أقرأ أيضاً
التاريخ: 11-8-2019
3936
التاريخ: 9-8-2019
17772
التاريخ: 6-8-2019
3956
التاريخ: 9-8-2019
6583
|
قال تعالى : {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ } [التوبة : 36 - 37] .
تفسير مجمع البيان
- ذكر الطبرسي في تفسير هاتين الآيتين (1) :
قال تعالى : {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة : 36 ] .
لما ذكر الله سبحانه وعيد الظالم لنفسه بكنز المال ، من غير اخراج الزكاة وغيرها ، من حقوق الله منه ، اقتضى ذلك أن يذكر النهي عن مثل حاله ، وهو الظلم في الأشهر الحرم الذي يؤدي إلى مثل حاله ، أو شر منه في المنقلب ، فقال : {إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا} أي : عدد شهور السنة في حكم الله وتقديره اثنا عشر شهرا . وإنما تعبد الله المسلمين أن يجعلوا سنيهم على اثني عشر شهرا ، ليوافق ذلك عدد الأهلة ، ومنازل القمر ، دون ما دان به أهل الكتاب .
والشهر : مأخوذ من شهرة الأمر لحاجة الناس إليه في معاملاتهم ، ومحل ديونهم ، وحجهم ، وصومهم ، وغير ذلك من مصالحهم المتعلقة بالشهور ، وقوله : {في كتاب الله} معناه : فيما كتب الله في اللوح المحفوظ ، وفي الكتب المنزلة على أنبيائه . وقيل : في القرآن . وقيل : في حكمه وقضائه ، عن أبي مسلم . وقوله : }يوم خلق السماوات والأرض} متصل بقوله {عند الله} والعامل فيهما الاستقرار .
وإنما قال ذلك لأنه يوم خلق السماوات والأرض أجرى فيها الشمس والقمر ، وبمسيرهما تكون الشهور والأيام ، وبهما تعرف الشهور .
{منها أربعة حرم} أي : من هذه الاثني عشر شهرا ، أربعة أشهر حرم ، ثلاثة منها سرد : ذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، وواحد فرد : وهو رجب . ومعنى حرم : أنه يعظم انتهاك المحارم فيها أكثر مما يعظم في غيرها ، وكانت العرب تعظمها حتى لو أن رجلا لقي قاتل أبيه فيها لم يهجه لحرمتها .
وإنما جعل الله تعالى بعض هذه الشهور أعظم حرمة من بعض ، لما علم من المصلحة في الكف عن الظلم فيها ، لعظم منزلتها ، ولأنه ربما أدى ذلك إلى ترك الظلم أصلا ، لانطفاء النائرة ، وانكسار الحمية في تلك المدة ، فإن الأشياء تجر إلى أشكالها . وشهور السنة المحرم : سمي بذلك ، لتحريم القتال فيه . وصفر : سمي بذلك ، لأن مكة تصفر من الناس فيه أي : تخلو . وقيل : لأنه وقع وباء فيه ، فاصفرت وجوههم . وقال أبو عبيدة: سمي بذلك لأنه صفرت فيه أوطابهم عن اللبن (2) وشهرا ربيع : سميا بذلك لإنبات الأرض وإمراعها فيهما . وقيل : لارتباع القوم أي : إقامتهم وجماديان : سميتا بذلك لجمود الماء فيهما . ورجب : سمي بذلك لأنهم كانوا يرجبونه أي : يعظمونه يقال رجبته ورجبته بالتخفيف والتشديد ، قال الكميت :
ولا غيرهم أبغي لنفسي جنة * ولا غيرهم ممن أجل وأرجب
وقيل سمي بذلك لترك القتال فيه من قولهم رجل أرجب إذا كان أقطع لا يمكنه العمل .
وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : إن في الجنة نهرا يقال له رجب ، ماؤه أشد بياضا من الثلج ، وأحلى من العسل ، من صام يوما من رجب ، شرب منه .
وشعبان : سمي بذلك ، لتشعب القبائل فيه عن أبي عمرو . وروى زياد بن ميمون أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : إنما سمي شعبان ، لأنه يشعب فيه خير كثير لرمضان . وشهر رمضان : سمي بذلك لأنه يرمض الذنوب . وقيل : سمي بذلك ، لشدة الحر .
وقيل : إن رمضان من أسماء الله . وشوال : سمي بذلك ، لأن القبائل كانت تشول فيه اي : تبرح عن أمكنتها . وقيل لشولان النوق أذنابها فيه . ذو القعدة : سمي بذلك لقعودهم فيه عن القتال . وذو الحجة : لقضاء الحج فيه .
{ذلك الدين القيم} أي : ذلك الحساب المستقيم الصحيح ، لا ما كانت العرب تفعله من النسئ ، ومنه قوله : الكيس من دان نفسه أي : حاسبها . وسمي الحساب دينا : لوجوب الدوام عليه ، ولزومه كلزوم الدين والعبادة . وقيل : معناه ذلك القضاء المستقيم الحق ، عن الكلبي . وقيل : معناه ذلك الدين تعبد به فهو اللازم .
{فلا تظلموا فيهن} أي في هذه الشهور كلها ، عن ابن عباس . وقيل : في هذه الأشهر الحرم الأربعة ، عن قتادة ، واختاره الفراء قال : لأنه لو أراد الاثني عشر شهرا لقال فيها {أنفسكم} بترك أوامر الله ، وارتكاب نواهيه ، وإذا عاد الضمير إلى جميع الشهور ، فإنه يكون نهيا عن الظلم في جميع العمر ، وإذا عاد إلى الأشهر الحرم ، ففائدة التخصيص أن الطاعة فيها أعظم ثوابا ، والمعصية أعظم عقابا ، وذلك حكم الله في جميع الأوقات الشريفة ، والبقاع المقدسة .
{وقاتلوا المشركين كافة} أي : قاتلوهم جميعا مؤتلفين غير مختلفين {كما يقاتلونكم كافة} أي : جميعا كذلك ، فتكون كافة حالا عن المسلمين ، ويجوز أن تكون حالا من المشركين أي : قاتلوا المشركين جميعا ، ولا تمسكوا منهم بعهد ولا ذمة ، إلا من كان من أهل الجزية وأعطاها عن صغار ، والظاهر هو الأول . وقيل :
معناه قاتلوهم خلفا بعد سلف ، كما أنه يخلف بعضهم بعضا في قتالكم ، عن الأصم {واعلموا أن الله مع المتقين} بالنصرة والولاية . وفي هذه الآية دلالة على أن الاعتبار في السنين بالشهور القمرية لا بالشمسية ، والأحكام الشرعية معلقة بها ، وذلك لما علم الله سبحانه فيه من المصلحة ، ولسهولة معرفة ذلك على الخاص والعام .
- {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [التوبة : 37] .
لما قدم سبحانه ذكر السنة والشهر ، عقبه بذكر ما كانوا يفعلونه من النسئ فقال : {إنما النسئ زيادة في الكفر} يعني : تأخير الأشهر الحرم عما رتبها الله سبحانه عليه ، وكانت العرب تحرم الشهور الأربعة ، وذلك مما تمسكت به من ملة إبراهيم وإسماعيل ، وهم كانوا أصحاب غارات وحروب ، فربما كان يشق عليهم أن يمكثوا ثلاثة أشهر متوالية ، لا يغزون فيها (3) ، فكانوا يؤخرون تحريم المحرم إلى صفر ، فيحرمونه ويستحلون المحرم ، فيمكثون بذلك زمانا ، ثم يزول التحريم إلى المحرم ، ولا يفعلون ذلك إلا في ذي الحجة.
قال ابن عباس : ومعنى قوله {زيادة في الكفر} : انهم كانوا أحلوا ما حرم الله ، وحرموا ما أحل الله . قال الفراء : والذي كان يقوم به رجل من كنانة ، يقال له نعيم بن ثعلبة ، وكان رئيس الموسم ، فيقول : أنا الذي لا أعاب ، ولا أخاب ، ولا يرد لي قضاء! فيقولون : نعم صدقت ، أنسئنا شهرا ، أو أخر عنا حرمة المحرم ، واجعلها في صفر ، وأحل المحرم ، فيفعل ذلك .
والذي كان ينسأها حين جاء الاسلام ، جنادة بن عوف بن أمية الكناني ، قال ابن عباس : وأول من سن النسئ عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف ، وقال أبو مسلم بن أسلم : بل رجل من بني كنانة ، يقال له القلمس ، كان يقول : إني قد نسأت المحرم العام ، وهما العام صفران ، فإذا كان العام القابل قضينا فجعلنا هما محرمين ، قال شاعرهم {وما ناسئ الشهر القلمس} ، وقال الكميت :
ونحن الناسؤون على معد * شهور الحل نجعلها حراما
وقال مجاهد : كان المشركون يحجون في كل شهر عامين . فحجوا في ذي الحجة عامين . ثم حجوا في المحرم عامين . ثم حجوا في صفر عامين . وكذلك في الشهور حتى وافقت الحجة التي قبل {حجة الوداع} في ذي القعدة . ثم حج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في العام القابل {حجة الوداع} . فوافقت في ذي الحجة . فذلك حين قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم . وذكر في خطبته : {ألا وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض . السنة اثنا عشر شهرا . منها أربعة حرم . ثلاثة متواليات : ذو القعدة . وذو الحجة . والمحرم . ورجب مضر . الذي بين جمادى وشعبان} أراد عليه السلام : الأشهر الحرم رجعت إلى مواضعها . وعاد الحج إلى ذي الحجة . وبطل النسئ .
{يضل به الذين كفروا} أي : يضل بهذا النسئ الذين كفروا. ومن قرأ بضم الباء فمعناه : يضلون به غيرهم . وإضلالهم أنهم فعلوا ذلك ليحللوا للناس الأشهر الحرم التي حرم الله القتال فيها . وأوجب الحج في بعضها . فيستحلون ترك الحج في الوقت الذي هو واجب فيه . ويوجبونه في الوقت الذي لا يجب فيه. وجوزوا ذلك عليه حتى ضلوا باتباعهم.
{يحلونه عاما ويحرمونه عاما} أي : يجعلون الشهر الحرام حلالا إذا احتاجوا إلى القتال فيه . ويجعلون الشهر الحلال حراما . ويقولون شهر بشهر. وإذا لم يحتاجوا إلى القتال لم يفعلوا ذلك {ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله} معناه : انهم لم يحلوا شهرا من الحرم إلا حرموا مكانه شهرا من الحلال . ولم يحرموا شهرا من الحلال . إلا أحلوا مكانه شهرا من الحرم . ليكون موافقة في العدد . وذلك المواطأة {زين لهم سوء أعمالهم} أي : زينت لهم أنفسهم . أو زين لهم الشيطان سوء أعمالهم . عن الحسن. وقيل : معناه استحسنوا ذلك بهواهم {والله لا يهدي القوم الكافرين} مر تفسيره.
__________________________
1. تفسير مجمع البيان ، ج5 ، ص 49-232 .
2. الوطب : سقاء اللبن وهو جلد الجذع فما فوقه. وصفر الوطب عن اللبن أي: خلا.
3. وفي بعض النسخ (لا يغيرون فيها) .
تفسير الكاشف
- ذكر محمد جواد مغنيه في تفسير هاتين الآيتين (1) :
الأشهر القمرية هي الأشهر الطبيعية :
{ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ والأَرْضَ } . المراد بعند اللَّه وفي كتاب اللَّه ان للاثني عشر شهرا وجودا حقيقيا في عالم الطبيعة ، تماما كالأرض والسماء ، لا في عالم الاعتبار والتشريع كالحلال والحرام ، والمراد بيوم خلق السماوات والأرض انه تعالى خلق الكون على حال تكون فيه عدة الشهور اثني عشر شهرا منذ اللحظة الأولى لوجود السماوات والأرض أي ان عدة الشهور هذه ليست من وضع الإنسان ، ومن مواليد أفكاره ومخترعاته وإنما هي نتيجة حتمية لسنن الكون ونظام الخلق .
هذا هو معنى الآية . وبديهة ان الإنسان يقيس الوقت ويحدده بما يراه حسا وعيانا . . وإذا نظرنا إلى الكائنات الطبيعية التي تهدينا إلى معرفة الوقت لم نجد إلا الشمس والقمر ، والشمس تجري دائما وفي كل يوم على وتيرة واحدة شروقا وغروبا ، لا فرق بين يوم ويوم ، وكل ما نعرفه بواسطتها هو وقت الصباح والمساء والظهيرة ، ولا يتصل هذا بمعرفة الشهر من قريب أو بعيد . بخلاف كوكب القمر فإنه يظهر للعيان على شكل خاص في اليوم الأول من كل شهر ، وبهذا اليوم نحدد الشهر ، ومتى عرفنا الشهر عرفنا السنة .
وعلى هذا تكون الأشهر القمرية هي الأشهر الجارية على سنن الطبيعة دون غيرها ، ومن أجل هذا وقّت اللَّه بها الحج والصيام وعدة المطلَّقات والرضاع ، كما وقّت الصلاة اليومية بالشمس لأنها السبيل لمعرفة أجزاء اليوم . وبكلمة ان الشمس لمعرفة الساعات ، والقمر لمعرفة الأشهر . وعلى هذا الأساس كان الإنسان الأول يحسب أوقاته . قال الرازي : « ان مذهب العرب من الزمان الأول أن تكون السنة قمرية ، لا شمسية ، وهذا حكم ورثوه عن إبراهيم وإسماعيل » .
وفي بعض التفاسير ان الحكمة من جعل الحج والصيام في الشهر القمري هي أن يدورا في جميع فصول السنة وأجزائها ، يسهلان تارة ويشقان أخرى . . ولا يستند هذا الاجتهاد إلى أصل ، ولكن لا مانع منه ، حيث لم يقصد به إثبات حكم شرعي : وإنما هو لبيان مصلحة الحكم الثابت شرعا .
{ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ } من هذه الأربعة ثلاثة متتابعة : ذو القعدة ، وذو الحجة والمحرم ، وشهر واحد فرد ، وهو رجب ، وسميت حرما لتحريم القتال فيها في الجاهلية والإسلام ، وسبق الكلام عن ذلك أكثر من مرة . { ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ } أي ان تقسيم الأشهر إلى اثني عشر شهرا على الحساب القمري هو التقسيم الصحيح ، ولا يجوز التحريف فيها ولا في الأشهر الحرم بالهوى والغرض { فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } باستحلال القتال في الأشهر الحرم ، ولا باعتداء بعضكم على بعض في أي وقت من الأوقات ، وكل من عصى اللَّه في كبيرة أو صغيرة فقد ظلم نفسه بتعرضها لعذاب اللَّه وغضبه .
{ وقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً } . هذا هو الداء الشافي والعلاج السليم . . النفير العام ، والجهاد الشامل سنة اللَّه في خلقه ، ولن تجد لسنة اللَّه تبديلا ، أما أنصاف الحلول فخضوع واستسلام للظلم والعدوان . . لقد تظاهر الصهاينة والمستعمرون كافة على العرب والمسلمين كافة بلا استثناء ، وأقاموا على أرض العرب قاعدة عسكرية عدوانية ، أطلقوا عليها اسم دولة إسرائيل ، لينطلقوا منها للاعتداء على البلاد العربية والاسلامية . . نحن الآن في شهر تشرين الأول من سنة 1968 ، والاتصالات مستمرة داخل الأمم المتحدة وخارجها لحل مشكلة الشرق الأوسط حلا سلميا أي على أساس انصاف الحلول التي يحصل عن طريقها المعتدي على شروط ومكاسب تشجعه على العدوان كلما سنحت الفرصة ، ثم يتعود انصاف الحلول ، ويحصل بها على ما يبتغي ، وهكذا دواليك ، حتى تتم له السيطرة على الجميع . . والسبيل الوحيد لاستئصال الداء من جذوره هو ما رسمه اللَّه لنا بقوله : { وقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً واعْلَمُوا أَنَّ اللَّهً مَعَ الْمُتَّقِينَ } الذين تحرروا من الأحقاد والمطامع ، ووحدوا صفوفهم كافة لقتال عدوهم وعدو اللَّه والإنسانية .
{ إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً ويُحَرِّمُونَهُ عاماً } . النسيء مصدر بمعنى الانساء أي التأخير ، والمراد به هنا ان المشركين كانوا يؤخرون حرمة شهر كالمحرم إلى شهر آخر لا حرمة له كصفر ، فإذا كان من مصلحتهم أن يقاتلوا في الشهر الحرام قاتلوا فيه ولم يبالوا ، ولكنهم يحرمون بدلا عنه شهرا آخر من أشهر الحلال لتكون الأشهر المحرمة أربعة من كل عام { لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ } . وأوضح تفسير لهذا ما نقل عن ابن عباس : انهم ما أحلوا شهرا من الحرام إلا حرموا مكانه شهرا من الحلال ، وما حرموا شهرا من الحلال إلا أحلوا مكانه شهرا من الحرام ، لأجل أن يكون عدد الأشهر الحرام أربعة مطابقة لما ذكره اللَّه ، وهذا هو المراد من المواطأة .
{ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ } . الأهواء والأغراض هي التي تعمي صاحبها عن سوء عمله فتريه الشر خيرا ، والحسن قبيحا { واللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ } .
أي تركهم لما هم فيه بعد اليأس من هدايتهم . انظر ج 2 ص 399 . الإضلال من اللَّه سلبي . لا ايجابي .
_________________________
1. تفسير الكاشف ، ج4 ، ص 39-41 .
تفسير الميزان
- ذكر الطباطبائي في تفسير هاتين الآيتين (1) :
في الآيتين بيان حرمة الأشهر الحرم ذي القعدة وذي الحجة والمحرم ورجب الفرد وتثبيت حرمتها وإلغاء نسيء الجاهلية ، وفيها الأمر بقتال المشركين كافة .
قوله تعالى : ﴿إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض﴾ الشهر كالسنة والأسبوع مما يعرفه عامة الناس منذ أقدم أعصار الإنسانية ، وكان لبعضها تأثيرا في تنبههم للبعض فقد كان الإنسان يشاهد تحول السنين ومرورها بمضي الصيف والشتاء والربيع والخريف وتكررها بالعود ثم العود ثم تنبهوا لانقسامها إلى أقسام هي أقصر منها مدة حسب ما ساقهم إليه مشاهدة اختلاف أشكال القمر من الهلال إلى الهلال ، وينطبق على ما يقرب من ثلاثين يوما وتنقسم بذلك السنة إلى اثني عشر شهرا .
والسنة التي ينالها الحس شمسية تتألف من ثلاثمائة وخمسة وستين يوما وبعض يوم لا تنطبق على اثني عشر شهرا قمريا هي ثلاثمائة وأربعة وخمسون يوما تقريبا إلا برعاية حساب الكبيسة غير أن ذلك هو الذي يناله الحس وينتفع به عامة الناس من الحاضر والبادي والصغير والكبير والعالم والجاهل .
ثم قسموا الشهر إلى الأسابيع وإن كان هو أيضا لا ينطبق عليها تمام الانطباق لكن الحس غلب هناك أيضا الحساب الدقيق ، وهو الذي أثبت اعتبار الأسبوع وأبقاه على حاله من غير تغيير مع ما طرأ على حساب السنة من الدقة من جهة الإرصاد ، وعلى حساب الشهور من التغيير فبدلت الشهور القمرية شمسية تنطبق عليها السنة الشمسية تمام الانطباق .
وهذا بالنسبة إلى النقاط الاستوائية وما يليها من النقاط المعتدلة أو ما يتصل بها من الأرض إلى عرض سبع وستين الشمالي والجنوبي تقريبا ، وفيها معظم المعمورة وأما ما وراء ذلك إلى القطبين الشمالي والجنوبي فيختل فيها حساب السنة والشهر والأسبوع ، والسنة في القطبين يوم وليلة ، وقد اضطر ارتباط بعض أجزاء المجتمع الإنساني ببعض سكان هذه النقاط - وهم شرذمة قليلون - أن يراعوا في حساب السنة والشهر والأسبوع واليوم ما يعتبره عامة سكان المعمورة فحساب الزمان الدائر بيننا إنما هو بالنسبة إلى جل سكان المعمورة من الأرض .
على أن هذا إنما هو بالنسبة إلى أرضنا التي نحن عليها ، وأما سائر الكواكب فالسنة - وهي زمان الحركة الانتقالية من الكوكب حول الشمس دورة واحدة كاملة - فيها تختلف وتتخلف عن سنتنا نحن ، وكذلك الشهر القمري فيما كان له قمر أو أقمار منها على ما فصلوه في فن الهيئة .
فقوله تعالى : ﴿إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا﴾ إلخ ناظر إلى الشهور القمرية التي تتألف منها السنون وهي التي لها أصل ثابت في الحس وهو التشكلات القمرية بالنسبة إلى أهل الأرض .
والدليل على كون المراد بها الشهور القمرية - أولا - قوله بعد : ﴿منها أربعة حرم﴾ لقيام الضرورة على أن الإسلام لم يحرم إلا أربعة من الشهور القمرية التي هي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب ، والأربعة من القمرية دون الشمسية .
وثانيا : قوله : ﴿عند الله﴾ وقوله : ﴿في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض﴾ فإن هذه القيود تدل على أن هذه العدة لا سبيل للتغير والاختلاف إليها لكونها عند الله كذلك ولا يتغير علمه ، وكونها في كتاب الله كذلك يوم خلق السماوات والأرض فجعل الشمس تجري لمستقر لها ، والقمر قدره منازل حتى عاد كالعرجون القديم لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون فهو الحكم المكتوب في كتاب التكوين ، ولا معقب لحكمه تعالى .
ومن المعلوم أن الشهور الشمسية وضعية اصطلاحية وإن كانت الفصول الأربعة والسنة الشمسية على غير هذا النعت فالشهور الاثنا عشر التي هي ثابتة ذات أصل ثابت هي الشهور القمرية .
فمعنى الآية إن عدة الشهور اثنا عشر شهرا تتألف منها السنون ، وهذه العدة هي التي في علم الله سبحانه ، وهي التي أثبتها في كتاب التكوين يوم خلق السماوات والأرض وأجرى الحركات العامة التي منها حركة الشمس وحركة القمر حول الأرض وهي الأصل الثابت في الكون لهذه العدة .
ومن هنا يظهر فساد ما ذكره بعض المفسرين أن المراد بكتاب الله في الآية القرآن أو كتاب مكتوب فيه عدة الشهور على حد الكتب والدفاتر التي عندنا المؤلفة من قراطيس وأوراق يضبط فيها الألفاظ بخطوط خاصة وضعية .
قوله تعالى : ﴿منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم﴾ الحرم جمع حرام وهو الممنوع منه ، والقيم هو القائم بمصلحة الناس المهيمن على إدارة أمور حياتهم وحفظ شئونها .
وقوله : ﴿منها أربعة حرم﴾ هي الأشهر الأربعة : ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب بالنقل القطعي ، والكلمة كلمة تشريع بدليل قوله : ﴿ذلك الدين القيم﴾ إلخ .
وإنما جعل الله هذه الأشهر الأربعة حرما ليكف الناس فيها عن القتال وينبسط عليهم بساط الأمن ، ويأخذوا فيها الأهبة للسعادة ، ويرجعوا إلى ربهم بالطاعات والقربات .
وكانت حرمتها من شريعة إبراهيم ، وكانت العرب تحترمها حتى في الجاهلية حينما كانوا يعبدون الأوثان غير أنهم ربما كانوا يحولون الحرمة من شهر إلى شهر سنة أو أزيد منها بالنسيء الذي تتعرض له الآية التالية .
وقوله : ﴿ذلك الدين القيم﴾ الإشارة إلى حرمة الأربعة المذكورة ، والدين كما تطلق على مجموع ما أنزله الله على أنبيائه تطلق على بعضها فالمعنى أن تحريم الأربعة من الشهور القمرية هو الدين الذي يقوم بمصالح العباد .
كما يشير إليه في قوله : ﴿جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام﴾ [المائدة : 97] وقد تقدم الكلام فيه في الجزء السادس من الكتاب .
وقوله : ﴿فلا تظلموا فيهن أنفسكم﴾ الضمير إلى الأربعة إذ لو كان راجعا إلى ﴿اثنا عشر﴾ المذكور سابقا لكان الظاهر أن يقال ﴿فيها﴾ كما نقل عن الفراء ، وأيضا لو كان راجعا إلى ﴿اثنا عشر﴾ وهي تمام السنة لكان قوله : ﴿فلا تظلموا فيهن أنفسكم﴾ كما قيل في معنى قولنا : فلا تظلموا أبدا أنفسكم ، وكان الكلام متفرعا على كون عدة الشهور عند الله اثني عشر شهرا ، ولا تفرع له عليه ظاهرا فالمعنى لما كانت هذه الأربعة حرما تفرع على حرمتها عند الله أن تكفوا فيها عن ظلم أنفسكم رعاية لحرمتها وعظم منزلتها عند الله سبحانه .
فالنهي عن الظلم فيها يدل على عظم الحرمة وتأكدها لتفرعها على حرمتها أولا ولأنها نهي خاص بعد النهي العام كما يفيده قولنا : لا تظلم أبدا ولا تظلم في زمان كذا .
والجملة أعني قوله : ﴿فلا تظلموا فيهن أنفسكم﴾ وإن كانت بحسب إطلاق لفظها نهيا عن كل ظلم ومعصية لكن السياق يدل على كون المقصود الأهم منها النهي عن القتال في الأشهر الحرم .
قوله تعالى : ﴿وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين﴾ قال الراغب في المفردات ، الكف كف الإنسان وهي ما بها يقبض ويبسط ، وكففته أصبت كفه ، وكففته أصبته بالكف ودفعته بها ، وتعورف الكف بالدفع على أي وجه كان ، بالكف كان أو غيرها حتى قيل : رجل مكفوف لمن قبض بصره .
وقوله : ﴿وما أرسلناك إلا كافة للناس أي كافا لهم عن المعاصي﴾ والهاء فيه للمبالغة كقولهم : راوية وعلامة ونسابة ، وقوله : ﴿وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة﴾ قيل : معناه كافين لهم كما يقاتلونكم كافين وقيل معناه جماعة كما يقاتلونكم جماعة ، وذلك أن الجماعة يقال لهم : الكافة كما يقال لهم : الوازعة لقوتهم باجتماعهم ، وعلى هذا قوله : ﴿يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة﴾ .
وقال في المجمع ، كافة بمعنى الإحاطة مأخوذ من كفة الشيء وهي طرفه وإذا انتهى الشيء إلى ذلك كف عن الزيادة ، وأصل الكف المنع .
وقوله : ﴿كافة﴾ في الموضعين حال عن الضمير الراجع إلى المسلمين أو المشركين أو في الأول عن الأول وفي الثاني عن الثاني أو بالعكس فهناك وجوه أربعة ، والمتبادر إلى الذهن هو الوجه الرابع للقرب اللفظي الذي بين الحال وذي الحال حينئذ ، ومعنى الآية على هذا : وقاتلوا المشركين جميعهم كما يقاتلونكم جميعكم .
فالآية توجب قتال جميع المشركين فتصير نظيره قوله تعالى : ﴿فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم﴾ الآية ينسخ هذه ما ينسخ تلك وتتخصص أو تتقيد بما تخصص أو تقيد به هي .
والآية مع ذلك إنما تتعرض لحال القتال مع المشركين وهم عبدة الأوثان غير أهل الكتاب فإن القرآن وإن كان ربما نسب الشرك تصريحا أو تلويحا إلى أهل الكتاب لكنه لم يطلق المشركين على طريق التوصيف إلا على عبدة الأوثان ، وأما الكفر فعلا أو وصفا فقد نسب إلى أهل الكتاب وأطلق عليهم كما نسب وأطلق إلى عبدة الأوثان .
فالآية أعني قوله : ﴿وقاتلوا المشركين كافة﴾ الآية لا هي ناسخة لآية أخذ الجزية من أهل الكتاب ، ولا هي مخصصة أو مقيدة بها .
وقد قيل في الآية بعض وجوه أخر تركناه لعدم جدوى في التعرض له .
وقوله : ﴿واعلموا أن الله مع المتقين﴾ تعليم وتذكير وفيه حث على الاتصاف بصفة التقوى يترتب عليه من الفائدة : أولا : الوعد الجميل بالنصر الإلهي والغلبة والظفر فإن حزب الله هم الغالبون .
وثانيا : منعهم أن يتعدوا حدود الله في الحروب والمغازي بقتل النساء والصبيان ومن ألقى إليهم السلام كما قتل خالد في غزوة حنين مرأة فأرسل إليه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ينهاه عن ذلك وقتل رجالا من بني جذيمة وقد أسلموا فوداهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتبرأ إلى الله من فعله ثلاثا ، وقتل أسامة يهوديا أظهر له الإسلام فنزل قوله تعالى : ﴿ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة﴾ [النساء : 94] وقد تقدم .
قوله تعالى : ﴿إنما النسيء زيادة في الكفر﴾ إلى آخر الآية يقال : نسأ الشيء ينسؤه نسأ ومنسأة ونسيئا إذا أخره تأخيرا ، وقد يطلق النسيء على الشهر الذي أخر تحريمه على ما كانت العرب تفعله في الجاهلية فإنهم ربما كانوا يؤخرون حرمة بعض الأشهر الحرم إلى غيره وأما أنه كيف كان ذلك فقد اختلف فيه كلام المفسرين كأهل التاريخ .
والذي يظهر من خلال الكلام المسرود في الآية أنه كانت لهم فيما بينهم سنة جاهلية في أمر الأشهر الحرم وهي المسماة بالنسيء ، وهو يدل بلفظه على تأخير الحرمة من شهر حرام إلى بعض الشهور غير المحرمة الذي بعده ، وأنهم إنما كانوا يؤخرون الحرمة ولا يبطلونها برفعها من أصلها لإرادتهم بذلك أن يتحفظوا على سنة قومية ورثوها عن أسلافهم عن إبراهيم (عليه السلام) .
فكانوا لا يتركون أصل التحريم لغي وإنما يؤخرونه إلى غير الشهر سنة أو أزيد ليواطئوا عدة ما حرم الله ، وهي الأربعة ثم يعودون ويعيدون الحرمة إلى مكانها الأول .
وهذا نوع تصرف في الحكم الإلهي بعد كفرهم بالله باتخاذ الأوثان شركاء له تعالى وتقدس ، ولذا عده الله سبحانه في كلامه زيادة في الكفر .
وقد ذكر الله سبحانه من الحكم الخاص بحرمة الأشهر الحرم النهي عن ظلم الأنفس حيث قال : ﴿فلا تظلموا فيهن أنفسكم﴾ وأظهر مصاديقه القتال كما أنه المصداق الوحيد الذي استفتوا فيه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فحكاه الله سبحانه بقوله : ﴿يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه﴾ [البقرة : 217] وكذا ما في معناه من قوله : ﴿لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام﴾ [المائدة : 2] وقوله : ﴿جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد﴾ [المائدة : 97] .
وكذلك الأثر الظاهر من حرمة البيت أو الحرم هو جعل الأمن فيه كما قال : ﴿ومن دخله كان آمنا﴾ [آل عمران : 97] وقال : ﴿أولم نمكن لهم حرما آمنا﴾ [القصص : 57] .
فالظاهر أن النسيء الذي تذكره الآية عنهم إنما هو تأخير حرمة الشهر الحرام .
للتوسل بذلك إلى قتال فيه لا لتأخير الحج الذي هو عبادة دينية مختصة ببعضها .
وهذا كله يؤيد ما ذكروه أن العرب كانت تحرم هذه الأشهر الحرم ، وكان ذلك مما تمسكت به من ملة إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) ، وهم كانوا أصحاب غارات وحروب فربما كان يشق عليهم أن يمكثوا ثلاثة أشهر متوالية لا يغزون فيها فكانوا يؤخرون تحريم المحرم إلى صفر فيحرمونه ويستحلون المحرم فيمكثون بذلك زمانا ثم يعود التحريم إلى المحرم ، ولا يفعلون ذلك أي إنساء حرمة المحرم إلى صفر إلا في ذي الحجة .
وأما ما ذكره بعضهم أن النسيء هو ما كانوا يؤخرون الحج من شهر إلى شهر فمها لا ينطبق على لفظ الآية البتة ، وسيجيء تفصيل الكلام فيه في البحث الروائي الآتي إن شاء الله .
ولنرجع إلى ما كنا فيه .
فقوله تعالى : ﴿إنما النسيء زيادة في الكفر﴾ أي تأخير الحرمة التي شرعها الله لهذه الأشهر الحرم من شهر منها إلى شهر غير حرام زيادة في الكفر لأنه تصرف في حكم الله المشروع وكفر بآياته بعد الكفر بالله من جهة الشرك فهو زيادة في الكفر .
وقوله : ﴿يضل به الذين كفروا﴾ أي ضلوا فيه بإضلال غيرهم إياهم بذلك ، وفي الكلام إشعار أو دلالة على أن هناك من يحكم بالنسيء ، وقد ذكروا أن المتصدي لذلك كان بعض بني كنانة ، وسيجيء تفصيله في البحث الروائي إن شاء الله .
وقوله : ﴿يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله﴾ في موضع التفسير للإنساء ، والضمير للشهر الحرام المعلوم من سياق الكلام أي وهو أنهم يحلون الشهر الحرام الذي نسئوه بتأخير حرمته عاما ويحرمونه عاما ، أي يحلونه عاما بتأخير حرمته إلى غيره ، ويحرمونه عاما بإعادة حرمته إليه .
وإنما يعملون على هذه الشاكلة بالتأخير سنة والإثبات أخرى ليواطئوا ويوافقوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله في حال حفظهم أصل العدد أي إنهم يريدون التحفظ على حرمة الأشهر الأربعة بعددها مع التغيير في محل الحرمة ليتمكنوا مما يريدونه من الحروب والغارات مع الاستنان بالحرمة .
وقوله : ﴿زين لهم سوء أعمالهم والله لا يهدي القوم الكافرين﴾ المزين هو الشيطان كما وقع في آيات من الكتاب ، وربما نسب إلى الله سبحانه كما في آيات أخر ، ولا ينسب الشر إليه سبحانه إلا ما قصد به الجزاء على الشر كما قال تعالى : ﴿يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين﴾ [البقرة : 26] .
وذلك بأن يفسق العبد فيمنعه الله الهداية فيكون ذلك إذنا لداعي الضلال وهو الشيطان أن يزين له سوء عمله فيغويه ويضله ، ولذلك قال تعالى : ﴿زين لهم سوء أعمالهم﴾ ثم عقبه بقوله : ﴿والله لا يهدي القوم الكافرين﴾ كأنه لما قيل : زين لهم سوء أعمالهم قيل : كيف أذن الله فيه ولم يمنع ذلك قيل : إن هؤلاء كافرون والله لا يهدي القوم الكافرين .
__________________________
1 . تفسير الميزان ، ج9 ، ص 222-228 .
تفسير الأمثل
- ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هاتين الآيتين (1) :
وقف القتال «الإجباري» :
لما كانت هذه السورة تتناول أبحاثا مفصلة حول قتال المشركين ، فالآيتان- محل البحث- تشيران الى أحد مقرّرات الحرب والجهاد في الإسلام ، وهو احترام الأشهر الحرم .
فتقول الأولى : {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ والْأَرْضَ} .
والتعبير ب «كتاب اللّه» يمكن أن يكون إشارة الى القرآن المجيد أو سائر الكتب السماوية ، إلّا أنّه بملاحظة جملة {يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ والْأَرْضَ} يبدو أنّ المعنى الأكثر مناسبة هو كتاب الخلق وعالم الوجود .
وعلى كل حال ، فمنذ ذلك اليوم الذي استقرت عليه المجموعة الشمسية بنظامها الخاص حدثت السنين والأشهر ، فالسنة عبارة عن دوران الأرض حول الشمس دورة كاملة والشهر دوران القمر حول الأرض دورة كاملة .
وهذا في الحقيقة تقويم طبيعي قيّم غير قابل للتغيير حيث يمنح حياة الناس جميعا نظاما طبيعيا ، وينظّم على وجه الدقة حسابهم التأريخي ، وتلك نعمة عظمى من نعم اللّه للبشر كما بيّنا تفصيل ذلك في ذيل الآية (189) من سورة البقرة : {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ والْحَجِ} .
ثمّ تضيف الآية- آنفة الذكر- معقّبة : {مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} .
يرى بعض المفسّرين أنّ تحريم القتال في هذه الأشهر الأربعة كان من عهد «إبراهيم الخليل عليه السّلام» ، وكان نافذ حتى في زمان الجاهلية على أنّه سنة متّبعة إلّا أنّ عرب الجاهلية كانوا يغيرون هذا الأشهر أحيانا تبعا لميولهم وأهوائهم ، إلّا أن الإسلام أقرّ حرمتها على حالها ولم يغيّرها ، وثلاثة من الأشهر متوالية وتسمى بالأشهر السرد وهي: ذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم . وشهر منها منفصل عنها ، وهو رجب ويسمى بالشهر الفرد .
وينبغي التنويه على أنّ تحريم هذه الأشهر إنّما يكون نافذ المفعول إذا لم يبدأ العدو بقتال المسلمين فيها ، أمّا لو فعل فلا شك في وجوب قتاله على المسلمين لأنّ احترام الشهر الحرام لم ينتقض من قبلهم ، بل انتقض من قبل العدوّ «و قد بيّنا تفصيل ذلك ذيل الآية (194) من سورة البقرة» .
ثمّ تضيف الآية مؤكّدة : {ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} .
ويستفاد من بعض الرّوايات أن تحريم القتال في هذه الأشهر الحرم ، كان مشرّعا في الديانة اليهودية والمسيحية وسائر الشرائع السماوية ، إضافة الى شريعة إبراهيم الخليل عليه السّلام . ولعلّ التعبير ب {ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} إشارة الى هذه اللّطيفة ، أي أنّ هذا التحريم كان في أوّل الأمر على شكل قانون ثابت :
ثمّ تقول الآية : {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} .
إلّا أنّه لمّا كان تحريم هذه الأشهر قد يتخذ ذريعة من قبل العدو لمهاجمة المسلمين فيها ، فقد عقبت الآية بالقول: {وقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} فبالرغم من أنّ هؤلاء مشركين والشرك أساس التشتت والتفرقة ، إلّا أنّهم يقاتلونكم في صف واحد ، «كافة» فينبغي عليكم أن تقاتلوهم كافة ، فذلك منكم أجدر لأنّكم موحّدون فلا بدّ من توحيد كلمتكم أمام عدوكم ولتكونوا كالبنيان المرصوص .
وتختتم الآية بالقول : {واعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} .
وفي الآية الثّانية- من الآيتين محل البحث- إشارة الى إحدى السنن الخاطئة في الجاهلية ، وهي سنة النسيء «تغيير الأشهر الحرم» إذ تقول الآية : {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا} ففي أحد الأعوام يقرّرون حليّة الشهر الحرام ويحرمون أحد الأشهر الحلال للمحافظة على العدد أربعة {يُحِلُّونَهُ عاماً ويُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ} ! فهؤلاء يضيعون بتصرفهم هذا فلسفة تحريم الأشهر ، ويتلاعبون بحكم اللّه بحسب ما تمليه عليهم أهواؤهم ، والعجيب أنّهم يرضون عن عملهم ، وفعلهم هذا كما تقول الآية : {زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ} .
فهم يغيرون الأشهر الحرم ويبدلونها ، ويعدّون ذلك تدبيرا لحياتهم ومعاشهم ، أو يتصوّرون أنّ طول فترة إيقاف القتال يقلل من حماس المقاتلين فلا بدّ من إثارة الحرب . . . .
فاللّه سبحانه إذا علم أن في عباده من ليس أهلا للهداية والتوفيق ، خلاه ونفسه : {واللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ} .
________________________
1. تفسير الأمثل ، ج5 ، ص 230-232 .
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|