أكد ممثل المرجعية العليا، والمتولي الشرعي لحرم الإمام الحسين، عليه السلام، الشيخ عبد المهدي الكربلائي على ضرورة التعريف بمقام الأئمة عليهم السلام ومنازلهم الإلهية وما جسدوه من مقومات القدوة.
جاء ذلك خلال خطبته الأولى من صلاة يوم الجمعة التي أقيمت داخل الصحن الحسيني الشريف بحضور حشد غفير من المؤمنين.
وأشار سماحته إلى مناسبة استشهاد الإمام الرضا، عليه السلام، التي يستذكرها أتباع مدرسة أهل البيت بالتزامن مع إحياء ذكريات أربعينية الإمام الحسين، عليه السلام.
ولفت الشيخ الكربلائي إلى أن الإمام الرضا سعى لبناء الفرد الصالح في المجتمع وخصوصاً بين أصحابه عبر الوصايا والنصائح وأرقى نماذج الخلق الإسلامي الرفيع التي جسدها بنفسه.
وقال سماحته "إن جهوده عليه السلام كانت موجهة لتهذيب المسلمين واصلاح احوالهم سواء أكان على مستوى الاصلاح السياسي او الاجتماعي او الاقتصادي او الاخلاقي".
وفي ما يلي النص الكامل للخطبة الأولى من صلاة الجمعة بإمامة الشيخ عبد المهدي الكربلائي في 17/صفر الخير/1438هـ الموافق 18/11/2016م:
الحمد لله الذي ألهم الخلق ان تعبده، ووجه الفطرة ان تثبته وتوحده، فاستوجب الحمد بإلهامه، وضاعف بنا إنعامه وآلائه..
تمر علينا في هذا اليوم ذكرى استشهاد الامام الرضا (عليه السلام) في يوم السابع عشر من شهر صفر الخير ومن حق أئمتنا علينا التعريف بمقاماتهم ومنازلهم الالهية وما جسدوه من مقومات القدوة، وكان (عليه السلام) يستثمر جميع الفرص المتاحة للإصلاح وتغيير النفوس والمجتمع تغييراً اخلاقياً واجتماعياً وبناء واقع اسلامي يتماشى مع قيم الاسلام الاصيلة..
وكان هذا الدور يجسده الامام (عليه السلام) من خلال الوصايا والنصائح والكلمات القيّمة التي يقدمها للناس وكذلك من خلال تجسيده بنفسه لأرقى نماذج الخلق الاسلامي الرفيع ومحاسن الآداب وكذلك سعيه لبناء الفرد الصالح خصوصاً بين أصحابه..
وقد بذل الامام (عليه السلام) كل جهوده لتهذيب المسلمين واصلاح احوالهم سواء أكان على مستوى الاصلاح السياسي او الاجتماعي او الاقتصادي او الاخلاقي..
ويعمل على تربية الافراد بالحكمة والعلم والاخلاق الحميدة ومحاسن الآداب..
قال الشيخ باقر القرشي رحمه الله في كتابه عن سيرة الامام الرضا (عليه السلام) مسلطاً الضوء على جملة من خصائص الامام النفسية والاخلاقية:
(أما نزعات الامام الرضا (عليه السلام) وعناصره النفسية فهي كنزعات آبائه الأئمة العظام تجرداً عن الدنيا، وزهداً في مباهجها، واعراضاً عن زينتها، واقبالاً على الله وانقطاعاً إليه، وتمسكاً بطاعته، وعلماً بأحكام الدين واحاطة شاملة بشريعة سيد المرسلين، وعوناً للضعفاء، وغوثاً للمحرومين، وسعياً لقضاء حاجات المحتاجين)..
الى غير ذلك من الصفات الكريمة التي جعلته في قمة الشرف والمجد في دنيا العرب والاسلام..
وكان منهجه (عليه السلام) كآبائه في معالجة الواقع المنحرف من خلال اسلوبين:
المعالجة العملية وذلك بتجسيدهم امام المجتمع مكارم الاخلاق ومحاسن الاداب وتوجيه المجتمع بالحكمة والموعظة الحسنة وما أثر عنهم من سيرتهم ومحاسن كلامهم وغرر حكمهم ما يدل على ذلك بوضوح..
ولذلك من حق التعريف بالامام (عليه السلام) علينا ان نذكر بعضاً من سيرته العطرة ومحاسن كلامه عسى ان يكون ذلك من مصاديق احياء الامر لهم عليهم السلام كما ورد عنه:
(رحم الله من أحيا أمرنا.. فقيل له: وكيف نحيي أمركم؟ قال (عليه السلام): تتعلمون احاديثنا وتعلمونها الناس فإنهم لو علموا محاسن كلامنا لاتبعونا)..
قال الاستاذ المتمرس في جامعة الكوفة الدكتور محمد حسين علي الصغير في كتابه ضمن موسوعة أهل البيت الحضارية عن الامام الرضا (عليه السلام):
(فقد كان الامام في مسلكه لتربية الاتباع والاولياء ان يتناول مفردات البيئة الاجتماعية بالتهذيب والصقل وذلك فيما يستجد له من مؤشرات تشمخ بالعظة والاعتبار ورياضة النفس، فيبرم ما اراد ابرامه عملياً في رقابة مباشرة يشرف عليها بذاته، ويدعم القول بالعمل في صدق التأثير، ونوعية النتائج، وعائدية التوجيه)..
وقد نقلت كتب الحديث عن الامام الرضا (عليه السلام) الكثير من غرر الحكم والاداب والوصايا والنصائح ومنها:
ما كان عن العقل حيث اهتم الائمة عليهم السلام كثيراً ببيان منزلة العقل واهمية اعماله في التفكير والتدبر والتعقل خصوصاً ما يتعلق بالعقيدة الاسلامية السامية من التوحيد والايمان بالنبوة والإمامة والمعاد ومنها ما يتعلق بامور الحياة العامة..
قال (عليه السلام): (صديقُ كُلِ امرئٍ عقلُه، وعدوُّهُ جهلهُ)..
فالامام (عليه السلام) يكرّم العقل فهو الذي يضيء الدرب للانسان ويهديه الى ما فيه خيره وصلاحه وقدرته على تدبير الامور للانسان..
والتدين الصحيح هو الذي يكون مقروناً بالعقل، والعقل هو الصديق الاكبر للانسان الذي يحميه ويصونه من الانحراف والضلال ان اهتدى واستقام بالشرع الصحيح وهو ينقذه من محن الدنيا وخطوبها.
وعدو الانسان الاكبر هو الجهل الذي يلقي به في متاهات سحيقة من هذه الحياة..
وقال (عليه السلام): (أفضَلُ العقلِ معرفة الانسانِ نفسه).
فالانسان اذا عرف نفسه كيف خلقت وكيف صورت وكيف تنتهي وكيف ان خالقه خلقه من تراب لا قيمة له وكيف صوره بأحسن صورة فقد ظفر حينئذ بالخير وابتعد عن النزعات الشريرة وعرف ان له خالقاً عظيماً حكيماً قادر رحيماً وحينئذ سيتحكم به عقله وما أراد له خالقه من طريق في هذه الحياة..
ثم تحدث الامام بشيء من التفصيل عن كمال العقل نظراً لإهميته في الحياة، فتناول تمامية جوانب وابعاد العقل وما يتحقق به من خصال وما يترتب عليه من آثار وما يكمن فيه من فضائل وما يتفتح عنه من عوالم تجعل من الفرد مثلا ً أعلى ويتحقق به الكمال الانساني..
فقال (عليه السلام): (لا يُتِمّ عَقْلُ امرئٍ مُسلِمٍ حتى تكونَ فيهِ عَشرُ خصالٍ: الخيرُ منه مامولٌ والشر منه مأمونٌ يستكثرُ قليلَ الخير مِنْ غَيرهِ ويستَقِلّ كثير الخير من نفسه لا يسأمُ من طَلَبَ الحوائجِ إليهِ ولا يَمَلُّ من طلب العلمِ طولَ دهرهِ الفقرُ في الله أحَبُّ إليهِ من الغنى والذِّلُّ في الله أحبُّ إليهِ من العزِّ في عدُوُّهِ والخُمولُ أشهى اليه من الشهرةِ.. ثم قال: العاشرة وما العاشرة. قيل له: ما هي؟ قال (عليه السلام): لا يرى أحداً إلاّ قال: هو خيراً منّي وأتقى.
انّما الناس رجُلان: رجلٌ خَيرٌ مِنهُ وأتقى، ورجلٌ شرٌ منهُ وأدنى، فإذا لَقِيَ الذي هو شرٌّ منهُ وأدنى، قال: لَعَلَّ خيرَ هذا باطنٌ وهو خيرٌ لهُ، وخيري ظاهرٌ وهو شرٌ لي، واذا رأى الذي هو خير منهُ وأتقى تواضع له ليلحق به، فإذا فعلَ ذلك فقد علا مجدُهُ، وطاب خيرهُ، وحسُنَ ذكرُهُ، وسادَ أهلَ زمانهِ).
اركان الايمان:
وكان للايمان عند الامام (عليه السلام) مفهومه الدقيق، معتمداً على اركان تقومه وتجسده وهي التي تبعث فيه الحرارة والدفأ والحياة والصدق في ادعاء الايمان ومن دونها يكون إيماناً قشرياً ودعوى باللسان ليس إلاّ..
قال (عليه السلام): الايمانُ أربعة اركان: التوكل على الله والرضا بقضاء الله والتسليم لأمر الله والتفويض الى الله.
قال العبد الصالح (وهو يعني مؤمن آل فرعون): فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44) فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) – سورة غافر-.
حقيقة التوكل على الله تعالى:
وسأله رجل عن قول الله تعالى: (ومن يتوكّل على الله فهو حسبه)
فقال (عليه السلام): التوكُل درجات: منها ان تثق به في امرك كُلّه فيما فعل بك، فما فعل بك كُنتَ راضياً، وتعلَم أنّه لم يألُك إلاّ خيرا ونظرا، وتعلَم ان الحُكمَ في ذلك له، فتوكّل عليهِ بتفويض ذلكَ اليه، ومن ذلك الايمان بغيوب الله التي لم يُحِط علمُك بها، فوكَْتَ عِلمَها اليه والى أُمنائِهِ عليها، ووثقت به فيها وفي غيرها).
ونجد اهتماماً خاصاً من الائمة عليهم السلام ومنهم الامام الرضا (عليه السلام) بالعامل الاجتماعي في إغاثة الملهوف وكشف الكروب بنحو يربط به هذه الصفة بالعامل والنتاج الاخروي..
فيقول (عليه السلام): من فرّج عن مؤمن فرّج (فرّح) الله قلبه يوم القيامة.
وتحدث الامام (عليه السلام) عن خير الناس وافضل العباد ورجال الانابة، وصنائع الله فقال (عليه السلام): الذينَ إذا أحسنوا استبشروا واذا أساؤوا استغفروا واذا أُعطوا شَكَروا واذا ابتُلوا صبَروا واذا غضبوا عفوا.
واضاف للعبادة شرطاً اساسياً يستشعر منه النبل والصفح والعفو الكريم..فقال (عليه السلام): (لا يكون الرجل عابداً حتى يكون حليماً).
فالحلم من افضل النزعات الكريمة التي يتصف بها الانسان، فالحلم عن السيء والصفح عن المعتدي يعتبر من سمو النفس ونبلها، وبلوغها ارقى درجات الكمال، وان الانسان بالحلم يسود غيره، ويكون لمجتمعه رائد خير ودليل هدى..
واكد الامام (عليه السلام) على النبل والمروءة وكرامة الطباع، ووثاقة الارومة، ومخافة الله في معايير فائقة تضمن خير الدنيا والاخرة وتجابه الحياة المادية المنحرفة بالتقويم الأمثل.
قال الامام (عليه السلام): (خمسٌ من لم تكن فيه فلا ترجوه لشيء من الدنيا والاخرة: من لم تَعرِفِ الوثاقةَ في أرومَته، والكرم في طباعِه، والرصانة في خُلقِهِ، والنبل في نفسهِ، والمخافة َ لرَبِّهِ).
صلة الارحام:
وكان (عليه السلام) يحث اصحابه وشيعته على صلة الارحام فهو خير وسيلة لتقوية المجتمع وترابطه وشيوع المحبة والالفة بين افراده..
فهو يوحدهم في عواطفهم ومشاعرهم وبذلك تتكون الاواصر التي تشدُّ المجتمع وتربطه وتتوفر فيه عوامل الاستقرار والمحبة.
قال (عليه السلام): (ما نَعلَمُ شيئاً يزيدُ في العمُرِ إلاّ صلة ُ الرحم، حتى ان الرجل يكونُ أجلهُ ثلاثَ سنين فيكون وصولا ً للرحم فيزيد الله في عُمرهِ ثلاثين سنة َ فيجعلها ثلاثاً وثلاثين سنة، ويكونُ أجلهُ ثلاثاً وثلاثين سنة ً فيكون قاطعاً فينقصهُ الله ثلاثين سنة ً، ويجعلُ أجلهُ الى ثلاثين سنين).
وقال (عليه السلام): (صل رحمكَ ولو بشُربة ماءٍ، وأفضل ما تُوصلُ به الرحِمُ كَفُّ الأذى عنها، وصلة ُ الرّحِمِ مُنسأةٌ في الأجلِ، محبّةٌ في الأهلِ).