أقرأ أيضاً
التاريخ: 31-1-2018
2938
التاريخ: 31-1-2018
6560
التاريخ: 31-1-2018
8113
|
قال تعالى : {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3) إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4) إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا } [الإنسان : 1 - 6] .
{هل أتى} معناه قد أتى {على الإنسان} أي أ لم يأت على الإنسان {حين من الدهر} وقد كان شيئا إلا أنه {لم يكن شيئا مذكورا} لأنه كان ترابا وطينا إلى أن نفخ فيه الروح عن الزجاج وعلى هذا فهل هنا استفهام يراد به التقرير قال الجبائي وهو تقرير على ألطف الوجوه وتقديره أيها المنكر للصانع وقدرته أ ليس قد أتى عليك دهور لم تكن شيئا مذكورا ثم ذكرت وكل أحد يعلم من نفسه أنه لم يكن موجودا ثم وجد فإذا تفكر في ذلك علم أن له صانعا صنعه ومحدثا أحدثه والمراد بالإنسان هنا آدم (عليه السلام) وهو أول من سمي به عن الحسن وقتادة وسفيان والجبائي وقيل إن المراد به كل إنسان والألف واللام للجنس عن أبي مسلم وقيل أنه أتى على آدم (عليه السلام) أربعون سنة لم يكن شيئا مذكورا لا في السماء ولا في الأرض بل كان جسدا ملقى من طين قبل أن ينفخ فيه الروح وروى عطاء عن ابن عباس أنه تم خلقه بعد عشرين ومائة سنة وروى العياشي بإسناده عن عبد الله بن بكير عن زرارة قال سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قوله {لم يكن شيئا مذكورا} قال كان شيئا ولم يكن مذكورا .
وبإسناده عن سعيد الحداد عن أبي جعفر (عليه السلام) قال كان مذكورا في العلم ولم يكن مذكورا في الخلق وعن عبد الأعلى مولى آل سام عن أبي عبد الله (عليه السلام) مثله وعن حمران بن أعين قال سألت عنه فقال كان شيئا مقدورا ولم يكن مكونا وفي هذا دلالة على أن المعدوم معلوم وإن لم يكن مذكورا وإن المعدوم يسمى شيئا فإذا حملت الإنسان على الجنس فالمراد أنه قبل الولادة لا يعرف ولا يذكر ولا يدري من هو وما يراد به بل يكون معدوما ثم يوجد في صلب أبيه ثم في رحم أمه إلى وقت الولادة وقيل المراد به العلماء لأنهم كانوا لا يذكرون فصيرهم الله سبحانه بالعلم مذكورين بين الخاص والعام في حياتهم وبعد مماتهم وسمع عمر بن الخطاب رجلا يقرأ هذه الآية فقال ليت ذلك ثم يعني ليت آدم بقي على ما كان فكان لا يلد ولا يبتلي أولاده .
ثم قال سبحانه {إنا خلقنا الإنسان} يعني ولد آدم (عليه السلام) {من نطفة} وهي ماء الرجل والمرأة الذي يخلق منه الولد {أمشاج} أي أخلاط من ماء الرجل وماء المرأة في الرحم فأيهما علا ماء صاحبه كان الشبه له عن ابن عباس والحسن وعكرمة ومجاهد وقيل أمشاج أطوار طورا نطفة وطورا علقة وطورا مضغة وطورا عظاما إلى أن صار إنسانا عن قتادة وقيل أراد اختلاف ألوان النطفة فنطفة الرجل بيضاء وحمراء ونطفة المرأة خضراء وصفراء فهي مختلفة الألوان عن مجاهد والضحاك والكلبي وروي أيضا عن ابن عباس وقيل نطفة مشجت بدم الحيض فإذا حبلت ارتفع الحيض عن الحسن وقيل هي العروق التي تكون في النطفة عن ابن مسعود وقيل أمشاج أخلاط من الطبائع التي تكون في الإنسان من الحرارة والبرودة واليبوسة والرطوبة جعلها الله في النطفة ثم بناه الله البنية الحيوانية المعدلة الأخلاط ثم جعل فيه الحياة ثم شق له السمع والبصر فتبارك الله رب العالمين وذلك قوله {فجعلناه سميعا بصيرا} وقوله {نبتليه} أي نختبره بما نكلفه من الأفعال الشاقة ليظهر إما طاعته وإما عصيانه فنجازيه بحسب ذلك قال الفراء معناه {فجعلناه سميعا بصيرا} لنبتليه أي لنتعبده ونأمره وننهاه والمراد فأعطيناه آلة السمع والبصر ليتمكن من السمع والبصر ومعرفة ما كلف .
{إنا هديناه السبيل} أي بينا له الطريق ونصبنا له الأدلة وأزحنا له العلة حتى يتمكن من معرفة الحق والباطل وقيل هو طريق الخير والشر عن قتادة وقيل السبيل هو طريق معرفة الدين الذي به يتوصل إلى ثواب الأبد ويلزم كل مكلف سلوكه وهو أدلة العقل والشرع التي يعم جميع المكلفين {إما شاكرا وإما كفورا} قال الفراء معناه أن شكر وأن كفر على الجزاء وقال الزجاج معناه ليختار إما السعادة وإما الشقاوة والمراد إما أن يختار بحسن اختياره الشكر لله تعالى والاعتراف بنعمه فيصيب الحظ وإما أن يكفر نعم الله ويجحد إحسانه فيكون ضالا عن الصواب فأيهما اختار جوزي عليه بحسبه وهذا كقوله {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} وفي هذه الآية دلالة على أن الله قد هدى جميع خلقه لأن اللفظ عام .
ثم بين سبحانه ما أعده للكافرين فقال {إنا أعتدنا للكافرين} أي هيأنا وادخرنا لهم جزاء على كفرانهم وعصيانهم {سلاسل} يعني في جهنم كما قال في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا {وأغلالا وسعيرا} نار موقدة نعذبهم بها ونعاقبهم فيها ثم ذكر ما أعده للشاكرين المطيعين فقال {إن الأبرار} وهو جمع البر المطيع لله المحسن في أفعاله وقال الحسن هم الذين لا يؤذون الذر ولا يرضون الشر وقيل هم الذين يقضون الحقوق اللازمة والنافلة وقد أجمع أهل البيت (عليهم السلام) وموافقوهم وكثير من مخالفيهم إن المراد بذلك علي وفاطمة والحسن والحسين (عليهما السلام) والآية مع ما بعدها متعينة فيهم وأيضا فقد انعقد الإجماع على أنهم كانوا أبرارا وفي غيرهم خلاف .
{يشربون من كأس} إناء فيه شراب {كان مزاجها} أي ما يمازجها {كافورا} وهو اسم عين ماء في الجنة عن عطاء والكلبي واختاره الفراء قال ويدل عليه قوله {عينا} وهي كالمفسرة للكافور وقيل يعني الكافور الذي له رائحة طيبة والمعنى يمازجه ريح الكافور وليس ككافور الدنيا عن مجاهد ومقاتل قال قتادة يمزج بالكافور ويختم بالمسك وقيل معناه طيب بالكافور والمسك والزنجبيل عن ابن كيسان {عينا يشرب بها عباد الله} أي أولياؤه عن ابن عباس أي هذا الشراب من عين يشرب بها أولياء الله وخصهم بأنهم عباد الله تشريفا وتبجيلا قال الفراء شربها وشرب بها سواء في المعنى كما يقولون تكلمت بكلام حسن وكلاما حسنا قال عنترة :
شربت بماء الدحرضين فأصبحت **** عسرا علي طلابها ابنة مخرم (2)
وأنشد الفراء :
شربن بماء البحر ثم ترفعت **** متى لجج خضر لهن نئيج (3)
أي صوت {يفجرونها تفجيرا} أي يقودون تلك العين حيث شاءوا من منازلهم وقصورهم عن مجاهد والتفجير تشقيق الأرض بجري الماء قال وأنهار الجنة تجري بغير أخدود فإذا أراد المؤمن أن يجري نهرا خط خطا فينبع الماء من ذلك الموضع ويجري بغير تعب .
____________________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج10 ، ص212-215 .
2- كذا في النسخ لكن في (المعلقات) ورواية الزوزني وغيره هكذا :
وحلت بأرض العاشقين فأصبحت *** عسرا علي طلابك ابنه محزم
ورووا كلهم ( (طلابك) ) بكاف المخاطبة . وقد مر بمعناه في ج4 . ثم ذكر بعد ابيات هذا البيت :
شربت بماء الدحرضين فأصبحت *** زوراء تنفر عن حياض الديلم
والدحرضان : اسم موضع وقيل هما دحرض ووشيع ، فغلب احدهما على الاخر كالقمرين : للشمس والقمر ، والعمرين : لابي بكر وعمر .
3- الشعر في (جامع لشواهد) .
{هَلْ أَتى عَلَى الإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً} . هذه الآية في صورة الاستفهام ومعناها التأكيد والتحقيق ، والغرض منها أن يفكر الإنسان ويرجع إلى عقله ويسأله عن القدرة التي أتت به من العدم ، ومن أي شيء أوجدته ؟
وكيف انتقلت به من طور إلى طور ؟ والى أين المصير ؟ وفي هذا يقول الإمام علي (عليه السلام) : رحم اللَّه امرأ عرف من أين ، وفي أين ، والى أين ، هذا هو الغرض الذي تهدف إليه الآية ، وفيما يلي نعرض بإيجاز إلى ما أشارت إليه هذه الآية وما بعدها من مراحل التطور لوجود الإنسان ، أما في أين والى أين فقد سبق الكلام عنهما عند تفسير آيات الدنيا والآخرة :
1 - {هَلْ أَتى عَلَى الإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً} . مضى دهر طويل لم يكن للإنسان فيه عين ولا أثر ، ومثله : {أَولا يَذْكُرُ الإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ ولَمْ يَكُ شَيْئاً} [مريم- 67] ج 5 ص 192 . وقال أهل الاختصاص : ان الإنسان وجد على هذه الكرة الأرضية منذ 5 آلاف مليون سنة . .
{ورَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ والأَرْضِ} [الاسراء - 55 ] .
2 - ثم خلق سبحانه آدم أبا البشر من تراب {إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ} - 59 آل عمران . وبهذا انتقل الإنسان من مرحلة بائدة إلى وجود ترابي جامد لا حياة فيه ولا نمو .
3 - {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ} . هذه إشارة إلى انتقال الإنسان من الوجود الترابي إلى الوجود المائي ، وهو نطفة تتكون من عناصر شتى أشار إليها الإمام (عليه السلام) بقوله : {معجونا - أي الإنسان - بطينة الألوان المختلفة ، والأشياء المؤتلفة ، والأضداد المتعادية ، والأخلاط المتباينة} . ومن آثار طينة الألوان المختلفة ما نراه في الإنسان من سواد العينين وبياض الوجه ، ومن آثار الأشياء المؤتلفة عظام الساعدين والساقين ، ومن آثار الأضداد المتعادية الحب والبغض ، والطمع والقناعة ، والتواضع والتكبر ، وصراع العقل والشهوة ، وما إلى ذلك ، وبهذا نجد تفسير قوله تعالى : {نبتليه} حيث يلاقي الإنسان العناء المرير من الصراع بين ضميره ونزواته .
4 - {فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً} . هذه إشارة إلى انتقال الإنسان من النطفة التي دبت فيها الحياة بمرور الأيام وهو في بطن أمه ، انتقاله من ظلمة البطن حيث لا سمع ولا بصر إلى الفضاء مع السمع والبصر ، ولكن بلا عقل وإدراك تماما كالحيوان .
5 - {إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وإِمَّا كَفُوراً} . يشير سبحانه إلى انتقال الإنسان من الحياة إلى الحياة الإنسانية أي بعد أن تم تكوينه الجسدي وحواسه الظاهرة منحه اللَّه سبحانه العقل والإدراك ليميز بين الحق والباطل ، والهدى والضلال ، وأيضا منحه الحرية ليكون بعقله وحريته أهلا لتحمّل المسؤولية ، واستحقاق الثواب والعقاب - طبعا - بعد البيان وإلقاء الحجة ، وعبّر سبحانه عن الهدى بالشكر لأنه طاعة للَّه ، وعن الضلال بالكفر لأنه معصية له .
ورغبة في زيادة التوضيح نشير إلى المقارنة بين الإنسان وغيره من الكائنات الأرضية بوجه عام . . تنقسم هذه الكائنات إلى جامدة لا حياة فيها ولا نمو كالتراب والصخور والمعادن ، والى كائنات حية ، والحياة فيها على ثلاثة أقسام : حياة نباتية ، ومن خصائصها الحركة والنمو بلا احساس وإدراك ، فالنبات يتحرك وينمو ، ولكنه لا يحس ويشعر ، ولا يسمع ويبصر . القسم الثاني الحياة الحيوانية ، ومن صفات الحيوان الحركة والنمو والاحساس والشعور والسمع والبصر من غير تعقل وإدراك - في الغالب – أو ادراك الجزئيات دون الكليات . القسم الثالث :
الحياة الإنسانية ، ومن صفات الإنسان أن يتحرك وينمو ويسمع ويبصر وفوق ذلك يدرك الجزئيات والكليات ، ويعرف الكثير عما كان ويتنبأ بالكثير عما يكون ، وبهذا الإدراك ، وهذه المعرفة امتاز عن سائر الكائنات الأرضية .
- إذن - يلتقي الإنسان مع الجماد لأنه كان ترابا ، واليه يؤول ، وأيضا كل منهما جسم يحس ويلمس ، وأيضا يلتقي مع النبات لأنه كان في بطن أمه كالنبات ينمو ويتحرك ، ولكنه لا يسمع ولا يبصر ، ويلتقي الإنسان مع الحيوان لأنه كان في طفولته يحس ويشعر ويسمع ويبصر ولكنه لا يعقل تماما كالحيوان ، ثم افترق عنه بالعقل والإدراك ، ومن هنا كان أهلا لتحمّل المسؤولية ، واستحقاق الثواب والعقاب من دون الحيوان .
وهنا يأتي التساؤل : من الذي نقل الإنسان من المرحلة البائدة إلى الوجود الترابي الجامد ، ومنه إلى النباتي النامي المتحرك ، ثم إلى الحيواني السميع البصير ، ثم جعله إنسانا سويا بجسمه وعقله يخبر عن الماضي ويتنبأ بالمستقبل ، ويخلق الحضارات ، ويتحكم بكثير من الكائنات ، حتى بالحيوان السميع البصير ، ويسأل عما يفعل ، ولا يسأل غيره عن شيء ؟ وهل من تفسير لهذا وغيره مما لا يبلغه الإحصاء إلا التفسير بوجود خالق قادر أعجز الأوهام أن تدركه ، والألسنة أن تصفه ؟ .
وبعد أن أشار سبحانه إلى مسؤولية الإنسان بقوله : {إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وإِمَّا كَفُوراً} بعد هذا ذكر ما أعد للكافرين : {إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وأَغْلالًا وسَعِيراً} . السلاسل للأرجل ، والأغلال للأيدي ، والحريق للأجسام {إِنَّ الأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً} . تطلق الكأس على زجاجة الشراب ، وعلى الشراب نفسه ، وهذا المعنى هو المراد هنا . وقال كثير من المفسرين : ان لشراب أهل الجنة رائحة طيبة كرائحة الكافور ، ونقول نحن : ان المزج بالكافور حقيقة كما دل ظاهر الآية ، وإذا كان طعم الكافور في الدنيا كريها فليس من الضروري أن يكون في الجنة كذلك ، فخمرة الدنيا توجب الصداع والأوجاع ، وخمرة الجنة {لا فِيها غَوْلٌ ولا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ} - 47 الصافات . قال ابن عباس : كل ما ذكره اللَّه في القرآن مما في الجنة فليس منه في الدنيا إلا الاسم .
{عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً} أي تجري حيث يشاؤن بدون آلة ، بل بمجرد المشيئة . . وتقدم العديد من الآيات التي وصفت ما أعده اللَّه لعباده المتقين ، وانهم يتنعمون فيما لم تره عين ، ولم تسمعه أذن ، ولم يخطر على قلب بشر ، وان المجرمين يتعذبون فيما يفوق الوصف والتصور .
______________________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج7 ، ص477-480 .
تذكر السورة خلق الإنسان بعد ما لم يكن شيئا مذكورا ثم هدايته السبيل إما شاكرا وإما كفورا وأن الله اعتد للكافرين أنواع العذاب وللأبرار ألوان النعم - وقد فصل القول في وصف نعيمهم في ثمان عشرة آية وهو الدليل على أنه المقصود بالبيان - .
ثم تذكر مخاطبا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن القرآن تنزيل منه تعالى عليه وتذكرة فليصبر لحكم ربه ولا يتبع الناس في أهوائهم وليذكر اسم ربه بكرة وعشيا وليسجد له من الليل وليسبحه ليلا طويلا .
والسورة مدنية بتمامها أو صدرها - وهي اثنتان وعشرون آية من أولها - مدني ، وذيلها - وهي تسع آيات من آخرها - مكي وقد أطبقت روايات أهل البيت (عليهم السلام) على كونها مدنية ، واستفاضت بذلك روايات أهل السنة .
وقيل بكونها مكية بتمامها ، وسيوافيك تفصيل القول في ذلك في البحث الروائي التالي إن شاء الله تعالى .
قوله تعالى : {هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا} الاستفهام للتقرير فيفيد ثبوت معنى الجملة وتحققه أي قد أتى على الإنسان {إلخ} ولعل هذا مراد من قال من قدماء المفسرين : إن {هل} في الآية بمعنى قد ، لا على أن ذلك أحد معاني {هل} كما ذكره بعضهم .
والمراد بالإنسان الجنس .
وأما قول بعضهم : إن المراد به آدم (عليه السلام) فلا يلائمه قوله في الآية التالية : {إنا خلقنا الإنسان من نطفة} .
والحين قطعة من الزمان محدودة قصيرة كانت أو طويلة ، والدهر الزمان الممتد من دون تحديد ببداية أو نهاية .
وقوله : {شيئا مذكورا} أي شيئا يذكر باسمه في المذكورات أي كان يذكر مثلا الأرض والسماء والبر والبحر وغير ذلك ولا يذكر الإنسان لأنه لم يوجد بعد حتى وجد فقيل : الإنسان فكونه مذكورا كناية عن كونه موجودا بالفعل فالنفي في قوله : {لم يكن شيئا مذكورا} متوجه إلى كونه شيئا مذكورا لا إلى أصل كونه شيئا فقد كان شيئا ولم يكن شيئا مذكورا ويؤيده قوله : {إنا خلقنا الإنسان من نطفة} إلخ فقد كان موجودا بمادته ولم يتكون بعد إنسانا بالفعل والآية وما يتلوها من الآيات واقعة في سياق الاحتجاج يبين بها أن الإنسان حادث يحتاج في وجوده إلى صانع يصنعه وخالق يخلقه ، وقد خلقه ربه وجهزه التدبير الربوبي بأدوات الشعور من السمع والبصر يهتدي بها إلى السبيل الحق الذي من الواجب أن يسلكه مدى حياته فإن كفر فمصيره إلى عذاب أليم وإن شكر فإلى نعيم مقيم .
والمعنى هل أتى - قد أتى - على الإنسان قطعة محدودة من هذا الزمان الممتد - غير المحدود والحال أنه لم يكن موجودا بالفعل مذكورا في عداد المذكورات .
قوله تعالى : {إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا} النطفة في الأصل بمعنى الماء القليل غلب استعماله في ماء الذكور من الحيوان الذي يتكون منه مثله ، وأمشاج جمع مشيج أو المشج بفتحتين أو بفتح فكسر بمعنى المختلط الممتزج ، ووصفت بها النطفة باعتبار أجزائها المختلفة أواختلاط ماء الذكور والإناث .
والابتلاء نقل الشيء من حال إلى حال ومن طور إلى طور كابتلاء الذهب في البوتقة ، وابتلاؤه تعالى الإنسان في خلقه من النطفة هوما ذكره في مواضع من كلامه أنه يخلق النطفة فيجعلها علقة والعلقة مضغة إلى آخر الأطوار التي تتعاقبها حتى ينشئه خلقا آخر .
وقيل : المراد بابتلائه امتحانه بالتكليف ، ويدفعه تفريع قوله : {فجعلناه سميعا بصيرا} على الابتلاء ولوكان المراد به التكليف كان من الواجب تفريعه على جعله سميعا بصيرا لا بالعكس ، والجواب عنه بأن في الكلام تقديما وتأخيرا والتقدير إنا خلقناه من نطفة أمشاج فجعلناه سميعا بصيرا لنبتليه ، لا يصغى إليه .
وقوله : {فجعلناه سميعا بصيرا} سياق الآيات وخاصة قوله : {إنا هديناه السبيل} إلخ يفيد أن ذكر جعله سميعا بصيرا للتوسل به في التدبير الربوبي إلى غايته وهي أن يرى آيات الله الدالة على المبدأ والمعاد ويسمع كلمة الحق التي تأتيه من جانب ربه بإرسال الرسل وإنزال الكتب فيدعوه البصر والسمع إلى سلوك سبيل الحق والسير في مسير الحياة بالإيمان والعمل الصالح فإن لزم السبيل الذي هدي إليه أداه إلى نعيم الأبد وإلا فإلى عذاب مخلد .
وذكر الإنسان في الآية من وضع الظاهر موضع الضمير والنكتة فيه تسجيل أنه تعالى هو خالقه ومدبر أمره .
والمعنى : إنا خلقنا الإنسان من نطفة هي أجزاء مختلطة ممتزجة والحال أنا ننقله من حال إلى حال ومن طور إلى طور فجعلناه سميعا بصيرا ليسمع ما يأتيه من الدعوة الإلهية ، ويبصر الآيات الإلهية الدالة على وحدانيته تعالى والنبوة والمعاد .
قوله تعالى : {إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا} الهداية بمعنى إراءة الطريق دون الإيصال إلى المطلوب والمراد بالسبيل السبيل بحقيقة معنى الكلمة وهوالمؤدي إلى الغاية المطلوبة وهو سبيل الحق .
والشكر استعمال النعمة بإظهار كونها من منعمها وقد تقدم في تفسير قوله تعالى : {وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران : 144] إن حقيقة كون العبد شاكرا لله كونه مخلصا لربه ، والكفران استعمالها مع ستر كونها من المنعم .
وقوله : {إما شاكرا وإما كفورا} حالان من ضمير {هديناه} لا من {السبيل} كما قاله بعضهم ، و{إما} يفيد التقسيم والتنويع أي إنا هديناه السبيل حال كونه منقسما إلى الشاكر والكفور أي أنه مهدي سواء كان كذا أو كذلك .
والتعبير بقوله : {إما شاكرا وإما كفورا} هو الدليل أولا : على أن المراد بالسبيل السنة والطريقة التي يجب على الإنسان أن يسلكها في حياته الدنيا لتوصله إلى سعادته في الدنيا والآخرة وتسوقه إلى كرامة القرب والزلفى من ربه ومحصله الدين الحق وهو عند الله الإسلام .
وبه يظهر أن تفسير بعضهم السبيل بسبيل الخروج من الرحم غير سديد .
وثانيا : أن السبيل المهدي إليه سبيل اختياري وأن الشكر والكفر اللذين يترتبان على الهداية المذكورة واقعان في مستقر الاختيار للإنسان أن يتلبس بأيهما شاء من غير إكراه وإجبار كما قال تعالى : {ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ} [عبس : 20] ، وما في آخر السورة من قوله تعالى : {فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا وما تشاءون إلا أن يشاء الله} إنما يفيد تعلق مشيته تعالى بمشية العبد لا بفعل العبد الذي تعلقت به مشية العبد حتى يفيد نفي تأثير مشية العبد المتعلقة بفعله ، وقد تقدمت الإشارة إلى هذا المعنى في هذا الكتاب مرارا .
والهداية التي هي نوع إيذان وإعلام منه تعالى للإنسان هداية فطرية هي تنبيه بسبب نوع خلقته وما جهز به وجوده بإلهام من الله سبحانه على حق الاعتقاد وصالح العمل قال تعالى : {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس : 7 ، 8]وأوسع مدلولا منه قوله تعالى : {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ } [الروم : 30] .
وهداية قولية من طريق الدعوة يبعث الأنبياء وإرسال الرسل وإنزال الكتب وتشريع الشرائع الإلهية ، ولم يزل التدبير الربوبي تدعم الحياة الإنسانية بالدعوة الدينية القائم بها أنبياؤه ورسله ، ويؤيد بذلك دعوة الفطرة كما قال : {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163) وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164) رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء : 163 - 165] .
ومن الفرق بين الهدايتين أن الهداية الفطرية عامة بالغة لا يستثنى منها إنسان لأنها لازم الخلقة الإنسانية وهي في الأفراد بالسوية غير أنها ربما تضعف أو يلغو أثرها لعوامل وأسباب تشغل الإنسان وتصرفه عن التوجه إلى ما يدعو إليه عقله ويهديه إليه فطرته أو ملكات وأحوال رديئة سيئة تمنعه عن إجابة نداء الفطرة كالعناد واللجاج وما يشبه ذلك قال تعالى : {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ} [الجاثية : 23] ، والهداية المنفية في الآية بمعنى الإيصال إلى المطلوب دون إراءة الطريق بدليل قوله : {وأضله الله على علم} .
وأما الهداية القولية وهي التي تتضمنها الدعوة الدينية فإن من شأنها أن تبلغ المجتمع فتكون في معرض من عقول الجماعة فيرجع إليها من آثر الحق على الباطل وأما بلوغها لكل واحد واحد منهم فإن العلل والأسباب التي يتوسل بها إلى بيان أمثال هذه المقاصد ربما لا تساعد على ذلك على ما في الظروف والأزمنة والبيئات من الاختلاف وكيف يمكن لإنسان أن يدعو كل إنسان إلى ما يريد بنفسه أو بوسائط من نوعه؟ فمن المتعذر ذلك جدا .
وإلى المعنى الأول أشار تعالى بقوله : {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر : 24] ، وإلى الثاني بقوله : {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ } [يس : 6] .
فمن بلغته الدعوة وانكشف له الحق فقد تمت عليه الحجة ومن لم تبلغه الدعوة بلوغا ينكشف به له الحق فقد أدركه الفضل الإلهي بعده مستضعفا أمره إلى الله إن يشأ يغفر له وإن يشأ يعذبه قال تعالى : {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا} [النساء : 98] .
ثم من الدليل على أن الدعوة الإلهية وهي الهداية إلى السبيل حق يجب على الإنسان أن يتبعها فطرة الإنسان وخلقته المجهزة بما يهدي إليها من الاعتقاد والعمل ، ووقوع الدعوة خارجا من طريق النبوة والرسالة فإن سعادة كل موجود وكماله في الآثار والأعمال التي تناسب ذاته وتلائمها بما جهزت به من القوى والأدوات فسعادة الإنسان وكماله في اتباع الدين الإلهي الذي هو سنة الحياة الفطرية وقد حكم به العقل وجاءت به الأنبياء والرسل عليهم السلام .
قوله تعالى : {إنا أعتدنا للكافرين سلاسل وأغلالا وسعيرا} الإعتاد التهيئة ، وسلاسل جمع سلسلة وهي القيد الذي يقاد به المجرم ، وأغلال جمع غل بالضم قيل هي القيد الذي يجمع اليدين على العنق ، وقال الراغب : فالغل مختص بما يقيد به فيجعل الأعضاء وسطه .
انتهى .
والسعير النار المشتعلة ، والمعنى ظاهر .
والآية تشير إلى تبعة الإنسان الكفور المذكور في قوله : {إما شاكرا وإما كفورا} وقدم بيان تبعته على بيان جزاء الإنسان الشاكر لاختصار الكلام فيه .
قوله تعالى : {إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا} الكأس إناء الشراب إذا كان فيه شراب ، والمزاج ما يمزج به كالحزام لما يحزم به ، والكافور معروف يضرب به المثل في البرودة وطيب الرائحة ، وقيل : هو اسم عين في الجنة .
والأبرار جمع بر بفتح الباء صفة مشبهة من البر وهو الإحسان ويتحصل معناه في أن يحسن الإنسان في عمله من غير أن يريد به نفعا يرجع إليه من جزاء أو شكور فهو يريد الخير لأنه خير لا لأن فيه نفعا يرجع إلى نفسه وإن كرهت نفسه ذلك فيصبر على مر مخالفة نفسه فيما يريده ويعمل العمل لأنه خير في نفسه كالوفاء بالنذر أو لأن فيه خيرا لغيره كإطعام الطعام للمستحقين من عباد الله .
وإذ لا خير في عمل ولا صلاح إلا بالإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر كما قال تعالى : { أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ} [الأحزاب : 19] إلى غير ذلك من الآيات .
فالأبرار مؤمنون بالله ورسوله واليوم الآخر ، وإذ كان إيمانهم إيمان رشد وبصيرة فهم يرون أنفسهم عبيدا مملوكين لربهم ، له خلقهم وأمرهم ، لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا عليهم أن لا يريدوا إلا ما أراده ربهم ولا يفعلوا إلا ما يرتضيه فقدموا إرادته على إرادة أنفسهم وعملوا له فصبروا على مخالفة أنفسهم فيما تهواه وتحبه وكلفة الطاعة ، وعملوا ما عملوه لوجه الله ، فأخلصوا العبودية في مرحلة العمل لله سبحانه .
وهذه الصفات هي التي عرف سبحانه الأبرار بها كما يستفاد من قوله : {يشرب بها عباد الله} وقوله : {إنما نطعمكم لوجه الله} وقوله : {وجزاهم بما صبروا} وهي المستفادة من قوله في صفتهم : {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} [البقرة : 177] وقد مر بعض الكلام في معنى البر في تفسير الآية وسيأتي بعضه في قوله : {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ } [المطففين : 18] .
والآية أعني قوله : {إن الأبرار يشربون} إلخ بما يتبادر من معناها من حيث مقابلتها لقوله : {إنا أعتدنا للكافرين} إلخ المبين لحال الكافرين في الآخرة ، تبين حال الأبرار في الآخرة في الجنة ، وأنهم يشربون من شراب ممزوج بالكافور باردا طيب الرائحة .
قوله تعالى : {عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا} {عينا} منصوب بنزع الخافض والتقدير من عين أو بالاختصاص والتقدير أخص عينا ، والشرب - على ما قيل - يتعدى بنفسه وبالباء فشرب بها وشربها واحد ، والتعبير عنهم بعباد الله للإشارة إلى تحليهم بحلية العبودية وقيامهم بلوازمها على ما يفيده سياق المدح .
وتفجير العين شق الأرض لإجرائها ، وينبغي أن يحمل تفجيرهم العين على إرادتهم جريانها لأن نعم الجنة لا تحتاج في تحققها والتنعم بها إلى أزيد من مشية أهلها قال تعالى : {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا } [ق : 35] .
والآيتان - كما تقدمت الإشارة إليه - تصفان تنعم الأبرار بشراب الجنة في الآخرة ، وبذلك فسرت الآيتان .
ولا يبعد أن تكون الآيتان مسوقتين على مسلك تجسم الأعمال تصفان حقيقة عملهم الصالح من الإيفاء بالنذر وإطعام الطعام لوجه الله ، وأن أعمالهم المذكورة بحسب باطنها شرب من كأس مزاجها كافور من عين لا يزالون يفجرونها بأعمالهم الصالحة وستظهر لهم بحقيقتها في جنة الخلد وإن كانت في الدنيا في صورة الأعمال فتكون الآيتان في مجرى أمثال قوله تعالى : {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ} [يس : 8] .
ويؤيد ذلك ظاهر قوله {يشربون} و{يشرب بها} ولم يقل : سيشربون وسيشرب بها ، ووقوع قوله : يشربون ويوفون ويخافون ويطعمون متعاقبة في سياق واحد ، وذكر التفجير في قوله : {يفجرونها تفجيرا} الظاهر في استخراج العين وإجرائها بالتوسل بالأسباب .
ولهم في مفردات الآيتين وإعرابها أقاويل كثيرة مختلفة مذكورة في المطولات فليراجعها من أراد الوقوف عليها .
____________________________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج20 ، ص104-110 .
الانسان مخلوق من النطفة التافهة :
تتحدث الآيات الأُولى عن خلق الإنسان ، بالرغم من أنَّ أكثر بحوث هذه السورة هي حول القيامة ونِعَمِ الجنان ، فتحدثت في البدء عن خلق الإنسان ، لأنَّ التوجه والإلتفات إلى هذا الخلق يهيء الأرضية للتوجه إلى القيامة والبعث كما شرحنا ذلك سابقاً في تفسير سورة القيامة .
فيقول تعالى : {هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً} (2) .
نعم ، كانت ذرات وجود هذا الانسان متناثرة في كلّ صوب وبين الأتربة ، بين أمواج قطرات ماء البحر . في الهواء المتناثر في جو الأرض ، وهكذا اختفت المواد الأصلية لوجوده في كلّ زاوية من زوايا هذه المحيطات الثلاثة ، وقد ضاع بينها ولا يمكن ذكره مطلقاً .
ولكن هل أنَّ المراد من الإنسان هنا هو نوع الإنسان ، ويشمل بذلك عموم البشر ، أم أنَّ هذا الإنسان يختص بالنبي آدم (عليه السلام) ؟
الآية الأُخرى التي تقول : {إنَّا خلقنا الإنسان من نطفة} قرينة واضحة على المعنى الأوّل ، وإن كان البعض يرى أنَّ الإنسان في الآية الأُولى يراد به آدم (عليه السلام) ، والإنسان في الآية الثّانية يراد به أولاده ، ولكنَّ هذا الاختلاف في هذه الفاصلة القصيرة مستبعدٌ جدّاً .
وهناك أقوال في تفسير {لم يكن شيئاً مذكوراً} منها : إنَّ الإنسان لم يكن شيئاً مذكوراً عندما كان في عالم النطفة والجنين ، وإنّما أصبح ممّن يذكر عندما طوى مراحل التكامل فيما بعد ; ففي حديث ورد عن الإمام الباقر (عليه السلام) «كان الإنسان مذكوراً في علم الله ولم يكن مذكوراً في عالم الخلق» (3) .
وجاء في بعض التفاسير أنَّ المراد بالإنسان هنا هم العلماء والمفكرون الذين لم يكونوا مذكورين قبل انتشار العلم ، وعند وصولهم إلى العلم وانتشاره بين الناس أصبح ذكرهم مشهوراً في حياتهم وبعد موتهم .
وقيل «إنَّ عمر بن الخطاب» قد سمع أحداً يتلو هذه السورة فقال : «ليت آدم بقي على ما كان فكان لا يلد ولا يبتلي أولاده» (4) وهذا من عجائب القول ، لاعتراضه على مسألة الخلق .
ثمّ يأتي خلق الإنسان بعد هذه المرحلة ، واعتبار ذكره ، فيقول تعالى {إنّا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً} .
«أمشاج» : جمع مَشَجْ ، على وزن (نسج) أو (سبب) ، أو أنه جمع «مَشِيجْ» على وزن (مريض) بمعنى المختلط .
ولعل ذكر خلق الإنسان من النطفة المختلطة إشارة إلى اختلاط ماء الذكور والإناث ، وقد أُشير إلى ذلك في روايات المعصومين (عليهم السلام) بصورة إجمالية ، أو أنّها إشارة إلى القابليات المختلفة الموجودة داخل النطفة من ناحية العوامل الوراثية عن طريق الجيّنات ، أو أنَّها إشارة إلى اختلاط المواد التركيبية المختلفة للنطفة ، لأنَّها تتركب من عشرات المواد المختلفة ، أو اختلاط جميع ذلك مع بعضها البعض ، والمعنى الأخير أجمع وأوجه .
ويحتمل كون «الأمشاج» إشارة إلى تطورات النطفة في المرحلة الجنينية (5) .
«نبتليه» : إشارة إلى وصول الإنسان إلى مقام التكليف والتعهد وتحمل المسؤولية و الإِختبار و الإمتحان ، وهذه هي إحدى المواهب الإلهية العظيمة الذي أكرم بها الإنسان وجعله أهلاً للتكليف وتحمل المسؤولية ، وبما أنَّ الإختبار والتكليف لا يتمّ إلاَّ بعد الحصول على المعرفة والعلم فقد أشار في آخر الآية إلى وسائل المعرفة ، والعين والأُذن التي أودعها سبحانه وتعالى في الإنسان وسخرها له .
وقيل المراد بالإبتلاء هنا التطورات والتحولات الحاصلة في الجنين من النطفة حتى ينشئه إنساناً كاملاً ، ولكن التمعن في عبارة «نبتليه» ، وكذلك في كلمة «الإنسان» نجد أنَّ المعنى الأوّل هو الأوجه .
وممّا يستفاد من هذه العبارة أنَّ منبع جميع إدراكات وعلوم الإنسان هي إدراكاته الحسية ، وبعبارة أخرى إنَّ الإدراكات الحسية هي أُمُّ المعقولات ، وهذه هي نظرية كثير من فلاسفة المسلمين ومن بين فلاسفة اليونان يذهب أرسطو إلى هذه النظرية أيضاً .
إنَّ اختبار الإنسان بحاجة إلى عاملين آخرين ، هما : «الهداية» و «الإختبار» بالإضافة إلى المعرفة ووسائلها ، فقد أشارت الآية التالية إلى ذلك : {إنَّا هديناه السبيل إمّا شاكراً وإمّا كفوراً} (6) . إنّ للهداية هنا معنى واسعاً ، فهي تشمل «الهداية التكوينية» و«الهداية الفطرية» وكذلك «الهداية التشريعية» وإن كان سياق الآية يؤكّد على الهداية التشريعية .
توضيح :
إنّ الله قد خلق الإنسان لهدف الإبتلاء و الإختبار والتكامل ، فأوجد فيه المقدمات لكي يصل بها إلى هذا الهدف ، ووهبه القوى اللازمة لذلك ، وهذه هي (الهداية التكوينية) ، ثمّ جعل في أعماق فطرته عشقاً لطي هذا الطريق ، وأوضح له السبيل عن طريق الإلهام الفطري ، فسمي ذلك بـ (الهداية الفطرية) ، ومن جهة أُخرى بعث القادة السماويين والأنبياء العظام لإراءة الطريق بالتعليمات والقوانين النيّرة السماوية ، وذلك هو «الهداية التشريعية» ، وجميع شعب الهداية الثلاث هذه لها صبغة عامّة ، وتشمل جميع البشر .
وعلى المجموع فإنّ الآية تشير إلى ثلاث مسائل مهمّة مصيرية في حياة الإنسان : «مسألة التكليف» ، و«مسألة الهداية» ، ومسألة «الإرادة والإختيار» والتي تعتبر متلازمة ومكمّلة بعضها للبعض الآخر .
التعبير بـ (شاكراً) و (كفوراً) يعتبر أفضل تعبير ممكن في هذه الآية ، لانه مَنْ قابل النِعَمِ الإلهية الكبيرة بالقبول واتخذ طريق الهداية مسلكاً ، فقد أدّى شكر هذه النعمة ، وأمّا من خالف فقد كفرها .
وبما أنَّ الإنسان لا يتمكن من تحقيق الشكر الحقيقي ، فقد عبّر عن الشكر باسم الفاعل ، والحال أنّ الكفران جاء بصيغة المبالغة فقال : (كفور) ، لأنّ عدم اهتمامهم بهذه النعم الكبيرة يعتبر كفراناً شديداً منهم باعتبار أنَّ الله عزَّ وجلّ وضع وسائل الهداية تحت تصرفهم ، ولذا فإنَّ إهمال هذه الوسائل والمواهب والغضّ عنها واتخاذ السبيل المنافي لها يعتبر كفراناً شديداً .
والجدير بالذكر أنّ كلمة (كفور) تستعمل لكفران النعمة ، وكذلك للكفر الإعتقادي ، وهوما أورده الراغب في مفرداته .
وأشارت الآية الأخيرة من آيات البحث إشارة قصيرة وغنية بالمعنى إلى الذين سلكوا طريق الكفر والكفران فتقول : {إنّا اعتدنا للكافرين سلاسلاْ وأغلالاً وسعيراً} .
التعبير بـ (اعتدنا) تأكيد على حتمية مجازاة هذه الثلّة ، وبالرغم من أنَّ تهيئة الشيء مسبقاً هو عمل من له قدرة محدودة ويحتمل أن يعجز بعد ذلك من إنجاز العمل ، ولكن هذا المعنى لا يصدق على الله تعالى ، لأنّه إذا أراد شيئاً يقول له كن فيكون ، وفي الوقت نفسه يبيّن للكافرين أنَّ هذه العقوبات حتمية ووسائلها جاهزة .
«سلاسل» : جمع (سلسلة) ، وهي القيد الذي يقاد به المجرم ، و«الأغلال» جمع غل ، وهي الحلقة التي توضع حول العنق أو اليدين وبعد ذلك يُقفل بالقيد (7) .
على كلّ حال فإنّ ذكر الأغلال والسلاسل ولهيب النيران المحرقة تبيان للعقوبات التي يعاقب بها المجرمون ، وهوما أُشير إليه في كثير من آيات القرآن ويشمل ذلك العذاب والذل ، إنَّ إطلاقهم لعنان الشهوات يسبب في تعاستهم في الآخرة ، وإشعالهم للنيران في الدنيا تتجسَّد لهم في الإخرة لتلهب أطرافهم .
جزاء الأبرار العظيم
وأشارت الآيات السابقة الى العقوبات التي تنتظر الكافرين بعد تقسيمهم إلى جماعتين وهي «الشكور» و«الكفور» ، والآيات في هذا المقطع تتحدث المكافآت التي أنعم الله بها على الأبرار وتذكّر بأُمور ظريفة في هذا الباب . فيقول تعالى : {إنّ الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافوراً} .
«الأبرار» : جمع (بر) وأصله الإتّساع ، وأُطلق البر على الصحراء لاتساع مساحتها ، وتطلق هذه المفردة على الصالحين الذين تكون نتائج أعمالهم واسعة في المجتمع ، و «البِر» بكسر الباء هو الإحسان ، وقال بعض : إنّ الفرق بين البر والخير هو أنّ البر يراد به الإحسان مع التوجه والإرادة ، وأمّا الخير فإنّ له معنى أعمّ .
«كافور» : له معان متعددة في اللّغة ، وأحد معانيها المعروفة الرائحة الطيبة كالنبتة الطيبة الرائحة ، وله معنىً آخر مشهور هو الكافور الطبيعي ذو الرائحة القوية ويستعمل في الموارد الطبية كالتعقيم .
على كل حال فإنّ الآية تشير إلى أنّ هذا الشراب الطهور معطّر جدّاً فيلتذ به الانسان من حيث الذوق والشم .
وذهب بعض المفسّرين الى أنّ «كافور» اسم لأحد عيون الجنّة . ولكن هذا التّفسير لا ينسجم مع عبارة «كان مزاجها كافوراً» . ومن جهة أُخرى يلاحظ أنّ «الكافور» من مادة «كفر» أي بمعنى «التغطية» ، ويعتقد بعض أرباب اللغة كالراغب في المفردات أنّ اختيار هذا الاسم هوأنّ فاكهة الشجرة التي يؤخذ منها الكافور مغطاة بالقشور والأغلفة .
وقيل : هو إشارة إلى شدّة بياضه وبرودته حيث يضرب به المثل ، والوجه الأوّل أنسب الوجوه ، لأنّه يعد مع المسك والعنبر في مرتبة واحدة ، وهما من أفضل العطور .
ثمّ يشير إلى العين التي يملؤون منها كؤوسهم من الشراب الطهور فيقول : {عيناً يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيراً} (8) (9) .
هذه العين من الشراب الطهور وضعها الله تعالى تحت تصرفهم ، فهي تجري أينما شاءوا ، والظريف هو ما نقل عن الإمام الباقر (عليه السلام) إذ قال في وصفها : «هي عين في دار النّبي تفجر إلى دور الأنبياء والمؤمنين» .
نعم فكما تتفجر عيون العلم والرحمة من بيت النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتجري الى قلوب عباد الله الصالحين ، كذلك في الآخرة حيث التجسّم العظيم لهذا المعنى تتفجر عين الشراب الطهور الإلهي من بيت الوحي ، وتنحدر فروعها ، إلى بيوت المؤمنين!
«يفجرون» : من مادة تفجير ، وأخذت من أصل (الفجر) ويعني الشق الواسع ، سواء أكان شق الأرض أو غير ذلك ، و«الفجر» نور الصبح الذي يشق ستار الليل ، وأُطلق على من يشق ستار الحياء والطهارة ويتعدى حدود الله (فاجر) ويراد به هنا شقّ الإرض .
والملاحظ أنّ أوّل ما ذكر من نعم الجنان في هذه السورة هو الشراب الطهور المعطّر الخاصّ . لكونه يزيل كلّ الهموم والحسرات والقلق والأردان عند تناوله بعد الفراغ من حساب المحشر ، وهو أوّل ما يقدم لأهل الجنان ثمّ ينتهون إلى السرور المطلق بالإستفادة من سائر مواهب الجنان .
__________________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج14 ، ص612-623 .
2 ـ «هل» : يراد بها (قد) أو أنّها بمعنى الإستفهام التقريري أو الإنكاري ، ولكن الظاهر فيها الإستفهام التقريري ، فيكون معنى الجملة : {أليس قد أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً} .
3 ـ مجمع البيان ، ج 10 ، ص 406 .
4 ـ المصدر السابق .
5 ـ يجب الإلتفات إلى أن النطفة جاءت بصيغة المفرد ، وجاءت صفتها بصورة الجمع ، وهي «أمشَاج» ، باعتبار أنَّ النطفة تركبت من أجزاء مختلفة ، وأنّها في حكم الجمع ، ويعتقد البعض كالزمخشري في الكشاف أنَّ «أمشَاج» مفرد رغم أنَّها من أوزان الجمع .
6 ـ «شاكراً» وكفوراً» يعتقد الكثير أنّهما حال لضمير المفعول في (هديناه) ويحتمل أن يكون خبراً لـ (يكون) محذوف وتقديره (إمّا يكون شاكراً وإمّا يكون كفوراً) .
7 ـ وضّحنا شرحاً مفصلاً حول معنى الأغلال في ذيل الآية (8) من سورة يس .
8 ـ وردت احتمالات عديدة في سبب نصب (عيناً) و أوجه الأقوال هو أنّه منصوب لنزع الخافض وتقديره (من عين) وقيل بدل من (كافوراً) أو منصوب بالإختصاص أو المدح ، أو مفعول لفعل مقدر والتقدير (يشربون عيناً) ولكن الأوّل أوجه كما تقدم .
9 ـ «يشرب» : يتعدى بالباء وبدونها ، ويمكن أن تكون الباء في (بها) بمعنى (من) .
|
|
مخاطر عدم علاج ارتفاع ضغط الدم
|
|
|
|
|
اختراق جديد في علاج سرطان البروستات العدواني
|
|
|
|
|
مدرسة دار العلم.. صرح علميّ متميز في كربلاء لنشر علوم أهل البيت (عليهم السلام)
|
|
|