أقرأ أيضاً
التاريخ: 31-1-2018
6559
التاريخ: 31-1-2018
8113
التاريخ: 31-1-2018
2937
|
قال تعالى : {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَو كَفُورًا (24) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا (26) إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا (27) نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا (28) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } [الإنسان : 23 - 31] .
أخبر سبحانه عن نفسه فقال {إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا} فيه شرف وتعظيم لك وقيل معناه فصلناه في الإنزال آية بعد آية ولم ننزله جملة واحدة عن ابن عباس {فاصبر} يا محمد على ما أمرتك به من تحمل أعباء الرسالة {لحكم ربك} أن تبلغ الكتاب وتعمل به وقيل أنه أمر لنبينا (صلى الله عليه وآله وسلّم) بالصبر وإن كذب فيما أتى به ووعيد لمن كذبه {ولا تطع منهم} أي من مشركي المكة {آثما} يعني عتبة بن ربيعة {أو كفورا} يعني الوليد بن المغيرة فإنهما قالا له ارجع عن هذا الأمر ونحن نرضيك بالمال والتزويج عن مقاتل وقيل الكفور أبو جهل نهى النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) عن الصلاة وقال لئن رأيت محمدا يصلي لأطأن عنقه فنزلت الآية عن قتادة وقيل إن ذلك عام في كل عاص فاسق وكافر منهم أي من الناس أي لا تطع من يدعوك إلى إثم أو كفر وهذا أولى لزيادة الفائدة وعدم التكرير {واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا} أي أقبل على شأنك من ذكر الله والدعاء إليه وتبليغ الرسالة صباحا ومساء أي دائما فإن الله ناصرك ومؤيدك ومعينك والبكرة أول النهار والأصيل العشي وهو أصل الليل {ومن الليل فاسجد له} دخلت من للتبعيض والمعنى فاسجد له في بعض الليل لأنه لم يأمره بقيام الليل كله وقيل فاسجد له يعني صلاة المغرب والعشاء {وسبحه ليلا طويلا} أي في ليل طويل يريد التطوع بعد المكتوبة وروي عن الرضا (عليه السلام) أنه سأله أحمد بن محمد عن هذه الآية وقال ما ذلك التسبيح قال صلاة الليل {إن هؤلاء يحبون العاجلة} أي يؤثرون اللذات والمنافع العاجلة في دار الدنيا {ويذرون وراءهم} أي ويتركون أمامهم {يوما ثقيلا} أي عسيرا شديدا والمعنى أنهم لا يؤمنون به ولا يعملون له وقيل معنى وراءهم خلف ظهورهم وكلاهما محتمل ثم قال سبحانه {نحن خلقناهم وشددنا أسرهم} أي قوينا وأحكمنا خلقهم عن قتادة ومجاهد وقيل أسرهم أي مفاصلهم عن الربيع وقيل أوصالهم بعضها إلى بعض بالعروق والعصب عن الحسن ولولا إحكامه إياها على هذا الترتيب لما أمكن العمل بها والانتفاع منها وقيل شددنا أسرهم جعلناهم أقوياء عن الجبائي وقيل معناه كلفناهم وشددناهم بالأمر والنهي كيلا يجاوزوا حدود الله كما يشد الأسير بالقد لئلا يهرب {وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلا} أي أهلكناهم وأتينا بأشباههم فجعلناهم بدلا منهم ولكن نبقيهم إتماما للحجة {إن هذه} السورة {تذكرة} أي تذكير وعظة يتذكر بها أمر الآخرة عن قتادة وقيل أن هذه الرسالة التي تبلغها {فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا} أي فمن أراد اتخذ إلى رضا ربه طريقا بأن يعمل بطاعته وينتهي عن معصيته وفي هذا دلالة على أن الاستطاعة قبل الفعل {وما تشاءون إلا أن يشاء الله} أي وما تشاءون اتخاذ الطريق إلى مرضاة الله اختيارا إلا أن يشاء الله إجباركم عليه وإلجاءكم إليه فحينئذ تشاءون ولا ينفعكم ذلك والتكليف زائل ولم يشأ الله هذه المشيئة بل شاء أن تختاروا الإيمان لتستحقوا الثواب عن أبي مسلم وقيل معناه وما تشاءون شيئا من العمل بطاعته إلا والله يشاؤه ويريده وليس المراد بالآية أنه سبحانه يشاء كل ما يشاء العبد من المعاصي والمباحات وغيرها لأن الدلائل الواضحة قد دلت على أنه سبحانه لا يجوز أن يريد القبائح ويتعالى عن ذلك وقد قال سبحانه ولا يريد بكم العسر وما الله يريد ظلما للعباد {إن الله كان عليما حكيما} مر معناه {يدخل من يشاء في رحمته} أي جنته يعني المؤمنين {والظالمين} يعني ويجزي الكافرين والمشركين {أعد لهم عذابا أليما} .
________________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج225-226 .
{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ} - يا محمد - {الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا} . وهو حق لا ريب فيه ، وقد وعدناك بالنصر ، شريطة ان تصبر على أذى المعاندين وصدهم عن سبيل اللَّه {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} . وحكمه تعالى أن تجري الأمور على سننها الطبيعية ، وان توجد في أوقاتها المعينة ، فالطريق إلى الهدى لمن رغب فيه هو النصح والإرشاد ، وطريق النصر الصبر في الكفاح والجهاد {ولا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَو كَفُوراً} فيما يحاولونه منك ، ويساومونك عليه ، وقد كان المشركون يعرضون على الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلّم) المال والنساء والرياسة على ان يترك الدعوة إلى اللَّه ، فيرفض ويأبى ، وفي النهي عن طاعة الآثم والكفور إيماء إلى ذلك ، والمراد بالآثم كل من اكتسب إثما ، وبالكفور كل جاحد ، وقال جماعة من أهل التفسير : ان المراد بالآثم هنا عتبة بن ربيعة لأنه كان منغمسا في الشهوات ، وبالكفور أبو جهل أو الوليد بن المغيرة . . وأيا كان سبب النزول فإنه لا يخصص عموم اللفظ .
{واذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وأَصِيلًا} . كن مع اللَّه في جميع أمورك وأوقاتك ، ولا تأخذك فيه لومة لائم . وتقدم مثله في الآية 42 من سورة الأحزاب {ومِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ} . صلّ للَّه في جزء من الليل {وسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا} . تهجد للَّه في الليل أمدا غير قصير ، والأمر هنا للاستحباب لقوله تعالى : {ومِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ} - 79 الإسراء . {إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ ويَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلًا} . هؤلاء إشارة إلى المشركين والى كل من أحب الدنيا وتولاها ، وأبغض الآخرة وعاداها ، ووصف سبحانه يوم القيامة بالثقل لأنه يوم عسير على الكافرين غير يسير .
{نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وشَدَدْنا أَسْرَهُمْ} . اللَّه سبحانه هو الذي أوجدهم من العدم ، وصورهم فأحسن صورهم ، فكيف أنكروه وعصوا أمره ونهيه ؟ {وإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلًا} . هذا تهديد ووعيد للمكذبين بأن اللَّه قادر على أن يهلكهم ويستخلف مكانهم قوما آخرين أفضل وأكمل . وتقدم مثله في الآية 38 من سورة محمد {إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ} . هذه إشارة إلى السورة التي نحن بصددها ، وهي بما فيها من ترغيب وترهيب عظة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد {فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا وما تَشاؤُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ} . بيّن سبحانه للإنسان طريقي الخير والشر ونهاه عن هذا وأمره بذاك وتركه وما يختار لنفسه . . ولكن المعاند لا يفعل الخير إلا إذا أجبره اللَّه عليه ، وألجأه إليه ، وهذا لن يكون لأنه مخالف لعدله تعالى وحكمته وسنته في خلقه . انظر تفسير الآية 56 من سورة المدثر فإنه أوسع وأوضح .
{إِنَّ اللَّهً كانَ عَلِيماً حَكِيماً} . عليم بأحوال عباده ، حكيم لأنه لا يأمرهم إلا بما فيه الخير والصلاح ، ولا ينهاهم إلا عما فيه الشر والفساد {يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ} . المراد بالرحمة هنا الجنة ، وقد اقتضت حكمته تعالى ومشيئته أن لا يدخل الجنة أحدا إلا بالجد والعمل ، والآيات كثيرة وواضحة الدلالة على ذلك ، منها قوله تعالى : {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ ولَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ ويَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} - 142 آل عمران . . وكيف يشاء سبحانه أن يدخل الجنة من ليس لها بأهل ، وقد أخرج منها آدم لمّا عصى ربه فغوى ؟ {والظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً} . للمتقين رحمة اللَّه وجنته : وللمجرمين غضبه وعذابه .
_______________________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج7 ، ص485-487 .
لما وصف جزاء الأبرار وما قدر لهم من النعيم المقيم والملك العظيم بما صبروا في جنب الله وجه الخطاب إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمره بالصبر لحكم ربه وأن لا يطيع هؤلاء الآثمين والكفار المحبين للعاجلة المتعلقين بها المعرضين عن الآخرة من المشركين وسائر الكفار والمنافقين وأهل الأهواء ، وأن يذكر اسم ربه ويسجد له ويسبحه مستمرا عليه ثم عمم الحكم لأمته بقوله : {إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا} .
فهذا وجه اتصال الآيات بما قبلها وسياقها مع ذلك لا يخلو من شبه بالسياقات المكية وعلى تقدير مكيتها فصدر السورة مدني وذيلها مكي .
قوله تعالى : {إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا} تصدير الكلام بأن وتكرار ضمير المتكلم مع الغير والإتيان بالمفعول المطلق كل ذلك للتأكيد ، ولتسجيل أن الذي نزل من القرآن نجوما متفرقة هومن الله سبحانه لم يداخله نفث شيطاني ولا هو نفساني .
قوله تعالى : {فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثما أو كفورا} تفريع على ما هو لازم مضمون الآية السابقة فإن لازم كون الله سبحانه هو الذي نزل القرآن عليه أن يكون ما في القرآن من الحكم حكم ربه يجب أن يطاع فالمعنى إذا كان تنزيله منا فما فيه من الحكم حكم ربك فيجب عليك أن تصبر له فاصبر لحكم ربك .
وقوله {ولا تطع منهم آثما أو كفورا} ورود الترديد في سياق النهي يفيد عموم الحكم فالنهي عن طاعتهما سواء اجتمعا أو افترقا ، والظاهر أن المراد بالإثم المتلبس بالمعصية وبالكفور المبالغ في الكفر فتشمل الآية الكفار والفساق جميعا .
وسبق النهي عن طاعة الإثم والكفور بالأمر بالصبر لحكم ربه يفيد كون النهي مفسرا للأمر فمفاد النهي أن لا تطع منهم آثما إذا دعاك إلى إثمه ولا كفورا إذا دعاك إلى كفره لأن إثم الآثم منهم وكفر الكافر مخالفان لحكم ربك وأما تعليق الحكم بالوصف المشعر بالعلية فإنما يفيد علية الإثم والكفر للنهي عن الطاعة مطلقا لا عليتهما للنهي إذا دعا الآثم إلى خصوص إثمه والكافر إلى خصوص كفره .
قوله تعالى : {واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا} أي داوم على ذكر ربك وهو الصلاة في كل بكرة وأصيل وهما الغدو والعشي .
قوله تعالى : {ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا} من للتبعيض والمراد بالسجود له الصلاة ، ويقبل ما في الآيتين من ذكر اسمه بكرة وأصيلا والسجود له بعض الليل الانطباق على صلاة الصبح والعصر والمغرب والعشاء وهذا يؤيد نزول الآيات بمكة قبل فرض الفرائض الخمس بقوله في آية الإسراء : {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء : 78] .
فالآيتان كقوله تعالى : {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} [هود : 114] ، وقوله {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ } [طه : 130] .
نعم قيل : على أن الأصيل يطلق على ما بعد الزوال فيشمل قوله {وأصيلا} وقتي صلاتي الظهر والعصر جميعا ، ولا يخلو من وجه .
وقوله : {وسبحه ليلا طويلا} أي في ليل طويل ووصف الليل بالطويل توضيحي لا احترازي ، والمراد بالتسبيح صلاة الليل ، واحتمل أن يكون طويلا صفة لمفعول مطلق محذوف ، والتقدير سبحه في الليل تسبيحا طويلا .
قوله تعالى : {إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا} تعليل لما تقدم من الأمر والنهي والإشارة بهؤلاء إلى جمع الإثم والكفور المدلول عليه بوقوع النكرة في سياق النهي ، والمراد بالعاجلة الحياة الدنيا ، وعد اليوم ثقيلا من الاستعارة ، والمراد بثقله شدته كأنه محمول ثقيل يشق حمله ، واليوم يوم القيامة .
وكون اليوم وراءهم تقرره أمامهم لأن وراء تفيد معنى الإحاطة ، أوجعلهم إياه خلفهم ووراء ظهورهم بناء على إفادة {يذرون} معنى الإعراض .
والمعنى : فاصبر لحكم ربك وأقم الصلاة ولا تطع الآثمين والكفار منهم لأن هؤلاء الآثمين والكفار يحبون الحياة الدنيا فلا يعملون إلا لها ويتركون أمامهم يوما شديدا أو يعرضون فيجعلون خلفهم يوما شديدا سيلقونه .
قوله تعالى : {نحن خلقناهم وشددنا أسرهم وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلا} الشد خلاف الفك ، والأسر في الأصل الشد والربط ويطلق على ما يشد ويربط به فمعنى شددنا أسرهم أحكمنا ربط مفاصلهم بالرباطات والأعصاب والعضلات أو الأسر بمعنى المأسور والمعنى أحكمنا ربط أعضائهم المختلفة المشدودة بعضها ببعض حتى صار الواحد منهم بذلك إنسانا واحدا .
وقوله : {وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلا} أي إذا شئنا بدلناهم أمثالهم فذهبنا بهم وجئنا بأمثالهم مكانهم وهو أماته قرن وإحياء آخرين ، وقيل المراد به تبديل نشأتهم الدنيا من نشأة القيامة وهو بعيد من السياق .
والآية في معنى دفع الدخل كان متوهما يتوهم أنهم بحبهم للدنيا وإعراضهم عن الآخرة يعجزونه تعالى ويفسدون عليه إرادته منهم أن يؤمنوا ويطيعوا فأجيب بأنهم مخلوقون لله خلقهم وشد أسرهم وإذا شاء أذهبهم وجاء بآخرين فكيف يعجزونه وخلقهم وأمرهم وحياتهم وموتهم بيده؟ .
قوله تعالى : {إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا} تقدم تفسيره في سورة المزمل والإشارة بهذه إلى ما ذكر في السورة .
قوله تعالى : {وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليما حكيما} الاستثناء من النفي يفيد أن مشية العبد متوقفة في وجودها على مشيته تعالى فلمشيته تعالى تأثير في فعل العبد من طريق تعلقها بمشية العبد ، وليست متعلقة بفعل العبد مستقلا وبلا واسطة حتى تستلزم بطلان تأثير إرادة العبد وكون الفعل جبريا ولا أن العبد مستقل في إرادة يفعل ما يشاؤه شاء الله أولم يشأ ، فالفعل اختياري لاستناده إلى اختيار العبد ، وأما اختيار العبد فليس مستندا إلى اختيار آخر ، وقد تكرر توضيح هذا البحث في مواضع مما تقدم .
والآية مسوقة لدفع توهم أنهم مستقلون في مشيتهم منقطعون من مشية ربهم ، ولعل تسجيل هذا التنبيه عليهم هو الوجه في الالتفات إلى الخطاب في قوله {وما تشاءون إلا أن يشاء الله} كما أن الوجه في الالتفات من التكلم بالغير إلى الغيبة في قوله : {يشاء الله إن الله} هو الإشارة إلى علة الحكم فإن مسمى هذا الاسم الجليل يبتدىء منه كل شيء وينتهي إليه كل شيء فلا تكون مشية إلا بمشيته ولا تؤثر مشية إلا بإذنه .
وقوله : {إن الله كان عليما حكيما} توطئة لبيان مضمون الآية التالية .
قوله تعالى : {يدخل من يشاء في رحمته والظالمين أعد لهم عذابا أليما} مفعول {يشاء} محذوف يدل عليه الكلام ، والتقدير يدخل في رحمته من يشاء دخوله في رحمته ، ولا يشاء إلا دخول من آمن واتقى ، وأما غيرهم وهم أهل الإثم والكفر فبين حالهم بقوله : {والظالمين أعد لهم عذابا أليما} .
والآية تبين سنته تعالى الجارية في عباده من حيث السعادة والشقاء ، وقد علل ذلك بما في ذيل الآية السابقة من قوله {إن الله كان عليما حكيما} فأفاد به أن سنته تعالى ليست سنة جزافية مبنية على الجهالة بل هو يعامل كلا من الطائفتين بما هو أهل له وسينبئهم حقيقة ما كانوا يعملون .
____________________________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج20 ، ص123-125 .
خمسة مبادئ مهمّة في تنفيذ حكم الله :
شرعت السورة منذ البداية وحتى هذه الآية في تبيان خلق الإنسان ثّم المعاد والبعث ، وفي هذه الآيات مورد البحث يتوجه الخطاب إلى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) باصدار أوامر مؤكّدة لهداية الناس والصبر والثبات في هذا الطريق ، وفي الواقع إنّ هذه الآيات تشير إلى أنّ نيل كل تلك النعم والمواهب الأُخروية لا يتمّ إلاّ بالتمسك بالقرآن وإتباع النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) واطاعة أوامره .
ويقول في البدء : {إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلاً} .
قال بعض العلماء إنّ مجيء (تنزيلاً) بصورة مفعول مطلق هو إشارة إلى النزول التدريجي للقرآن ، إذ لا يخفى الأثر التربوي لذلك ، وقيل هو إشارة إلى عظمة مقام هذا الكتاب السماوي وتأكيد نزوله من قبل الله تعالى ، خصوصاً ما ورد من التأكيدات الأُخرى في الآيات الآتية (التأكيد بأنّ ، ونحن ، والجملة الإسمية) وهو جواب لمن يتهم النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالكهانة والسحر والإفتراء على الله تعالى .
ثمّ يأمر النّبي بأمور خمسة ، أولها الدعوة إلى الصبر والإستقامة فيقول : {فاصبر لحكم ربّك} .
أي لا تخف من المشاكل ومن موانع الطريق وكثرة الأعداء وعنادهم واستقم في سيرك على الصراط المستقيم . والجدير بالإنتباه أنّ الأمر بالصبر (مع ملاحظة (فاء التفريع) في (فاصبر) متفرع على نزول القرآن من الله تعالى ، أي إذا كان الله قد أيّدك وحماك فيجب عليك أن تصبر في هذا الطريق ، والتعبير بـ (الرب) إشارة لطيفة أُخرى إلى نفس هذا المعنى .
والأمر الثّاني الموجّه للنّبي (صلى الله عليه وآله) هو تحذيره من أي توافق مع المنحرفين ، فيقول تعالى : {ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً} .
في الحقيقة أنّ هذا الحكم هو تأكيد ثان على الحكم الأوّل ، لأنّ جموع الأعداء كانوا يسعون بطرق مختلفة للتوافق مع النّبي وجرّه إلى طريق الباطل ، كما نقل أنّ «عتبة بن ربيعة» و«الوليد بن المغيرة» قالا لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : إن تركت دعوتك ، فإنّنا سنغنيك حتى ترضى ، ونزوجك أجمل بنات العرب ، وعروض أُخرى من هذا القبيل ، فما كان على الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) هنا باعتباره المرشد الحقيقي والعظيم إلاّ أن يقف أمام هذه الوساوس الشيطانية والتهديدات التي صدرت منهم بعد ذلك ، ولا يستسلم للترغيب أو الترهيب .
صحيح أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكن قد استسلم ، ولكن هذا التأكيد يشير الى أهمية الموضوع ليكون نموذجاً خالداً لسائر مرشدي طريق الله عزَّ وجلّ رغم أنّ بعض المفسّرين ذهبوا الى أنّ (آثماً) هو عتبة بن ربيعة ، و«كفور» هو الوليد بن المغيرة أو أبو جهل ، وهم من مشركي العرب ، ولكنّ الواضح أنّ كل من (آثم) أي (العاصي) و«كفور» أي (المبالغ في الكفر) له معنى واسع إذ يشمل جميع المجرمين والمشركين وإن كان هؤلاء الثلاثة من مصاديقها الواضحة ، والملاحظ أنّ (آثماً) له مفهوم عام يستوعب بذلك (الكفور) أيضاً ، لذا فإنّ ذكر (كفور) كذكر الخاص بعد العام للتأكيد .
ولكن بما أنّ الصبر والإِستقامة في مقابل هذه المشكلات العظيمة ليس بالامر اليسير ، كان من الضروري لسلوك هذا الطريق التزّود بنوعين من الزاد ، لذا يضيف القرآن في الآية الأُخرى : {واذكر اسم ربّك بكرة وأصيلاً} أي في كل صباح ومساء ، . ويقول تعالى أيضاً : {ومن الليل فاسجد له وسبّحه ليلاً طويلاً} .
لتتوفر لديك في ظل ذلك الذكر وهذا السجود والتسبيح قوّة كافية وقدرة معنوية لمواجهة مشاكل هذا الطريق .
(بكرة) على وزن (نكتة) يعني بداية اليوم ، و (أصيل) نقيض بكرة ، أي آخر اليوم .
وقيل إنّ إطلاق هذه اللفظة على آخر اليوم مع أنّها مشتقة من مادة (أصل) هو كون آخر اليوم يشكل الأصل والأساس للّيل .
ويستفاد من بعض التعابير أنّ (أصيل) تطلق أحياناً على الفترة ما بين الظهر والغروب (مفردات الراغب الأصفهاني) .
ويظهر من آخرين أنّ (أصل) يقال لأوائل الليل ، لأنّهم فسروا ذلك بـ «العشي» والعشي هو بداية الليل كما يقال لصلاتي المغرب والعشاء بالعشائين ، حتى أنّه يستفاد من بعض الكلمات أنّ «العشي» هومن زوال الظهر حتى صباح الغد (2) ولكنّ بالإلتفات إلى أنّ كلمة (أصيل) وردت في الآية الشريفة في مقابل «بكرة» ثمّ تحدثت الآية بعد ذلك عن العبادة الليلية . يتّضح أنّ المراد هو الطرف الآخر للنهار .
على كل حال فإنّ هاتين الآيتين في الحقيقة تأكيد لضرورة التوجّه الدائم والمستمر لذات الله المقدسة .
وقال آخرون : إنّ المراد هو الصلوات الخمس ، أو بإضافة صلاة الليل ، أو خصوص صلاة الصبح والعصر والمغرب والعشاء ولكنّ الظاهر هو أنّ هذه الصلوات مصاديق من هذا الذكر الإلهي المستمر والتسبيح والسجدة لمقامه المقدس .
التعبير بـ (ليلاً طويلاً) إشارة إلى ضرورة التسبيح لفترة طويلة من الليل ، ففي حديث عن الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) لمّا سئل عن المقصود من التسبيح في هذه الآية؟ قال (عليه السلام) : «هو صلاة الليل» (3) .
ولا يستبعد أن يكون هذا التفسير من باب تبيان المصداق الواضح لما تترك صلاة الليل من الأثر البالغ في تقوية روح الإيمان ، وتهذيب النفوس . والحفاظ على حيوية إرادة الإنسان في طريق طاعة الله .
ويجب هنا الإلتفات إلى أنّ الأوامر الخمسة المذكورة في الآيات أعلاه وإن ذكرت بصورة منهج للنّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فهي في الحقيقة دستوراً يحتذي به كلّ من يخطو في مسير قيادة المجتمع البشري ، إنّهم يجب أن يعلموا بعد الإيمان الكامل بأهدافهم ورسالتهم بضرورة احتراف الصبر والإستقامة ، وأن لا يستوحشوا من كثرة مشاكل الطريق ، لأنّ هداية المجتمع من المشاكل العظيمة ، وهي كذلك دائماً ، ولم تثمر الرسالة إن لم يمتلك قادتها الصبر والإستقامة .
وفي المرحلة الأُخرى يجب الثبات التام أمام الوساوس الشيطانية والتي تعتبر مصداقاً للآثم والكفور ، والثبات أمام سعيهم في حرف القادة والأئمة بأنواع الحيل والمكائد ، وأن لا ينخدعوا بالتطميع ولا يتأثروا بالتهديد ، ويذكروا الله تعالى في كل المراحل لاكتساب القدرة الروحية وقوة الإرادة والعزم الراسخ ، والإستمداد من العبادات الليلية ، والمناجات مع الله ، فإذا ما روعيت هذه الاُمور فالنصر حتميٌ ، وحتى لو عرضت مصيبة أو هزيمة فإنّه يمكن إصلاحها من خلال هذه الأُصول ، ومنهج الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وسلوكه في دعوته نموذج مؤثر لجميع السالكين في هذا الطريق .
وقوله تعالى : {إِنَّ هَؤُلاَءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَآءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (27) نَّحْنُ خَلَقْنَهُمْ وَشَدَدْنَآ أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَآ أَمْثَلَهُمْ تَبْدِيلاً (28) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَآءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً (29) وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللهُ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً (30) يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِى رَحْمَتِهِ وَالظَّلِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} .
تحذير مع بيان السبيل !!
رأينا في الآيات السابقة تحذيراً للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لكي لا يقع تحت تأثير كل آثم أو كفور من المجرمين ، والتاريخ يشهد أنّهم كانوا يستعينون لسذاجتهم بالمال والجاه والنساء للنفوذ في إرادة النبي (صلى الله عليه وآله) وعزمه على ادامة الدعوة .
الآيات اعلاه عرّفت الأعداء بشكل أكثر وقالت : {إنّ هؤلاء يحبّون العاجلة ويذرون وراءهم يوماً ثقيلاً} . لا تتعدى أُفق أفكارهم دائرة الطعام والنوم والشهوة ، وتمثل هذه اللذائذ المادّية الرخيصة أسمى غاية لهم في الحياة .
والعجيب أنّهم قاسوا روح النّبي (صلى الله عليه وآله) العظيمة بهذا المقياس! ولم ينتبه هؤلاء الغافلين إلى اليوم الثقيل الذي ينتظرهم ، ثقيل من حيث العقوبات ، ثقيل من حيث المحاسبة ، وثقيل من حيث طول الزمان وشدّة الفضيحة .
وقد جاء التعبير بـ (وراءهم) مع أنّ المفروض أن يقال (أمامهم) لأنّهم نسوا ذلك اليوم ، وكأنّهم تركوه وراءهم ، ولكن على قول بعض المفسّرين أنّ كلمة (وراء) تستعمل أحياناً بمعنى «خلف» وأحياناً بمعنى «أمام» (4) .
الآية التالية تحذرهم من الاغترار بقوتهم وقدرتهم ، إذ أنّ الله الذي أعطاهم إيّاها قادر على أن يستردها بسرعة متى شاء ، فيقول تعالى : {نحن خلقناهم وشددنا أسرهم وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلاً} (5) .
(أسر) على وزن (عصر) وأصلهُ الربط بالقيد ، ولهذا سمي الأسير بهذا الاسم لربطه وشدّه ، وهنا إشارة إلى استحكام خلقة الإنسان بحيث يقدر على مزاولة مختلف النشاطات والفعاليات المهمّة .
هنا يشير القرآن إلى نقطة حساسة ، وهي الأعصاب الصغيرة والكبيرة التي تشدّ العضلات فيما بينها كالحبال الحديدية وتربط بعضها بالبعض الآخر ، وحتى المفاصل والعضلات المختلفة وقطع العظام الصغيرة والكبيرة وأعضاء الانسان بحيث يتكون من مجموع ذلك إنسان واحد مهيأ للقيام بأية فعالية ، وعلى كل حال فهذه الجملة كناية عن القدرة والقوّة .
وتوضّح هذه الآية ضمناً استغناء ذات الله المقدّسة ، عنهم ، وعن طاعتهم وإيمانهم ، ليعلموا أنّ الاصرار على إيمانهم في الحقيقة هومن رحمة الله بهم .
وقد ورد نظير هذا المعنى في الآية (133) من سورة الأنعام اِذ يقول : {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ } [الأنعام : 133] .
ثمّ أشار تعالى إلى جميع البحوث الواردة في هذه السورة والتي تشكل بمجموعها برنامجاً متكاملاً للحياة السعيدة ، فيقول تعالى : {إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلاً} (6) .
إن علينا إيضاح الطريق ، لا اجباركم على اختيار الطريق ، وعليكم تمييز الحق من الباطل بما لديكم من العقل والإدراك ، واتخاذ القرار بإرادتكم واختياركم ، وهذا في الحقيقة تأكيداً على ما جاء في صدر السورة في قوله : {إنا هديناه السبيل إمّا شاكراً وإمّا كفوراً} .
وقد يتوهّم بعض السذّج من العبارة أعلاه أنّها تعني التفويض المطلق للعباد ، فجاءت الآية التالية لتنفي هذا التصور وتضيف : {وما تشاءُون إلاّ أن يشاء الله إن الله كان عليماً حكيماً} (7) .
وهذا في الحقيقة إثبات لأصل مشهور هو (الأمر بين الأمرين) ، إذ يقول من جهة : (إنا هديناه السبيل) فعليكم أن تختاروا ما تريدون ، ويضيف من جهة أُخرى : {وما تشاءُون إلا أن يشاء الله} أي ليس لكم لإستقلال الكامل ، بل إن قدرتكم واستطاعتكم وحريتكم لا تخرج عن دائرة المشيئة الإلهية ، وهو قادر على أن يسلب هذه القدرة والحرية متى شاء .
من هذا يتّضح أنّه لا جبر ولا تفويض في الأوامر ، بل إنّها حقيقة دقيقة وظريفة بين الأمرين ، أو بعبارة أُخرى : إنّها نوع من الحرية المرتبطة بالمشيئة الإلهية ، إذ يمكن سلبها متى يشاء ليتسنى للعباد تحمل ثقل المسؤولية الذي يعتبر رمزاً للتكامل من جهة ، ومن جهة أُخرى أن لا يتوهموا استغنائهم عن الله تعالى .
والخلاصة ، أنّ هذه الآية تدعو الانسان إلى أن لا يتوهّم أنّه مستغن عن رعاية الله وتوفيقه . وفي نفس الوقت تؤكد حريته في أعماله وسلوكه .
ويتضح هنا أنّ تمسك بعض المفسّرين القائلين بالجبر كالفخر الرازي بهذه الآية بسبب الخلفيات الذهنية المسبقة في هذه المسألة ، فيقول : واعلم أنّ هذه الآية من جملة الآيات التي تلاطمت فيها أمواج الجبر والقدر! (8) نعم ، إذا فَصَلنا هذه الآية عن الآيات السابقة فهناك محلّ لهذا الوهم . ولكن بالإلتفات إلى ما ورد من تأثير الإختيار في آية ، وفي آية أُخرى تأثير المشيئة الإلهية ، يتّضح بصورة جيدة مفهوم (الأمر بين الأمرين) .
وعجيب أن أنصار التفويض يتمسكون بتلك الآية التي تتحدث عن الإختيار المطلق فقط ، وأنصار الجبرية يتمسكون بالآية التي تشير إلى الجبر فقط ، ويريد كل منهما تبرير أحكامهم المسبقة بتلك الآية ، والحال أنّ الفهم الصحيح للكلام الإلهي (أوأي كلام آخر) يستوجب ضمّ الآيات جنباً إلى جنب ، وترك التعصب والقضاء بالأحكام المسبقة .
ولعلّ آخر الآية : {إن الله كان عليماً حكيماً} . يشير حكمه إلى هذا المعنى ، لأنّ حكمة الله تستوجب إعطاء الحرية للعباد في سلوك طريق التكامل ، وإلاّ فإنّ التكامل الإجباري لا يعدّ تكاملاً ، بالإضافة إلى أنّ حكمة الله لا تتفق مع فرض الأعمال الخيرة على أُناس وفرض الأعمال الشريرة على أُناس آخرين ، ثمّ أنّه يثيب الجماعة الأُولى ويعاقب الثانية .
ثمّ تشير الآية الأُخرى بعد ذلك إلى مصير الصالحين والطالحين في جملة قصيرة غنية المحتوى إذ تقول الآية : {يدخل من يشاء في رحمته والظالمين أعدّ لهم عذاباً أليماً} والظريف أنّ صدر الآية يقول : {يدخل من يشاء في رحمته} ويقول ذيلها : {والظالمين أعد لهم عذاباً أليماً} وهذا يشير إلى أنّ مشيئته تعالى بعقوبة الانسان تتبع مشيئة الإنسان للظلم والمعاصي ، وبقرينة المقابلة يتّضح أنّ مشيئته تعالى في الرحمة تتبع إرادة الإنسان في الإيمان والعمل الصالح وإقامة العدل ، ولا يمكن أن يكون هذا الأمر إلاّ من حكيم .
والعجيب أنّ مع هذه القرينة فهناك أفراد كالفخر الرازي ممن يتخذ صدر هذه الآية دليلاً على مسألة الجبر من دون الإلتفات إلى آخر الآية التي يتحدث عن حرية الإرادة في أعمال الظالمين (9) .
__________________________________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج14 ، ص636-643 .
2 ـ مفردات الراغب .
3 ـ مجمع البيان ، ج 10 ، ص 413 .
4 ـ جاء في تفسير (روح البيان) أن كلمة (وراء) إذا أُضيفت إلى الفاعل فإنّها تعني الخلف ، وإذا أُضيفت إلى المفعول فإنّها بمعنى «الأمام» روح البيان ، ج 8 ، ص 439 .
5 ـ في هذه الآية حذف ، وفي التقدير (بدلناهم أمثالهم) كلمة (تبديل) غالباً ما تأخذ مفعولين وهنا الضمير (هم) مفعول أوّل و (أمثالهم) مفعول ثان .
6 ـ قيل أن في الآية حذف ، والتقدير : (فمن شاء اتخذ إلى رضى ربّه سبيلاً) ولكن الحق عدم احتياج الآية للتقدير ، لأن جميع طرق التكامل تنتهي إلى الله تعالى .
7 ـ جمع من المفسرين قالوا أن جملة (إن يشاء الله) محلها من الإعراب منصوبة على الظرفية فيكون المعنى : (ما تشاءُون إلا وقت مشيئة الله) ويحتمل أن التقدير هنا (شيئاً) فيكون المعنى : (وما تشاءُون إلا شيئاً يشاء الله) .
8 ـ تفسير الفخر الرازي ج 30 ص 262 .
9 ـ لمزيد من التوضيح حول آيات (المشيئة) راجع تفسير الآية 37 سورة الزمر .
|
|
مخاطر عدم علاج ارتفاع ضغط الدم
|
|
|
|
|
اختراق جديد في علاج سرطان البروستات العدواني
|
|
|
|
|
مدرسة دار العلم.. صرح علميّ متميز في كربلاء لنشر علوم أهل البيت (عليهم السلام)
|
|
|