أقرأ أيضاً
التاريخ: 2023-03-17
1233
التاريخ: 2023-03-11
1287
التاريخ: 1-12-2014
2955
التاريخ: 28-11-2020
2711
|
تتضمن سورة «ياسين» قصة ممتعة منذ بدايتها، حيث تسبقها آيات كريمة تتحدث عن الإنذار في مجتمع محمد (صلى الله عليه وآله):
{لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون...}
{وسواء عليهم أ أنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون}
إن هذه الآية المباركة: {وسواء عليهم...} تصرح بوضوح بأن هؤلاء القوم المعاصرين للنبي (صلى الله عليه وآله) لا ينفع معهم الإنذار، سواء أانذروا، أو لم ينذروا.
من هنا تجيء قصة الرسل الثلاثة أو أصحاب القرية، لتوظف بالنسبة إلى تأكيد القصة المذكورة.
إذن، لنتحدث عن هذه الاقصوصة تتناول مجتمعا موروثا، هو المجتمع الذي واكب رسالة عيسى (عليه السلام)، حيث وظفها القرآن للتدليل على موقف مجتمع محمد (صلى الله عليه وآله) من رسالته.
تبدأ اقصوصة أصحاب القرية على هذا النحو:
{واضرب لهم مثلا أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون}
{إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث فقالوا إنا إليكم مرسلون}
الملاحظ أن الاقصوصة قد ارتكنت إلى ظاهرة العدد في شخوص المرسلين إلى القرية.
ويلاحظ أيضا أن الاقصوصة حينما أوضحت بأن السماء أرسلت رسولين إلى أصحاب القرية،... حينئذ أضافت رسولا ثالثا، فقالت: «فعززنا بثالث...».
لا شك، أن القصة القرآنية الكريمة لا تعرض لنا ظاهرة العدد بهذا النحو، بل لا تعرضه متمثلا في رسولين. ثم تقول: لقد عززا برسول ثالث... إلا وتكون لهذه التشكيلة العددية سمة فنية تنطوي على دلالات خاصة، ينبغي لمن يعنى بدراسة القصص القرآني أن يحاول استكشاف مثل هذا السر الفني ما دمنا في صدد الدراسة الجمالية للقرآن الكريم.
إن مجرد تكثير الرسل من حيث الكم، يعني أن القوم أو المدينة التي تجري عليها حوادث القصة، ذات تركيبة اجتماعية خاصة، لا أقل أن عنصر التشكيك ـ وهو ظاهرة مرضية خطيرة ـ يغلف شخوص هذه المدينة، بحيث نتوقع أن يجيء كل رسول إليهم بحجة أو دليل يوشك أن يقتنعوا به لولا أن عنصر التردد والتشكيك والتمزق الداخلي يحتجزهم من الإقرار بالحقيقة.
وهذا كله من حيث مجرد تكثير الرسل إليهم.
غير أن القصة لم تكتف بمجرد تكثير الرسل، بل أوضحت بأن السماء عززت الرسولين برسول ثالث، وهذا يعني من الزاوية الفنية أن الرسول الثالث لم يجيء إلا بسمة متميزة تفرضها ضرورات خاصة لابد أن تفسر وفق تصور فني خاص، آن لنا أن نتحدث عنه وعن ظاهرة كثرة الرسل المبعوثين إلى هذه القرية، وصلة ذلك بالتركيبة الاجتماعية والمرضية لشخوص القرية المذكورة.
إن الاستنتاج الفني القاضي بأن المدينة التي توجه إليها أكثر من رسول، ستعززه بعض نصوص التفسير دون أدنى شك.
غير أن أحداث القصة نفسها تساعدنا على استشفاف مثل هذه الدلالة حين نتابع أجزاءها اللاحقة، من نحو: جواب أهل المدينة لرسلهم بهذه الإجابة المريضة:
{قالوا إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم...}
فهذه الإجابة تدلنا بوضوح على أن القوم يطبعهم مرض نفسي خطير هو:
الطيرة والوسوسة والتردد والشك وسواها من الأعراض المرضية التي لحظناها عند الشخوص المنعزلين عن السماء بشكل عام.
ومن الواضح أن الموسوس والمتطير والمتردد ليس من السهولة إقناعه بالحقائق، بل لابد من مواصلة الجهد في معالجته... وهذا ما يسوغ بمفرده تكثير العدد فيما يتصل بالرسل.
ولابد أيضا أن يكون لتنوع الرسل، وبخاصة أساليبهم أثره في المحاولات المبذولة لمعالجة هؤلاء المرضى الذين يعانون من عصاب الوسوسة والتطير والشك. وهذا ما يسوغ أيضا أن يكون للرسول الثالث مثلا، تميزه في طريقة أداء الرسالة ومعالجة الموقف.
ومما يدعم كل هذه التصورات التي استخلصناها، أن القصة في جزء آخر من أجزائها، عرضت لنا هذه الحادثة الآتية:
{وجاء من أقصا المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين}
فهذه الشخصية الرابعة، لم تجيء مجرد دعم لتكثير ظاهرة العدد من شخوص المرسلين والناصحين فحسب، بل جاءت تحتل موقعا عضويا من هيكل القصة، هدفه إنارة الحقائق التي عرضنا لها، وفي مقدمتها إزالة الوساوس والمخاوف أو الملابسات التي رافقت نشاط الرسل وردود الفعل التي أحدثها نشاطهم.
إذن، جاء كل من أحداث القصة يفسر لنا الأهمية الفنية لظاهرة العدد في شخوص المرسلين، مما يعمق من ضخامة التذوق الفني للقصة بما تحمله من دلالات جمالية احكمت إحكاما بالغ المدى في هندسة القصة، سواء أكان ذلك في هيكلها العام، أم في خطوطها المتوازنة.
ولعل الرجوع إلى نصوص التفسير يلقي بعض الإنارة على هذه الجوانب التي حاولنا استخلاص دلالاتها الفنية.
من حيث تعدد المرسلين إلى القرية تقول النصوص المفسرة: إن الزمان الذي رافق إرسالهم، هو: زمان عيسى (عليه السلام) أما المكان فهو: مدينة انطاكية.
وأما المرسلون فهم: حواريو عيسى (عليه السلام). مما يعني أن الرسل هم رسل عيسى (عليه السلام)لا إنهم رسل مباشرون.
ويعنينا أولا أن نتعرف على الرسولين الأولين وطريقة أدائهما للرسالة.
ثم نتعرف على الرسول الثالث وطريقة تأديته لرسالة السماء.
ومادام الأمر أن الرسولين قد عززا بثالث، فهذا يعني أننا ـ بصفتنا مكلفين بممارسة العمل العبادي وطرائق تبليغ الرسالة ـ ينبغي أن نفيد من القصة في تحديد العمل من أجل الله... فالرسولان سلكا منحى خاصا في العمل العبادي أو الخلافي أو الرسالي.
كما أن الرسول الثالث سلك منحى خاصا مكملا لزميليه.
ولنقرأ النصوص المفسرة في هذا الصدد محاولين ربط ذلك بطبيعة التركيبة الاجتماعية والنفسية لشخوص المدينة، حتى نتعرف فضلا عن الدلالة الفكرية، نتعرف على الدلالة الفنية أيضا ـ من حيث بناء القصة الهندسي ـ بشخوص المرسلين الذين تنوعوا عددا وكيفا.
فيما يتصل بالرسولين تقول النصوص المفسرة: إن عيسى (عليه السلام) بعثهما إلى المدينة المذكورة أنطاكية. بيد أن طريقة دخولهما إلى المدينة وتعاملهما مع القوم، تفاوتت النصوص المفسرة في تحديده.
بعضها يذهب: إلى أن الرسولين ما أن بدءآ بابلاغ رسالة السماء، حتى أنكر أهل المدينة سلوكهما، فاعتقلوهما وحبسوهما في دار الأصنام.
وبعضها يذهب: إلى أن شيخا من رعاة الأغنام قد استقبلهما أول الدخول إلى المدينة، فسألهما عن هويتهما، فأجاباه بحقيقة الأمر، وعندما سألهما عن الدليل أو الحجة أو الآية على كونهما رسولين ؟ أجاباه: بأنهما يشفيان المريض بإذن الله، تبعا للآية التي رافقت رسالة عيسى (عليه السلام) عصرئذ. وكان للراعي أحد المرضى ـ وهو ابنه ـ فمسحا عليه، فشفي. وشاع الخبر في المدينة... ومنها إلى ملكها، فأنكر أمرهما، وذهب الناس بهما إلى السوق فضرباهما.
وبعضها يذهب: إلى أن الرسولين ذكرا الله وكبرا ذات يوم في المدينة وصادف مرور الملك عليها، وعندها جلدهما وحبسهما.
هذه هي النصوص المفسرة في تحديدها المتفاوت للطريقة التي دخل الرسولان من خلالها إلى المدينة، وطريقة التعامل معهما من قبل المدينة وحاكمها...
والآن كيف ارسل الثالث من الرسل ؟ ولماذا ؟ وما هي صلته بالرسولين السابقين ؟
عندما أرسل عيسى (عليه السلام) حوارييه أو رسوليه إلى أنطاكية، فإن أهل هذه المدينة وحاكمها قد اعتقلوا الرجلين، وضربوهما، وجلدوهما، ثم حبسوهما، كما لحظنا.
وطبيعيا ـ من الوجهة الفنية ـ فإن مهمة الرجلين قد توقفت، مما يتعين على عيسى (عليه السلام)أن يبعث رسولا ثالثا حتى يواصل مهمة التبليغ لرسالة السماء عصرئذ.
وهذا واحد من المسوغات الفنية لدلالة ما عرضته القصة في قولها:
{فعززنا بثالث}
بيد أ نه في الواقع ثمة مسوغات اخرى لإرسال الرجل الثالث إلى انطاكية،...
ومن جملتها:
إن الرجلين الأولين رهن الاعتقال أو الحبس، فلابد حينئذ من إرسال شخصية تتميز بخصائص معينة ـ لا أقل ـ في نطاق الممارسة الدبلوماسية التي تتطلب نمطا من لغة المجاملة، حتى تستطيع هذه الشخصية إنقاذ زميليهما من الحبس.
مضافا لذلك، فإن هذه الشخصية الثالثة لابد أن تمارس نمطا آخر من أداء الرسالة بحيث تستطيع ليس إنقاذ الرسولين فحسب، بل إحداث التأثير المطلوب في المدينة وحملها على الإيمان بالله، بدلا من عكوفها على الأصنام.
ولعله للأسباب المتقدمة بعث عيسى (عليه السلام) كبير حوارييه حينئذ، حتى يحقق مهمته على النحو الذي ذكرناه.
إذن إرسال عيسى (عليه السلام) كبير أو رئيس الحواريين، له دلالته الواضحة في هذا الصدد.
إلى هنا فإن الدلالة الفنية ـ من حيث صياغة القصة لأبطالها: بطلين يعزز ببطل ثالث ـ تتضح تماما لدى السامع والقارئ، نظرا للملابسات التي رافقت هذه العملية.
بيد أن الملاحظ، أن القصة في نطاق ظهورها اللفظي التعبيري تؤكد بأن الرسل ثلاثتهم لم يستجب لهم، بينما تؤكد بعض نصوص التفسير أن الرسول الثالث قد حقق إنجازا كبيرا في حمل القوم على الإيمان بما في ذلك حاكم المدينة.
ومن قبل ذلك نجح الرسول الثالث واسمه شمعون في بعض النصوص المفسرة، وسلوم في نصوص اخرى نجح في إنقاذ زميليه من الحبس...
والسؤال هو: كيف يمكن أن نوفق بين ظاهر القصة القرآنية، وبين وضوح النصوص المفسرة ـ وبعض هذه النصوص موثوق سندا ـ كيف يمكن أن نوفق بين ذهاب القصة إلى أن القوم ظلوا مصرين على غوايتهم، وبين ذهاب النصوص المفسرة إلى أنهم قد اهتدوا إلى طريق الصواب ؟ علما بأن طرح مثل هذا السؤال يعد في غاية الأهمية من حيث التفسير الفني لظاهرة إرسال الرسول الثالث، ما دمنا ندرك حقا، أن سمة الفن القصصي في القرآن الكريم تعزز الذهاب إلى أن لكل عرض قصصي موقعا عضويا في هيكل القصة، سواءا كان هذا العرض يتصل برسم موقف أو حدث أو شخصية.
إن متابعتنا لأحداث القصة، ومحاولة تقديم تصور فني خاص حيالها، من الممكن أن يحل التضارب القائم بين القصة والنصوص المفسرة لها.
ولنبدأ أولا بنصوص القصة نفسها:
نصوص القصة تقول: إن القوم أو المدينة التي ارسل الرسل الثلاثة لها لم يستجيبوا لنداء السماء ولنقرأ:
{إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث فقالوا إنا إليكم مرسلون}
{قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء}
{إن أنتم إلا تكذبون}
{قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون}
{وما علينا إلا البلاغ المبين}
{قالوا إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم}
{قالوا طائركم معكم أ إن ذكرتم بل أنتم قوم مسرفون}
إلى هنا فإن الحوار القائم بين الرسل الثلاثة وبين القوم يكشف عن أن القوم لم يستجيبوا لنداء الحق، حتى أن الرسل وسموا أهل القرية بأنهم مسرفون ظالمون في موقفهم هذا، مما يكشف عن استمراريتهم في ركوب الذات.
أكثر من ذلك فإن القسم الأخير من القصة، وهو خاص بدخول بطل جديد إلى المعركة،... هذا القسم أيضا يفصح عن أن القوم لا يزالون في ضلالهم.
ولنستمع إلى البطل الجديد:
{وجاء من أقصا المدينة رجل يسعى}
{قال يا قوم اتبعوا المرسلين}
{اتبعوا من لا يسئلكم أجرا وهم مهتدون}
{وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون}
إلى آخر الحوار الذي أجرته القصة على لسان هذا البطل الرابع ـ فيما نتحدث عنه لاحقا ـ حيث انتهى به المطاف ـ عبر صياغة فنية ملأى بالإمتاع ـ إلى أن تقطع القصة تسلسلها الموضوعي في نطاق الزمن وتعبر بالبطل إلى اليوم الآخر، ثم تعبر به إلى مكانه في الجنة حيث يتحدث قائلا:
{قيل ادخل الجنة قال يا ليت قومي يعلمون}
{بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين}
وعندها تعود القصة إلى حيث قطعت سلسلة الزمن،... تعود إلى عرض بيئة الحياة الدنيا، متحدثة عن مدينة انطاكية وقومها، قائلة:
{وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء وما كنا منزلين}
{إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون}
{يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزؤن}
هذه النهاية القصصية للقوم تفصح بوضوح أن القوم لم يستجيبوا لرسالة السماء، بحيث ابيدوا جزاء لكفرانهم في الدنيا قبل الآخرة.
كل اولئك ـ مثلما قلنا ـ قد تبدو متضاربة مع النصوص المفسرة التي أشارت إلى أن القوم قد اهتدوا.
ونحن قبل أن نجيب على هذا السؤال يحسن بنا متابعة التفسير الفني لأحداث القصة، مشفوعة ببعض النصوص المفسرة، حتى نحتفظ بتسلسلها وفقا للنص القرآني نفسه في صياغته للقصة.
إن أهم ما يلفت الانتباه، هو أن القوم كشفوا عن شخصياتهم المريضة التي استدعت أن يتقدم إليها أكثر من رسول، ثم يرفضون دعوته الخيرة. لقد كشفوا عن شخصياتهم المريضة بهذه الإجابة:
{قالوا إنا تطيرنا بكم}
{لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم}
الواقع ينبغي ألا نمر عابرين على مثل هذه الإجابة، بل نقف عندها طويلا لأنها تفسر لنا أسرار التركيبة الآدمية والتفاوت القائم بين الرهوط أو الأفراد فيما بينهم.
وإدراكنا لهذه الحقيقة يساعدنا ـ دون شك ـ على معالجة المواقف التي تواجهنا عند محاولاتنا العبادية الهادفة إلى إيصال رسالة السماء إلى الآخرين. فالتعرف على حقائق النفوس، والسمات التي تميز شخصا عن آخر، أو رهوطا عن آخرين... هذا التعرف على الأعماق وما تضطرب فيها من أعراض مرضية خطيرة أو أعراض خفيفة، يساعدنا دون أدنى شك على البحث عن طرائق العلاج الذي يتناسب وحالة المريض من شدة أو خفة.
والآن حين نعود إلى هؤلاء الرهوط الذين اكتنفتهم بيئة انطاكية، ونتعرف على شخصياتهم المريضة من خلال الإجابة المتقدمة، حينئذ سنتعرف على السبب الكامن وراء رفضهم لرسالة السماء.
لقد كشفت إجابة القوم لرسلهم الثلاثة:
{إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم}
كشفت عن أن كلا من النزعة العدوانية مشفوعة بعنصر التطير هي التي تسم هؤلاء المنحرفين.
وفي حديثنا عن قوم صالح (عليه السلام) وبخاصة اولئك التسعة رهط، تحدثنا مفصلا عن نمط خاص من المرضى، حين يجمعون إلى جانب أمراضهم العقلية من تطير ووسوسة وتشكيك جانبا من الأمراض الانحرافية مثل نزعة العدوان، حين يجمعون بين سمتين مرضيتين خطيرتين، حينئذ نتوقع أن يبلغ الانحراف قمته لدى مثل هذه الشخصيات.
وها نحن الآن حيال قوم ارسل إليهم ثلاثة رسل مزودين ـ كما تقول نصوص التفسير ـ بدلائل اعجازية عرفها معاصروعيسى (عليه السلام) في إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله، وهي سمة العصر فترتئذ،... بالرغم من طيبتهم وطريقة دعوتهم إلى الخير والتعامل بلغة العقل والتجريب معهم، بالرغم من ذلك كله نجد أن هؤلاء المنحرفين يهددون الرسل بالرجم والعذاب.
فإذا أضفنا إلى ذلك، أن هؤلاء القوم، متطيرون يتعاملون مع الظواهر وفقا لطابع النحس أو السعد،... حينئذ ندرك مدى ما يمكن أن تتطبع عليه نفوسهم، حينما يقرنون مع الشؤم مثلا: ظهور أبطال توجهوا إليهم لتصحيح السلوك.
إن المتطير يعنى بذاته وبإشباع حاجاته عناية كبيرة، فلو لم يعشق ذاته ويتمركز حولها لما أقام وزنا لأى إحباط أو نقص لا يحقق إشباع الحاجات لديه.
ولذلك ما أن يواجه النقص أو الإحباط حتى يتطير منه حرصا على تدفق الإشباع. فإذا تحقق الإحباط أو النقص فعلا، حينئذ فإن التطير يتصاعد لديه بحيث يدفعه إلى رد فعل يتناسب مع حبه لذاته. فلا عجب حينئذ لو لحظنا أن القوم المتطيرين من الرسل الثلاثة، حينما واجهوا رسالتهم قد اقترنت في تصورهم بظهور طالع سىء، حينئذ لاعجب أن يتجهوا إلى الرسل الثلاثة بكلام يشبه الهذيان في ذلك النمط من التهديد: بالرجم، وبالعذاب، الكاشفين عن مبلغ العدوان في أعماقهم، وهو عدوان أو حقد أو كراهية يتناسب حجمها مع حجم العقلية التي يطيرون من خلالها، أي مع حجم الخوف من إشباع حاجاتهم المريضة.
على أية حال، نحن الآن حيال قوم مجرمين، لا يعون إلا إشباع حاجاتهم، ولا يمارسون التفكير إلا من خلال الطيرة والوسوسة والشك والتردد، مما يتعذر معهم أي علاج إلا إذا توفرت شروط ملائمة، لا يمكننا أن نتنبأ بنتائجها بشكل حاسم ما لم تنقل القصة ذاتها أو النصوص المفسرة ملابسات الموقف الذي نتحدث عنه.
إن النصوص المفسرة تنقل لنا ملابسات الموقف الذي رافق الرسول الثالث وهو: رئيس أو كبير الحواريين، حيث أرسله عيسى (عليه السلام) بعد اعتقال زميليه.
تقول هذه النصوص المفسرة: إن الرسول الثالث وهو شمعون أو سلوم قد سلك طريقة خاصة لإنقاذ الموقف. فقد دخل المدينة انطاكية سائلا عن الحاكم أو الملك، قائلا لهم: إنه يرغب في أن يتعبد بدين حاكم المدينة، وقد أنظره الحاكم مدة من الزمن بقي خلالها مع زميليه في بيت الأصنام. ثم اتفق مع زميليه على أن ينكراه حتى يدخل على الحاكم. وفعلا تقابل الرسول مع الحاكم، واصطنع موقفا معارضا لزميليه حينما سألهما عن الرسالة التي يحملانها، وطلب إليهما تقديم الدليل، وكانت مناقشته تتم بنحو ذكي يخيل للمشاهد أن الرسول هو واحد من أتباع الحاكم وقومه في موقفه الفكري من الحياة.
المهم أن الرسولين قدما جملة من الأدلة الإعجازية تتصل بالإبراء وبالإحياء،...
والرسول الثالث يتصرف بحكمة وحذق في حمل الحاكم على القناعة برسالة الزميلين، حتى تم له ما أراد، فيما أعلن حاكم المدينة وقومه عن إيمانهم بالسماء، وانتهى الموقف.
إلى هنا ـ في حالة صحة مثل هذا التفسير ـ فإن الموقف يظل منسجما تماما ـ من حيث السمة الفنية ـ مع دلالة إرسال بطل لإنقاذ الموقف. فهذا البطل أنقذ زميليه من السجن، وهذا مكسب له قيمته، كما أنـه عالج هؤلاء المرضى وفق خطة خاصة حتى حملهم على الإيمان بالله سبحانه وتعالى.
غير أن هذا كله يكون محكوما بصواب الملاحظة، في حالة ما إذا تمت القناعة بأن زميليه قد انقذوا فعلا، وأن القوم قد آمنوا حقا.
وأما في حالة العكس، فإن الأمر يأخذ سمة خاصة، لابد أن نلتمس لها تفسيرا فنيا آخر.
فبعض نصوص التفسير تذكر أن الحاكم وقومه لم يؤمنوا، بل قرروا قتل الرسل الثلاثة، حتى أن البطل الرابع ـ وسنتحدث عنه لاحقا ـ ونعني به: الرجل الذي جاء من أقصى المدينة، قد استشهد حينما تدخل لإنقاذ الرسل الثلاثة وحمل قومه على الإيمان، حيث وطؤوه بالأقدام حتى قتل، حسب بعض النصوص المفسرة.
إذن، هذه النصوص الأخيرة تتضارب مع النصوص المفسرة الاولى في تحديد نجاح المهمة التي اضطلع بها الرسول الثالث، وحينئذ ماذا يمكن للقارئ أو السامع أن يحدده لتفسير الموقف من الناحية الفنية، وحل هذا التضارب بين النصوص ؟
لنتابع القصة قبل أن نحدد السمة الفنية لرسم أبطالها: الرسل الثلاثة من جانب، وأهالي المدينة من جانب آخر.
يدخل الآن بيئة القصة بطل جديد هو: رجل يسعى من أقصى المدينة.
هذا البطل لم يكن رسولا حتى يعد دخوله في القصة استمرارا لهوية الأبطال الثلاثة: رسل عيسى (عليه السلام)، بل يعد دخوله في القصة ـ من حيث البعد الفني ـ بطلا رابعا، أو لنقل: بطلا ثانيا لإنقاذ الموقف.
إسم هذا البطل حبيب النجار وفقا للنصوص المفسرة.
ونحن نعده بطلا رابعا للقصة من حيث كونه مساهما في إرشاد قومه، ودعوتهم إلى الإيمان بالله.
كما نعده بطلا ثانيا للقصة من حيث كونه قد تدخل لإنقاذ الرسل من القتل.
وأيا كان الأمر فإن القصة ـ من الزاوية الفنية ـ رتبت آثارا كبيرة على شخصية هذا البطل. فمن الواضح ـ في لغة الأدب القصصي ـ أن الشخصيات الثانوية تلعب دورا كبيرا في التعريف بالحقائق التي تستهدفها القصة،... حتى أن بعضا من الأبطال الثانويين يضطلعون بالتعريف بالعصب الفكري العام للقصة; بمعنى أن وجهة النظر الخاصة التي يستهدفها القاص، إنما يودعها في شخصية ثانوية تتكفل بتبيين وجهة النظر المستهدفة.
هنا، في قصة الرسل الثلاثة أو أصحاب القرية يمكننا الذهاب إلى أن البطل الرابع حبيبا ـ وهو بطل ثانوي بالقياس إلى الأبطال الرئيسيين الرسل الثلاثة ـ هذا البطل قد اضطلع بأهم الأدوار التي قد استهدفت في القصة، حتى ليمكن القول إن أدواره كانت من التنوع للدرجة التي لم ترسم حتى للرسل الثلاثة، وبخاصة في الدور المتصل بتعريفه باليوم الآخر، وبالجنة، وبترتب آثار الثواب والعقاب، وصلة اولئك، ليس في نطاق القصة التي تتحدث عن عصر غابر، بل في نطاق الحياة بأكملها من حيث ربط السلوك بالمصير الاخروي للشخصية.
المهم أن الوقوف على كيفية رسم هذا البطل الثانوي، يكشف عن مزيد من الحقائق والسمات الفنية في القصص القرآنية، ستثري من تذوقنا لجمالية القصة، وتشيع مزيدا من المتعة الفنية التي نتحسسها في قراءة القصة وطريقة الإفادة منها في ملاحظة السلوك وتعديله.
قلنا: إن القسم الأخير من قصة أصحاب القرية يتمثل في دخول بطل جديد إلى المعركة.
اسم البطل حبيب، فيما بدأت القصة بتعريفه، قائلة:
{وجاء من أقصا المدينة رجل يسعى}
{قال يا قوم اتبعوا المرسلين...}
إن لهذا البطل أدوارا ومواقع في هيكل القصة، أشرنا عابرا إليها ونبدأ بتفصيلاتها الآن.
لقد اعتقل الأبطال الثلاثة الرسل، أو استشهدوا، أو افرج عنهم، أو ظل حالهم مجهولا...، سكتت القصة عنه.
غير أن البطل الجديد وهو لا يحمل سمة الرسول، بل سمة الرجل العادي، هذا البطل كما تقول النصوص المفسرة: هوالرجل الذي كان أول من آمن بالرسل الذين دخلوا مدينة انطاكية وتضيف هذه النصوص معرفة بشخصيته وطريقة إيمانه بالله.
إنه شيخ يرعى الأغنام، كان في أقصى المدينة التي دخل الرسولان إليها، فيما تعرفا عليه أول دخولهما إلى المدينة وعندما سألهما عن مهمتهما، وعن الدليل الذي يسند ادعائهما، ثم تقديمهما دليلا تجريبيا على ذلك... عندها آمن بالله، وانتهى كل شيء.
{والسابقون السابقون أولئك المقربون في جنات النعيم}
{ثلة من الأولين وقليل من الاخرين}
إن حبيبا ـ وهو البطل الذي نتحدث عنه ـ هو واحد من أربعة أشخاص طوال تاريخ الأولين، قد بكروا وسبقوا غيرهم في الإيمان برسالات السماء.
والمهم، أن البطل الجديد في القصة يبدأ الآن بتسلم دور خطير في حركة الأحداث من القصة.
فوفقا لبعض النصوص المفسرة أن حاكم المدينة وأهاليها عندما هموا بقتل الرسل الثلاثة،... جاء دور هذا البطل، ليتدخل في الموقف، ناهضا بمهمتين:
المهمة الاولى هي: إنقاذ الرسل الثلاثة.
والمهمة الثانية: إرشاد قومه وتقديم النصحية لهم، بغية حملهم على الإيمان.
أما نجاحه في إنقاذ الرسل أوعدم نجاحه في ذلك، فأمر سبق التحدث عنه.
وأما المهمة الثانية، أي تقديم النصيحة لقومه فتعد في الواقع استكمالا، أو استمرارا لمهمة الرسل الثلاثة وإن لم يكن رسولا في حد ذاته، لكن القصة أوكلت إليه هذه المهمة على النحو الذي سنشرحه.
لقد بدأت مهمة البطل الرابع حبيب على هذا النحو الذي عرضته القصة:
{وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى}
{قال يا قوم اتبعوا المرسلين}
{اتبعوا من لا يسئلكم أجرا وهم مهتدون}
{وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون}
{أ أتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولاينقذون}
{إني إذا لفي ضلال مبين}
{إني آمنت بربكم فاسمعون}
بهذه الكلمات تقدم البطل إلى قومه، موجها لهم النصيحة، موضحا لهم أن هؤلاء الرسل لم يطلبوا أجرا في مهمتهم بقدر ما هم عرفوا طريق الهداية، فدعوكم إليها.
ثم أوضح لهم، أو لحاكم المدينة ـ الذي قابله، أو دفعوه إليه ـ عن موقفه من عبادة الأصنام وضلال من يدعو إليها،... إلى آخر ما أوضحته القصة.
ومن البين أن هذه الكلمات تعد امتدادا، أو تكميلا، أو تأكيدا على كلمات الرسل الثلاثة، فيما لم يسردها النص بقدر ما سرد مناقشة الأطراف: الرسل الثلاثة مقابل القوم.
وبين أيضا، أن أهمية مثل هذا الكلام لا تنحصر في مجرد كونه مكملا لكلام الرسل الثلاثة، بل في كونه كلاما صادرا من رجل من أهل المدينة نفسها، لا أ نه غريب عنها، أو وافد إليها كما هي سمة الرسل الثلاثة.
وتتضح أهمية مثل هذا الكلام أيضا، في كونه صادرا من رجل عادي لا أ نه يحمل سمة الغرابة أو الندرة، أو الإعجاز غير المألوف لدى القوم.
من هنا أيضا ندرك الأهمية الفنية للقصة عبر صياغتها هذا البطل في سمته الثانوية، وفي دخوله هيكل القصة ـ وهيكل الواقع بطبيعة الحال ـ بهذا الدور الذي يترك تأثيرا ـ دون أدنى شك ـ حتى في نطاق إتمام الحجة على القوم.
إلى هنا ينتهي دور هذا البطل في نطاق الملابسات التي رافقت مرحلة الرسل الثلاثة إلى مدينة انطاكية.
غير أن النصوص المفسرة تذهب إلى أن البطل قد استشهد بعد أن وطأته أقدام القوم، ومضى إلى رحمة ربه، وذلك لما سمعوا منه هذه النصائح المخلصة.
والقصة نفسها ساكتة عن هذه الحادثة لولا أن الدور الجديد الذي سنتحدث عنه بعد قليل، يلقي إنارة فنية على الموقف، بحيث يترك السامع أو القارئ مستنتجا أكثر من دلالة.
فقد يكون البطل قد استشهد في الحال،... وقد لا يكون الأمر كذلك...
إلا أن المؤكد أن البطل قد ضمن لنفسه الجنة بهذا الموقف، بغض النظر عن خاتمة عمره في هذا الصدد.
إن السمة الفنية التي أوحت للقارئ والسامع، بأن حبيبا ضمن الجنة، هي الطريقة الفنية الممتعة التي سلكتها القصة. فالقصة لم تنقل لنا كيفية وفاة البطل، لكنها نقلت لنا كلاما جديدا للبطل يمثل دورا آخر في القصة. هذا الكلام أخضعته القصة لعنصر فني جديد هو عنصر الزمن، بحيث طوته من نطاقه في الدنيا إلى نطاقه في الآخرة.
إن عنصر الزمن في القصص القرآنية يصاغ حينا في نطاقه الدنيوي، سواء أكان خاضعا للتسلسل الموضوعي، أي: الزمان وفق تسلسله الطبيعي، أو خاضعا للزمان النفسي، أي: الحياة الداخلية.
ويصاغ حينا في نطاقه الاخروي، بما تدب في الحياة المذكورة من أحداث لاحقة تأخذ تسلسلها الموضوعي أو النفسي أيضا، حسب ما يستدعيه.
وحينا ثالثا، يصاغ عنصر الزمن في نطاقيه: الدنيوي والاخروي مع خضوعه لنفس الطابعين الزمان الموضوعي والزمان النفسي في القصة التي نحن في صددها، يصاغ الزمن وفقا لنمطه الثالث، ولكن من خلال طريقة فنية ممتعة غاية الإمتاع.
وقبل أن نشرح هذه الطريقة الفنية الممتعة لعنصر الزمن، يحسن بنا أن نقرأ النص القصصي أولا:
{قيل ادخل الجنة قال يا ليت قومي يعلمون}
{بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين}
هذا الكلام يجري على لسان البطل: حبيب.
ولكن متى ؟
بعد أن أنهى البطل كلامه الموجه إلى قومه، حيث ختمه بقوله:
{إني آمنت بربكم فاسمعون}
بعد أن قال البطل لقومه: إني آمنت بالله، فاسمعوا قولي. أو وفقا لبعض النصوص المفسرة: إن الكلام موجه إلى الرسل، حتى يشهدوا له يوم القيامة بأنه قد آمن بالله...
بعد أن أنهى البطل هذا الكلام، تنتقل القصة مباشرة إلى الحياة الاخرى، فتقول على لسان البطل:
{قيل ادخل الجنة}
أي: قيل للبطل ادخل الجنة.
وحينئذ، قال البطل وهو في الجنة، أو في حالة دخوله الجنة، أو في حالة رؤيته الجنة... قال عند ذلك:
{يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين}
هذا الكلام من البطل وهو على صعيد الآخرة يتطلب معالجة فنية مفصلة له من حيث صلته بصعيد الدنيا أيضا.
ولكن: كيف تم ذلك ؟
لقد كان البطل حبيب: الرجل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى،... كان هذا البطل يتحدث مع قومه، يدعوهم إلى الإيمان بالله بعد أن كان هو أول من آمن بالرسل الثلاثة.
هذا البطل ينتقل فجأة بكلامه في الدنيا إلى كلام له في الآخرة. لقد هتف وهو في الجنة:
{يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين}
إن القارئ أو السامع يفاجأ ببيئة جديدة تنتظم حياة البطل، ألا وهي بيئة الجنة.
كان هذا البطل قبل قليل يحدثنا عن مهمته الإصلاحية في الحياة الدنيا، ناصحا قومه، داعيا إلى الإيمان بالله.
غير أن القصة سرعان ما تقطع سلسلة الأحداث. ثم تنقل البطل إلى حياة جديدة:
{قيل ادخل الجنة}
ويدخل البطل الجنة فعلا. ثم يواصل نصيحته للقوم وهو في الجنة، مرغبا إياهم، مستثيرا مشاعرهم حيال النعيم الأبدي الذي واجهه فعلا، قائلا:
{يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين}
إن ما يعنينا من هذا الجزء من القصة، هو الطريقة الفنية التي سلكتها وانعكاسها على الأفكار المطروحة في القصة. لقد كان بإمكان القصة أن تقول لنا بنحو مباشر:
إن البطل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى قد ظفر بالثواب الذي تعده السماء لأوليائها المجاهدين، حيث ادخل الجنة، وانتهى كل شيء.
لكنها ـ أي القصة ـ سلكت منحى فنيا بالغ الإثارة عندما صاغت القضية في إطارها القصصي الذي حفل بأحداث ومواقف تضع كلا من الزمن الموضوعي والزمن النفسي في سياقهما المؤثر على القارئ والسامع، بغية تجلية الأفكار المطروحة في القصة تجلية تامة تحقق الغرض الذي تستهدفه أساسا من وراء الشكل القصصي الذي اتجهت إليه، بدلا من الشكل الاعتيادي في التعبير.
والآن يحسن بنا أن نتعرف على معطيات الطريقة الفنية التي سلكتها القصة في هذا الصدد.
إن أهم ما يميز عنصر الزمن في العمل القصصي بعامة، هو إخضاعه للحياة النفسية في الحالات التي تتطلب مثل هذا السياق.
وهذا ما نلحظه في القصة التي نحن في صددها.
فالرسل الثلاثة الذين أرسلهم عيسى (عليه السلام) إلى مدينة انطاكية قد تضببت أخبارهم، حتى استدعى الأمر إلى أن يتدخل بطل رابع لإنفاذ الموقف، وجاءت مهمة هذا البطل متممة للرسل الثلاثة. والمهم في هذا الجزء من القصة ليس هو مصير الرسل الثلاثة. فالرسل أو المجاهدون بعامة، يوظفون حياتهم من أجل الله، لا يعنيهم أن يظفروا بأي من الحسنيين: النصر أو الشهادة، ماداموا يعنيهم رضى الله فحسب. ومن هنا فإن القصة سكتت عن تحديد المصائر التي انتهى الرسل الثلاثة إليها، ونسجت صمتا تاما حيال ذلك، تاركة للقارئ أن يستكشف بنفسه مصائر الأبطال الثلاثة.
وأما البطل الرابع حبيب فقد ألقت القصة إنارة فنية على مصيره، حينما عرفتنا بأ نه قد دخل الجنة {قيل ادخل الجنة...}.
ومن خلال هذه الطريقة الفنية التي اعتمدت عنصر الزمن بحيث طوته من البيئة الدنيوية ونقلته إلى البيئة الاخروية،... من خلال هذه الطريقة جعلتنا نستكشف أن البطل لابد أن يكون قد استشهد، بحيث عانق الجنة بعد لحظات من استشهاده، وسر بها كل السرور إلى الدرجة التي هتف من خلالها قائلا:
{يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين}
من خلال معرفتنا الفنية بأن البطل قد استشهد،... نستكشف أن الرسل الثلاثة قد استشهدوا أيضا.
وهذا منحى فني بالغ المدى في حمل القارئ على استشفاف بعض المصائر والتنبؤ بها، لم يقدر أهميتها الفنية إلا من اوتي حسا تذوقيا عاليا في تمثله للأشكال القصصية.
وأيا كان الأمر، فإن معرفة مصائر الأبطال، سواء أكانوا قد استشهدوا حقا أو اودعوا في السجون أو افرج عنهم... معرفة هذه المصائر تظل واحدة من جملة السمات الفنية التي طبعت القصة... وهناك سمات اخرى ينبغي التعرف عليها من خلال عنصر الزمن الذي صاغته القصة: نقلة من بيئة الدنيا، إلى بيئة الآخرة...
ومن خلال البطل الذي نتحدث عنه، وهو حبيب: الرجل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى.
إن هذا البطل يكشف عن سمات فنية متنوعة في القصة خلال تحركاته.
منها أن البطل يستهدف لفت الانتباه إلى أن المصلحين، أو المجاهدين، أو الرسل بعامة: يعنيهم طلب الخير والمغفرة للآدميين.
وقد بلغ بهم الحب، أو نشدان الخير للآخرين إلى الدرجة التي جعلتهم حتى وهم في الجنة يتمنون لقومهم مكانا مماثلا لدرجتهم في الجنة، فإذا بهم يهتفون، مثل هتاف حبيب:
{يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين}
لقد بلغ بهم الحب، أونشدان الخير لقومهم، أن يتمنوا لهم مغفرة وإكراما مع أن القوم ـ كما تقول النصوص المفسرة ـ قد ركلوا حبيبا بأقدامهم حتى استشهد حينما دعاهم إلى الإيمان بالله، وتصديق الرسل الثلاثة. فمع أن القوم عاملوا هذا البطل معاملة عدوانية بالغة الشدة،... مع ذلك كله يتمنى البطل لقومه الذين قتلوه،...
يتمنى لهم مغفرة وإكراما، يتمنى لهم مصيرا مشرقا، لا لشيء إلا لأنه مؤمن برسالة الله، حريص على أن يؤمن الآخرون أيضا برسالة الله،... لأن ذلك ـ ببساطة ـ تعبير عن سماحة السماء نفسها ورسالتها الخيرة إلى الآدميين.
إذن، نقلة البطل حبيب من الحياة الدنيا إلى الجنة من خلال قطع سلسلة الزمن وتوجيه خطابه الجديد إلى قومه من الجنة، وجعله متصلا بخطابه إلى قومه في الحياة الدنيا،... هذا النحو من النقلة الفنية في القصة تتضمن هدفا خيرا يكشف عن طيبة المجاهدين، ونزعتهم المسالمة، ومحبتهم للآخرين، حتى أنهم وهم في الجنة يتطلعون إلى إيصال صوتهم إلى الآخرين: لعل هؤلاء الآخرين يرتدعون عن مواقفهم السابقة ويتجهون إلى الله. وبخاصة أن الرسل قد تتابعوا: رسولين في بادىء الأمر، اردفا برسول ثالث، ثم اتبعوا ببطل رابع: جاء من أقصى المدينة يسعى.
ولكن مع هذا كله، هل ارتدع القوم حقا ؟ أم أنهم أصروا على مواقفهم، واستكبروا ؟
هذا ما تكشف القصة عنه في قسمها الأخير.
القسم الأخير من قصة أصحاب القرية يتناول رسم المصير الدنيوي لأصحاب القرية على النحو الآتي:
{وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء وما كنا منزلين}
{إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون}
{يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزؤن}
طبيعيا نحن نتوقع مثل هذا المصير لأصحاب القرية، ما داموا قد أصروا على استكبارهم، بيد أن ما يعنينا من ذلك هو:
المنحى الفني الذي سلكته القصة في الوصول بالأحداث إلى هذا المصير عبر النقلة الزمنية الممتعة التي أمدت حركة القصة بحيوية وإثارة لافتتين للانتباه.
إن القصة لا تزال تحمل أنفاس بطلها: الرجل الذي جاء من أقصى مدينة انطاكية، يسعى نحو قومه، داعيا إياهم إلى اتباع المرسلين الثلاثة الذين أوفدهم عيسى (عليه السلام).
غير أن القوم ـ كما أوحت القصة فنيا بذلك ـ ووفقا للنصوص المفسرة، لم يرتدعوا عن غيهم، بل ركبوا رؤوسهم حتى وصل بهم الأمر إلى أن يركلوا حبيبا ـ هذا البطل الذي كان أول من آمن من قومه بالرسل ـ وانتهى الأمر إلى أن يستشهد البطل في نهاية المطاف تحت وطأة أرجلهم.
بيد أن السماء وهي على إحاطة تامة بالموقف، لم تدع القوم الطغاة يمرون مع الجريمة بلاعقاب، وبخاصة أنهم قتلوا أو سجنوا أو عذبوا الرسل الثلاثة قبل إقدامهم على جريمة قتل البطل حبيب، مما يستتلي ـ دون أدنى شك ـ إنزال العقاب بنحوه الذي يتوافق وحجم الجرائم التي ارتكبها هؤلاء الطغاة.
والمهم من الوجهة الفنية أن القصة لم تحدثنا عن العقاب الذي أنزلته السماء على قوم البطل حبيب،... لم تحدثنا عنه بعد إقدامهم على الجريمة، بل احتفظت برسمه في نهاية القصة، بعد أن نقلت حبيبا من بيئته في الدنيا، إلى بيئته في الجنة.
والسؤال هو: ما هي السمة الفنية التي نستكشفها من وراء مثل هذا الرسم ؟
أما كان بالإمكان مثلا أن تقول القصة لنا، أن السماء أنزلت العقاب على قوم حبيب بحيث جاءتهم الصيحة من السماء فمسحت بهم الأرض مسحا، فإذا هم خامدون ؟
كان بالإمكان من وجهة النظر الزمنية أن ترسم القصة مصير القوم بشكله البائس المذكور، لكنها سلكت في حقيقة الأمر منحى فنيا بالغ الإثارة حينما نسجت في بداية الأمر صمتا حيال كل شيء، وأبرزت مصير البطل حبيب في لحظة استشهاده مباشرة، حيث نقلته إلى الجنة{قيل ادخل الجنة}وحيث جعلته يواصل حواره مع قومه حتى وهو في الجنة بعد أن بدأ حواره معهم وهو في الدنيا.
إن حبيبا حينما واصل حواره مع قومه وهو في الجنة قائلا:
{يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين}
هذا الحوار يفصح عن دلالة فنية كبيرة من حيث الموازنة بين المصير الذي انتهى إليه البطل، وسائر الشهداء الذين يؤثرون الحياة الآخرة على المتاع الدنيوي العابر، وبين المصير الذي سيرسمه النص القصصي فيما بعد بالنسبة إلى قومه.
وقد سبق القول أن حبيبا بالرغم من إساءة قومه، كان يتمنى لهم أن يحاطوا علما بالمغفرة وبالاكرام اللذين ظفر بهما، بغية أن يرتدعوا عن استكبارهم.
ومما يعزز ذلك هو طبيعة رد الفعل الذي أحدثه المصير البائس لقومه، متمثلا في تعقيبه على ذلك:
{يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزؤن}
ومع أن النصوص المفسرة تتردد بين الذهاب إلى أن التحسر عليهم عائد إلى البطل، وبين كونه عائدا إلى تعقيب القصة نفسها، إلا أنه في الحالتين يدلنا على حقيقة فنية هي: أن السماء أو العباد المصلحين يأسفون كل الأسف ويتحسرون على هؤلاء الذين ركبوا ذواتهم حينما كانوا يستهزئون بأي رسول يأتيهم، لا أن إنزال العقاب مصحوب بالرغبة في الانتقام، بقدر ما هو مصحوب بالتأسف والتحسر على ضياع الفرصة لدى القوم...
وبعامة فإن قصة أصحاب القرية بدأت من حيث الشكل القصصي بحادثة إرسال الرسل إلى مدينة انطاكية.
كانا في البدء رسولين {إذ أرسلنا إليهم اثنين}، لكنهما كذبا. ثم عززا برسول ثالث {فعززنا بثالث} وبدوره قد كذب. ثم عززوا ببطل أهلي من المدينة ذاتها، حيث كذب هذا البطل.
وقد لوحظ أن القصة شددت على البطل الرابع، ونعني به حبيبا، بالرغم من أ نه لم يحمل سمة الرسول، وأدارت الأحداث من خلاله حتى أنها نسبت أهل المدينة إليه حينما قالت:
{وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء...}
وواضح أن نسبة القوم إليه، تعني إكساب هذا البطل موقعا رياديا ضخما.
مضافا إلى ذلك، فمادام البطل من أهل المدينة ذاتها، فإن نسبة القوم إليه يحمل مسوغه الفني أيضا.
بيد أن الأهم من ذلك كله، هو: أن هذا البطل لم يكتسب مثل هذه السمة إلا لأنـه ـ وهذا أهم ما تستهدفه القصة ـ كان أول من آمن من أصحاب المدينة، مما يعني أن الإيمان المبكر أو السابق، له أهميته الكبيرة في النشاط العبادي أو الخلافي في الأرض.
ليس هذا فحسب، بل إن مجرد كونه يحيا في أقصى المدينة، يحمل دلالته الفنية في القصة أيضا.
فالمدينة بما يحمل داخلها من إيحاء جماعي، من الممكن أن تتلكأ في الاستجابة لنداء الخير تحت تأثير الايحاء المذكور وبخاصة أنها تخضع لأوثان بشرية من كبراء القوم الذين يحتجزهم تورمهم الذاتي، وعفونة أذهانهم وجريهم خلف متاع الرئاسة
والعلو في الأرض... يحتجزهم ذلك كله من الاستجابة لنداء الخير، مما يتركون أثر ذلك أيضا على أتباعهم الرعاع.
ومن هنا فإن البطل الذي كان بمنأى عن المدينة، و من أوساخ داخلها،... كان سباقا إلى الخيرات، نقلته فطرته وموضوعيته في التعامل مع الحقائق إلى الاستجابة للرسل منذ اللحظة الاولى التي تعرف عليهم،... حتى إنه سارع بالمستوى ذاته من المسارعة إلى الإيمان، سارع إلى تحقيق مهمته العبادية في الأرض... فاتجه من أقصى المدينة يسعى نحو قومه، قائلا لهم:
{يا قوم اتبعوا المرسلين اتبعوا من لا يسئلكم أجرا وهم مهتدون}
حتى انتهى المطاف به إلى أن يستشهد منذ الأيام الاولى، وإلى أن يضمن لنفسه الجنة من لحظة استشهاده أو رفعه إلى السماء، بل إن حماسته واستبشاره بالجنة فجر لديه الحنين إلى مواصلة خطابه نحو القوم، هاتفا:
{يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين}
وهكذا يسارع حبيب وسائر الشهداء نحو الجنة، وقبل ذلك كانوا مسارعين نحو الخيرات،... نحو الإيمان... نحو تحقيق مهمة الخلافة في الأرض.
ختاما: تظل الاقصوصة المتقدمة، حافلة بما هو حي ومدهش في شخوصها الذين يمارسون وظائف اجتماعية في بيئات متماثلة وفي دلالاتها التي استخلصنا خطوطها، فضلا عن بنائها العماري والسياق الوارد فيها.
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|