أقرأ أيضاً
التاريخ: 10-10-2017
8031
التاريخ: 10-10-2017
9042
التاريخ: 10-10-2017
10140
التاريخ: 10-10-2017
7883
|
قال تعالى : {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ } [ق: 1 - 11].
{ق} قد مر تفسيره وقيل إنه اسم من أسماء الله تعالى عن ابن عباس وقيل هو اسم الجبل المحيط بالأرض من زمردة خضراء خضرة السماء منها عن الضحاك وعكرمة وقيل معناه قضي الأمر أو قضي ما هو كائن كما قيل في حم: حُمَّ الأمر(2) {والقرآن المجيد} أي الكريم على الله العظيم في نفسه الكثير الخير والنفع لتبعثن يوم القيامة وقيل تقديره والقرآن المجيد أن محمدا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) بدلالة قوله {بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم} أي ما كذبك قومك لأنك كاذب بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم وحسبوا أنه لا يوحى إلا إلى ملك {فقال الكافرون هذا شيء عجيب} أي معجب عجبوا من كون محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) رسولا إليهم فأنكروا رسالته وأنكروا البعث بعد الموت وهو قوله {أ إذا متنا وكنا ترابا} أ نبعث ونرد أحياء {ذلك} أي ذلك الرد الذي يقولون {رجع بعيد} أي رد بعيد عن الأوهام وإعادة بعيدة عن الكون والمعنى أنه لا يكون ذلك لأنه غير ممكن.
ثم قال سبحانه {قد علمنا ما تنقص الأرض منهم} أي ما تأكل الأرض من لحومهم ودمائهم وتبليه من عظامهم فلا يتعذر علينا ردهم {وعندنا كتاب حفيظ} أي حافظ لعدتهم وأسمائهم وهو اللوح المحفوظ لا يشذ عنه شيء وقيل حفيظ أي محفوظ عن البلى والدروس وهو كتاب الحفظة الذين يكتبون أعمالهم ثم أخبر سبحانه بتكذيبهم فقال {بل كذبوا بالحق لما جاءهم} والحق القرآن وقيل هو الرسول {فهم في أمر مريج} أي مختلط فمرة قالوا مجنون وتارة قالوا ساحر وتارة قالوا شاعر فتحيروا في أمرهم(3) لجهلهم بحاله ولم يثبتوا على شيء واحد وقالوا للقرآن أنه سحر مرة وزجر(4) مرة ومفترى مرة فكان أمرهم ملتبسا عليهم قال الحسن ما ترك قوم الحق إلا مرج أمرهم .
ثم أقام سبحانه الدلالة على كونه قادرا على البعث فقال {أ فلم ينظروا إلى السماء فوقهم} أي أ لم يتفكروا في بناء السماء مع عظمها وحسن ترتيبها وانتظامها {كيف بنيناها} بغير علاقة ولا عماد {وزيناها} بالكواكب السيارة والنجوم الثوابت {وما لها من فروج} أي شقوق وفتوق وقيل معناه ليس فيها تفاوت واختلاف عن الكسائي وإنما قال فوقهم بنيناها على أنهم يرونها ويشاهدونها ثم لا يتفكرون فيها {والأرض مددناها} أي بسطناها {وألقينا فيها رواسي} أي جبالا رواسخ تمسكها عن الميدان {وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج} أي من كل صنف حسن المنظر عن ابن زيد والبهجة الحسن الذي له روعة عند الرؤية كالزهرة والأشجار النضرة والرياض الخضرة وقال الأخفش البهيج الذي من رآه بهج به أي سر به فهو بمعنى المبهوج به {تبصرة وذكرى} أي فعلنا ذلك تبصيرا ليبصر به أمر الدين وتذكيرا وتذكرا {لكل عبد منيب} راجع إلى الله تعالى .
{ونزلنا من السماء ماء مباركا} أي مطرا وغيثا يعظم النفع به {فأنبتنا به} أي بالماء {جنات} أي بساتين فيها أشجار تشتمل على أنواع الفواكه المستلذة {وحب الحصيد} أي حب البر والشعير وكل ما يحصد عن قتادة لأن من شأنه أن يحصد إذا تكامل واستحصد والحب هو الحصيد فهو مثل حق اليقين ومسجد الجامع ونحوهما {والنخل باسقات} أي وأنبتنا به النخل طويلات عاليات {لها طلع نضيد} أي لهذه النخل الموصوفة بالعلو طلع نضد بعضه على بعض عن مجاهد وقتادة والطلع الكفري وهو أول ما يظهر من ثمر النخل قبل أن ينشق وهو نضيد في أكمامه فإذا خرج من أكمامه فليس بنضيد.
{رزقا للعباد} أي أنبتنا هذه الأشياء للرزق وكل رزق فهومن الله تعالى بأن يكون قد فعله أو فعل سببه لأنه مما يريده وقد يرزق الواحد منا غيره كما يقال رزق السلطان جنده {وأحيينا به} أي بذلك الماء الذي أنزلناه من السماء {بلدة ميتا} أي جدبا وقحطا لا تنبت شيئا فنبت وعاشت ثم قال {كذلك الخروج} من القبور أي مثل ما أحيينا هذه الأرض الميتة بالماء نحيي الموتى يوم القيامة فيخرجون من قبورهم فإن من قدر على أحدهما قدر على الآخر وإنما دخلت الشبهة على هؤلاء من حيث أنهم رأوا العادة مستمرة في إحياء الموات من الأرض بنزول المطر ولم تجر العادة بإحياء الموتى من البشر ولو أنعموا الفكر وأمعنوا النظر لعلموا أن من قدر على أحد الأمرين قدر على الآخر .
_______________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج9 ، ص234-237.
2- حُمَّ الامر بالبناء للمجهول اي : قُضي.
3- وفي بعضها : أمره.
4- وفي المخطوطة : رجز.
{ق} تقدم الكلام عن مثله في أول سورة البقرة {والْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} . أقسم سبحانه بالقرآن لإظهار عظمته ، ووصفه بالمجيد لكثرة منافعه وفوائده {بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ} . أجل ، عجيب في منطق الذين ينظرون إلى كل شيء من خلال المال ، ولا يرون الفضل والفضيلة إلا في البنك والعقار .
وتقدم مثله في الآية 2 من سورة يونس ج 4 ص 130 والآية 90 من سورة الإسراء و8 من سورة الفرقان و4 من سورة ص { أَإِذا مِتْنا وكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ } . أنكروا البعث لأنهم عاجزون عن إدراكه . . ونحن نؤمن بعجزهم هذا ، ولكن هل العجز عن إدراك الشيء دليل على عدم ثبوته ؟ . وأي عاقل يتخذ من جهله بالأشياء دليلا على نفيها ، أما الشبهة التي أوقعتهم بهذا الجهل فقد بينوها بقولهم : {مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وهِيَ رَمِيمٌ} ؟ . وقال تعالى في جوابهم :
{يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وهُو بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} - 80 يس .
وتكرر هذا المعنى في العديد من الآيات : {قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ} . والكتاب الحفيظ كناية عن انه تعالى أحاط بكل شيء علما . . وهذه الآية جواب عن شبهة أوردها منكر والبعث ، وتوضيحها ان جسم الإنسان بعد الموت تأكله الأرض ، ويصبح بعض ذراتها المنتشرة في شرقها وغربها ، فكيف تجمع وتعاد إلى ما كانت عليه ؟
فأجاب سبحانه عن ذلك بأنه يعلم ان الأرض تأكل جسم الميت وان أجزاءه تنتشر في شرقها وغربها ، ومع هذا فهو قادر على جمعها وإعادتها إلى الحياة .
شبهة الآكل والمأكول :
وتعرف هذه الشبهة عند الفلاسفة وعلماء الكلام بشبهة الآكل والمأكول . . وقد ذكرها الملا صدرا في المجلد الرابع من أسفاره ، وقال : (احتج من أنكر البعث بأنه (إن أكل الإنسان إنسانا فالأجزاء المأكولة ان أعيدت في بدن الآكل لم يكن الإنسان المأكول معادا ، وان أعيدت في بدن المأكول لم يكن الآكل معادا ، ولزم أن تكون الأجزاء المأكولة بعينها منعمة ومعذبة إذا أكل مؤمن كافرا . .
وأجيب عن ذلك في الكتب الكلامية بأن المعاد هو الأجزاء التي منها ابتداء الخلق وهي الأعضاء الأصلية عندهم ، واللَّه يحفظها ، ولا يجعلها جزءا لبدن آخر) .
ثم قال صاحب الأسفار ما معناه : ان هذا الجواب لا يفي بالغرض ، والحق ان كل ما هو ممكن في نظر العقل ، ودل عليه الوحي يجب الايمان به ، والبعث ممكن عقلا ، وثابت وحيا ، فوجب التصديق والايمان ، أما أقيسة الفلاسفة وأهل المنطق فما هي بمعصومة عن الخطأ . هذا ما قاله صاحب الأسفار ، وهو الذي اعتمدنا عليه ، وذكرناه مرارا فيما تقدم . . وحاول بعض الشيوخ أن يثبت البعث الجسماني بحكم العقل مع صرف النظر عن الوحي ، ولكنه لم يأت إلا بالتكلف والتمحل .
{بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} . المراد بالحق هنا القرآن ، وبالمريج المختلط المضطرب ، وقد وصف به سبحانه حال الذين قالوا عن رسول اللَّه (صلى الله عليه واله وسلم) : انه مجنون ، وتارة انه ساحر ، وأخرى انه كاهن ، وحينا انه شاعر . .
وهكذا يخبط في التيه كل من حاد عن جادة الحق .
{أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وزَيَّنَّاها وما لَها مِنْ فُرُوجٍ} . المراد بالبناء هنا ان كواكب السماء محكمة في صنعها ، مستقرة في نظامها تسير عليه بكل دقة ، والمراد بالزينة الجمال ، أما قوله تعالى : {وما لَها مِنْ فُرُوجٍ} فهو على حذف مضاف أي ما لكل كوكب من كواكبها فتوق وفطور ، كما في الآية 3 من سورة الملك : {هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ} . والمعنى ألم ينظر المكذبون بالبعث إلى ان بناء الكواكب لا يشبه بناء البشر في شيء لأن كل كوكب على ضخامته هو قطعة واحدة لا فواصل فيه ولا انفصام ، أما البناؤون من البشر فإنهم يبنون لبنة فوق لبنة ، بينهما فتوق وفطور ، وهم أعجز من أن يبنوا بيتا صغيرا كبناء الكوكب الطبيعي .
والآية رد صريح وحجة دامغة على من استبعد فكرة البعث ، وقال : {أَإِذا مِتْنا وكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} . ووجه الرد : ان الذي خلق الكواكب بلا فتوق وفطور لا يعجز عن بعث الإنسان بعد موته لأن هذا أيسر من ذاك :
{لَخَلْقُ السَّماواتِ والأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} - 57 غافر . والبعث خلق .
{والأَرْضَ مَدَدْناها وأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} .
أي مهدناها وجعلناها مستقرا للإنسان ، وألقينا فيها رواسي أقمنا فيها الجبال كيلا تميد وتضطرب ، ومن كل زوج بهيج أخرجنا من الأرض أشكالا وألوانا من النبات يسر الناظرين ، ويطيب للآكلين . وتقدم مثله في العديد من الآيات ، منها الآية 3 من سورة الرعد ج 4 ص 374 { تَبْصِرَةً وذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} . خلق سبحانه الكون بما فيه من نظام وإحكام ليكون آية على عظمته تعالى لمن تدبر وأبصر ، وفيه إشارة إلى ان علاقة الإنسان بالكون الذي يعيش فيه لا تنحصر بالمادة فقط ، بل هي قلبية أيضا .
{ونَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وحَبَّ الْحَصِيدِ ، والنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ} . الطلع أول ما يظهر من الثمر ، والنضيد المنضود المتراكم بعضه فوق بعض كحب السنابل . . وصف سبحانه الماء بالبركة لأنه لا حياة للأرواح والأجسام بلا ماء ، والمراد بحب الحصيد حب النبات المحصود ، ووصف النخل بالطول للإشارة إلى ان النخلة وقت الانبات تكون قصيرة ، ثم ترتفع بالأسباب
التي أودعها اللَّه بالطبيعة . قال الإمام علي (عليه السلام) : (ما دلت الدلائل إلا على ان فاطر النملة هو فاطر النخلة لدقيق تفصيل كل شيء) أي ان دقة الصنع والتفصيل في النملة الصغيرة والنخلة الكبيرة الطويلة تدل على ان الصانع واحد ( رزقا للعباد ) وهم أعجز من أن يرزقوا أنفسهم بأنفسهم {وأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً} هذا تمهيد لقوله تعالى : {كَذلِكَ الْخُرُوجُ} . فإحياء الإنسان بعد الموت تماما كإحياء البلد الميت بالماء . وتقدم مثله في العديد من الآيات منها الآية 57 من سورة الأعراف ج 3 ص 342 .
_______________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج7 ، ص128-131.
السورة تذكر الدعوة وتشير إلى ما فيها من الإنذار بالمعاد وجحد المشركين به واستعجابهم ذلك بأن الموت يستعقب بطلان الشخصية الإنسانية بصيرورته ترابا لا يبقى معه أثر مما كان عليه فكيف يرجع ثانيا إلى ما كان عليه قبل الموت فتدفع ما أظهروه من الاستعجاب والاستبعاد بأن العلم الإلهي محيط بهم وعنده الكتاب الحفيظ الذي لا يعزب عنه شيء مما دق وجل من أحوال خلقه ثم توعدهم بإصابة مثل ما أصاب الأمم الماضية الهالكة.
وتنبه ثانيا على علمه وقدرته تعالى بالإشارة إلى ما جرى من تدبيره تعالى في خلق السماوات وما زينها به من الكواكب والنجوم وغير ذلك، وفي خلق الأرض من حيث مدها وإلقاء الرواسي عليها وإنبات الأزواج النباتية فيها ثم بإنزال الماء وتهيئة أرزاق العباد وإحياء الأرض به.
ثم بيان حال الإنسان من أول ما خلق وأنه تحت المراقبة الشديدة الدقيقة حتى ما يلفظ به من لفظ وحتى ما يخطر بباله وتوسوس به نفسه ما دام حيا ثم إذا أدركه الموت ثم إذا بعث لفصل القضاء ثم إذا فرغ من حسابه فأدخل النار إن كان من المكذبين أو الجنة المزيفة إن كان من المتقين.
وبالجملة مصب الكلام في السورة هو المعاد، ومن غرر الآيات فيها قوله: {لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد}، وقوله: {يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد} وقوله: {لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد}.
والسورة مكية بشهادة سياق آياتها إلا ما قيل في قوله: {ولقد خلقنا السماوات والأرض} الآية أو الآيتين، ولا شاهد عليه من اللفظ.
وما أوردناه من الآيات فيه إجمال الإشارة إلى المعاد واستبعادهم له، وإجمال الجواب والتهديد أولا ثم الإشارة إلى تفصيل الجواب والتهديد ثانيا.
قوله تعالى: {ق والقرآن المجيد}، قال في المجمع،: المجد في كلامهم الشرف الواسع يقال: مجد الرجل ومجد - بضم العين وفتحها - مجدا إذا عظم وكرم، وأصله من قولهم: مجدت الإبل مجودا إذا عظمت بطونها من كثرة أكلها من كلاء الربيع.
انتهى.
وقوله: {والقرآن المجيد} قسم وجوابه محذوف يدل عليه الجمل التالية والتقدير والقرآن المجيد أن البعث حق أو إنك لمن المنذرين أو الإنذار حق، وقيل: جواب القسم مذكور وهو قوله: {بل عجبوا} إلخ، وقيل: هو قوله: {قد علمنا ما تنقص} إلخ، وقيل: قوله: {ما يلفظ من قول} إلخ، وقيل: قوله: {إن في ذلك لذكرى} إلخ، وقيل: قوله: {ما يبدل القول لدي} إلخ، وهذه أقوال سخيفة لا يصار إليها.
قوله تعالى: {بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب} إضراب عن مضمون جواب القسم المحذوف فكأنه قيل: إنا أرسلناك نذيرا فلم يؤمنوا بك بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم، أو قيل إن البعث الذي أنذرتهم به حق ولم يؤمنوا به بل عجبوا منه واستبعدوه.
وضمير {منهم} في قوله: {بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم} راجع إليهم بما هم بشر أي من جنسهم وذلك أن الوثنيين ينكرون نبوة البشر كما تقدمت الإشارة إليه مرارا أو راجع إليهم بما هم عرب والمعنى: بل عجبوا أن جاءهم منذر من قومهم وبلسانهم يبين لهم الحق أوفى بيان فيكون أبلغ في تقريعهم.
وقوله: {فقال الكافرون هذا شيء عجيب} وصفهم بالكفر ولم يقل: وقال المشركون ونحو ذلك للدلالة على سترهم للحق لما جاءهم، والإشارة في قولهم: {هذا شيء عجيب}، إلى البعث والرجوع إلى الله كما يفسره قوله بعد: {أ إذا متنا وكنا ترابا} إلخ.
قوله تعالى: {أأذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد} الرجع والرجوع بمعنى والمراد بالبعد البعد عن العقل.
وجواب إذا في قولهم: {أأذا متنا وكنا ترابا} محذوف يدل عليه قولهم: {ذلك رجع بعيد} والتقدير أأذا متنا وكنا ترابا نبعث ونرجع؟ والاستفهام للتعجيب، وإنما حذف للإشارة إلى أنه عجيب بحيث لا ينبغي أن يذكر، إذ لا يقبله عقل ذي عقل والآية في مساق قوله: {وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [السجدة: 10].
والمعنى: أنهم يتعجبون ويقولون: أ أذا متنا وكنا ترابا - وبطلت ذواتنا بطلانا لا أثر معه منها - نبعث ونرجع؟ ثم كان قائلا يقول لهم: مم تتعجبون؟ فقالوا: ذلك رجع بعيد يستبعده العقل ولا يسلمه.
قوله تعالى: {قد علمنا ما تنقص الأرض منهم وعندنا كتاب حفيظ} رد منه تعالى لاستبعادهم البعث والرجوع مستندين في ذلك إلى أنهم ستتلاشى أبدانهم بالموت فتصير ترابا متشابه الأجزاء لا تمايز لجزء منها من جزء والجواب أنا نعلم بما تأكله الأرض من أبدانهم وتنقصه منها فلا يفوت علمنا جزء من أجزائهم حتى يتعسر علينا إرجاعه أو يتعذر بالجهل.
أو أنا نعلم من يموت منهم فيدفن في الأرض فتنقصه الأرض من جمعهم، و{من} على أول الوجهين تبعيضية وعلى الثاني تبيينية.
وقوله: {وعندنا كتاب حفيظ} أي حافظ لكل شيء ولآثاره وأحواله، أو كتاب ضابط للحوادث محفوظ عن التغيير والتحريف، وهو اللوح المحفوظ الذي فيه كل ما كان وما يكون وما هو كائن إلى يوم القيامة.
وقول بعضهم إن المراد به كتاب الأعمال غير سديد أولا من جهة أن الله ذكره حفيظا لما تنقص الأرض منهم وهو غير الأعمال التي يحفظه كتاب الأعمال.
وثانيا: أنه سبحانه إنما وصف في كلامه بالحفظ اللوح المحفوظ دون كتب الأعمال فحمل الكتاب الحفيظ على كتاب الأعمال من غير شاهد.
ومحصل جواب الآية أنهم زعموا أن موتهم وصيرورتهم ترابا متلاشي الذرات غير متمايز الأجزاء يصيرهم مجهولي الأجزاء عندنا فيمتنع علينا جمعها وإرجاعها لكنه زعم باطل فإنا نعلم بمن مات منهم وما يتبدل إلى الأرض من أجزاء أبدانهم وكيف يتبدل وإلى أين يصير؟ وعندنا كتاب حفيظ فيه كل شيء وهو اللوح المحفوظ.
قوله تعالى: {بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج} المرج الاختلاط والالتباس، وفي الآية إضراب عما تلوح إليه الآية السابقة فإن اللائح منها أنهم إنما تعجبوا من أمر البعث والرجوع واستبعدوه لجهلهم بأن الله سبحانه عليم لا يعزب عنه شيء من أحوال خلقه وآثارهم وأن جميع ذلك مستطر في اللوح المحفوظ عند الله بحيث لا يشذ عنه شاذ.
فأضرب في هذه الآية أن ذلك ليس من جهلهم وإن تجاهلوا بل كذبوا بالحق لما جاءهم فاستبان لهم أنه حق فهم جاحدون للحق معاندون له وليسوا بجاهلين به قاصرين عن إدراكه فهم في أمر مريج مختلط غير منتظم يدركون الحق ويكذبون به مع أن لازم العلم بشيء تصديقه والإيمان به.
وقيل: المراد بكونهم في أمر مريج أنهم متحيرون بعد إنكار الحق لا يدرون ما يقولون فتارة يقولون: افتراء على الله، وتارة: سحر، وتارة: شعر، وتارة: كهانة وتارة: زجر.
ولذلك عقب الكلام بذكر آيات علمه وقدرته توبيخا لهم ثم بالإشارة إلى تكذيب الأمم الماضية الهالكة الذي ساقهم إلى عذاب الاستئصال، تهديدا لهم.
قوله تعالى: {أ فلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج} الفروج جمع فرجة: الشقوق والفتوق، وتقييد السماء بكونها فوقهم للدلالة على أنها بمرأى منهم لا تغيب عن أنظارهم، والمراد بتزيينها خلق النجوم اللامعة فيها بما لها من الجمال البديع، فبناء هذا الخلق البديع بما لها من الجمال الرائع من غير شقوق وفتوق أصدق شاهد على قدرته القاهرة وعلمه المحيط بما خلق.
قوله تعالى: {والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج} مد الأرض بسطها لتلائم عيشة الإنسان، والرواسي جمع الراسية بمعنى الثابتة صفة محذوفة الموصوف وهو الجبال، والمراد جعل الجبال الثابتة على ظهرها، والبهيج من البهجة، قال في المجمع،: البهجة الحسن الذي له روعة عند الرؤية كالزهرة والأشجار النضرة والرياض الخضرة.
انتهى.
وقيل: المراد بالبهيج الذي من رآه بهج وسر به فهو بمعنى المبهوج به.
والمراد بإنبات كل زوج بهيج إنبات كل صنف حسن المنظر من النبات.
فخلق الأرض وما جرى فيها من التدبير الإلهي العجيب أحسن دليل يدل العقل على كمال القدرة والعلم.
قوله تعالى: {تبصرة وذكرى لكل عبد منيب} مفعول له أي فعلنا ما فعلنا من بناء السماء ومد الأرض وعجائب التدبير التي أجريناها فيهما ليكون تبصرة يتبصر بها وذكرى يتذكر بها كل عبد راجع إلى الله سبحانه.
قوله تعالى: {وأنزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد} السماء جهة العلو والماء المبارك المطر، وصف بالمباركة لكثرة خيراته العائدة إلى الأرض وأهلها، وحب الحصيد المحصود من الحب وهومن إضافة الموصوف إلى الصفة، والمعنى ظاهر.
قوله تعالى: {والنخل باسقات لها طلع نضيد{ الباسقات جمع باسقة وهي الطويلة العالية، والطلع أول ما يطلع من ثمر النخيل، والنضيد بمعنى المنضود بعضه على بعض والمعنى ظاهر.
قوله تعالى: {رزقا للعباد وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج} الرزق ما يمد به البقاء، و{رزقا للعباد} مفعول له أي أنبتنا هذه الجنات وحب الحصيد والنخل باسقات بما لها من الطلع النضيد ليكون رزقا للعباد فمن خلق هذه النباتات ليرزق به العباد بما في ذلك من التدبير الوسيع الذي يدهش اللب ويحير العقل هو ذو علم لا يتناهى وقدرة لا تعيى لا يشق عليه إحياء الإنسان بعد موته وإن تلاشت ذرات جسمه وضلت في الأرض أجزاء بدنه.
وقوله: {وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج} برهان آخر على البعث غير ما تقدم استنتج من طي الكلام فإن البيان السابق في رد استبعادهم للبعث مستندين إلى صيرورتهم ترابا غير متمايز الأجزاء كان برهانا من مسلك إثبات علمه بكل شيء وقدرته على كل شيء وهذا البرهان الذي يتضمنه قوله: {وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج} من مسلك إثبات إمكان الشيء بوقوع مثله فليس الخروج من القبور بالإحياء بعد الموت إلا مثل خروج النبات الميت من الأرض بعد موتها ووقوف قواه عن النماء والنشوء.
وقد قررنا هذا البرهان في ذيل الآيات المستدلة بإحياء الأرض بعد موتها على البعث غير مرة فيما تقدم من أجزاء الكتاب.
_________________________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج18، ص274-278.
المنكرون المعاندون في أمر مريج!
مرّةً اُخرى نواجه هنا بعض الحروف المقطّعة! وهو الحرف «ق»، وكما قلنا من قبل أنّ واحداً من التفاسير المتينة هو أنّ هذا القرآن على عظمته مؤلّف من حروف بسيطة هي ألف باء الخ .. وهذا يدلّ على أنّ مُبدع القرآن ومنزله لديه علم لا محدود وقدرة مطلقة بحيث خلق هذا التركيب الرفيع العالي من هذه الوسائل البسيطة المألوفة!
وبالطبع فإنّ هناك تفاسير اُخر للحروف المقطّعة ويمكن مراجعتها في بدايات سور «البقرة، آل عمران، الأعراف وسور حم أيضاً».
قال بعض المفسّرين أنّ «ق» إشارة إلى بعض أسماء الله تعالى «كالقادر والقيّوم» وما إلى ذلك من الأسماء المبدوءة بحرف القاف.
كما ورد في كثير من التفاسير أنّ «ق» اسم لجبل عظيم يحيط بالكرة الأرضية!
ولكن أي جبل هو بحيث يحيط بالكرة الأرضية أو مجموع العالم؟! وما المراد منه؟ ليس هنا محلّ الكلام عنه! لكن ما ينبغي ذكره هنا أنّه من البعيد جدّاً أن يكون «ق» في هذه السورة إشارة إلى جبل قاف! لأنّه ليس هذا لا يتناسب مع مواضيع السورة وما ورد فيها فحسب، بل حرف «القاف» هنا كسائر الحروف المقطّعة الواردة في بدايات السور في القرآن، أضف إلى ذلك لوكان «ق» إشارة إلى جبل «قاف» لكان ينبغي أن يقترن بواو القسم كقوله تعالى: والطور وأمثال ذلك، وذكر كلمة ما من دون مبتدأ ولا خبر أو واو القسم لا مفهوم لها.
ثمّ بعد هذا كلّه، فإنّ الرسم القرآني لجميع المصاحف هو ورود الحرف «ق» مفرداً، في حين أنّ جبل «قاف» يُكتب رسمه على هيئة إسمه الكامل «قاف».
ومن جملة الاُمور التي تثبت على أنّ هذا الحرف «ق» هومن الحروف المقطّعة المذكورة لبيان عظمة القرآن هو مجيء القسم مباشرةً ـ بعد هذا الحرف ـ بالقرآن المجيد إذ يقول سبحانه: (ق والقرآن المجيد).
كلمة «المجيد» مشتقّة من المجد ومعناها الشرف الواسع، وحيث أنّ القرآن عظمته غير محدودة وشرفه بلا نهاية، فهو جدير بأن يكون مجيداً من كلّ جهة، فظاهره رائق، ومحتواه عظيم، وتعاليمه عالية، ومناهجه مدروسة، تبعث الروح والحياة في نفوس العباد.
ولسائل أن يسأل: ما المراد من ذكر هذا القسم؟ أو ما هو المقسم له؟! هناك بين المفسّرين إحتمالات كثيرة، ولكن مع الإلتفات إلى ما بعد القسم من الآيات فإنّه يبدو أنّ المقصود بالقسم أو جواب القسم هو مسألة النبوّة [نبوّة محمّد] أو نشور الناس وبعثهم بعد موتهم(2).
ثمّ يبيّن القرآن جانباً من إشكالات الكفّار والمشركين العرب الواهية فيذكر إشكالين منها .. الأوّل هو حكايته عنهم: {بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب}.
وهذا إشكال طالما أشار إليه القرآن وردّ عليه، وتكرار هذا الإشكال يدلّ على أنّه من إشكالات الكفّار الأساسية التي كانوا يكرّروها دائماً!.
ولم يكن النّبي محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) وحده قد أشكلوا عليه بهذا الإشكال، فالرسل أيضاً أشكلوا عليهم أيضاً بذلك بقولهم: { إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} [إبراهيم: 10].
وكانوا يقولون أحياناً: {مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ } [المؤمنون: 33] .
وربّما أضافوا أحياناً {لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا} [الفرقان: 7].
إلاّ أنّ جميع هذه الاُمور كانت حِججاً واهية وذريعة لعدم التسليم للحقّ.
والقرآن في هذه الآيات محلّ البحث لا يردّ على هذا الإشكال، لأنّه أجاب عليه مراراً، وهو إن أردنا أن نرسل ملكاً لجعلناه على صورة بشر .. أي أنّ قادة الناس ينبغي أن يكونوا منهم فحسب ليكونوا قادرين على معرفة همومهم وآلامهم ورغباتهم وحاجاتهم ومسائل حياتهم، وليكونوا اُسوة لهم من الناحية العملية ولئلاّ يقولوا لو كانوا أمثالنا لما ظلّوا طاهرين أنقياء!
فمناهج الملائكة تتناسب معهم ولا تتناسب مع طموحات البشر وآلامهم :
وبعد إشكالهم الأوّل على نبوّة النّبي محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو كيف يكون النّبي بشراً؟! كان لهم إشكال آخر على محتوى دعوته ووضعوا أصابع الدهشة على مسألة اُخرى كانت عندهم أمراً غريباً وهي {أإذا متنا وكنّا تراباً ذلك رجع بعيد}(3).
وعلى كلّ حال، كانوا يتصوّرون أنّ العودة للحياة مرّة اُخرى بعيدة لا يصدّقها العقل، بل كانوا يرونها محالا ويعدّون من يقول بها ذا جنّة! كما نقرأ ذلك في الآيتين 7 و8 من سورة سبأ إذ: {قال الذين كفروا هل ندلّكم على رجل ينبئكم إذا مزّقتم كلّ ممزّق إنّكم لفي خلق جديد أفترى على الله كذباً أم به جنّة}.
ولم يكن هذا الإشكال الذي أوردوه على النّبي هنا فحسب، بل أشكلوا عليه به عدّة مرّات وسمعوا ردّه عليهم، إلاّ أنّهم كرّروا عليه ذلك عناداً.
وعلى كلّ حال، فإنّ القرآن يردّ عليهم بطرق متعدّدة! فتارةً يشير إلى علم الله الواسع فيقول: (قد علمنا ما تنقص الأرض منهم وعندنا كتاب حفيظ).
إذا كان إشكالكم هو أنّه كيف تجتمع عظام الإنسان النخرة ولحمه الذي صار تراباً وذرّاته التي تبدلّت إلى بخار وغازات متفرّقة في الهواء، ومن يجمعها؟! أومن يعرف عنها شيئاً؟! فجواب ذلك معلوم .. فالله الذي أحاط بكلّ شيء علماً يعرف جميع هذه الذرّات ويجمعها متى شاء، كما أنّ ذرّات الحديد المتناثرة في تلّ من الرمل يمكن جمعها بقطعة من «المغناطيس» فكذلك جمع ذرّات الإنسان أيسر على الله من ذلك.
وإذا كان إشكالهم أنّه من يحفظ أعمال الإنسان ليوم المعاد، فالجواب على ذلك أنّ جميع أعمال الناس في لوح محفوظ، ولا يضيع أي شيء في هذا العالم، وكلّ شيء ـ حتّى أعمالكم ـ سيظلّ باقياً وإن تغيّر شكله.
(الكتاب الحفيظ) معناه الكتاب الذي يحفظ جميع أعمال الناس وغيرها، وهو إشارة إلى «اللوح المحفوظ» الذي بيّنا معناه بتفصيل في ذيل الآية (39) من سورة الرعد.
ثمّ يردّ القرآن عليهم بجواب آخر، وفيه منحى نفسي أكثر إذ يقول: {بل كذّبوا بالحقّ لمّا جاءهم}.
أي إنّهم جحدوا الحقّ مع علمهم به، وإلاّ فإنّه لا غبار على الحقّ، وكما سيتّضح في الآيات المقبلة فإنّهم يرون صورة مصغّرة للمعاد بأعينهم مراراً في هذه الدنيا وليس عندهم مجال للشكّ والتردّد!
لذلك فإنّ القرآن يختتم هذه الآية مضيفاً: {فهم في أمر مريج}! فلأنّهم كذّبوا الرسالة فهم دائماً في تناقض في القول وحيرة في العمل وإضطراب في السلوك.
فتارةً يتّهمون النّبي بأنّه مجنون أو أنّه شاعر أوكاهن.
وتارةً يعبّرون عن كلماته بأنّها «أساطير الأوّلين».
وتارةً يقولون بأنّه يعلّمه بشر.
وتارةً يقولون عنه بأنّه ساحر لنفوذ كلماته في القلوب.
وتارةً يقولون بأنّنا نستطيع أن نأتي بمثله.
وهذه الكلمات المتفرّقة والمتناقضة تدلّ على أنّهم فهموا الحقّ، إلاّ أنّهم يتذرّعون بحجج واهية شتّى، ولذلك لا يقرّون على كلام واحد أبداً.
وكلمة «مريج» مشتقّة من مرج ـ على زنة حرج ـ ومعناها الأمر المختلط والمشتبه والمشوش، ولذلك فقد أطلقوا على الأرض التي تكثر فيها النباتات المختلفة والمتعدّدة بأنّها «مرج» أو «مرتع».
وقوله تعالى : {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} [ق: 6 - 11]:
انظروا إلى السماء لحظةً!
هذه الآيات تواصل البحث عن دلائل المعاد، فتارةً تتحدّث عن قدرة الله المطلقة لإثبات المعاد، واُخرى تستشهد له بوقائع ونماذج تحدث في الدنيا تمثّل حالة المعاد.
فهي تستجلب وتُلفت أنظار المنكرين إلى خلق السماوات فتقول: (أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيّناها).
والمراد بالنظر هنا هو النظر المقترن بالتفكير الذي يدعو صاحبه لمعرفة عظمة الخالق الذي خلق السماء الواسعة وما فيها من عجائب مذهلة وتناسق وجمال وإستحكام ونظم ودقّة.
جملة (وما لها من فروج) أي لا إنشقاق فيها، إمّا أن يكون بمعنى عدم وجود النقص والعيب وإرتباك كما ذهب إليه بعض المفسّرين، أو أن يكون معناه عدم الإنشقاق والإنفطار في السماء المحيطة بأطراف الأرض وهي ما يعبّر عنها بالغلاف الجوّي للأرض أو ما يعبّر القرآن عنه بالسقف المحفوظ كما ورد ذلك في سورة الأنبياء الآية (32) إذ توصد الطريق بوجه النيازك والسدم والشُهب التي تهوي بإستمرار نحو الأرض وبسرعة هائلة وقبل أن تصل إلى الأرض تستحيل إلى شعلة فرماد، كما أنّها تحجب الأشعّة الضارّة للشمس وغيرها من الأشعّة الكونية، وإلاّ فإنّ السماء معناها الفضاء الواسع الذي تسبح فيه الأجرام الكروية المعروفة بالنجوم.
وهنا إحتمال ثالث أيضاً، وهو أنّ الجملة السابقة إشارة إلى نظرية وجود «الأثير» .. وطبقاً لهذه النظرية فإنّ جميع عالم الوجود بما فيه الفواصل التي تقع ما بين النجوم ـ مليء من مادّة عديمة اللون والوزن تُدعى بـ «الأثير» وهي تحمل أمواج النور وتنقلها من نقطة لاُخرى، وطبقاً لهذه النظرية فإنّه لا وجود لأيّة فُرجة ولا فجوة ولا إنشقاق في عالم الإيجاد والخلق، وجميع الأجرام السماوية والكواكب السيارة تموج في الأثير!
وبالطبع فإنّه لا منافاة بين هذه التفاسير الثلاثة وإن كانت النظرية الثالثة التي تعتمد على فرضية الأثير لا يعوّل عليها ولا يمكن الركون إليها، لأنّ موضوع الأثير ما يزال قيد الدرس ولم يثبت بصورة قطعيّة عند جميع العلماء لحدّ الآن!
ثمّ تشير الآيات إلى عظمة الأرض فتقول: {والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كلّ زوج بهيج}.
أجل، خلق الأرض من جهة، ثمّ اتّساعها «وخروجها من تحت الماء» من جهة اُخرى، ووجود الجبال «الرواسي» عليها وإرتباط بعضها ببعض كأنّها السلاسل التي تشدّ الأرض وتحفظها من الضغوط الداخلية والخارجية والجزر والمدّ الحاصلين من جاذبية الشمس والقمر من جهة ثالثة .. ووجود أنواع النباتات بما فيها من عجائب واتّساق وجمال من جهة رابعة جميعها تدلّ على قدرته اللاّ محدودة(4).
والتعبير بـ (من كلّ زوج) إشارة إلى مسألة الزوجية في عالم النباتات التي لم تكن معروفة كأصل كلّي حين نزول الآيات محلّ البحث، وبعد قرون وسنين متطاولة إستطاع العلم أن يميط النقاب عنها. أو أنّه إشارة إلى إختلاف النباتات وأنواعها المتعدّدة، لأنّ التنوّع والإختلاف في عالم النبات عجيب ومذهل.
أمّا الآية التالية فهي بمثابة الإستنتاج إذ تقول: {تبصرةً وذكرى لكلّ عبد منيب}(5).
أجل إنّ من له القدرة على خلق السماوات بما فيها من عظمة وجمال وجلال، والأرض بما فيها من نعمة وجمال ودقّة، كيف لا يمكنه أن يلبس الموتى ثوب الحياة مرّة اُخرى وأن يجعل لهم معاداً وحياة اُخرى!؟
ترى أليست هذه القدرة المذهلة العظيمة دليلا واضحاً على إمكان المعاد؟!
أمّا الآية التالية ففيها إستدلال آخر على هذا الأمر إذ تقول: {ونزّلنا من السماء ماءً مباركاً فأنبتنا به جنّات وحبّ الحصيد}.
«الجنّات» هنا إشارة إلى بساتين الثمار، أمّا (حبّ الحصيد) فإشارة إلى الحبوب التي تعدّ مادّة أساسيّة لغذاء الإنسان كالحنطة والشعير والذرّة وغيرها.
ثمّ تضيف الآية: {والنخل باسقات لها طلع نضيد} كلمة: «باسقات» جمع باسقة بمعنى الشجرة المرتفعة العالية و«الطلع» ثمر النخل وما يكون منه الرطب والتمر بعدئذ، وكلمة «النضيد» معناها المتراكم بشكل دقيق، والمعروف أنّ عذق النخل قبل أن ينشقّ، يحمل داخله طلعاً متراكباً متراكماً وحين ينشقّ هذا الطلع يكون مذهلا وعجيباً.
والآية الأخيرة من الآيات محلّ البحث تقول: {رزقاً للعباد وأحيينا به بلدةً ميتاً كذلك الخروج}(6)
وهكذا فانّ هذه الآيات ضمن بيان النعم العظمى للعباد وتحريك إحساس الشكر فيهم في مسير المعرفة تذكّرهم بأنّهم يرون مثلا للمعاد كلّ سنة في حياتهم في هذه الدنيا، فالأرض الميتة الخالية واليابسة تهتزّ وتنبت النباتات عليها عند نزول قطرات الغيث وكأنّ أصداء القيامة تترنّم على شفاه النباتات قائلة: «وحده لا شريك له».
فهذه الحركة العظيمة نحو الحياة في عالم النباتات تكشف عن هذه الحقيقة، وهي أنّ باريء عالم الموجودات قادر على إحياء الموتى مرّةً اُخرى، لأنّ وقوع الشيء أقوى دليل على إمكانه!.
________________________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج13، ص149-155.
2 ـ وتقدير الكلام هكذا «ق والقرآن المجيد إنّك لرسول الله» أو.. لتُبعثنّ أو أنّ البعث حقّ إلخ..
3 ـ جواب إذا محذوف ويعرف من الجملة التالية وتقديرها: «أإذا متنا وكنّا تراباً نرجع ونردّ
أحياء ذلك رجع بعيد».
4 ـ كنّا قد بحثنا فوائد إيجاد الجبال واتّساع الأرض وبسطها وزوجية النباتات بحثاً مفصّلا في
سورة الرعد ذيل الآية (3).
5 ـ يمكن أن تكون تبصرة مفعولا لأجله كما يمكن أن تكون مفعولا مطلقاً .. إلاّ أنّ الإحتمال
الأوّل أنسب، ومثل هذا يقع الكلام على كلمة «ذكرى».
6 ـ بحثنا هذا الموضوع في آيات اُخرى أيضاً فراجع ذيل الآية (9) من سورة فاطر وذيل الآيات الأخيرة من سورة (يس).
|
|
"عادة ليلية" قد تكون المفتاح للوقاية من الخرف
|
|
|
|
|
ممتص الصدمات: طريقة عمله وأهميته وأبرز علامات تلفه
|
|
|
|
|
المجمع العلمي للقرآن الكريم يقيم جلسة حوارية لطلبة جامعة الكوفة
|
|
|