أقرأ أيضاً
التاريخ: 10-10-2017
7910
التاريخ: 10-10-2017
7776
التاريخ: 10-10-2017
9994
التاريخ: 10-10-2017
8976
|
قال تعالى : {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَو أَلْقَى السَّمْعَ وَهُو شَهِيدٌ (37) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40) وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ } [ق : 36 - 45].
خوف الله سبحانه كفار مكة فقال {وكم أهلكنا قبلهم من قرن} أي كثيرا أهلكنا قبل هؤلاء من القرون الذين كذبوا رسلهم {هم أشد منهم بطشا} أي الذين أهلكناهم كانوا أشد قوة من هؤلاء وأكثر عدة وعدّة(2) ولم يتعذر علينا ذلك فما الذي يؤمن هؤلاء من مثله {فنقبوا في البلاد} أي فتحوا المسالك في البلاد بشدة بطشهم أصله من النقب وهو الطريق وقيل معناه ساروا في البلاد وطوفوا فيها بقوتهم وسلكوا كل طريق وسافروا في أعمار طويلة.
{هل من محيص} أي هل من محيد عن الموت ومنجى من الهلاك يعني لم يجدوا في جميع ذلك من الموت والهلاك منجى ومهربا {إن في ذلك} أي فيما أخبرته وقصصته {لذكرى} أي ما يعتبر به ويتفكر فيه {لمن كان له قلب} معنى القلب هنا العقل عن ابن عباس من قولهم أين ذهب قلبك وفلان قلبه معه وإنما قال ذلك لأن من لا يعي الذكر لا يعتد بما له من القلب وقيل لمن كان له قلب حي .
عن قتادة {أو ألقى السمع وهو شهيد} أي استمع ولم يشغل قلبه بغير ما يستمع وهو شهيد لما يسمع فيفقهه غير غافل عنه ولا ساه عن ابن عباس ومجاهد والضحاك يقال ألق إلي سمعك أي اسمع قال ابن عباس كان المنافقون يجلسون عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) ثم يخرجون فيقولون ما ذا قال آنفا(3)؟ ليس قلوبهم معهم وقيل هو شهيد على صفة النبي في الكتب السالفة يريد أهل الكتاب عن قتادة {ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب} أي نصب وتعب أكذب الله تعالى بهذا اليهود فإنهم قالوا استراح الله يوم السبت فلذلك لا تعمل(4) فيه شيئا.
{فاصبر على ما يقولون} يا محمد من بهتهم وكذبهم وقولهم إنك ساحر أو مجنون واحتمل ذلك حتى يأتي الله بالفرج وهذا قبل أن أمر الله بالقتال {وسبح بحمد ربك} أي وصل وأحمد الله تعالى سمي الصلاة تسبيحا لأن الصلاة تشتمل على التسبيح والتحميد عن ابن عباس وقتادة وابن زيد وقيل أراد به التسبيح بالقول تنزيها لله تعالى عما لا يليق به {قبل طلوع الشمس وقبل الغروب} يعني صلاة الفجر وصلاة الظهر والعصر عن قتادة وابن زيد {ومن الليل فسبحه} يعني المغرب والعشاء الآخرة وقيل ومن الليل يعني صلاة الليل ويدخل فيه صلاة المغرب والعشاء عن مجاهد وروي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه سئل عن قوله {وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب} فقال تقول حين تصبح وحين تمسي عشرات مرات لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير.
{وأدبار السجود} فيه أقوال ( أحدها ) أن المراد به الركعتان بعد المغرب وإدبار النجوم الركعتان قبل الفجر عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) والحسن بن علي (عليهما السلام) والحسن والشعبي وعن ابن عباس مرفوعا إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) ( وثانيها ) أنه التسبيح بعد كل صلاة عن ابن عباس ومجاهد ( وثالثها ) أنه النوافل بعد المفروضات عن ابن زيد والجبائي ( ورابعها ) أنه الوتر من آخر الليل روي ذلك عن أبي عبد الله (عليه السلام) .
وقوله تعالى : {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [ق: 41 - 45]
ثم قال سبحانه لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) والمراد به جميع المكلفين {واستمع يوم يناد المناد من مكان قريب} أي أصغ إلى النداء وتوقعه يعني صيحة القيامة والبعث والنشور ينادي بها المنادي وهي النفخة الثانية ويجوز أن يكون المراد واستمع ذكر حالهم يوم ينادي المنادي وقيل أنه ينادي مناد من صخرة بيت المقدس أيتها العظام البالية والأوصال المنقطعة واللحوم المتمزقة قومي لفصل القضاء وما أعد الله لكم من الجزاء عن قتادة وقيل أن المنادي هو إسرافيل يقول يا معشر الخلائق قوموا للحساب عن مقاتل وإنما قال من مكان قريب لأنه يسمعه الخلائق كلهم على حد واحد فلا يخفى على أحد قريب ولا بعيد فكأنهم نودوا من مكان يقرب منهم.
{يوم يسمعون الصيحة بالحق} والصيحة المرة الواحدة من الصوت الشديد وهذه الصيحة(5) هي النفخة الثانية وقوله {بالحق} أي بالبعث عن الكلبي وقيل يعني إنها كائنة حقا عن مقاتل {ذلك يوم الخروج} من القبور إلى أرض الموقف وقيل هو اسم من أسماء القيامة عن أبي عبيدة واستشهد بقول الشاعر :
{إنا نحن نحيي ونميت} أخبر سبحانه عن نفسه أنه هو الذي يحيي الخلق بعد أن كانوا جمادا أمواتا ثم يميتهم بعد أن كانوا أحياء ثم يحييهم يوم القيامة وهو قوله {وإلينا المصير يوم تشقق} أي تتشقق {الأرض عنهم} تتصدع فيخرجون منها {سراعا} يسرعون إلى الداعي بلا تأخير {ذلك حشر} والحشر الجمع بالسوق من كل جهة {علينا يسير} أي سهل علينا غير شاق هين غير متعذر مع تباعد ديارهم وقبورهم.
ثم عزى سبحانه نبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) فقال {نحن أعلم بما يقولون} أي بما يقوله هؤلاء الكفار في تكذيبك وجحود نبوتك وإنكار البعث لا يخفى علينا من أمرهم شيء {وما أنت عليهم بجبار} أي بمسلط قادر على قلوبهم فتجبرهم على الإيمان وإنما بعثت منذرا داعيا مرغبا وهذا معنى قول ابن عباس وقال تغلب جاءت أحرف على فعال بمعنى مفعل مثل دراك بمعنى مدرك وسراع بمعنى مسرع وسيف سقاط بمعنى مسقط وبكاء بمعنى مبكى قال علي بن عيسى لم يسمع من ذلك الإدراك من أدركت وقيل جبار من جبرته على الأمر بمعنى أجبرته وهي لغة كنانة وقيل معناه ما أنت عليهم بفظ غليظ لا تحلم عنهم فاحتمل أذاهم {فذكر بالقرآن من يخاف وعيد} إنما خص بالذكر من يخاف وعيد الله لأنه الذي ينتفع به .
_____________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج9 ، ص248-
2- في المخطوطة : مدة بدل عدة.
3- فيها ايضا [أي] .
4- وفي بعض النسخ : لا نعمل .
5- وفي نسخة : من النفخة الثانية .
{ وكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ} . نقبوا في البلاد طافوا فيها ، والمحيص المهرب ، والمعنى كان في الزمان الغابر أمم أكثر حضارة وأقوى عدة وعددا من الذين كذبوك يا محمد ، وكانت لهم صلات مع كثير من البلاد ، كل ذلك وما إليه لم يغن عنهم حين نزل بهم العذاب ، ولم يجدوا من أمر اللَّه مهربا ألا يخشى قومك أن يصيبهم مثل ما أصاب الماضين ؟ وتكرر هذا التذكير في آيات كثيرة ، منها الآية 9 من سورة الروم ج 6 ص 132 { إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَو أَلْقَى السَّمْعَ وهُو شَهِيدٌ } . ذلك إشارة إلى التذكير بهلاك الماضين ، وذكرى تذكرة وعبرة ، وله قلب أي سليم ، وألقى السمع أي استمع وأصغى إلى ما يتلى عليه من العظات ، وشهيد حاضر القلب والعقل ، والمعنى ان الذي ذكرناه عن هلاك المكذبين عظة كافية شافية لمن أبصر واعتبر . {ولَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ والأَرْضَ وما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ} أي تعب ، والأيام الستة كناية عن الدفعات أوعن تطور الكون من حال إلى حال . انظر تفسير الآية 54 من سورة الأعراف ج 3 ص 338 .
{فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ} من الأباطيل والسفه ، فإن العاقبة لمن صبر صبّر الأحرار {وسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ}إشارة إلى صلاة الفجر {وقَبْلَ الْغُرُوبِ} صلاة العصر {ومِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ} صلاة المغرب والعشاء . وتقدم مثله في الآية 129 من سورة طه ج 5 ص 254 {وأَدْبارَ السُّجُودِ} إشارة إلى التعقيب والصلاة النافلة بعد الانتهاء من الفريضة {واسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ} . الخطاب في استمع لرسول اللَّه ( صلى الله عليه واله وسلم ) ، ويوم ينادي على حذف مضاف أي استمع لما نوحيه إليك من حديث يوم النداء ، لا نفس النداء ، والمراد بالمكان القريب ان النداء يسمعه الجميع حتى كأن المنادي قريب منهم على الرغم من ان الصيحة تأتي من السماء ، وبهذا يتبين وجه الجمع والتوفيق بين هذه الآية وبين قوله تعالى : {أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ} - 44 فصلت . والمعنى استمع لما نحدثك به يا محمد عن صيحة البعث
للحساب والجزاء ، وهذه الصيحة بعيدة بالنظر إلى أنها تأتي من السماء وقريبة بالنظر إلى انها تصل إلى كل سمع حتى إسماع الموتى ، فيخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر : {هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ ورُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ} - 30 يونس .
{ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي ونُمِيتُ وإِلَيْنَا الْمَصِيرُ } . الحياة والموت بيد اللَّه ، واليه مصير الخلائق . وتقدم مثله مرارا ، من ذلك الآية 56 من سورة يونس {يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ} . تنشق الأرض عن الأولين والآخرين فيخرجون من قبورهم مسرعين ، وهم أكثر عددا من النمل والرمل ، وأحسنهم حالا من وجد لقدميه موضعا ، ولنفسه متسعا كما قال الإمام علي ( ع ) .
( نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ ) من تكذيب الرسول ونفي البعث {وما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} . فتجبرهم وترغمهم على الايمان باللَّه واليوم الآخر ، انما أنت مذكر {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ} . ومن لا يخاف أيضا لإلقاء الحجة عليه ، وإنما خص سبحانه الخائف بالذكر للإشارة إلى أنه هو الذي ينتفع بالتذكير دون غيره ، ومثله : {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى ويَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى} - 9 الأعلى .
فقوله تعالى : {ويَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى} دليل قاطع على ان الأمر بالتذكير عام ، نفعت الذكرى أم لم تنفع .
_______________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج7 ، ص138-140.
قوله تعالى: {وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا فنقبوا في البلاد هل من محيص} التنقيب السير، المحيص المحيد والمنجا.
وفي الآية تذييل الاحتجاج بخلق الإنسان والعلم به وبيان سيره إلى الله بالتخويف والإنذار نظير ما جرى عليه الكلام في صدر السورة من الاحتجاج على المعاد وتذييله بالتخويف والإنذار في قوله: {كذبت قبلهم قوم نوح وأصحاب الرس وثمود} إلخ.
والمعنى: وكثيرا ما أهلكنا قبل هؤلاء المشركين من قرن هم أي أهل ذلك القرن أشد بطشا منهم أي من هؤلاء المشركين فساروا ببطشهم في البلاد ففتحوها وتحكموا عليها هل من محيد ومنجا من إهلاك الله وعذابه؟.
قوله تعالى: {إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد} القلب ما يعقل به الإنسان فيميز الحق من الباطل والخير من الشر والنافع من الضار، فإذا لم يعقل ولم يميز فوجوده بمنزلة عدمه إذ ما لا أثر له فوجوده وعدمه سواء، وإلقاء السمع هو الاستماع كأن السمع شيء يلقى إلى المسموع فيناله ويدركه والشهيد الحاضر المشاهد.
والمعنى: أن فيما أخبرنا به من الحقائق وأشرنا إليه من قصص الأمم الهالكة لذكرى يتذكر بها من كان يتعقل فيدرك الحق ويختار ما فيه خيره ونفعه أو استمع إلى حق القول ولم يشتغل عنه بغيره والحال أنه شاهد حاضر يعي ما يسمعه.
والترديد بين من كان له قلب ومن استمع شهيدا لمكان أن المؤمن بالحق أحد رجلين إما رجل ذو عقل يمكنه أن يتناول الحق فيتفكر فيه ويرى ما هو الحق فيذعن به، وإما رجل لا يقوى على التفكر حتى يميز الحق والخير والنافع فعليه أن يستمع القول فيتبعه، وأما من لا قلب له يعقل به ولا يسمع شهيدا على ما يقال له ويلقى إليه من الرسالة والإنذار فجاهل متعنت لا قلب له ولا سمع، قال تعالى: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 10].
قوله تعالى: {ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب} اللغوب التعب والنصب، والمعنى ظاهر.
وخاتمة السورة يأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيها أن يصبر على ما يقولون مما يرمونه بنحو السحر والجنون والشعر، وما يتعنتون به باستهزاء المعاد والرجوع إلى الله تعالى فيأمره (صلى الله عليه وآله وسلم) بالصبر وأن يعبد ربه بتسبيحه وأن يتوقع البعث بانتظار الصيحة، وأن يذكر بالقرآن من يخاف الله بالغيب.
قوله تعالى: {فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب} تفريع على جميع ما تقدم من إنكار المشركين للبعث، ومن تفصيل القول في البعث والحجة عليه، ومن وعيد المنكرين له المكذبين للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتهديدهم بمثل ما جرى على المكذبين من الأمم الماضية.
وقوله: {وسبح بحمد ربك} إلخ، أمر بتنزيهه تعالى عما يقولون مصاحبا للحمد ومحصله إثبات جميل الفعل له ونفي كل نقص وشين عنه تعالى، والتسبيح قبل طلوع الشمس يقبل الانطباق على صلاة الصبح، والتسبيح قبل الغروب يقبل الانطباق على صلاة العصر أو عليها وعلى صلاة الظهر.
قوله تعالى: {ومن الليل فسبحه وأدبار السجود} أي ومن الليل فسبحه فيه، ويقبل الانطباق على صلاتي المغرب والعشاء.
وقوله: {وأدبار السجود} الأدبار جمع دبر وهوما ينتهي إليه الشيء وبعده، وكان المراد بأدبار السجود بعد الصلوات فإن السجود آخر الركعة من الصلاة فينطبق على التعقيب بعد الصلوات، وقيل: المراد به النوافل بعد الفرائض، وقيل: المراد به الركعتان أو الركعات بعد المغرب وقيل: ركعة الوتر في آخر الليل.
قوله تعالى: {واستمع يوم يناد المناد من مكان قريب} فسروا الاستماع بمعان مختلفة والأقرب أن يكون مضمنا معنى الانتظار و{يوم يناد المناد{ مفعوله والمعنى: وانتظر يوما ينادي فيه المنادي ملقيا سمعك لاستماع ندائه، والمراد بنداء المنادي نفخ صاحب الصور في الصور على ما تفيده الآية التالية.
وكون النداء من مكان قريب لإحاطته بهم فيقع في سمعهم على نسبة سواء لا تختلف بالقرب والبعد فإنما هو نداء البعث وكلمة الحياة.
قوله تعالى: {يوم يسمعون الصيحة بالحق ذلك يوم الخروج} بيان ليوم ينادي المنادي، وكون الصيحة بالحق لأنها مقضية قضاء محتوما كما مر في قوله: {وجاءت سكرة الموت بالحق{ الآية.
وقوله: {ذلك يوم الخروج} أي يوم الخروج من القبور كما قال تعالى: {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا} [المعارج: 43].
قوله تعالى: {إنا نحن نحيي ونميت وإلينا المصير} المراد بالإحياء إفاضة الحياة على الأجساد الميتة في الدنيا، وبالإماتة الإماتة في الدنيا وهي النقل إلى عالم القبر، وبقوله: {وإلينا المصير} الإحياء بالبعث في الآخرة على ما يفيده السياق.
قوله تعالى: {يوم تشقق الأرض عنهم سراعا ذلك حشر علينا يسير} أصل {تشقق} تتشقق أي تتصدع عنهم فيخرجون منها مسارعين إلى الداعي.
وقوله: {ذلك حشر علينا يسير} أي ما ذكرنا من خروجهم من القبور المنشقة عنهم سراعا جمع لهم علينا يسير.
قوله تعالى: {نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد} في مقام التعليل لقوله: {فاصبر على ما يقولون} الآية، والجبار المتسلط الذي يجبر الناس على ما يريد.
والمعنى: فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك وانتظر البعث فنحن أعلم بما يقولون سنجزيهم بما عملوا ولست أنت بمتسلط جبار عليهم حتى تجبرهم على ما تدعوهم إليه من الإيمان بالله واليوم الآخر وإذا كانت حالهم هذه الحال فذكر بالقرآن من يخاف وعيدي.
_________________________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج18 ، ص289-294.
بعد الانتهاء من بيان الحديث حول أهل الجنّة وأهل النار ودرجاتهما، فإنّ القرآن يلفت أنظار المجرمين للعبرة والإستنتاج فيقول: {وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشدّ منهم بطشاً فنقّبوا في البلاد} فكانت تلك الأقوام أقوى من هؤلاء وكانوا يفتحون البلدان ويتسلّطون عليها، إلاّ أنّهم وبسبب كفرهم وظلمهم أهلكناهم .. فهل وجدوا منفذاً ومخرجاً للخلاص من الموت والعذاب الإلهي {هل من محيص}؟!
«القرن» و «الإقتران» في الأصل هو «القرب» أو «الإقتراب» ما بين الشيئين أو الأشياء، ويطلق لفظ «القرن» على الجماعة المتزامنة في فترة واحدة، ويجمع على «قرون» ثمّ أطلق هذا اللفظ على فترة من الزمن حيث يطلق على ثلاثين سنة أحياناً كما يطلق على مئة سنة أيضاً، فإهلاك القرون معناه إهلاك الاُمم السابقة.
و«البطش» معناه حمل الشيء وأخذه بالقوّة والقدرة، كما يستعمل هذا اللفظ بمعنى الفتك والحرب.
و «نقّبوا»: فعل من مادّة نقب، ومعناه الثقب في الجدار أو الجلد، غير أنّ الثقب يطلق على ما يقع في الخشب، والنقب معناه أعمّ وأوسع.
وهذه المفردة إذا استعملت كفعل كما هو في الآية فيعني ذلك الحركة والسير وشقّ الطريق، كما يعني السيطرة على البلدان والنفوذ فيها أيضاً.
«المنقبة»: من المادّة ذاتها، وتطلق على الصفات البارزة في الشخص وأفعاله الكريمة التي لها تأثير ونفوذ في نفوس الآخرين، أو أنّها تشقّ له الطريق في الإرتقاء والسمو!
و«النقيب»: هومن يبحث عن أحوال جماعة ما ويطّلع على أخبارهم وينفذ في أنفسهم.
و«المحيص»: كلمة مشتقّة من الحيص على زنة «الحيف»، ومعناها الإنحراف والعدول عن الشيء، ومن هنا فقد إستعملت هذه الكلمة في الفرار من المشاكل والهزيمة عن المعركة!.
وعلى كلّ حال فإنّ الآية تنذر الكفّار المعاصرين للنّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يستقرئوا تاريخ الماضين وأن ينظروا في قصصهم للإعتبار، ليروا ما صنع بهؤلاء المعاندين .. الذين كانوا اُمماً وأقواماً أشدّ من هؤلاء «وليفكّروا بعاقبتهم أيضاً» وهذا المعنى ورد مراراً في القرآن منها الآية 8 من سورة الزخرف إذ نقرأ قوله تعالى: {فأهلكنا أشدّ منهم بطشاً}.
ويرى بعض المفسّرين أنّ الآية محلّ البحث تشير إلى «ثمود» هذه الطائفة التي كانت تسكن مناطق جبلية تدعى «بالحجر» وتقع شمال الحجاز، فكانت تقطنها وتنقّب في الجبال وتحفر صخورها فتصنع منها القصور الرائعة، غير أنّ ظاهر النصّ أنّ هذه الآية مفهومها واسع، فيشمل هؤلاء وغيرهم أيضاً.
أمّا جملة (هل من محيص) فيحتمل أن تكون سؤالا على لسان الكفّار السابقين حين أحدق بهم العذاب، فكانوا يسألون: هل من فرار ومحيص عنه، كما يحتمل أن يكون سؤالا من قبل الله للكفّار المعاصرين للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أي هل إستطاع مَن كان قبلكم من الكفرة الفرار من قبضة العذاب؟ أوهل يستطيع من يعاند النّبي أن يهرب من مثل هذا لو أحدق به؟!
ويضيف القرآن في آخر آية من الآيات محل البحث مؤكّداً أكثر فيقول: {إنّ في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد}.
والمراد بـ «القلب» هنا وفي الآيات الاُخر من القرآن التي تتكلّم على إدراك المسائل هو العقل والشعور والإدراك، كما أنّ كتب اللغة تشير إلى أنّ واحداً من معاني القلب هو العقل، أمّا الراغب فقد فسّر القلب في الآية محلّ البحث بالعلم والفهم، كما نقرأ في لسان العرب أنّ القلب قد يطلق على العقل أيضاً(2).
كما ورد في تفسير عن الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) لهذه الآية أنّه قال: إنّ القلب هو العقل(3).
والجذر اللغوي لكلمة «قلب» في الأصل: التغيير والتحوّل، وإصطلاحاً معناه الإنقلاب، وحيث أنّ فكر الإنسان أو عقله في تقلّب دائم وفي حال مختلفة فقد أطلقت عليه كلمة «القلب» .. ولذلك فإنّ القرآن يعوّل على إطمئنان القلب والسكينة فيقول: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ} [الفتح: 4] كما يقول في آية اُخرى: {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ } [الرعد: 28] أجل إنّما يُهّدىء هذا الموجود المضطرب ذكر الله فحسب.
أمّا (ألقى السمع) فكناية عن الإصغاء ومنتهى الإستماع بدقّة، وهناك تعبير في العرف يشبه هذا التعبير يقول «اُذني معك» أي إنّني أصغي إليك بدقّة!
و«الشهيد» يطلق على من هو حاضر القلب، أو كما يقال قلبه في المجلس وهو يتابع المسائل بدقّة!.
وهكذا فإنّ مضمون الآية بمجموعة يعني ما يلي: إنّ هناك فريقين ينتفعان بهذه المواعظ والنصيحة .. فالفريق الأوّل من يتمتّع بالذكاء والعقل .. ويستطيع بنفسه أن يحلّل المسائل بفكره!
أمّا الفريق الآخر فليس بهذا المستوى، إلاّ أنّه يمكن أن يلقي السمع للعلماء ويصغي لكلماتهم بحضور القلب ويعرف الحقائق عن طريق الإرشاد.
ويشبه هذا التعبير ما نقرؤه في الآية 10 من سورة الملك على لسان أهل النار، إذ ورد هكذا: {وقالوا لوكنّا نسمع أو نعقل ما كنّا في أصحاب السعير}!
لأنّ علائم الحقّ واضحة، فأهل التحقيق يعرفونها جيّداً .. ومن لم يكن كذلك فيستطيع أن يعرفها عن طريق إرشاد المخلصين من العلماء.
فعلى هذا يجب أن يتمتّع الإنسان بعقل كاف وعلم واف .. أو يتمتّع باُذن واعية(4).
وقوله تعالى : {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} [ق: 38 - 40]
خالق السموات والأرض قادر على إحياء الموتى:
تعقيباً على ما ورد في الآيات آنفة الذكر ودلائلها المتعدّدة في شأن المعاد، تشير الآيات محلّ البحث إلى دليل آخر من دلائل إمكان المعاد .. ثمّ تأمر النّبي بالصبر والإستقامة والتسبيح بحمد الله ليبطل دسائس المتآمرين وما يحيكونه ضدّه، فتقول الآية الاُولى من هذه الآيات: {ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستّة أيّام وما مسّنا من لغوب}.
«اللغوب» بمعنى «التعب» وبديهي أنّ من لديه قدرة محدودة وأراد أن يعمل عملا فوق طاقته وقدرته فإنّه يتعب ويناله اللغوب والنصب، إلاّ أنّ من كان ذا قدرة لا نهاية لها، وقوّة لا حدّ لها فإنّ التعب والنصب واللغوب لا تعني شيئاً لديه ..
فعلى هذا من كان قادراً على إيجاد السماوات والأرض وخلق الكواكب والمجرّات وأفلاكها جميعاً، قادر على إعادة الإنسان بعد موته وأن يُلبسه ثوباً جديداً من الحياة.
بعض المفسّرين ذكر في شأن نزول الآية أنّ اليهود كانوا يتصوّرون أنّ الله خلق السماوات والأرض في ستّة أيّام «ستّة أيّام من أيّام الأسبوع»! ثمّ إستراح في اليوم السابع «السبت» فوضع رجلا على رجل اُخرى!! وهكذا فإنّهم يرون أنّ الجلوس على هذه الشاكلة غير لائق، وأنّه خاصّ بالله، فنزلت الآية آنفة الذكر وحسمت الكلام في مثل هذه الخرافات المضحكة(5)!
إلاّ أنّ هذا الشأن لا يمنع من أن يتابع مسألة إمكان المعاد في الوقت الذي هو دليل على توحيد الله وقدرته وعلمه، إذ خلق السماوات والأرض بما فيهما من عجائب و(ملايين) الأحياء والأسرار المذهلة ونظمها الخاصّة بحيث أنّ التفكّر في زاوية واحدة من هذا الخلق يسوقنا إلى الخالق الذي حرّكت يد قدرته هذه الكواكب ونثرت نور الحياة في كلّ مكان ليكون دليلا عليه.
وقد تكرّر موضوع خلق السماوات والأرض في ستّة أيّام في آيات متعدّدة من القرآن(6).
وكلمة «يوم» يراد منها الفترة الزمنية لا بمعنى أربع وعشرين ساعة أو إثنتي عشرة ساعة، كأن نقول «كان الناس يعيشون في ظلّ النّبي يوماً، وسلّط عليهم بنو اُميّة يوماً وبنو العبّاس يوماً آخر!.. الخ».
وواضح أنّ كلمة «اليوم» في هذه التعبيرات وأمثالها يراد منها الفترة الزمانية سواءً كانت سنّةً أو شهراً أو جيلا .. أو آلاف السنين .. فنقول مثلا: كانت الكرة الأرضية قطعةً متلهّبة يوماً، وبردت يوماً فغدت مهيّأة للحياة، فجميع هذه التعبيرات تشير إلى الفترات الزمنية.
فيستفاد من التعبيرات الواردة في الآية آنفة الذكر أنّ الله خلق جميع السماوات والأرض والموجودات الاُخرى في ستّ مراحل أوستّ فترات زمانية. «وتفصيل هذا الكلام مبيّن في ذيل الآية 54 من سورة الأعراف فلا بأس بمراجعته».
إذاً، لا يبقى مجال للسؤال بأنّه لم يكن قبل خلق السماء والأرض ليل أو نهار فكيف خلقتهما في ستّة أيّام؟!
وبعد ذكر دلائل المعاد المختلفة وتصوير مشاهد المعاد ويوم القيامة المتعدّدة فإنّ القرآن يخاطب النّبي ويأمره بالصبر ـ لأنّ هناك طائفة لا تذعن للحقّ وتصرّ على الباطل فيقول: {فاصبر على ما يقولون} إذ بالصبر والإستقامة ـ وحدهما ـ يستطاع التغلّب على مثل هذه المشاكل.
وحيث أنّ الصبر والإستقامة يحتاجان إلى دعامة ومعتمد، فخير دعامة لهما ذكر الله والإرتباط بالمبدأ ـ مبدأ العلم القادر على إيجاد العالم ـ لذلك فإنّ القرآن يضيف تعقيباً على الأمر بالصبر قائلا: {وسبّح بحمد ربّك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب}.
وكذلك: {ومن الليل فسبّحه وأدبار السجود}.
فهذا الذكر والتسبيح والمستمر ينصبّ على صعيد قلبك كإنصباب الغيث على الأرض ليهبها الحياة ويسقيها الرواء، فالتسبيح أيضاً يُلهم قلبك النشاط والإستقامة بوجه الأعداء المعاندين.
وهناك أقوال مختلفة بين المفسّرين في المراد من «التسبيح» في الأوقات الأربعة «قبل طلوع الشمس وبعد الغروب ومن الليل وأدبار السجود!».
فبعضهم يعتقد أنّ المراد من هذه التعبيرات هو الصلوات الخمس اليومية ..
وبعضاً من النوافل الفضلى على الترتيب والنحو التالي.
فـ (قبل طلوع الشمس) إشارة إلى صلاة الصبح، لأنّ في آخر وقتها تطلع الشمس فينبغي أداؤها قبل طلوع الشمس.
وقبل الغروب إشارة إلى صلاتي الظهر والعصر لأنّ الشمس تغرب آخر وقتيهما.
أمّا قوله: (ومن الليل) فيشير إلى صلاتي المغرب والعشاء وقوله: (وادبار السجود) ناظر إلى النوافل بعد صلاة المغرب، وقال ابن عبّاس بهذا التّفسير ـ مع هذا القيد ـ وهو أنّ المراد من إدبار السجود هو جميع النوافل التي تؤدّى بعد الفرائض ولكن حيث أنّا نعتقد بأنّ ما يؤدّى من النوافل اليومية بعد الفرائض هما نافلة المغرب ونافلة العشاء فحسب، فلا يصحّ هذا التعميم آنفاً.
كما فسّر بعضهم قوله «قبل طلوع الشمس» بصلاة الصبح، «وقبل الغروب» بصلاة العصر، «ومن الليل فسبّحه» بصلاتي المغرب والعشاء، فلم يذكروا شيئاً عن صلاة الظهر هنا، وهذا دليل على ضعف هذا التّفسير.
ونقرأ في بعض الرّوايات المنقولة عن الإمام الصادق أنّه حين سئل عن الآية: {وسبّح بحمد ربّك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب} .. قال (عليه السلام): «تقول حين تصبح وتمسي عشر مرّات لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كلّ شيء قدير»(8).
ولا يتنافى هذا التّفسير مع التّفسير الأوّل ويمكن أن يجتمعا في الآية معاً.
وممّا ينبغي الإلتفات إليه هو ورود نظير هذا المعنى بإختلاف يسير في الآية (130) من سورة طه أيضاً إذ تقول الآية: {وسبّح بحمد ربّك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبّح وأطراف النهار لعلّك ترضى}.
جملة «لعلّك ترضى» ـ تدلّ على أنّ لهذا التسبيح والذكر في هذه الأوقات أثراً مهمّاً في إطمئنان القلب ورضا الخاطر، إذ يمنح القلب قوّة وشدّة بوجه الحوادث.
وهناك لطيفة تسترعي النظر وهي أنّ الآية (49) من سورة الطور تقول هكذا: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} [الطور: 49] (9).
وقد ورد في حديث عن الإمام علي (عليه السلام) أنّه قال: «المراد بـ (أدبار السجود) ركعتا نافلة تؤدّيان بعد صلاة المغرب «ينبغي الإلتفات إلى أنّ نافلة المغرب أربع ركعات وقد اُشير إلى إثنين منهما هنا فحسب» وإدبار النجوم ركعتا نافلة الصبح إذ تؤدّيان عند غروب النجوم وتفرّقها وقبل صلاة الصبح»(10).
كما ورد في رواية اُخرى أنّ المراد من «ادبار السجود» هو نافلة الوتر التي تؤدّى آخر الليل(11).
وعلى كلّ حال فإنّ التّفسير الأوّل أقرب من الجميع وأكثر تناسباً وإن كان مفهوم التسبيح وسعته شاملا لكثير من التفاسير المشار إليها في الرّوايات آنفاً.
قال تعالى : {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ } [ق: 41 - 45].
يخرج الجميع أحياءً عند صيحة القيامة :
هذه الآيات محلّ البحث التي تختتم بها سورة ـ «ق» كسائر آياتها تتحدّث على المعاد والقيامة كما أنّها تعرض جانباً منهما أيضاً وهو موضوع النفخة في الصور، وخروج الأموات من القبور في يوم النشور .. فتقول: {واستمع يوم ينادِ المنادِ من مكان قريب ... يوم يسمعون الصيحة بالحقّ ذلك يوم الخروج}.
والمخاطب بالفعل «استمع» هو النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه إلاّ أنّه من المسلّم به أنّ المقصود جميع الناس.
والمراد من «استمع» إمّا هو الإنتظار والترقّب، لأنّ من ينتظر حادثة تبدأ بصوت مهول يُرى في حالة ترقّب دائماً، فهو منتظر لأن يسمع الصوت; أو هو الإصغاء إلى كلام الله فيكون المعنى «استمع كلام الله» إذ يقول: يوم يسمعون الصيحة الخ(12).
لكن من هو هذا المنادي؟ يحتمل أن يكون الذات المقدّسة جلّ وعلا، ولكن الإحتمال الأقوى هو «إسرافيل» الذي ينفخ في الصور .. وقد وردت الإشارة في آيات القرآن إليه لا بالإسم بل بتعبيرات خاصّة.
عبارة (من مكان قريب) إشارة إلى أنّ هذه الصيحة ينتشر صداها في الفضاء بدرجة أنّها كما لو كانت في أُذن كلّ أحد، وجميعهم يسمعونها بدرجة واحدة من القرب.
نحن اليوم نستطيع أن نسمع كلام أي إنسان وفي أيّة نقطة كان بوسائل مختلفة فكأنّ المتكلّم على مقربة منّا، ويتحدّث معنا، إلاّ أنّ يوم القيامة يسمع الناس كلّهم الصيحة دون حاجة إلى مثل هذه الوسائل وهي قريبة منهم(13).
وعلى كلّ حال، فليست هذه الصيحة هي الصيحة الاُولى التي تقع مؤذنة بنهاية العالم، بل هي الصيحة الثانية، أي الصيحة للنشور والحشر، وفي الحقيقة أنّ الآية الثانية توضيح للآية السابقة وتفسير لها إذ تقول: {يوم يسمعون الصيحة بالحقّ ذلك يوم الخروج} من القبور والبعث والنشور.
ولكي يعرف من الحاكم في هذه المحكمة الكبرى، فإنّ القرآن يضيف قائلا: {إنّا نحن نحيي ونميت وإلينا المصير}.
والمراد من «نحيي» هو الحياة الاُولى في الدنيا، والمراد من «نميت» هو في نهاية العمر، وجملة «إلينا المصير» إشارة إلى الأحياء في يوم القيامة.
وفي الحقيقة أنّ الآية تشير إلى هذه الحقيقة وهي كما أنّ الحياة والموت في الدنيا بأيدينا، فكذلك المعاد وقيام الساعة بأيدينا أيضاً.
ثمّ يضيف القرآن فيخبر عن ميقات النشور فيقول: {يوم تشقّق الأرض عنهم سراعاً} أي يخرجون مسرعين من القبور(14) ويضيف مختتماً: {ذلك حشر علينا يسير}.
و«الحشر» معناه الجمع من كلّ جهة ومكان.
وواضح أنّ خالق السماوات والأرض وما بينهما من اليسير عليه أن ينشر الموتى ويحشرهم للحساب والثواب أو العقاب.
وأساساً، فإنّ موضوع الصعوبة واليُسر يقال في من يتمتع بقدرة محدودة، إلاّ أنّ القادر على كلّ شيء ولا حدّ لقدرته فكلّ شيء عليه سهل ويسير.
الطريف هنا أنّنا نقرأ في بعض الرّوايات: أنّ أوّل من يبعث ويخرج من قبره ويرد المحشر هو النّبي الأكرم محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلي معه(15).
أمّا آخر آية من الآيات محلّ البحث وهي آخر آية من سورة ق ذاتها فهي تخاطب النّبي وتسرّي عنه وتسلّي قلبه لما يلاقيه من المعاندين والكفرة فتقول: {نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبّار}.
فمسؤوليتك البلاغ والدعوة نحو الحقّ والبشارة والنذارة: {فذكّر بالقرآن من يخاف وعيد}(16).
وقد ورد في تفسير القرطبي عن ابن عبّاس أنّه قال جاء جماعة إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالوا انذرنا يارسول الله وبشّرنا، فنزلت الآية محلّ البحث وقالت: {فذكّر بالقرآن من يخاف وعيد}(17).
وذلك إشارة إلى أنّ القرآن كاف للإنذار وإيقاظ المؤمنين، فكلّ صفحة منه تذكر بيوم القيامة وآياته المختلفة التي تتحدّث عن قصص الماضين وعاقبتهم وتصف أهل النار وأهل الجنّة وما يقع عند قيام الساعة في محكمة عدل الله هي خير موعظة ونصيحة لجميع الناس.
والحقّ أن تذكر مشهد تشقّق الأرض وولوج الأرواح في الموتى وخروجهم من القبر وإكتسائهم ثوب الحياة وتحركهم في حال من الوحشة والإضطراب من القرن حتّى القدم وهم يساقون إلى محكمة عدل الله هذا المشهد مثير جدّاً.
ولا سيّما أنّ بعض القبور يضمّ في لحده على تقادم الزمان ومرور الأعوام أجساداً متعدّدة من الناس بعضهم صالح وبعضهم طالح وبعضهم مؤمن وبعضهم كافر وكما يقول المعرّي:
ربّ قبر قد صار قبراً مراراً ضاحك من تزاحم الأضداد
ودفين على بقايا دفين في طويل الآجال والآماد!
_______________________
1-الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج13 ، ص182-192.
2 ـ لسان العرب مادّة القلب.[ق ل ب].
3 ـ اُصول الكافي، ج1 ـ كتاب العقل والجهل، الحديث 11.
4 ـ لاحظوا أنّ الآيتين عطفت الموضوعين «بأو» وهذا يدلّ على أنّ واحداً منهما على الأقل
ضروري للإنسان!..
5 ـ تفسير الدرّ المنثور، ج6، ص110.
6 ـ راجع سورة الأعراف الآية 54; سورة يونس الآية 3; سورة هود الآية 7; سورة السجدة
الآية 4; الحديد الآية 4; الفرقان الآية 59.
8 ـ مجمع البيان ـ ذيل الآيات محلّ البحث ـ .
9 ـ ينبغي الإلتفات إلى أنّ إدبار هنا جاءت بالكسر على زنة «إقبال» أمّا في الآية محلّ البحث فجاءت أدبار بفتح الهمزة على زنة أفكار، وهي هنا جمع دبر ومعناه العقب، فيكون المعنى في أدبار السجود أي بعد كلّ سجدة، وأمّا معنى إدبار النجوم أي عند تفرّق النجوم.
10 ـ مجمع البيان، ذيل الآية محلّ البحث ـ .
11 ـ المصدر السابق.
12 ـ بناءً على التّفسير الأوّل فإنّ «يوم» مفعول استمع، وبناءً على التّفسير الثّاني فإنّ مفعول استمع محذوف وتقديره استمع حديث ربّك فيكون نصب كلمة يوم على فعل مقدّر من الخروج وتقديره يخرجون يوم ينادي المنادي من مكان قريب.
13 ـ يرى جماعة من المفسّرين أنّ المكان القريب يُحتمل أن تكون صخرة بيت المقدس ـ تلك الصخرة الخاصّة التي عرج منها الرّسول الأكرم(عليه السلام) نحو السماء فيقف المنادي على طرفها ويصيح أيّتها العظام البالية والأوصال المتقطّعة واللحوم المتمزّقة قومي لفصل القضاء وما أعدّ الله لكم من الجزاء .. لكن لا دليل بيّن على ذلك.
14 ـ «سراعاً» منصوب على أنّه حال للفاعل في «يخرجون» المحذوف والتقدير «يخرجون سراعاً» وهو جمع لكلمة «سريع» كما في «كرام» جمع «كريم» والبعض يرى أنّ «سراع» مصدر في موضع الحال.
15 ـ كتاب الخصال: طبقاً لما نقل في تفسير نور الثقلين، ج5، ص119.
16 ـ كلمة وعيد أصلها وعيدي وحذفت ياؤها وأبقيت الكسرة لتدلّ عليها وهي مفعول للفعل يخاف.
17 ـ القرطبي، ج9، ص6198.
|
|
مخاطر عدم علاج ارتفاع ضغط الدم
|
|
|
|
|
اختراق جديد في علاج سرطان البروستات العدواني
|
|
|
|
|
مدرسة دار العلم.. صرح علميّ متميز في كربلاء لنشر علوم أهل البيت (عليهم السلام)
|
|
|