالم النورية، مثل ما قد ينسب
إلى بعض عرفاء العامة فيرى أنه وصل في سيره وسلوكه إلى الحقائق العلوية ولكنه اخطأ
في التطبيق في هذه النشأة.
و...أن هذا الارتباط أيضا غير
نافع، وذلك لأن الحقيقة الانسانية هي أشرف صور المخلوقات الالهية ومنها يبدأ السير
التكاملي والاتصال بالغيب فيجب أن لا يكون دونها كمالا، وهذا ... يقتضي أن يكون
الهادي والرابط بين الأرض والسماء له جنبة بشرية.
- نعم يبقى الجواب عن اشكال
قد يطرأ على ذهن البعض; وهو أن الاتصال بالغيب يكفي فيه النبوة فما الحاجة للائمة، وبتعبير آخر ما الحاجة إلى الهداية
الايصالية مع وجود الهداية الارائية؟
وفي مقام الجواب نشير إلى أن
الروايات قد استفاضت أو تواترت على أن للائمة جنبة تشريعية للأحكام لا بمعنى
الاتيان بأصل الشريعة بل هي هداية تشريعية متممة للنبوة والرسالة، وبيان ذلك من
خلال مقدمات:
- من المبادئ الاساسية التي
تحكم التشريعات والتقنينات على مدى العصور هو مبدأ تدرج القوانين، وهو يعني أن
القانون يبدأ من قواعد كلية وعمومات فوقانية ثم تتدرج إلى قوانين متوسطة حتى تصل
إلى القوانين الجزئية التي تطبق على الظواهر الفردية والاجتماعية، وهذا النحو هو
الحاكم على التقنينات الوضعية فترى الدستور ثم القوانين الصادرة من المجالس النيابية
ثم القوانين الصادرة من السلطة التنفيذية. وقد أشرنا في بحوث الاصول إلى تماثل
الاعتبار الشرعي مع الاعتبار الوضعي على أساس اتحاد لغة التقنين والتشريع.
- أن تنزل القوانين العامة
والقواعد الكلية إلى المصاديق يحتاج إلى مراقبة وذلك لمنع حصول الاختلاط والتدافع
والتصادم في التطبيق.
- أن السنة الجارية في عالم
الخلقة هي محدودية أعمار الانبياء والرسل، ولذا فهم يكتفون بذكر الكليات والقوانين
العامة ولا يستوفون تنزيلها وتطبيقها على كل الدرجات و الموارد الجزئية إذ أن
محدودية أعمارهم تمنع من مراقبة كل الدرجات و الجزئيات الحاصلة بعد حياتهم
الشريفة.
- ان سلامة الشريعة وصوابية
التقنين تقتضي استمرار المراقبة في تطبيق تلك القواعد العامة والقوانين الكلية،
خصوصا في القواعد الالهية التي ترعى المصالح والمفاسد الواقعية التي تخفى على
الاذهان العادية فلابد من استمرار بيان المتوسطات والتطبيقات، خصوصا إذا قلنا أن
الاحكام الشرعية هي إرادات إلهية صادرة من جانب الذات المقدسة في الوقائع الجزئية
والفردية والمجموعية.
- أن البشر العادي المنقطع عن
الغيب ليس له أن يتوصل إلى بيان مؤدى النقطة السابقة وذلك لاحتياجها إلى عصمة
علمية.
والنتيجة :
انه لا بد من وجود فرد له
عصمة علمية مضافا إلى العصمة العملية والكمالات النفسانية العالية، وهذا الفرد
الذي يكمل مسيرة الأنبياء التشريعية هو الامام.
ولا يخفى على كل ذي لب ما
نشاهده في حياتنا العملية حال التشريعات الوضعية والمراقبة المستمرة على كيفية
تطبيق التشريعات الدستورية وعدم مضادتها لها، ومع ذلك توجد موارد عديدة للنقض
والخطأ وبين كل فترة وأخرى تحصل الاستدراكات والملاحق لغرض تفادي الاخطاء والنقص،
وفي القانون الالهي وإن لم يُقس بالقانون الوضعي البشري إلا انه لا بد من وجود
المعصوم عصمة علمية يقوم ببيان تلك المتوسطات وبذلك يؤمن عن الوقوع في الخطأ
والزلل في التطبيق أوالتنزيل المسمى في اصطلاح الوحي بالتأويل، ومجرد احتواء
الكتاب على تلك التشريعات العامة لا يدفع الخطأ في مجال التنزيل أو التفريع، فكم
نرى في عملية الاجتهاد أثناء استنباط الاحكام الشرعية من أخطاء وغفلات (4) .
وبهذا يندفع الاشكال من أنه
لا حاجة إلى افتراض العصمة العلمية بواسطة وجود كتاب يروونه عن النبي (صلى الله
عليه وآله) فيعتبرون لكونهم رواة عدولاً ولا حاجة إلى العصمة حينئذ.
ووجه الاندفاع أنه مهما بلغت
درجته العلمية فإنه لا يؤمن من الوقوع في الخطأ في بيان القوانين المتوسطة
وتطبيقها على الجزئيات، فلا بد من الاتصال بالغيب.
وبناء على ما مضى يتبين ضرورة
ابراز جنبة الهداية الارائية في الائمة مضافا إلى الهداية الايصالية، وعدم
الاكتفاء بالاخيرة فقط كما ذهب إليه السيد العلامة في الميزان.
- وقد يثار اشكال آخر:
أنه ما المانع من عدم وجود ائمة معصومين عملا فكل ما نحتاجه هو عصمة نسبية عملية
كالعدالة، وعصمة نسبية علمية كالفقاهة، فنكتفي بهما عن العصمة الشاملة بمعنى
المقام الغيبي والملكوتي؟
ويوجد في المقام جوابان:
الأول: ان هذا الإشكال قد حصل
فيه التغافل ... في ... أن الانبياء والرسل بمقتضى محدودية أعمارهم البشرية لا
يوضحوا كل شيء ولا يبينوا كل القوانين الجزئية والمتوسطات، فمن أين للفقيه أن يعلم
بقية المتوسطات مع عدم كونه متصلا بالغيب إذ المتوسطات ليست مجرد تطبيقات للكليات
بل هي نوع من الانشاء التشريعي من نفس المشرع الاول.
وبتعبير آخر: أن الانبياء نحو
اراءتهم كانت اراءة اجمالية فلابد من الاراءة التفصيلية واستمرارها عن طريق الائمة
بأن تكون متصلة بالغيب معصومة من الوقوع في الخطأ.
الثاني: أن بيان الامام وفهمه
للحكم الشرعي لا يكون كفهم الفقيه بل هو بيان بعلم الغيب والتسديد الالهي المصيب
للحق دوما. فإراءة الامام للأحكام الشرعية ليست شريعة جديدة بل بيان لتلك الشريعة
الاجمالية الكلية المتنزلة عبر القناة الغيبية للنبي (صلى الله عليه وآله) .
إذن نلاحظ في مقام الامامة
والنبوة نقاط التقاء وافتراق وأفضلية جانب على آخر فكلاهما حلقة اتصال بالغيب،
وكلاهما حجة الله على الخلق وسفارة إلهية إلا أن وظيفة كل منهما تختلف عن الآخر
فالنبوة فضيلة في نفسها والامامة فضيلة ...
فالنبوة لها فضل والامامة
تفصيل لتشريع النبوة، ويبقى للإمامة الهداية الايصالية بخلاف النبوة التي تقتصر
على الهداية الارائية وبعض الانبياء هم ائمة أيضا، أما الائمة فليسوا بأنبياء
وتفضيل بعضهم على بعض ثابت بالنصوص القرآنية والروائية، وقد تبين أيضا كيف أن
النبوة لا تقوم مقام الامامة وأنها تكتمل بها.
وها هنا تساؤل آخر
وحاصله : لماذا لا يكتفى بالإمامة عن النبوة فإنها جامعة للهداية الايصالية
والارائية؟؟
والجواب عن ذلك:
1 ـ أن المفروض أن الهداية
الايصالية ليست إلجائية بل اختيارية.
2 ـ أن المكلف في اختياره لأي
سيرة في حياته يجب أن يكون طبقا لعلم، لكي يؤمّن جانب الاختيار والكمال في المسير
الانساني فلابد أن يكون الانسان على علم بالطريق والغاية والهدف من هذا المسير
وهذا الجانب العلمي لا يؤمّن إلا بالهداية الارائية، فعلمه وانتقاؤه طبقا لهداية
النبي هو قوام الاختيار.
وبعد حصول ذلك العلم لدى
المكلف يأتي دور الهداية الايصالية والتسبب الملكوتي الذي يرى أن أرضية المكلف
مخيرة ومهيأة لتقبل الكمال، ويستطيع المكلف الاختيار ويتبع إمام الهدى ويفضله على
اتباع إمام الضلال.
فتظهر أهمية العلم بالشريعة
الذي يبينه النبي، ثم يأتي دور الامام بعد أن يختاره المكلف فتكون هدايته اختيارية
لا إلجاء فيها ولا جبر، وخصوصا أن السير التكاملي لا يؤدي هدفه إلا اختياريا وإذا
كان جبريا فلا كمال فيه.
وعليه فمن تمام عناية الله
ولطفه بالانسان أن يهيئ له الاسباب المعدة للكمال، ونظير هذا حقيقة الانسان الصغير
حيث أن العقل العملي لا يغني عن العقل النظري فحكمة وجوده هو نوع اعداد وتهيئة
أرضية لانجذاب الانسان إلى نزعات العقل العملي وذلك بما يحصل عليه من علوم حصولية
(5) .
تقييم الدليل الأول:
يلاحظ على هذا الدليل هو
تركيزه على حيثية الهداية الارائية في الامام، ولا يقوم بإثبات المقام الغيبي
للامام بما هو هاد هداية ايصالية، وهذا الدليل هو الذي اعتمده عامة المفسرين من
الامامية طيلة قرون عديدة، ولكنهم عند ذكره لم يتطرقوا إلى المقام الغيبي للامام
الذي يمكن التعمق فيه من خلال نفس المقدمات المذكورة.
الصياغة الثانية لنفس الدليل:
... توجد مدارج ادراكية ثلاث
[ في الجهاز العلمي والادراكي في الانسان الصغير] :
- المراتب الروحية (الاخفى
والخفي والسر والقلب) .
- المراتب الادراكية (العقل
والوهم والخيال والحس) .
- المراتب العملية (العقل
العملي والقوى الشهوية والقوى الغضبية والاختيار) .
... أن تنزل العلوم البشرية
دليل على وجود العالم العيني وعالم ما وراء المادة حيث أن العلم ليس بمادي وليس له
عوارض المادة وقد ثبت في محله أن التجربة و الاستقراء لا يفيدان العلم وذلك لأن
الجزئي لا كاسب ولا مكتسب، بل العلم يفاض من العالم الغيبي.
وفي تنزل العلوم تدرج في تلك
المراتب حتى يصل إلى عالم الخارج، و ... أن البديهيات توفر عصمة نسبية لدى الانسان
ولهذا أطلق على العقل الرسول الباطن، وأن هذه البديهيات لا تكون بديهية لدى العقل
النظري إلا بعد ارتباطها بعلوم حضورية، وذلك لأن العلوم الحصولية وهي الصور
الذهنية تظل قابلة للانطباق على كثيرين وطبيعتها أنه يظل فيها الاحتمال والامكان،
فهي لا تولد اليقين ولا الضرورة أي ضرورة الوقوع والوجود، أما الدرك العياني
الحضوري فليس محلا للاحتمال والزلل لذلك يجب أن تستند الادراكات الحصولية إلى
ادركات حضورية حتى تكون يقينية صحيحة.
وعلى كل حال فهذه القنوات
الانسانية ليست بمأمونة من الخطأ باعتبار تجاذب النزعات الشيطانية باعتبار أن الجن
والشيطان ذو وجود خفي لطيف حيث بإمكانه أن يرتبط بالانسان عبر مدارج وجوده لا سيما
الادراكية النازلة وهو ما يعبر عنه في الروايات "أنه يجري في البدن مجرى الدم
في العروق" فللشيطان منافذ يستطيع أن ينفذ من خلالها في الانسان.
ونضيف هنا أنه كيف يمكن أن
تتنزل الارادات والمشيئات الربانية من دون اشتباه والتباس وخطأ ؟
والجواب: أن هذا غير ممكن إلا
لمن أهّله الله بمدارج روحانية وادراكية بأن لا يستطيع الشيطان النفوذ إليها، وهو
ما تشير إليه الآية قاصدة النبي (صلى الله عليه وآله) {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ
وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} [الإسراء: 105] {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ *
...وَمَا يَسْتَطِيعُونَ} [الشعراء: 210، 211] فما دام الاتصال بالغيب موجودا في
كل الازمنة وأن عالم الشهادة قائم على وجود هذا الاتصال وأن يد الله مبسوطة فهذا
يدل على ضرورة وجود قناة معصومة تتنزل عن طريقها المشيئات الالهية.
وبعبارة أخرى: أن الارادة
والمشيئة الالهية يجب أن تبرز إلى عامة البشر المختارين حتى يستعلموا مواطن مشيئة
وإرادة الله حتى في الموارد الجزئية سواء الجزئي الاضافي أو الحقيقي، وهذه
الارادات لا يمكن أن تتنزل إلا عبر من كانت له عصمة عملية وعلمية أي يكون على صعيد
المدارج الادراكية النازلة وعلى المدارج الادراكية الروحية الفوقانية. وبتعبير
جامع له مقام غيبي، فلا تنازعه قوى الغضب ولا الشهوة والخيال ولا الوهم: {هَلْ
أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ
أَثِيمٍ } [الشعراء: 221، 222]، فالشيطان يدعو ويغري الادراك، فالذي تكون ارادته
ومشيئته مظهرا لإرادة الله يجب أن يكون مأمونا من نفوذ الشيطان إلى ادراكا ته.
تقييم الدليل:
هذه الصياغة توضح كثيرا من
الروايات نحو "نحن تراجمة أمر الله ونهيه وتراجمة ارادة الله ومشيئته".
وفي هذه الصياغة ترميم للنقص في تعريف الامامة لدى العلامة الطباطبائي، حيث أنه قد
ركز على أن للامام مقاماً ملكوتياً يوجب بمقتضاه التصرف في النفوس والسير بها من
منزل إلى منزل معنوي أعلى...
فالدليل الاول بصياغتيه يقوم
بمهمة البرهنة على جانب الهداية الارائية في الامام.
الدليل الثاني:
وهو المعروف بالدليل الفطري
وقد ورد في عدة روايات، واجماله:
أن كل فطرة بشرية تجد في
أعماقها انجذاباً فطرياً نحو الكامل علما وعملا، وهذا الانجذاب هو الباعث والمحرك
للانسان لأن يتكامل، وهذا دال على وجود من هو كامل علما وعملا.
تفصيل الدليل: من خلال بيان
عدة مقدمات:
المقدمة الأولى:
أن مدارس المعارف البشرية
تتفق على وجود الأمور البديهية والفطرية لدى الانسان، ويعرفون القضية البديهية
بأنها القضية التي يضطر الانسان إلى الاذعان بها بالضرورة من دون حاجة إلى إعمال
الفكر بل مجرد الرجوع إلى النفس ورفع الموانع يجد نفسه مصدقا بها.
ونلاحظ أن هذا التعريف
للبديهة ينطبق على الامور التي فطر عليها الانسان، فاذا افترض امر اشتركت البشرية
فيه فإنه يعلم أنه من الامور الفطرية، ومن أدلة التوحيد دليل الفطرة وهو من براهين
الصديقين حيث يقولون أن انجذاب الفطرة البشرية نحو الكمال اللامحدود، دليل على
وجود اللامحدود، وذلك لأنه لا يعقل أن تشترك البشرية بالإيمان بأمر ما وتكون خاطئة
به وإلا لزم السفسطة لأنه لو تبين خطؤها فهذا يعني عدم وجود حقيقة يمكن أن يرتكز
عليها الانسان في علومه ، إذ أن السفسطة تعني احتمال الخطأ في كل علم تذعن به
النفس، فالعلوم التي تكون على وزان الامور الفطرية والبديهية والتي يشترك بها عامة
البشرية لا يمكن أن تكون خاطئة.
المقدمة الثانية:
أن الانسان في حين انجذابه
إلى اللامحدود يقر في نفسه أنه لا يستطيع أن يكون لا محدودا لان قدرته وامكاناته كلها
محدودة. فحتى لا يصاب باليأس وعدم الأمل والرجاء يجب أن يسعى لتحصيل الكمالات
العلمية والعملية بالمقدار الممكن على حسب قدرته ووسعه، وهذا أحد وجوه تفسير ما
يعبر عنه في بعض الروايات "آه من طول السفر وقلة الزاد" فهذا السفر لا
نهاية له لأن المقصود لا محدود ولا متناه.
المقدمة الثالثة :
أن من مسببات الانجذاب إلى
الكامل اللامحدود الانجذاب إلى الكامل من بني الانسان، فنجد الناس ينجذبون إليه
وهذا ما يثبته علماء الاجتماع حيث يذكرون أن من أعرق الاساطير في تاريخ البشرية هي
اسطورة البطل، ولا يكاد يخلو مجتمع وملة منها، حيث يصورون البطل الشجاع والهمام
المتحلي بمحاسن الاخلاق، ونرى الناس يندفعون إلى التشبه به في كافة جوانبه وذلك
للاعتقاد أن كمالاته من اللامحدود.
المقدمة الرابعة:
أن من كمالات الانسان
الارتباط باللامحدود علما وقدرة و هيمنة على كل عالم الخلقة أو مَن تكون له السيطرة
على كل شيء، وهذا لا يعني الاحاطة المطلقة بالعزل عن الذات المقدسة وإلا لم يكن
ذلك كمالا، ونفس وجود هذا الأمر و النزع الفطري دال على عدم امتناعه.
والنتيجة: أنه لا بد من وجود
مثل هذا الكامل لامتناع السفسطة وثبوت ذلك بالفطرة.
الصياغة الثانية:
وهي تنطلق من نفس ما انطلقت
منه الأولى أن الانسان ينجذب نحو الكمال اللامحدود.
المقدمة الثانية:
أن الحركة نحو أية غاية
كمالية يشترط فيها أمران ... كون الهدف ممكنا وليس بممتنع ولا محال، وان يكون
الكمال المطلوب غير حاصل للانسان فعلا.
المقدمة الثالثة:
أن الكمالات المطلقة للذات
المقدسة لا يحدها حد والانسان يعلم من نفسه أنه لا يمكن أن ينقلب إلى اللامحدود،
فحتى تكون تلك الكمالات ممكنة يجب أن تتنزل إلى الحظيرة الانسانية حتى يتصورها
الانسان ممكنة التحصيل مع بقاء تلك الكمالات المتنزلة غير حاصلة لديه.
وينتج من ذلك أن الارتباط
بالذات المقدسة يجب أن يكون بواسطة رابطة من الحقيقة البشرية و ... أن المقتدى يجب
أن يتحلى بالصفتين الغيبية والبشرية، وقد أشار القران إلى هذه الحقيقة {وَلَوْ
جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا
يَلْبِسُونَ } [الأنعام: 9] ، فهذه الآية تؤكد ذات الحقيقة، ولذا يعيش الانسان
الحالة الوسطى ما بين الخوف والرجاء فالارتباط مع الذات المقدسة يكون بواسطة
المعصوم، وإذا لم نفترض ذلك فإنه يعني انقطاع الاتصال مع الخالق جل وعلا.
والخلاصة : أن الموجب لحفظ
الخوف والرجاء حسب التعبير الشرعي والموجب لضمان دوام الحركة حسب التعبير الفلسفي،
والموجب للإيمان بالغيب حسب تعبير الروايات (ونعني بالإيمان بالغيب الاعتقاد بغيب
الكمال اللامحدود والانجذاب إليه فتتحكم إرادات الغيب في التكامل بنحو غير منقطع)
لا يتحقق إلا بوجود الرابطة، فمآل مَن لم يؤمن بالرابطة أنه لا ينجذب ولا يؤمن
بالذات المقدسة ومعنى الايمان بها هو الايمان بالله تعالى.
وضرورة الارتباط بالله عز وجل
عن طريق الواسطة يؤمن به العامة أيضا باضطرارهم الفطري ، إلا أنهم في تطبيق مَن
يلبسونه لباس العصمة يشتبهون في التطبيق، وهذا هو عين الانحراف والضلال، مثلا
يلبسون الصحابي أو بعضهم ثوب العصمة والكمال العلمي والعملي وهذا واضح من خلال ما
ينقلونه من فضائل للأول والثاني والعشرة المبشرة بالجنة كما يدعون، ونحن نستشهد
بذلك على أنه في واقعه استجابة لنداء الفطرة الذي قد أشرنا إليه في بداية الدليل
وإقرار بمسلك الإمامية ومعتقد الامامة العهدية الالهية ...
ولذلك فبوابة التوحيد هو
الامام، وهو السبيل إلى الايمان الخالص بالله، وفي الرواية عن النبي الاكرم (صلى
الله عليه وآله) "يا علي من قصد الله و لم يقصدني فلم يقصد الله و من قصدني
ولم يقصدك فلم يقصدني" إذن فالواسطة والرابط يجب أن يكون من الكمال العلمي
والعملي بمكان حتى يتحرك الانسان وينبعث انبعاثا صحيحا سليما نحو الكمال المطلق
والذات الأزلية، وواضح من الحديث أن الهداية النبوية هي هداية آرائية اجمالية
بحاجة إلى هداية تفصيلية يقوم بها الامام.
فالإمام مظهر عقلي أتم للخوف
والرجاء الذي يجب أن يتحلى به الانسان ليتكامل وليكون مرتبطا بالذات المقدسة.
وهاهنا اشكال: أن هذه الصياغة
تثبت كيفية الارتباط بين أفراد البشر والذات المقدسة وذلك عبر المعصوم الذي يتوفر
فيه الشرطان اللذان يدفعان الانسان نحو الحركة، لكن كيف هو الارتباط بين المعصوم
وهو بشر مع الذات المقدسة حيث يعلم أن كمالات الذات المقدسة أزلية أبدية لا يمكن
تحصيلها فكيف يحصل الاقتداء والسير التكاملي بالنسبة إلى نفس المعصوم؟
والجواب... أن النبي الخاتم
(صلى الله عليه وآله) هو أفضل الائمة والمعصومين فهو يمثل الرابطة بينهم وبين الذات
المقدسة، ويكونون في حالة استسعاء تام لتحصيل كمالات الحقيقة المحمدية، وهذا ما
تفيده الروايات والآيات، وارتباط النبي الخاتم (صلى الله عليه وآله) بالذات
المقدسة تكون مسألة من مختصات النبوة ولكن نشير إليها بنحو الاجمال، حيث أن عليه
الصلاة والسلام أول ممكن في الوجود فهو يعلم أن ما في الذات الازلية غير منقطع
الفيض عنه، والكمالات كلها تتجلى أو تتنزل تدريجيا شيئا فشيئا فالنبي (صلى الله
عليه وآله) في تكامل دائم.
الصياغة الثالثة:
تعتمد على مقدمة نقلية ... حاصلها:
أن لفظ الأمة أطلق في اللغة على المجموع البشري السائر نحو هدف ولا يمكن أن يتم
ذلك إلا بوجود هاد مطلع وعالم بالهدف يقود الامة في هذا المسير التكاملي، ولا يمكن
أن ينال هذا الدور أحد إلا إذا توفرت لديه العصمة العلمية والعملية حتى يمكن
الوثوق بهدايته فيتبعه الآخرون. فماهية الامة يستحيل أن تتخلف عن وجود الامام
فيها.
يبقى اشكال على هذه الصياغة:
بأن القران الكريم أطلق الامة على عدد آخر من الأمم بل بعضها منحرف وتتبع إمام
الضلال؟
والجواب: أن القرآن أطلق على
هذه الأمة أنها الملة الحقة والأمة الحقة، وهي التي لديها هدف حقيقي يوصل إلى
الكمال الواقعي أما الامم الأخرى فاطلاق الامة عليها لا يكون بلحاظ قصد الكمال
الحق فهم لا يؤمّون إليه لأن سيرها لا ينتهي إلى الكمال المطلق.
تقييم الدليل الثاني:
أن هذا الدليل يثبت ما ذكره
العلامة الطباطبائي من جنبة الهداية الايصالية في مقام الامامة وفيها جنبة الهداية
الارائية، وهو ما ذكرناه من الاشكال والجواب ومدى الحاجة إلى الهداية التفصيلية
ليحصل الاطمئنان في اتباع هذا الهادي.
الدليل الثالث:
ويسمى برهان الغاية، وله عدة
مقدمات:
1 ـ أن كل انسان عندما يتكامل
لا بد أن يجعل له غاية يريد الوصول إليها وهذا أمر ثابت في جميع مدارس المعارف
البشرية القديمة والحديثة.
2 ـ أن الموحدين يجعلون هدفهم
هو الله عز وجل أي التخلق بأخلاق الله.
3 ـ ثبت لدى أصحاب المعارف أن
الفطرة لا يستحثها الكمال فقط بل ما يدفعها نحو السعي هو خوف الضرر والهلاك أيضا،
وعليه فالإيمان بالتوحيد والنبوة يوفر الجانب الأول وهو كونه غاية وهدف، أما
الجانب الآخر فيوفره الايمان بالمعاد والعقاب الأخروي، وأن الانسان لا يعيش عالم
الدنيا فقط وإنما يوجد هناك عوالم أخرى يحياها الانسان، وهذه الرابطة بين المعاد
والتوحيد يقرها كثير من علماء النفس والاجتماع.
4 ـ أن الكمالات التي يسعى
الانسان إلى تحصيلها لا تقتصر على كمالات عالم الدنيا بل هي كمالات في عوالم لاحقة
لهذه الدنيا فهناك عوالم آتية فيها كمالات و دركات ومفاسد، وأعمال الانسان في هذه
الدنيا تهيئ الارضية لنيل المكانة في تلك العوالم وهذا هو معنى المعاد.
فالنتيجة: أن هذا السير يقتضي
وجود الهادي والمعصوم الذي يسير بالأمة نحو المعاد الحقيقي واحراز الكمالات
العالية في العوالم اللاحقة، وهذه المقدمات تثبت ضرورة تحلي الامام الهادي بـ:
آ - الهداية الايصالية وأن
يكون له تصرف في النفوس تصرفا غير إلجائي أي تتكامل النفوس باختيار الانسان.
ب - الهداية الارائية التفصيلية.
ج - الزعامة الاعتبارية في
الانسان المجموعي وهو المجتمع.
فهذا الدليل يثبت ضرورة
الامامة حسب تعريف العلامة مع التكملة التي أضفناها.
كذلك يبين الدليل الارتباط
بين المعاد ومعرفة الامام ومن هنا نفهم قوله تعالى {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ
بِإِمَامِهِمْ} [الإسراء: 71] فالدعوة والحشر والمعاد يكون بتوسط الامام لأنه هو
الهادي لهم نحو الكمالات التي تظهر في العوالم اللاحقة، والآثار التي تظهر في
المعاد إنما هي بتوسط الامام حيث يكون مرتبطا بالغيب، ويعلم بلوازم الافعال
الدنيوية وحقائقها وما يضر وما ينفع.
ومن الأدلة النقلية التي تؤيد
هذا الدليل وما هو دور الامام في المعاد:
قوله تعالى {وَقُلِ اعْمَلُوا
فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 105] ... أن
الآية تنص على أن المؤمنين (وهم الائمة كما في العديد من الروايات) يشاهدون حقائق
أعمال العباد في الدنيا وهذا الاطلاع اطلاع ملكوتي.
وفي روايات أخرى تشير إلى أن
الاعمال إذا أريد أن تصعد إلى السماء والعرش فإن الصاعد بها هو الامام، وروايات
تشير إلى أن دور الامام يكون عند قبض الروح وفي البرزخ وعقبات الانتقال من عالم
إلى عالم، وروايات تشير إلى أن الامام يُنصب له عمود من نور على كل مدينة فيطلع
على أعمال العباد.
وفي تفسير {وَعَلَى
الْأَعْرَافِ رِجَالٌ...} [الأعراف: 46] يشير العلامة إلى أنه على الاعراف رجال
مشرفون على الناس من الاولين والآخرين يشاهدون كل ذي نفس منهم في مقامه الخاص به
على اختلاف مقاماتهم ودرجاتهم ودركاتهم (6) .
تقييم الدليل الثالث:
إن هذا الدليل يثبت مقام
الهداية الايصالية والارائية والزعامة والرئاسة التي ذكرها المتكلمون.
الدليل الرابع:
ويعتمد على مقدمات:
1 ـ أنه من الثابت روائيا
وعقليا أن معرفة النفس من أشرف الطرق للمعرفة الربوبية وذلك لأنه طريق برهاني يؤول
إلى العيان الحضوري بناء على "من عرف نفسه فقد عرف ربه" "أعرفكم
بربه أعرفكم بنفسه".
2 – [ موضوع ] التعريف العقلي لـ (ما الحقيقية) [ من ] شئون
النفس والرسول الباطن ودور العقل العملي والقلب [ واشار المصنف فيه ] إلى صفات
عشرة لدور العقل العملي وآثار القلب وسائر القوى.
3 ـ بمقتضى المطابقة بين
الانسان الصغير والكبير، وأن المقصود من معرفة الرب ليس معرفة الذات الأزلية بل
معرفة أفعال الذات وعالم الخلقة الذي هو عالم ربوبية الباري للخلق، والرب هو عنوان
من الصفات الفعلية للباري عز وجل بل وبمقتضى المطابقة بين الانسان الكبير
والمجموعي أي المجتمع وهو وأن كان اعتباريا إلا أن هذا الاعتبار ليس ناشئا من لا
شيء، بل الاعتبار ... يقتنص وينتزع من التكوين، و ... أن قوى الانسان الصغير كلها
تتمثل في المجتمع فالجيش يمثل القوة الغضبية ووزارات الترفيه تمثل القوة الشهوية،
والقوى المقننة تمثل العقل النظري، والقوة القضائية تمثل الوجدان والضمير وحسب
تعبير القرآن (النفس اللوامة) فهذه هي المطابقة بين الانسان الكبير والصغير
والمجموعي.
وبمقتضى هذه المقدمات إذا كان
في الانسان الصغير توجد امامة ذات هداية ايصالية ارائية فنستكشف وجود ذلك في
الانسان الكبير والمجموعي وهو دور الامامة في المجتمع...
الدليل الخامس :
وهو برهان العناية ... وهو
علم الباري بالنظام الوجودي الأحسن، وعلى أكمل ما يكون عليه، وهذا العلم مستلزم
لإفاضة الوجود الإمكاني الخلقي على أحسن ما يمكن أن يكون عليه، ولو بنحو الترتيب
أو التدريج في العوالم كي تستقصي كل الكمالات في عالم الامكان (وهذا التعريف مأخوذ
من مدرسة الاشراق والحكمة المتعالية) ...
أن قاعدة العناية الفلسفية هي
بعينها قاعدة اللطف لدى المتكلمين حيث أن الاخيرة تعني أن كل فعل موجب لقرب المكلف
من كماله المنشود، فإن الباري يحسن ويلطف تهيئته وايجاده ويقبح عدم ايجاده، فمن
حيث اللب القاعدتان تعبران عن مفهوم واحد وأمر واحد، إلا أن الفلاسفة في منهجهم
يعتمدون على العقل النظري في اثبات القاعدة، أما المتكلمون فيعتمدون على العقل
العملي في اثبات القاعدة.
- أن أعلام الامامية استنادا
إلى الروايات المختلفة ذهبوا إلى أن موقع الامام في الانسان المجموعي (موقع
الرئاسة والزعامة) هو لطف فلذا يحسن عن الله نصبه وتعيينه واللطف هو أكمل ما يمكن
أن يكون عليه الوجود، فإذا كان أكمل ما يمكن أن يكون عليه الانسان المجموعي هو
بوجود الامام فبمقتضى قاعدة العناية يجب عن الحق تعالى ايجاده.
- أن الحفظ للدين و تدبير
الدنيا تستلزمان أن تتوفر في الامام الهداية الايصالية والارائية التفصيلية، وذلك
أن الامام لا يكون حافظا للدين إلا إذا أمّنت جنبة المقام الغيبي، ويكون على اتصال
بالغيب فلا تصدر منه زلة علمية في تبيان مدارج الاحكام الشرعية، وبما أن الغاية هو
تكامل الافراد إلى الكمالات المنشودة وهو نوع من الهداية الايصالية.
تقييم الدليل:
أن المتكلمين اقتصروا في
اثبات الامامة في الانسان المجموعي على قاعدة اللطف ولم يتناولوا جانب الهداية
الايصالية مع انها لطف أيضا، وقد قمنا بتوسعة الدليل ليشمل هذا الجانب أيضا حيث أن
العناية صفة من صفات الباري وأنه لطيف خبير {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ
رَحِيمٌ} [البقرة: 143].
ملاحظة عامة:
إلى هنا نلاحظ الارتباط بين
الإمامة وبقية أصول الدين ففي الدليل الأول بينّا كيف الارتباط بين الامامة
والنبوة، وفي الدليل الثاني بينا الارتباط بين الامامة وفطرة التوحيد وأن بوابة
التوحيد هو الامامة، وفي الدليل الثالث بينا الارتباط بين الامامة والمعاد ودور
الامام في عوالم ما بعد نشأة الدنيا، وفي الدليل الرابع انتقلنا من معرفة النفس
إلى الامامة، وفي الدليل الخامس ننتقل من صفات الباري وإنها تستلزم الامامة.
وبتعبير آخر أن هذه الادلة
ليست أدلة خطابية بل هي برهانية عرفانية في آن واحد أي ان ادراكها يحتاج إلى
مقدمات فكرية من المعاني الحصولية وإلى ذائقة قلبية كي يدرك كنه تلك الأدلة
الخمسة، ففيها مطالب علمية ممتزجة من العلم الحصولي والعلم الحضوري، والنكتة التي
أردنا الاشارة إليها أن هذه الادلة الخمسة اللمية تدلل على أن أصول الدين تقود إلى
الامامة.
الدليل السادس:
وهو من الأدلة الإنية التي
اعتمدها المتكلمون والتي تنطلق من احتياج الكل إليه وغناؤه عن الكل دليل على
إمامته، وعبر البعض عنه انه اجتمعت فيهم من الفضائل كلها، فهم احق بالأمر بحكم
العقل العملي، وبتعبير ثالث أنهم (عليهم السلام) المشار إليهم بأشخاصهم وأسمائهم
بحسب الجرد التاريخي وباعتراف كل الفرق والملل قد فاقوا نوابغ كل صفة في كمال تلك
الصفة.
تفصيل ذلك:
- أن التاريخ يذكر أنهم قد
وضعوا الحلول الناجعة لكثير من المعضلات الفكرية التي ابتليت بها الامة الاسلامية;
كما في اشكالية صفات الباري حيث قالوا: "لا تعطيل ولا تشبيه وإنما أمر بين
أمرين"، فلا يجوز تعطيل الصفات والقول أننا لا ندرك شيئا من صفاته تعالى، كما
لا يجوز التشبيه والقول أننا ندركه كما ندرك المحسوسات، وكذا نفي التجسيم ولوازمه
عن ذات الباري، فقد كانت الاذهان عالقة بهذا الوهم. ونفي الجبر والتفويض وإثبات
الاختيار في الافعال.
وهكذا في معالجتهم للمشاكل
الفكرية التي انتقلت إلى الامة الاسلامية من الحضارات الأخرى فتراهم يجعلون لها
الحلول بنحو لا يصطدم مع الاسلام وضرورياته، وموارد هذا شتى من التوحيد وصفات الحق
تعالى، والعدل والمعاد والقضاء والقدر وما ورد من الشبهات حول نبوة الأنبياء
(عليهم السلام) ، وبقول ابن أبي الحديد في ذيل إحدى الخطب "لم تنتشر المعارف
الالهية من غير هذا الرجل ولم يكن في الصحابة من تصور أو صور شيئا طفيفا من
المعارف"، ونضيف على مقولته تلك أن عباراتهم وحلولهم وحكمهم ظلت حتى يومنا
هذا مدار بحث وتشييد لأنها تفوق ما توصل إليه السابقون من الفلسفة اليونانية
ويستنير بهديها المتأخرون من الفلاسفة.
- المرحوم الشاه أبادي يذكر:
أنه في الصحيفة السجادية لفتات وحلول لمعضلات في عالم المعنى والعرفان، بنحو لم
يكن مطروحا في العرفان الهندي الذي هو من أقوى وأقدم المدارس العرفانية لدى
البشرية، ويشير إلى أنه في الادعية الأولى بحوث عديدة وغريبة ودقيقة في السير
والسلوك أو في مقامات الهادي، أو مقامات الخلقة والتكامل الانساني ويعبّر عن
ادعيتهم (عليهم السلام) أنها بمثابة القرآن الصاعد لما تحتويه من أسرار المعرف
الالهية.
فمثلا المتقدمون يجعلون
الظاهر في قبال الباطن والأول في قبال الآخر، بينما الامام (عليه السلام) جعل
الذات المقدسة هو الظاهر والباطن والاول والآخر، "فهو وحدة واحدة يستوي فيها
الظاهر والباطن والأول والآخر"، وفي كتاب التوحيد في ما ذكره الامام الصادق
(عليه السلام) تبيان إلى كيفية الدلالة على ذلك.
- أن خضوعهم وعبوديتهم
المطلقة لله عز وجل لا تجد لها مثيلا عند من عاصرهم أو تأخر عنهم.
- أن معجزة السماء الخالدة
القرآن الكريم لم ولا يوجد في الساحة الاسلامية ترجمان له - بحيث يثبت للبشرية أن
القران الكريم يغطي كل احتياجاتها وكل تساؤل يطرح على وجه الأرض لم يتمكن احد من
الاجابة عليه - سوى الامام مما يوضح وجود رابطة بينهم وبين القران ...
- يضاف إلى تلك الادلة مقدمة
مشتركة لا بد منها وذلك لأن الاقتصار عليها يثبت أن الائمة هم أليق الناس وافضلهم
لإدارة شئون الامة، لكن لا يثبت بها وجود مقامات أخرى في حين اننا يمكن أن نستفيد
من تلك الادلة لما هو أوسع من ذلك بإضافة هذه المقدمة وحاصلها:
أن توافر هذه الصفات بهذا
النحو في هؤلاء الاثني عشر إما أن يكون من باب الصدفة والاتفاق أو يكون بسبب وعلة.
اما الأول فباطل وذلك لأن
القول به هو نفي لوجود الله وذلك لأن الطفرة هي صدور شيء من شيء من دون سبب وعلة
والاتفاق عبارة أخرى عن نفي السببية، وأن حيازة هؤلاء على الريادة في الصفات
الكمالية إن كان اتفاقا يعني أن يد الله مغلولة، وأنه ترك الخلق كما خلقهم من دون
هدايتهم والاتصال بهم.
فيبقى الثاني وأن وجود تلك
الصفات فيهم لم يكن من باب الصدفة والاتفاق بل أن هذا يدل على عناية الهية وافاضة
ربانية جعلت هؤلاء متصفين بتلك الصفات طيلة تلك السنين المتعاقبة والتي شهدت
منافسين عدة حاولوا النيل منهم بشتى الطرق والوسائل، فتوجد في البين إفاضة ربانية
للكمالات العلمية والعملية، وإن الوراثة بينهم ليست وراثة نسبية بل وراثة نورية
تكوينية جعلت تلك الحقيقة الغيبية مستمرة بهم.
وبهذه المقدمة تكون تلك
الادلة الإنية مثبتة للمقام الغيبي الذي نتوخاه في الامامة والذي يكون به عدل
النبوة وسفارة إلهية.
____________
1- حتى عرف مسلك فقهاء
الامامية بمسلك التخطئة دون التصويب.
2- ومن هنا يتبين أنه من دون
حصول التولي للائمة لا يمكن أن ينشدّ الانسان للكمال ولا تنفع كلمة العرفاء من
كفاية السير والمجاهدة الباطنية وإن أخطأ في مصداقه في عالم الشهادة وما ذلك إلا
لأن الهداية الارائية لا يمكن أن تتم إلا بالإمام في عالم الدنيا حيث أن الاحكام
الشرعية هي طريق الكمال، فإذا أخطأ في الامام في هذه النشأة فسوف تكون تشريعاته في
حيز الوقوع في الزلل والخطأ فكيف يمكن السير في طريق الكمال - والهداية الايصالية
من دون الهداية الارائية متعذرة.
3- الميزان 8: 132.
4- حتى عرف مسلك فقهاء الامامية بمسلك التخطئة دون
التصويب.
5- ومن هنا يتبين أنه من دون حصول التولي للائمة
لا يمكن أن ينشدّ الانسان للكمال ولا تنفع كلمة العرفاء من كفاية السير والمجاهدة
الباطنية وإن أخطأ في مصداقه في عالم الشهادة وما ذلك إلا لأن الهداية الارائية لا
يمكن أن تتم إلا بالإمام في عالم الدنيا حيث أن الاحكام الشرعية هي طريق الكمال،
فإذا أخطأ في الامام في هذه النشأة فسوف تكون تشريعاته في حيز الوقوع في الزلل
والخطأ فكيف يمكن السير في طريق الكمال - والهداية الايصالية من دون الهداية
الارائية متعذرة.
6- الميزان 8: 132.
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|