أقرأ أيضاً
التاريخ: 2-03-2015
7954
التاريخ: 2-03-2015
2459
|
نشاطه العلمي
هو علي(1) بن حمزة، من أصل فارسي، وُلد بالكوفة في سنة تسع عشرة ومائة للهجرة، ونشأ بها، وأكب منذ نشأته على حلقات القراء مثل سليمان بن أرقم راوي(2) قراءة الحسن البصري، وأبي بكر شعبة بن عياش راوي(3) قراءة عاصم بن أبي النجود إمام قراء الكوفة في الجيل السابق للكسائي، وسفيان بن عيينة راوي(4) قراءة عبد الله بن كثير إمام قراء مكة. ولزم حلقة حمزة بن حبيب الزيات المتوفى سنة 156 للهجرة إمام قراء الكوفيين لعصره، حتى حذق قراءته، ويقال: إنه لقب بلقبه الكسائي في مجالسه؛ لأنه كان يلبس كساء أسود ثمينا، ويقال: بل لقب بذلك لأنه أحرم في كساء. وكان فطنا ذكيا، فرأى أنه لن يبرع في قراءة الذكر الحكيم إلا إذا عرف إعرابه، فاختلف إلى حلقات أبي جعفر الرواسي وإلى كتابه الفيصل ولم يجد عنده ما يريد، فرحل إلى البادية رحلته الأولى(5) ثم عاد إلى الكوفة, وكأنه رأى أنه لن يحسن العربية إلا إذا استمع إلى معلميها بالبصرة فرحل إليهم، وأخذ ينتقل بين حلقات عيسى
ص172
ابن عمر المتوفى سنة 149 للهجرة وأبي عمرو بن العلاء ويونس بن حبيب. وعكف على حلقة الخليل بن أحمد، وراعته روايته لأشعار العرب وأقوالهم، فسأله يوما عن ينابيع هذه الرواية، فقال له: إنها من ملابسة أهل البوادي في نجد والحجاز وتهامة، فمضى إليهم في رحلة ثانية، ومعه خمس عشرة قنينة حبر، وظل يكتب ما يسمعه من أفواههم ويدونه في صحفه، حتى أنفد كل ما حمله من حبر.
ورجع إلى مسقط رأسه، وقد بُسط له لسانه وذُلِّل له منطقه واستقامت فصاحته وعربيته، وأخذ يستغل ذلك استغلالا حسنا في قراءته للذكر الحكيم بقراءة أستاذه حمزة الذي كان قد لبى نداء ربه. فكان يتلو القرآن على الناس من أوله إلى آخره، والناس من حوله يسمعون ويكتبون مصاحفهم. وذاعت شهرته فطلبه المهدي ليتخذه مؤدبا لابنه هارون الرشيد، حتى إذا ولي الخلافة بعد أبيه اتخذه مؤدبا لابنيه الأمين والمأمون. وظل مدة يقرئ الناس في بغداد بقراءة حمزة، ثم اختار لنفسه قراءة، صارت إحدى القراءات السبع المتواترة، وأقرأ بها خلقا كثيرا. وكان يجلس بالمسجد الجامع على مقعد مرتفع، والناس من حوله يكتبون المصاحف بقراءته وينقطونها ويضبطونها ويرسمون مقاطع الآيات ومبادئها. وكان الرشيد يجله ويوقره ويفسح له في مجالسه، وكثيرا ما كان يتخذه إمامه في صلواته ورفيقه في غزواته ومقامه بالرقة. ويظهر أنه لم يكفه حينئذ ما أخذه من اللغة وشواردها عن البدو الخلص في الجزيرة العربية, فقد مضى يكثر من سماعه عن أعراب الحطمة، وهم عشيرة من بني عبد القيس نزلت بغداد، وأقامت بها، وكأنه لم يكن يجد بأسا في الأخذ عن هؤلاء الأعراب، بينما كان البصريون لا يروون اللغة عن أمثالهم من العرب المتحضرين الذين يمكن أن يكون قد دخل الفساد على ألسنتهم، وسرعان ما ظهر أثر ذلك في مناظرته(6) لسيبويه حين قدم بغداد على نحو ما مر بنا في غير هذا الموضع، فقد سبقه إليه تلاميذه: الفراء والأحمر وهشام بن معاوية الضرير ومحمد بن سعدان، وسأله الأحمر عن مسائل، وكلما أجابه بجواب قال له: أخطأتَ يا بصرى. ووافى الكسائي ومعه طائفة من عرب الحطمة،
ص173
فلما جلس قال له: كيف تقول: "خرجت, فإذا زيد قائم"؟ فنطق بها سيبويه، فقال له الكسائي: أيجوز: "فإذا زيد قائما"؟ فقال سيبويه: لا؛ لأن العرب الفصحاء الذين أخذ عنهم هو وأستاذه الخليل لا ينطقون مثل "قائما" في هذا المثال ونحوه إلا مرفوعة، وفي القرآن الكريم: {فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ}، {فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ} أي: على أن ما بعد إذا في هذه الأمثلة مبتدأ وخبر مرفوعان. وأظهر الكسائي تعجبه من رفضه لنصب كلمة "قائم", وقال: فلنرجع إلى من يحضرنا من العرب، وكانوا من عرب الحطمة كما ذكرنا، وسألهم: كيف تقولون: "قد كنت أحسب أن العقرب أشد لسعة من الزنبور, فإذا الزنبور إياها"؟ فقال نفر منهم: "فإذا الزنبور هي", وقال آخرون: "فإذا الزنبور إياها". ويبالغ رواة هذه المناظرة، فيقولون: إن سيبويه حصر وأفحم، وفي رأينا أنه لم يفحم ولم يحصر، لأنه كان لا يعتد بما قد يفد على ألسنة مثل هؤلاء العرب المتحضرين، مما يخالف استخدام الفصحاء ويشذ على القياس المبني على استعمالهم وما يدور في ألسنتهم. والمهم أن هذه المناظرة أرست أصلا من أصول المدرسة الكوفية، وهو الأخذ باللغات الشاذة المخالفة للأقيسة البصرية من جهة وللشائع المتداول على أفواه العرب من جهة ثانية.
ومن المؤكد أن هذه المناظرة أقنعت الكسائي بأن ما بيده من النحو وقوعده قليل وأنه ينبغي أن يتزود من نحاة البصرة وعلمهم الغزير، وتصادف أن توفي سيبويه عقب المناظرة، غير أنه علم أن الأخفش الأوسط سعيد بن مسعدة حمل كتابه النفيس عنه، وأنه يمليه على الطلاب ويدرسه لهم، وأنه إليه انتهى علم البصرة بالنحو، ولم تُعْيه الأسباب في الاتصال به ورواية الكتاب عنه. ووجده يكثر من الخلاف على صاحبه وعلى الخليل مستضيئا بمعرفته الواسعة بلغات العرب، فاستقر في نفسه أن يتابعه في هذا الاتجاه، وبذلك أعده الأخفش إعدادا حسنا لكي ينمي رغبته الملحة في مخالفة النحو البصري مخالفة تقوم على الاتساع في الرواية والقياس، بل لقد نفذ إلى تأسيس مدرسة نحوية جديدة، يعينه في ذلك تلاميذه وخاصة الفراء.
والحق أن الأخفش لم يبعث هذا الاتجاه في نفسه لأول مرة، فقد كان
ص174
اتجاها قديما في صدره منذ قعوده للقراءة والتعليم في الكوفة، ورأينا آثاره في مناظرته مع سيبويه، ولكنا نؤمن بأن الأخفش هو الذي دفعه دفعا في هذا الاتجاه، ولم يدفعه وحده، بل دفع معه تلاميذه ومن خلفوهم على المدرسة الكوفية. ونرى الكسائي ينشط لا في تأليف كتب تتصل بالقرآن الكريم وقراءاته ومعانيه فحسب، بل يؤلف أيضا في النحو كتابين هما مختصر النحو وكتاب الحدود في النحو. وألف في أغلاط العامة كتابا سماه "ما تلحن فيه العوام" وهو مطبوع. وما زال يوالي هذا النشاط العلمي حتى خرج مع الرشيد في مسيره إلى خراسان سنة 189 للهجرة واعتل علة شديدة لم يلبث أن توفي منها بقرية رنبويه بالقرب من الري، وتوفي معه الفقيه المشهور محمد بن الحسن الشيباني، فحزن الرشيد عليهما حزنا شديدا، وقال: "دفنا الفقه والنحو بالري".
ص175
__________
(1) انظر في ترجمة الكسائي: أبا الطيب اللغوي ص74, والزبيدي ص138، والفهرست ص103. ونزهة الألباء ص67، 75، وتاريخ بغداد 11/ 403, والأنساب الورقة 482، ومقدمة تهذيب اللغة للأزهري, ومعجم الأدباء 13/ 168، وإنباه الرواة 2/ 256، واللباب في الأنساب 3/ 40 , وتاريخ ابن كثير 11/ 20 1، وطبقات القراء لابن الجزري 1/ 535، ومرآة الجنان 1/ 421، وشذرات الذهب 1/ 321، وروضات الجنات ص471، والنجوم الزاهرة 2/ 130 ، وبغية الوعاة ص336.
(2) ابن الجزري 1/ 312.
(3) ابن الجزري 1/ 325.
(4) ابن الجزري 1/ 308.
(5) مجالس العلماء للزجاجي "طبع الكويت" ص266.
(6) انظر المناظرة في الزبيدي ص68 وما بعدها.
|
|
مخاطر عدم علاج ارتفاع ضغط الدم
|
|
|
|
|
اختراق جديد في علاج سرطان البروستات العدواني
|
|
|
|
|
مدرسة دار العلم.. صرح علميّ متميز في كربلاء لنشر علوم أهل البيت (عليهم السلام)
|
|
|