أقرأ أيضاً
التاريخ: 2-06-2015
4832
التاريخ: 22-3-2016
10546
التاريخ: 4-2-2016
2160
التاريخ: 10-10-2014
1368
|
مما لا شك فيه أن اقصوصة سليمان (عليه السلام) تظل مرتبطة بقصة داود (عليه السلام) حيث أن الحديث عن الأب يستدعي الحديث عن الابن، كما أن السمات المشتركة بين الشخصين تحمل مسوغات التوحد بين القصتين أو بطليهما،... والمهم أن متابعتنا لقصة سليمان سوف تكشف عن تداخل أو تعاقب القصتين.
إذن، لنتجه إلى الاقصوصة الثانية من أقاصيص سورة «صاد» وهي: اقصوصة سليمان.
وقد لحظنا في اقصوصة داود (عليه السلام) أو صاحب الأيد أ نها استهلت برسم سمة عامة لداود هي الأيد أو القوة.
ولحظنا كيف أن الاقصوصة سردت لنا وفق بناء هندسي مفردات السمة المذكورة: من تسخير للجبال والطيور ومن دعم له في نطاق الملك والحكمة والقضاء، مع ملاحظة أن الاقصوصة شددت على سمة أواب في رسمها لشخصية داود (عليه السلام).
هنا في اقصوصة سليمان يبدأ السرد على النحو الآتي:
{ووهبنا لداود سليمان نعم العبد إنه أواب}
فهذه البداية القصصية تتضمن سمتين في رسمها لشخصية سليمان (عليه السلام): الاولى:
أنه نعم العبد، والاخرى: سمة أواب، أي نفس السمة التي رسمها النص لأبيه داود (عليه السلام).
هنا، ينبغي أن نقف على البناء العضوي للاقصوصة من حيث صلتها أولا بأقاصيص السورة، ومنها: هذه البداية القصصية.
ففي وقوفنا على سورة «سبأ» لحظنا مثلا مدى التلاحم العضوي بين قصص السورة المتقدمة، وبخاصة حينما تتوالى القصص دون أن يفصل بينها نثر غير قصصي، مما يعني أن القيم الفكرية التي تصل بين الأقاصيص تتضخم خطوط التلاقي بينها على نحو أقل منه في الأقاصيص التي يفصل بينها نثر قصصي، مع أنها في الحالين، أي: في حالة انتثار الأقاصيص في سورة ما بلا فاصل نثري، وفي حالة انتثارها بفاصل نثري، يظل الأمر كله حائما على وحدة فكرية تجمع بين قصص السورة، كل ما في الأمر أن حجم الوحدة المذكورة يتميز من نص لآخر، حسب ما يقتضيه السياق.
هنا، في سورة «صاد» نلحظ التناسق العضوي بين الاقصوصتين داود وسليمان (عليهما السلام)محكوما بالطابع العماري نفسه من حيث تجانس الخطوط الهندسية التي ترسمها الاقصوصتان.
والسؤال هو عن صلة البداية القصصية أولا.
{ووهبنا لداود سليمان نعم العبد إنه أواب}
صلتها بالاقصوصة السابقة.
إن أول ما يبتدر إلى الذهن، أن الآصرة النسبية البنوة تجيء في مقدمة الخطوط التي تنتظم عمارة الاقصوصة.
ففضلا عن أنهما داود وسليمان ينتميان إلى النبوة، فإنهما أيضا ينتميان إلى آصرة نسبية أب ـ ابن.
ثانيا: يجيء رسم السمات لشخصيتيهما مشفوعا بسمة هادفة يشدد النص عليها من نحو نعم وأواب فيما يتصل بشخصية سليمان، وذي الأيد وأواب فيما يتصل بشخصية أبيه داود.
ثالثا: يجيء رسم السمات لشخصيتيهما مطبوعا بما هو مشترك حينا، وبما هو متميز حينا آخر.
فسمة ذي الأيد مثلا، تشكل طابعا مميزا يأتلف مع مفردات الأحداث التي سيقت في اقصوصة داود. إلا أن سمة أواب تظل طابعا مشتركا بين داود وابنه.
فداود رسمه النص إنه أواب وسليمان رسمه النص أيضا إنه أواب.
رابعا: أن البداية القصصية لكل منهما ترسم سمة محددة تنعكس على مفردات الاقصوصة حدثا وموقفا على نحو ما لحظناه في اقصوصة داود، وعلى نحو ما نحاول الآن توضيح ذلك في اقصوصة سليمان.
والمهم، أن البداية القصصية:
{ووهبنا لداود سليمان نعم العبد إنه أواب}
يمكننا أن نتعرف من خلالها على بعض خطوطها المتمثلة في رابطة النبوة والنسب، ثم في السمة المشتركة التي نص عليها بكلمة أواب.
ومع أننا سنعرض لهذه السمة أواب وانعكاسها على أحداث القصة،... إلا أننا قبل ذلك نواجه خصيصتين تتطلبان الوقوف عندهما من حيث انعكاسهما على محتويات القصة من جانب، وصلتهما بما هو مشترك بين قصتي داود وسليمان من جانب آخر.
والخصيصتان هما:
1 ـ {ووهبنا لداود سليمان}.
2 ـ {نعم العبد}.
والخصيصة الاولى تتصل: بسمة اجتماعية، والاخرى: بسمة فردية.
ترى: ما هي دلالة السمتين المذكورتين، فنيا ؟
أما السمة الاولى:
{ووهبنا لداود سليمان}.
فإن الملاحظ، أنها لم ترد في سورة «سبأ» التي تضمنت أيضا قصتي داود وسليمان متعاقبتين، بل جاء رسم شخصية سليمان في السورة المذكورة، دون التلميح إلى الرابطة النسبية بينهما، في حين جاء رسم الشخصية المذكورة في سورة «صاد» مستهلا بأن السماء وهبت لداود سليمان:
{ووهبنا لداود سليمان نعم العبد إنه أواب}
والسؤال هو: هل يمكننا الذهاب إلى أن النص في صدد سرد النعم لداود الذي تقدم الحديث عنه في الاقصوصة السابقة من أ نه ذو الأيد أو القوة، بحيث يعد منح سليمان له، جزء من الأيد المذكور ؟
إن مثل هذا الاستخلاص، يظل حائما على مجرد الاحتمال، لكنه ـ من حيث التذوق الفني الصرف ـ قوي الدلالة إذا أخذنا في الاعتبار أن منح الابن هو استمرار لشخصية الأب فيما كان مثل هذا المنح موضع مطالبة بعض الأنبياء (عليهم السلام) وفيما صرحت بمثله نصوص قرآنية كثيرة وفيما أوضحت نصوص الحديث أهمية مثل هذا المنح.
يضاف إلى ذلك أن بعض الأعمال التي باشرها داود (عليه السلام) قد استكملت في عهد ابنه سليمان، كما تذكر ذلك بعض النصوص المفسرة عبر تلميحها لداود وسليمان في سورة «سبأ».
والمهم بعد ذلك كله، أن سمة ذي الأيد تظل على صلة بهذا المنح، إذا دققنا في تنوع القوى التي منحتها السماء لداود، حيث يتصل بعضها بقوى مادية مثل:
الجبال، وقوى حيوانية مثل: الطيور، فضلا عن سمة فردية مثل الحكمة وسمة سياسية مثل الملك وسمة قضائية مثل فصل الخطاب.
وكلها قوى تجسد دلالة الأيد الذي رسمه النص طابعا عاما في استهلاله لسرد قصة داود وهو أمر يظل متسقا مع منح الابن الذي يشكل استمرارا لشخصية الاب من حيث كونه قوة بدورها.
وهذا كله فيما يتصل بالسمة الاولى.
ولكن ما هي الدلالة الفنية التي يمكن استخلاصها من السمة الثانية التي وردت في البداية القصصية، ونعني بها سمة نعم العبد ؟
مما لا شك فيه، أن هذه السمة تظل من النمط الآخر الذي قلنا: إن النص يرسم في كل اقصوصة مستويين من السمات، أحدهما: سمات مشتركة بين بطلي الاقصوصتين داود وسليمان، والآخر: سمات متميزة ينفرد بها كل بطل، بحيث يشدد النص عليها من خلال الحوادث والمواقف المسرودة في القصة.
من هنا فإن سمة نعم العبد مضافا إلى سمة أواب عبر ورودهما في البداية القصصية عن سليمان (عليه السلام) ينبغي أن نعالجهما في تضاعيف القصة بما تتضمنها من أحداث ومواقف، مع ملاحظة أن سمة أواب تشكل طابعا مشتركا للبطلين.
لكننا مع ذلك، ما دمنا في صدد توضيح الصلة العضوية بين بداية الاقصوصة ومحتوياتها، فإن السمات المشتركة والمتميزة تخضع لطابع واحد من حيث الصلة المذكورة.
تبدأ اقصوصة سليمان بعد المقدمة القصصية بعرض الحادثة الآتية:
{إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد}
{فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب}
{ردوها علي فطفق مسحا بالسوق والاعناق}
إن هذه الحادثة التي يبدأ القسم الأول من الاقصوصة بها، لو دققنا التأمل فيها ـ دون الاستعانة بالنصوص المفسرة ـ لواجهتنا بجملة من الدلالات التي تثري من عملية التذوق الفني.
فلو انسقنا مع ظاهر الحدث، للحظنا أ نه يتمثل في مجموعة من الخيل السريعة الواقفة على ثلاثة أرجل، قد استعرضها سليمان ذات يوم. لكنه أمر بالاتيان بها، ومسحها بالسوق والأعناق بسبب من إشغالها إياه عن ذكر الله، نظرا إلى أ نه كان يعنى بها ويحبها.
إلى هنا فإن غموضا فنيا ممتعا يلف الحادثة. أما المفردات الواضحة فيها، أو لنقل: المعرفة الإجمالية بالحادثة، تتمثل في انتباه سليمان (عليه السلام) إلى أن حبه للخيل، ينبغي ألا يشغله ولو حينا عن ذكر الله.
هذه هي القيمة الفكرية للحادثة، والمتلقي بمقدوره أن يستخلص هذه الفكرة بسهولة، وهو الهدف الرئيسي من سرد الحادثة وكفى به هدفا ألفتت القصة انتباهنا إليه.
من هذه الزاوية بالذات، يمكننا أن نعلل واحدا من أسرار الخطورة الكبيرة في القصص القرآنية الكريمة. فالقرآن حينما يسرد لنا قصة ما، فإنه يستهدف توصيل غرض معين، فكرة محددة بمقدور أي واحد منا أن يدركها بوضوح بغية الإفادة منها في السلوك، لكنه في الآن ذاته يوشيها بخصائص جمالية وفكرية لن تستخلص بسهولة إلا لمن أراد أن يحقق لفكره مزيدا من الثراء أو يشبع حاجته إلى الجمال والتذوق الفني، حينئذ لابد له من الركون إلى النصوص المفسرة من جانب، وإلى خبرته الفنية الخاصة من جانب آخر.
وانطلاقا من هذه الحقيقة، فإن بمقدور أي قارئ أو مستمع أن يدرك الفكرة المحددة التي تنطوي عليها حادثة الخيل، وهي: أن حب الخيل أو أية معطيات اخرى، ينبغي ألا يشغلنا عن ذكر الله، وهذه القيمة الفكرية لا يحتاج المستمع أو القارئ العادي في استخلاصها إلى النصوص المفسرة أو إلى خبرة تذوقية خاصة.
وهذا أحد أوجه الخطورة الفنية الكبيرة في قصص القرآن الكريم، حيث يتيح للمتلقي إدراك القيمة الإجمالية العامة للقصة.
وهذه الخصيصة بالذات هي التي تفسر لنا أسباب الصياغة الفنية التي تجمع بين الوضوح والغموض الفني، بين ذكر بعض التفصيلات واختزال البعض الآخر.
إن المتلقي قد يتساءل مثلا: ما المقصود بمسح السوق والأعناق، وقد يتساءل عن المقصود بفقرة: حتى توارت بالحجاب، لكنه حتى لو لم يصل إلى معرفة المقصود من التواري، أو المقصود من المسح، فإنه يدرك بنحو مجمل أن سليمان قد صرح بوضوح بما يلي:
{إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي}
وصرح قائلا:
(ردوها علي)
فمن خلال هذين التصريحين ندرك أن استعراض الخيل قد أشغله لبرهة ولو ضئيلة عن ذكر الله، وندرك أن سليمان قد مارس عملا ما حيال الخيول، تكفيرا عن إشغالها إياه فترة قليلة عن الذكر. أما ماهية هذا العمل، فأمر ثانوي. أما تفصيلات العرض، وتفصيلات الزمن المستغرق له، وتفصيلات الذكر الذي فات سليمان، فأمر ثانوي له أهميته دون أدنى شك، ولكن ليس بنفس الأهمية الكبيرة التي ينطوي عليها الانشغال بالمعطيات عن ذكر الله بشكل عام. وتبعا لهذه الأسباب يمكننا أن نفسر المسوغ الفني لحذف التفصيلات، أو اختزالها أو غموضها، مادامت تشكل هدفا ثانويا بالقياس إلى الهدف الرئيسي الذي أفرزته
القصة بوضوح، كما أسلفنا.
والآن وقد أدركنا هذه الحقيقة يجدر بنا أن ننتقل إلى الأهداف الثانوية للحادثة متوكئين على النصوص المفسرة من جانب، وعلى التذوق الفني الخالص من جانب آخر.
إن أول ما يواجهنا من الحادثة، هو العرض العسكري للخيل.
وتواجهنا ثانيا السمات الخارجية للخيول، فيما رسمت بأنها صافنات وجياد.
ويواجهنا ثالثا التواري بالحجاب.
ويواجهنا رابعا المسح بالسوق والأعناق.
ترى ما هي دلالات ذلك كله ؟
أما العرض العسكري للخيل، فإن النصوص المفسرة تتفاوت في تقويم السبب المعزز لهذا العرض. فبعضها يذهب إلى أنها خيول متميزة تحمل سمة المدهش وليس سمة المألوف، كأن تكون خيولا بحرية ذات أجنحة وبعضها يذهب إلى أن سليمان قد ورث خيولا كان أبوه داود قد أصابها في أحد فتوحاته. وبعضها يذهب إلى أن سليمان نفسه قد أصابها في أحد معاركه. وبعضها يذهب إلى أن سليمان ـ أساسا ـ كان يحب الخيل، فيستعرضها تبعا لذلك.
وأيا كان السبب، فإن العرض العسكري للخيول يظل متصلا بطبيعة مهمته العسكرية التي لا تقف عند نمط واحد من القوى، بل تتجاوزه إلى قوى الإنس والجن والطير والريح وسواها.
بيد أن الذي حدث هو، أن العرض العسكري قد أبطأ به عن ذكر الله، كما هو صريح الحوار الذي وجهه سليمان نفسه:
{إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي}
مثلما هو صريح النصوص المفسرة.
وأما المفردة الثانية من الحادثة فهي: السمتان اللتان رسمهما النص للخيول، ونعني بهما سمة الصافنات وسمة الجياد.
وتقول النصوص: إن الخيول التي استعرضها كانت واسعة الخطو، سريعة المشي وإلى أنها تقف على ثلاثة أرجل وتضع طرف الرابعة على الأرض.
إن مثل هذه السمات لابد أن تتصل بملامح جمالية وعسكرية دون أدنى شك، وإلا لما نصت الاقصوصة عليها، طالما ندرك أن النص القرآني الكريم يتميز بالاقتصاد اللغوي الذي يظل أحد وجوه الإعجاز فيه.
ومما لا شك فيه أيضا، أن مجرد اتصاف الخيول بملامح عسكرية وجمالية، كاف في تفجير أحاسيس المتعة لدى الناظر إليها، مادامت هذه الأحاسيس يتصل بعضها بقيمة الفاعلية التي تنطوي السمات المذكورة عليها في المعارك ومادامت هذه السمات تتصل بإشباع الحاسة الجمالية التي تتذوق الملامح الخارجية للخيول في طبيعة حركتها أو وقوفها.
المهم، أن توفر مثل هذه السمات لدى الخيول، يعزز المسوغ إلى استعراضها، وبخاصة ذلك الاستعراض الذي جعل البطل نفسه يرتب عليه بعض الآثار، مادامت قد جعلته يؤثرها ـ ولو لحين ـ على الذكر.
المفردة الثالثة التي تواجهنا في حادثة العرض العسكري للخيول، واستجابة سليمان حيالها، هي فقرة: توارت بالحجاب.
{إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب}
حادثة المواراة هذه يغلفها غموض فني ممتع حيث يشكل واحدا من المسوغات التي سبق التلميح إليها في النصوص القصصية التي تقدم معرفة عن الهدف الفكريلها، ثم تتجه إلى إثراء المعرفة وتعميق الإحساس بالجمال عبر تمرير الهدف الثانوي للقصة.
إن المتلقي لا يمكنه أن يدرك المقصود من توارت بالحجاب. بيد أن النصوص المفسرة تسعفه في ذلك حينما يذهب بعضها إلى أن المقصود منها الخيول فيما تم استعراضها، وتوارت عنه.
وفيما يذهب بعضها إلى أن المقصود من ذلك هو الشمس، فيما غربت قبل أن ينتهي سليمان من العرض العسكري، ويبدو أن الدلالة الأخيرة، أي تواري الشمس هي لسان أغلبية النصوص المفسرة.
وتقول هذه النصوص: إن استعراض سليمان للخيل قد استغرقه حتى غابت الشمس، وعندها دعا إلى أن ترد الشمس عليه حتى يصلي العصر في وقتها.
ويقول البعض الآخر منها: إن سليمان قد فرضت عليه ضرورة عسكرية، وهي القيام بالعرض المذكور لأنه أراد جهاد العدو، حتى غابت الشمس فدعا بردها عليه لممارسة الصلاة.
في ضوء هذه الدلالة يكون دعاء سليمان ردوها علي متصلا برد الشمس:
{ردوها علي فطفق مسحا بالسوق والاعناق}
وأما في ضوء الدلالات الاخرى، فإن الرد يظل متصلا بالخيل، والقيام بمسح سوقها وأعناقها.
وأيا كان الأمر، فإن ما يعنينا، هو إنارة هذه التفصيلات الثانوية للقضية الرئيسة وهي: ذكر الله وعدم الانشغال عن ذلك، أيا كان السبب. فسواء أكان العرض عاديا أم ضروريا للقيام بحملة عسكرية عاجلة. وسواء أكان الخطاب ردوها علي متصلا بالشمس أم بالخيل، بل حتى لو افترضنا صحة التفسير الذاهب إلى أن التواري هو للخيل وليس للشمس مع أ نه معارض بالنصوص الموثوق بها، كل ذلك يشكل إنارة لقضية رئيسة ألفت انتباهنا إليها سليمان نفسه حينما قال:
{إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي}
حيث عنى بذلك: أن ذكر الله سبحانه وتعالى ينبغي ألا يستغرقه أي هم آخر مهما كانت مسوغاته.
إذن كل هذه التفصيلات وظفت ـ فنيا ـ لإنارة الهدف الكبير: ذكر الله، وهو أمر ينبغي ألا نغفل عنه من حيث صلته بالبناء الجمالي للقصة.
أما المفردة الأخيرة التي تواجهنا في حادثة العرض العسكري للخيول، واستجابة سليمان حيال ذلك، فهي:
عملية المسح بالسوق والأعناق.
ولعل هذه العملية تظل أشد المفردات الأربع التي رافقت حادثة العرض العسكري تفاوتا بين نصوص التفسير. فالنصوص المفسرة تتفاوت في تحديد دلالة المسح... بعضها يذهب إلى أن المسح يعني قطع سوق الخيل وأعناقها، أي:
ذبحها، وبعضها يسوغ هذه العملية بأنها تمت، لكي يتصدق سليمان بلحومها. لا أنه أهدرها لمجرد التكفير.
غير أن مثل هذا التفسير ترده نصوص اخرى تنزه سليمان من قيامه بعملية الذبح التي لا مسوغ لها، بل تفسره بأنه مجرد مسح للسوق والأعناق بصفته مجرد حب، أوأ نه جعلها في سبيل الله مثلا...
والحق، أن أيا من الدلالات المذكورة من الممكن أن تشكل أيضا إنارة للهدف الكبير: ذكر الله الذي ينبغي ألا يستغرقه هم آخر. مع ملاحظة أن نوع التعامل مع الخيل قد يشكل نمطا من معالجة الموقف، كي لايتكرر ثانية على سبيل المثال.
وبخاصة إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن الاقصوصة السابقة ـ اقصوصة داود ـ قد تضمنت ما يتجانس مع هذا الموقف استغفارا هناك، ومسحا بالسوق والأعناق هنا. وهو أمر لا يعزز الموقف المذكور فحسب، بل يشكل تلاحما عضويا أو لنقل:
تجانسا هندسيا بين خطوط الاقصوصتين، فضلا عن التجانس الهندسي بين أجزاء اقصوصة سليمان نفسها، حينما نتابع أحداثها اللاحقة. ونلحظ أن الاستغفار قد طبع سلوك سليمان أيضا في القسم الثاني من الاقصوصة التي نبدأ الآن بمتابعتها.
القسم الثاني من اقصوصة سليمان، يبدأ على النحو الآتي:
{ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب}
{قال رب اغفر لي... }
وقبل أن نتحدث عن مادة هذا القسم، ينبغي أن نلفت انتباه المتلقي إلى الترابط الفكري بين مادة هذا القسم واقصوصة داود.
ففي حادثة تسلق المحراب، أشارت القصة إلى كل من الفتنة والاستغفار:
{وظن داود أنما فتناه}
{فاستغفر ربه... }
هنا في قصة سليمان عبر حادثة الجسد التي سنقف عندها، يطرح النص أيضا ظاهرة الفتنة والاستغفار.
لنقرأ من جديد:
{ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب }
{قال رب اغفر لي... }
إذن كل من الفتنة والاستغفار قد طبعا قصتي داود وسليمان. وهو أمر يلفت انتباهنا إلى إحكام البناء الهندسي وتوازن خطوطه، وما ينطوي عليه هذا التوازن من جمالية وإمتاع يثريان التذوق، ويحققان الإثارة الفنية في هذا الصدد.
المهم أن نقف عند هذه الواقعة، بعد أن عرفنا موقعها الفني من بناء الأقاصيص في السورة.
مؤدى الواقعة: أن ثمة جسدا قد القي على كرسي سليمان، وإلى أن الواقعة ذات صلة بالاختبار أو المحنة المشار إليها بفقرة:
{ولقد فتنا سليمان}
وبالإنابة، والاستغفار اللذين تشير إليهما فقرتا ثم أناب ورب اغفر لي، أي:
بظاهرتي الفتنة والاستغفار اللذين طبعا قصة داود في حادثة تسور المحراب.
ويطبعان الآن قصة سليمان في حادثة الجسد.
والملاحظ أن الغموض الفني يظل مغلفا هذه الواقعة بنحو أشد إثارة من الإمتاع الفني الذي لحظناه في حادثة العرض العسكري للخيل.
ومما لا شك فيه، أن المعرفة الإجمالية للحادثة تظل محكومة بالقيمة الفكرية الذاهبة إلى أن الاختبار ذو معطى كبير في تقويم السلوك وتعديله، وإلى أن طلب المغفرة والإنابة مؤشر على ذلك.
بيد أن هدفنا هو الوقوف على تفصيلات الموقف وما تلقيه من إنارة على القيمة الفكرية الرئيسة التي تستهدفها الاقصوصة بما تحققه هذه التفصيلات من إثراء فكري ومن إمتاع جمالي. وهو أمر يتطلب أن نقف أولا عند النصوص المفسرة، ثم نتبعها بعملية التذوق الفني الخالص.
حين نعود إلى النصوص المفسرة لهذا القسم من اقصوصة سليمان:
{ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب}
{قال: رب اغفر لي}
حين نعود إلى النصوص المفسرة لهذا النص، نجدها متفاوتة في تحديد الفتنة والجسد.
بعضها يذهب إلى أن الجن عندما ولد لسليمان ابن، تخوفوا من ذلك، بغية ألا يلاقوا منه ما لاقوه من أبيه من المتاعب. وعندما عرف سليمان ذلك، أشفق منهم، فاسترضعه في السحاب.
بيد أن السماء أماتت الوليد وألقته جسدا ميتا على كرسي أبيه، تنبيها له من أن القدر لا يجدي معه أي تخوف من الجن الذين سخرتهم السماء.
وبعضها يذهب إلى أن سليمان تخوف من الموت لوليده، فاسترضعه في السحاب المذكور.
وهناك نصوص مفسرة اخرى لا يعنينا منها إلا الدلالة على ظاهرة محددة، هي التخوف ينبغي ألا يحدث إلا حيال السماء. وإلى أنها، أي: السماء، هي المصدر الوحيد لكل تحرك.
المهم، أن ثمة اختبارا أو فتنة مشابهة للفتنة التي واجهت داود في قضية الحكمالذي أصدره على المتخاصمين. هذا الاختبار، هو إلقاء جسد ميت على كرسي سليمان.
ومما لا شك فيه، أن مثل هذا الاختبار يستتلي أكثر من استجابة حيال مثير محدد.
فالمثير أو المنبه هو: جسد ميت ملقى على كرسي سليمان. وإذا كان هذا الجسد هو جسد طفل يحنو عليه والده بحكم الدافع إلى البنوة، فحينئذ نتوقع ضخامة الاستجابة حيال هذا الموت.
إن مجرد موت الطفل كاف في إحداث الاستجابة المحزنة حياله. فإذا أضفنا إلى ذلك أن الأب كان مشفقا على وليده من إصابته بالسوء. فحينئذ يتضخم حجم الحزن تبعا لتضخم حجم الخوف من الإصابة. وإذا أضفنا إلى ذلك أن الإشفاق دفعه إلى أن يسترضعه في السحاب مثلا، حينئذ نتوقع مدى ضخامة الحزن الذي سيلف الأب حينما يجابه بموت الابن.
ثم إذا أضفنا إلى ذلك، أن عنصر المفاجأة يزيد من حدة الاستجابة المحزنة، حينئذ ندرك حجم الحزن في هذا الصدد.
وهذا كله من حيث مجابهة الموت، مجردا من أية ملابسات. أما إذا واكبت موت الطفل مثيرات اخرى، فإن حجم الحزن سيأخذ بالتضخم تبعا لنمط هذه المثيرات.
ولعل أشد أنماطها إثارة هو: إلقاء جسده فجأة أمام نواظر الأب.
ثم أشدها إثارة: إلقاء الجسد على كرسي سليمان، وهو مقره الذي أدار من خلاله الدنيا.
إذن، كم هو حجم الحزن، أو الإثارة بما تستتبعها من استجابة حيال هذا الاختبار ؟
إن ما نعتزم التنبيه عليه هو، أن نحدد من الوجهة الفنية صلة هذا الرسم: صورة الجسد الميت، ملقى على سليمان، صلته بالاختبار، بالفتنة، بالشريحة الفكرية التي يشدد النص عليها في قصة سليمان... وهي ذات الشريحة الفكرية التي أوضحها النص في قصة داود.
وخطورة مثل هذا الرسم تتمثل في ذلك البناء الهندسي الجميل الذي يصل بين قصة داود وقصة سليمان في خطوط متوازية متوازنة بنحو تتلاقى فيه عند مفهوم الاختبار...، وعند مفهوم نوع الاستجابة الصادرة حيال ذلك كله.
والآن، لنعد إلى قصة سليمان في رسمها لصورة الجسد.
إن أهم ما ينبغي أن نقف عنده هو: مفهوم العطاء الذي تمنحه السماء للآدميين، وإلى أنها مالكة الأمر ـ دون سواها ـ لكل مخلوقات الكون.
ومما لا شك فيه، أن اختيار أشد الدوافع إلحاحا، ونعني به دافع الابوة، يفصح عن أن الاختبار أو الفتنة تظل محكا للشخصية، وفرز العادي أو الخطير منها.
ومن هنا فإن سليمان بصفته من الشخوص المصطفاة، ستمر من خلال هذا الاختبار ناجحة بالنحو الذي أوضحته القصة، من أ نه قد أناب، ومن أ نه سأل الله المغفرة. وانتهى كل شيء.
ومما لا شك فيه أيضا، أن الحذر من أية قوة ـ سوى الله ـ سيكون موضع استخلاص فكري من الصورة المذكورة: صورة الجسد الميت.
إن الجن أو أية قوة اخرى. أو إن الموت أو أية مصائر دنيوية محفوفة بالأخطار لن ينفع الحذر منها مادامت القوة المخوف منها هي قوة لا تملك لنفسها نفعا ولا ضرا، ومادام الموت أو أي مصير آخر لن ينفع الحذر منه مادام الأمر محكوما بمصلحة، بعطاء تقرره السماء دون أن يدرك الآدميون أسرار ذلك...
هذه الشرائح الفكرية يستخلصها المتلقي بوضوح عند وقوفه على الصورة الفنية الكبيرة التي رسمتها القصة في هذا القسم من النص: صورة الجسد الميت على كرسي سليمان.
وهنا ينبغي أن نقف عابرا على ظاهرة الكرسي من الصورة المذكورة.
إن الكرسي الذي القي الجسد عليه، هو: كرسي سليمان. ومثلما أوضحنا فإن إلقاءه على الكرسي دون سواه، يعني أن رسم هذا الملمح من بيئة القصة له أهميته العضوية في بناء الاقصوصة.
فالكرسي كما سنرى، يشكل أشد مظاهر القوة التي ملكتها السماء لسليمان.
ففضلا عن أن إلقاء الجسد الميت على الكرسي يعد ـ من الناحية الفنية ـ تنبيها غير مباشر إلى أن أشد مظاهر القوة ستقترن بأشد مظاهر الضعف.
القوة من حيث ملك سليمان.
والضعف من حيث زوال أحد ممتلكاته الوليد.
فضلا عن ذلك سنجد أن الكرسي يشكل بعدا فنيا آخر، بما سيسرده النص في القسم الآتي من القصة من أحداث تتصل بملكية هذا الكرسي، وبما تواكبه من مظاهر القوة التي منحتها السماء لسليمان.
كل ذلك سنجد أصداءه بوضوح في القسم الأخير من القصة، مما يعني أن البناء الهندسي للنص قد احكم بنحو قد تلاحمت أجزاؤه وتنامت عضويا، بحيث يلقي كل جزء منها إنارة على الجزء الذي يليه،... ممهدا له بنحو من السببية التي تؤدي كل مقدمة إلى نتائجها التي تشكل بمجموعها أفكارا محددة قد استهدفها النص ـ وفق جمالية عالية ـ في صياغة الاقصوصة.
بعد أن تمت عملية الاختبار أو الفتنة التي واجهت سليمان، ثم استغفاره (عليه السلام)بعد أن تتجه القصة إلى قسمها الأخير الذي يحدده النص على هذا النحو الذي بدأه سليمان بالطلب الآتي:
{وهب لي ملكا لا ينبغي لاحد من بعدي إنك أنت الوهاب}
ثم أجابته السماء:
{فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب}
{والشياطين كل بناء وغواص}
{وآخرين مقرنين في الأصفاد}
{هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب}
{وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب}
بهذا النحو ينتهي القسم الأخير من اقصوصة سليمان، فيما تنتظمه ثلاث شرائح: إحداها تـتصل بطلب سليمان ملكا لا ينبغي لأحد من بعده. والثانية:
بإجابة السماء لدعائه. والثالثة: تتصل بالعطاء الاخروي له أيضا.
وقبل أن نأتي على تفصيلات هذه الشرائح الثلاث من القصة، يتعين أن نلفت الانتباه إلى ظاهرة العطاء الذي تشدد القصة عليه في صياغتها لهذا الموقف.
إنه ذلك العطاء الضخم الذي رسمته قصة داود. وهو ذات العطاء الذي ترسمه قصة سليمان في قسمها الأول. وهو ذاته ترسمه في قسمها الأخير، ولكن وفق أرقام جديدة، وفق نمط آخر يبدأه سليمان بعد الاستغفار بالذات، ثم تجيبه السماء محققة طلبه بنحولم يدر بخلده.
وأكثر من ذلك، مؤكدة بأنها ـ أي السماء ـ هيأت عطاء اخرويا ضخما مضافا إلى العطاء الدنيوي.
أجل، إنه لعطاء بغير حساب،... عطاء الله الذي يرفده لعباده المصطفين الذين مارسوا مهمتهم العبادية على الأرض، وأخلصوا للسماء في ممارساتهم المذكورة كل الإخلاص.
ترى، كم هو حري بنا ـ نحن المتلقين ـ أن نفيد من تجربة هذا العطاء الذي رسمته القصة، وهي تستهدفنا حتما من وراء قصها لأمثلة هذا العطاء بغير حساب!!
كانت الشريحة الاولى من هذا القسم من الاقصوصة، تتصل ـ كما قلنا ـ بطلب سليمان ملكا لا ينبغي لأحد من بعده.
والسؤال هو: لماذا طلب سليمان مثل هذا الملك أولا ؟ ولماذا طلبه لنفسه دون الآخرين، ثانيا ؟
إن النصوص المفسرة تـتفاوت في تحديد هذا الطلب والاستئثار به، بيد أن النص الذاهب إلى أن سؤاله كان في نطاق المقارنة مع ملك الشخصيات الأرضية التي لا تتعامل مع السماء في زعامتها للآخرين وسيطرتها عليهم،... هذا النص يبدو وكأنه أقرب الدلالات إلى الاستئثار بمثل هذا الحكم الذي يتعامل مع قوانين السماء قبال الحكم الأرضي المنفصل عنها، مع ملاحظة أن النص المفسر الذاهب إلى أن طلبه كان وفاقا لما أعلمته السماء بمشروعية مثل هذا الطلب سلفا، لمصلحة تقتضي ذلك،... مثل هذا النص بدوره من الممكن أن يكون مؤتلفا مع الاستئثار.
ولكن، أيا كان الأمر فإن السماء قد أجابته لطلبه، وهو طلب تتحدد مشروعيته ـ على الأقل ـ في إجابة السماء ذاتها للطلب، وكفى بذلك مشروعية وتقويما، مضافا إلى ذلك، فإن الملك الذي منحته السماء لسليمان مادام مرتبطا ـ أساسا ـ بقوانين السماء، فإنه حينئذ يكتسب قيمة ضخمة بقدر ضخامة المهمة الخلافية الملقاة على الآدميين في الأرض.
والآن، ما هي أبعاد هذا الملك الذي منحته السماء لسليمان ؟
إن بيئة الملك الذي حددته الاقصوصة، تـتمثل في قوتين هما: الريح والشياطين.
وقد منحت القصة كلا من القوتين سمات خاصة مثلما فصلت في رسم المهمات التي طبعت القوة الأخيرة: الشياطين. إن البناء الهندسي للبيئة المذكورة، فضلا عن أهميته الجمالية التي تـتصل بوصف الريح وحركتها، وبوصف عمليات البناء والغوص، وبوصف الملامح الخارجية لشخوص الشياطين،... فضلا عن ذلك كله، ينطوي على أهمية مضمونية تتصل بمعطيات العمليات المتقدمة ذاتها بناء وغوصا، وتكبيلا للقوى الشيطانية.
ويعنينا الآن أن نقف مع هذه التفصيلات:
الريح: إن أهمية الريح تتمثل في كونها واسطة جوية مقابلا للوسائط البرية والبحرية، فيما تمثل بمجموعها كافة الوسائل المتاحة عادة في تحركات الجيوش، أوعمارة الأرض.
ويلاحظ ـ من حيث البناء الهندسي ـ أن القصة تكفلت برسم هذه الوسائط الثلاث: الجو، البر، البحر، فيما ألمحت إلى الاولى بــ الريح، وإلى الثانية بالبناء، وإلى الثالثة بالغوص (والشياطين كل بناء وغواص).
وهذا أحد أوجه الجمال الفني في بناء القصة التي رسمت طبيعة القوى مستكملة لأشكالها الثلاثة: الجو، البر، البحر.
والمهم أن نقف عند الريح أولا في تفصيلاتها التي سردتها القصة، ونصوص التفسير.
النص القصصي يكتفي برسم الريح من أنها رخاء أولا، ثم أنها قد سخرت له حيث يريد، دون أن تقيد حركته مع الريح، ثانيا.
ومن الواضح، أن لهاتين السمتين اللتين منحتهما السماء لسليمان، أهمية كبيرة: جماليا وفكريا من حيث حركة الريح ومعطياتها.
فقد أكسبت الريح سمة رخاء أي: لينة، مع ملاحظة أن نص القرآن الكريم قد أكسب الريح صفة مضادة في قصة اخرى هي سمة عاصفة.
وبعض المفسرين قد انتبه إلى هاتين السمتين: رخاء وعاصفة، وعلل ذلك بقوله: إن الريح جعلت حينا رخاء، وحينا عاصفة بحسب ما يريدها سليمان.
وفي تصورنا ـ مضافا إلى ما تقدم ـ أن اكساب الريح صفة رخاء في هذه القصة، يتساوق جماليا مع طابع الإرادة التي منحتها السماء لسليمان، حينما عقبت على ذلك:
{حيث أصاب}
فالإصابة هنا تعني: الإرادة أو القصد أوالهدف الذي ينشده سليمان في تحركاته.
وحينما يخلع النص سمة رخاء بوصفها: لينة وسريعة، يعني: أن السرعة واللين
تتناسقان مع الطواعية التي ينشدها سليمان. وبكلمة جديدة: أن تطويع الريح يقتضي كونها لينة تتناسب مع التطويع، بغض النظر عن كونها خفيفة أو عاصفة.
فصفة الخفة وما يضادها العصف لا تتنافيان مع كون الريح قد طوعت أو لينت تبعا لإرادة سليمان.
وبكلمة ثالثة: أن الرخاء يتساوق مع دلالة الطوع قبال التلكؤ مثلا... في حين أن كونها عاصفة لا يضاد كونها طيعة أيضا...
إن هذا التصور يظل في حدود التذوق الفني الصرف، من الممكن أن يكون خاطئا ومن الممكن أن يكون صائبا، مادمنا لا نملك حق التفسير النهائي في هذا الصدد، ولكن حسبنا أن نستخدم ذائقتنا الفنية في نطاق الخبرات التي يمتلكها هذا المتلقي أو ذاك، دون أن نركن إلى يقين نهائي، مادام الأمر موكولا إلى الله سبحانه وتعالى.
كانت السمة الاولى للقوة التي منحتها السماء لسليمان ـ فيما يتصل بالريح ـ هي: سمة رخاء ـ لينة:
أما السمة الثانية للقوة، فهي تحقيق الهدف الذي ينشده:
{حيث أصاب}
ومن الواضح، أن تسخير الريح لينة مضافا إلى أنها طوعت له حيث يريد ويقصد ويستهدف، يعني إكسابه قوة لا حدود لها، تتسق مع طلبه الذي قال عنه:
{وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي}
وهذا كله فيما يتصل بإحدى القوتين: الريح.
أما القوة الثانية فهي: تسخير الشياطين.
ويلاحظ أن الريح قد شكلت ـ كما أشرنا ـ وسيلة جوية للتحرك.
أما الشياطين، فقد شكلوا قوة برية وبحرية في التحرك:
{والشياطين كل بناء وغواص}
ويلاحظ أيضا أن سمة اخرى قد رسمها النص فيما يتصل بالملامح الخارجية لشخوصهم، ونعني به الرسم الخارجي المتمثل في كون بعضهم مقرنين بالأصفاد:
{والشياطين كل بناء وغواص وآخرين مقرنين في الأصفاد}
ترى ما هي الأبعاد الفنية التي يمكن استخلاصها من السمات الثلاث: البناء ،
الغوص، التكبيل بالقيود ؟
من حيث البناء المعماري أو الهندسي لهذا الرسم، فإن شخوص الشياطين قد رسموا في مستويين من النشاط:
1 ـ من حيث ممارساتهم بعامة: بناء وغوصا.
2 ـ من حيث إطاعتهم بعامة.
أما من حيث الممارسات، فإن البناء يظل متصلا بالتحرك على الأرض، وعمارتها. والغوص يظل متصلا بالتحرك في البحر واستخراج ما فيه من الكنوز.
وأما من حيث إطاعة الشياطين بعامة، فإن رسمهم مكبلين بالقيود، يعني بوضوح أن البعض ـ كما هو صريح النص وآخرين ـ كان متمردا على أوامر السماء، بحيث أرغمتهم على خدمة سليمان، فجعلتهم مكبلين بالقيود لا يستطيعون فكاكا منها مرغمين على خدمته حيث يريد.
وواضح أن رسمهم مكبلين، مرغمين على خدمته يتساوق ـ فنيا ـ مع السمة التي طبعت قوة الريح حين رسمها بأنها تجري رخاء حيث أراد سليمان، كما يتساوق أيضا مع السمة التي طبعتهم بعامة:
{كل بناء وغواص}
إذن كل السمات التي رسمها النص، سواء أكانت متصلة بالريح أو بالشياطين، وسواء أكانت متصلة بالملتزمين أو المتمردين، هذه السمات جميعا قد وظفت ـ من الناحية الفنية ـ لخدمة سليمان على نحو ما رسمه النص من طابع عام يسم طلب سليمان الذي تمثل في ملك لا ينبغي لأحد من بعده، وفي تجسيد ذلك في ممارسات قال عنها النص في بداية الرسم: من أن القوى تجري معه حيث أصاب، أي حيث قصد وأراد واستهدف.
وهذا معلم آخر من معالم البناء الجمالي لهذا الجزء من الاقصوصة، فيما يمثل توازنا هندسيا لخطوط البناء، وفيما يمثل تناميا عضويا لها، بحيث تصب مختلف أدوات الإنارة على رافد واحد، هو ملك سليمان، وإرادته أو رغبته في تحقيق هذا الهدف أو ذاك.
وأخيرا، فإن القصة بعد ما تنتهي من رسم هذا العطاء الدنيوي لسليمان،...
تتجه إلى التذكير بالعطاء الاخروي أيضا، فيما تقرر ما يلي:
{وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب}
هذه الخاتمة القصصية ينبغي ألا نفصلها عن قصة سليمان بمجموع أجزائها أولا، وينبغي ألا نفصلها عن القسم الأخير من القصة ثانيا، وينبغي ألا نفصلها عن القصة السابقة: قصة داود، صاحب الأيد ثالثا.
وبكلمة جديدة: ينبغي أن ندقق في المزيد من تفصيلات البناء الهندسي الضخم لهذه الاقصوصة التي انتهينا توا من توضيح بعض معالم البناء المعماري فيها.
ونتجه إلى تبيين الجديد من معالم البناء المذكور، ومنه: الخاتمة القصصية نفسها من حيث صلتها بالمحاور الثلاثة المتقدمة. أما صلة الخاتمة بقصة داود فإنها من الوضوح بمكان كبير، إذا تذكرنا أن قصة داود قد اختتمت أيضا بنفس الفقرة:
{وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب}
مثلما سبقتها نفس الدلالة الحائمة على الفتنة ثم على الاستغفار، مما يعني مزيدا من التناسق بين خطوط القصتين اللتين بدأتا برسم سمة الأواب لكل من شخصيتي داود وسليمان، وبرسم المعطيات المعجزة لكل منهما، وبتعرضهما للفتنة جميعا وباستغفارهما من ذلك، ثم بالتلويح لكل منهما بالفقرة المشتركة ـ لفظا ودلالة ـ من أن لهما حسن مآب، فيما شكلت هذه الفقرة نهاية قصصية لكل منهما.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|