أقرأ أيضاً
التاريخ: 16-11-2016
1420
التاريخ: 6-11-2017
1279
التاريخ: 4-9-2019
1299
التاريخ: 12-4-2019
1661
|
معاوية بن أبي سفيان:
قال ابن أبي الحديد المعتزلي:
ومعاوية مطعون في دينه عند شيوخنا رحمهم الله، يرمى بالزندقة (1).
وقال أيضاً:
وقد طعن كثير من أصحابنا في دين معاوية، ولم يقتصروا على تفسيقه، وقالوا عنه إنه كان ملحداً لا يعتقد بالنبوة، ونقلوا عنه في فلتات كلامه وسقطات ألفاظه ما يدل على ذلك.
وروى الزبير بن بكار في (الموفقيات) -وهو غير متهم على معاوية، ولا منسوب الى اعتقاد الشيعة، لما هو معلوم من حاله من مجانبة علي (عليه السلام)، والانحراف عنه-: قال المطرّف بن المغيرة بن شعبة: دخلت مع أبي على معاوية، وكان أبي يأتيه فيتحدث معه ثم ينصرف إلي، فيذكر معاوية وعقله، ويُعجب بما يرى منه، إذ جاء ذات ليلة فأمسك عن العشاء، ورأيته مغتماً فانتظرته ساعة، وظننت أنه لأمر حدث فينا، فقلت: ما لي أراك مغتماً منذ الليلة؟ فقال: يا بني جئتُ من عند أكفر الناس وأخبثهم قلت: وما ذاك؟! قال: قلت له وقد خلوت به: إنك قد بلغت سناً يا أمير المؤمنين، فلو أظهرت عدلا وبسطت خيراً، فإنك قد كبرت، ولو نظرت إلى إخوتك من بني هاشم فوصلت أرحامهم، فوالله ما عندهم اليوم شي تخافه، وإن ذلك مما يبقى لك ذكره وثوابه. فقال: هيهات هيهات، أي ذكر أرجو بقاءه! مَلكَ أخو تيم فعدل، وفعل ما فعل، فما عدا أن هلك حتى هلك ذكره، إلاّ أن يقول قائل: أبو بكر، ثم ملك أخو عدي، فاجتهد وشمّر عشر سنين، فما عدا أن هلك حتى هلك ذكره، إلاّ أن يقول قائل: عمر، وإن ابن أبي كبشة ليُصاح به كل يوم خمس مرات "أشهد أن محمداً رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فأيُّ عمل يبقى وأيُّ ذكر يدوم بعد هذا لا أبا لك، لا والله إلاّ دفناً دفناً!!" (2).
وأما أفعاله المجانبة للعدالة الظاهرة، من لبسه الحرير وشربه في آنية الذهب والفضة، حتى أنكر عليه أبو الدرداء، فقال له: إني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: "إن الشارب فيهما ليجرجر في جوفه نار جهنم"، وقال معاوية: أما أنا فلا أرى بذلك بأساً فقال أبو الدرداء: من عذيري من معاوية أنا اُخبره عن الرسول (صلى الله عليه وآله) وهو يخبرني عن رأيه لا اُساكنك بأرض أبداً.
نقل هذا الخبر المحدّثون والفقهاء في كتبهم (3) في باب الاحتجاج على أن خبر الواحد معمول به في الشرع، وهذا الخبر يقدح في عدالته، كما يقدح أيضاً في عقيدته، لأن من قال في مقابلة خبر قد روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): أما أنا فلا أرى بأساً فيما حرّمه رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ليس بصحيح العقيدة، ومن المعلوم أيضاً من حالة استئثاره بمال الفيء، وضربه من لا حدّ عليه، واسقاط الحد عمن يستحق إقامة الحد عليه، وحكمه برأيه في الرعية وفي دين الله، واستلحاقه زياداً وهو يعلم قول رسول الله (صلى الله عليه وآله): "الولد للفراش وللعاهر الحجر"، وقتله حجر ابن عدي وأصحابه ولم يجب عليهم القتل، ومهانته لأبي ذر الغفاري وجبهه وشتمه وإشخاصه الى المدينة على قتب بغير وطاء لإنكاره عليه، ولعنه علياً وحسناً وحسيناً وعبدالله بن عباس على منابر الإسلام، وعهده بالخلافة إلى ابنه يزيد مع ظهور فسقه وشربه المسكر جهاراً، ولعبه بالنرد، ونومه بين القيان المغنيات واصطحابه معهن، ولعبه بالطنبور بينهن، وتطريقه بني اُمية للوثوب على مقام رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وخلافته حتى أفضت الى يزيد بن عبدالملك، والوليد ابن يزيد المفتضحين الفاسقين، صاحب حبّابة وسلاّمة، والآخر رامي المصحف بالسّهام، وصاحب الأشعار في الزندقة والالحاد..(4)
ليس ثمة شك في أن بعض المتأثرين بأقوال المؤلفين من أصحاب الاتجاه المحافظ يعتقدون أن في كلام ابن أبي الحديد، أو الزبير بن بكّار مبالغة دعا إليها التعصب المذهبي أو الخلاف العقدي، وأن الزبير بن بكار قد أورد تلك الرواية - وما فيها من أقوال لمعاوية تثبت زندقته وإلحاده- تقرباً الى الخلفاء العباسيين الذين يسرّهم الطعن في معاوية وبني اُمية، بسبب العداء المستحكم بين الطرفين، ولكن الذي يحقق في التاريخ الاسلامي جيداً سوف يعلم أن هذا الادعاء ليس صحيحاً البتة، وأن موقف العباسيين من معاوية لم يكن كما يظن هؤلاء، بعد أن نتحقق من كلام ابن أبي الحديد وما أورده من أخبار عن معاوية معتمدين على أقوال العلماء والمحدّثين الذين يعتدّ برأيهم وهم قطعاً ليسوا متّهمين على معاوية، بل على العكس فسوف يتبين لنا أن معظم اُولئك العلماء، ورغم اعترافهم بتلك الحقائق التي لا يجدون مناصاً من إثباتها، فإن البعض منهم يحاول تأويلها أو حتى تحريفها - بكل أسف- حفاظاً على كرامة معاوية الصحابي، فأخبار اُولئك العلماء تناقض آراءهم في معاوية، ولكنهم يوردونها معتقدين صحتها مع محاولة التملص منها أو توجيهها وجهة تحفظ لمعاوية ماء وجهه، وهيهات من سبيل الى ذلك.
1 - لبس الحرير وجلود السباع
لا خلاف بين الفقهاء في أن لبس الحرير وجلود السباع محرّم على المسلمين، وقد أخرج المحدّثون العديد من الأحاديث عن النبي (صلى الله عليه وآله) في النهي عن ذلك، وعلم بذلك الصحابة، ورأوا معاوية يخالف النهي النبوي، فوعظوه رغم علمهم بأنه يعلم حرمة ذلك، مما يدل على مدى استهتار معاوية بأقوال النبي (صلى الله عليه وآله) ونواهيه، فقد أخرج المحدثون عن خالد، قال:
وفد المقدام بن معد يكرب وعمرو بن الأسود ورجل من بني أسد من أهل قنسرين الى معاوية ابن أبي سفيان، فقال معاوية للمقدام: أعلمت أن الحسن بن علي توفي؟ قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، فرجّع المقدام، فقال له فلان: أتعدّها مصيبة؟ فقال له: ولم لا أراها مصيبة وقد وضعه رسول الله (صلى الله عليه وآله) في حجره فقال: "هذا منّي وحسين من علي"، فقال الاسدي: جمرة أطفأها الله، فقال المقدام: أما أنا فلا أبرح اليوم حتى اُغيظك واُسمعك ما تكره، ثم قال: يا معاوية، إن أنا صدقتُ فصدقني، وإن أنا كذبتُ فكذّبني، قال: أفعل. قال: فأنشدك بالله، هل سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) ينهي عن لبس الذهب، قال: نعم، قال: فأنشدك بالله هل تعلم أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) نهى عن لبس الحرير؟ قال: نعم. قال: فأنشدك بالله، هل تعلم أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) نهى عن لبس جلود السباع والركوب عليها؟ قال: نعم. قال: فوالله لقد رأيت هذا كله في بيتك يا معاوية فقال معاوية: قد علمتُ أني لن أنجو منك يا مقدام..(5)
2 - الاستئثار بمال الفيء
جرت العادة منذ عهد النبي (صلى الله عليه وآله) أن يؤخذ من الغنائم التي يحصل عليها المسلمون في الحرب خمسها لتوزع على الأوجه التي أمر الله سبحانه وتعالى بها، وأما الأربعة أخماس المتبقية فهي حق المقاتلين المسلمين، حيث كانت توزع عليهم. ولكن معاوية خالف أمر الله وسنة نبيه (صلى الله عليه وآله) في ذلك، عندما أراد أن يستصفي الذهب والفضة من تلك الغنائم لنفسه بغير وجه حق، فقد أخرج الحاكم النيسابوري وغيره من الحفاظ والمؤرخين، عن الحسن، قال: بعث زياد بن الحكم بن عمرو الغفاري على خراسان، فأصابوا غنائم كثيرة، فكتب إليه زياد: أما بعد، فإن أمير المؤمنين كتب أن يصطفى له البيضاء والصفراء، ولا تقسم بين المسلمين ذهباً ولا فضة.
فكتب اليه الحكم: أما بعد، فإنك كتبت تذكر كتاب أمير المؤمنين، وإني وجدت كتاب الله قبل كتاب أمير المؤمنين، وإني أُقسم بالله لو كانت السماوات والأرض رتقاً على عبد، فاتقى الله، لجعل له من بينهم مخرجاً، والسلام.
أمر الحكم منادياً فنادى: أن اغدوا على فيئكم، فقسمه بينهم، وإن معاوية لما فعل الحكم في قسمة الفيء ما فعل، وجّه إليه من قيّده وحبسه، فمات في قيوده ودُفن فيها، وقال: إني مخاصم (6).
فمعاوية يريد أن يصطفي كل الذهب والفضة من أموال الغنائم التي هي حق للمقاتلين الذين أصابوها برماحهم وسيوفهم وبذلوا فيها دماءهم، مع العلم أن الخليفة - لو افترضنا صحة خلافته- ليس له الحق في التحكم في غير الخمس، وهذا الخمس ليس حقاً خالصاً له، بل هو لبيت المال، ولإنفاقه على مصالح المسلمين، وكذلك كانت سيرة النبي (صلى الله عليه وآله)، فعن عبدالله بن شقيق، عن رجل من بلقين (عندما سأل رسول الله عن بعض الاُمور حتى قال): قلت: فما تقول في الغنيمة؟ قال: "لله خمسها، وأربعة أخماسها للجيش". قلت: فما أحد أولى به من أحد؟ قال: لا، ولا السهم تستخرجه من جنبك أحق به من أخيك المسلم (7).
فأخذ شيء من أموال الفيء بغير وجه حق يعدّ من الغلول، وقد شدّد النبي (صلى الله عليه وآله) على تحريم ذلك مهما كان هذا الشيء الذي يغلّه المرء بسيطاً، وأن الشهيد الذي يغلّ شيئاً من الغنم لا يعدّ شهيداً، ويدخل النار بسبب ذلك وقد استفاضت الأحاديث النبوية التي تؤكد ذلك، فعن أبي هريرة قال: خرجنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوم خيبر، فلم يغنم ذهباً ولا فضة، إلاّ الأموال والثياب والمتاع، فأهدى رجل من بني الضّيب، يقال له رفاعة بن زيد لرسول الله (صلى الله عليه وآله) غلاماً يقال له مِدعَم. فوجّه رسول الله (صلى الله عليه وآله) الى وادي القرى، حتى إذا كان بوادي القرى، بينما مدعم يحط رحلا لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، إذا سهم عائر فقتله، فقال الناس: هنيئاً له الجنة. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "كلا والذي نفسي بيده، إن الشملة التي أخذها يوم خيبر من المغانم، لم تُصبها المقاسم، لتشتعل عليه ناراً"، فلما سمع ذلك الناس، جاء رجل بشراك أو شراكين الى النبي (صلى الله عليه وآله)، فقال: "شراك من نار، أو شراكان من نار" (8).
وعن خالد الجهني، قال: توفي رجل يوم حنين، وإنهم ذكروه لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، فزعم زيد أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: "صلّوا على صاحبكم" فتغيرت وجوه الناس لذلك، فزعم زيد أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: "إن صاحبكم قد غلَّ في سبيل الله"، قال: ففتحنا متاعه فوجدنا خرزات من خرز يهود، ما تساوي درهمين (9).
ومن المعلوم أن النبي (صلى الله عليه وآله) نهي عن الصلاة على المنافقين، فالذي يغل- وإن قتل بعد ذلك في سبيل الله- يصبح في زمرة المنافقين، والمنافقون في الدرك الأسفل من النار.
قال النووي: إن الغلول يمنع من إطلاق اسم الشهادة على من غل (10).
كما جاء عن عمرو بن شعيب، أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) حين صدر من حُنين وهو يريد الجعرانة، سأله الناس حتى دنت ناقته من شجرة فتشبكت بردائه حتى نزعته عن ظهره، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "ردّوا علي ردائي، أتخافون أن لا أُقسم بينكم ما أفاء الله عليكم والذي نفسي بيده لو أفاء الله عليكم سمر تهامة نَعماً لقسمته بينكم، ثم لا تجدوني بخيلا ولا جباناً ولا كذاباً". فلما نزل رسول الله (صلى الله عليه وآله)، قام في الناس فقال "أدوا الخياط والمخيط، فإن الغلول عارٌ ونارٌ وشنار على أهله يوم القيامة". ثم تناول من الأرض وبرة من بعير أو شيئاً ثم قال: "والذي نفسي بيده، مالي مما أفاء الله عليكم ولا مثل هذه إلاّ الخمس، والخمس مردود عليكم" (11).
فهذه هي سيرة النبي (صلى الله عليه وآله) في الفيء، وهذه هي تحذيراته الشديدة من الغلول مهما كان بسيطاً، ورغم ذلك فإن معاوية يضرب بهذه السيرة وهذه النواهي عرض الحائط، ويريد أن يغل ذهب المغنم وفضته كله!
3 - اسقاط الحد
روى ابن كثير عن القاضي الماوردي في (الأحكام السلطانية) قال: وحكي أن معاوية اُتي بلصوص فقطعهم، حتى بقي واحد من بينهم فقال:
بعفــوك أن تلقى مكاناً يشينها ... يميني أميـــــر المؤمنين أعيذها
ولا تقدم الحسناء عيباً يشينها ... يدي كانت الحسناء لو تم سترها
إذا ما شمالـــي فارقتها يمينها ... فلا خير فــي الدنيا وكانت حبيبة
فقال معاوية: كيف أصنع بك؟ قد قطعنا أصحابك، فقالت اُم السارق: يا أمير المؤمنين، اجعلها في ذنوبك التي تتوب منها فخلى سبيله، فكان أول حدّ تُرك في الاسلام (12).
لا شك أن التهاون في إقامة حدود الله يعدّ بادرة خطيرة تؤدي الى تفشّي الفساد في أوصال المجتمع، لأنه يجرّيء الأشقياء على ارتكاب الجرائم دون خوف من عقاب، فينشأ من ذلك اختلال الأمن في المجتمع، ولهذا شدّد النبي (صلى الله عليه وآله) على هذا الأمر، فعن عائشة أن قريشاً أهمّتهم المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا: من يكلّم رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومن يجترئ عليه إلاّ اُسامة حبّ رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فكلم رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: "أتشفع في حدّ من حدود الله". ثم قام فخطب، قال: "إنما ضلّ من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه، وإذا سرق الضعيف فيهم أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها" (13).
ولكن معاوية أعطى لنفسه هذا الحق، وبعد قول الله تعالى {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 229] (14).
4 - إستلحاق زياد:
أورد الطبري خبر استلحاق معاوية زياداً ضمن أحداث سنة أربع وأربعين، قال: حدثني عمر بن شبة قال: زعموا أن رجلا من عبد القيس كان مع زياد لما وفد على معاوية فقال لزياد: إن لابن عامر عندي يداً، فإن أذنت لي أتيته، قال: على أن تحدثني ما يجري بينك وبينه قال: نعم، فأذن له فأتاه، فقال له ابن عامر: هيه هيه وابن سمية يقبّح آثاري ويعرّض بعمالي لقد هممت أن آتي بقسامة من قريش يحلفون أن أبا سفيان لم ير سمية، قال: فلما رجع سأله زياد، فأبى أن يخبره، فلم يدعه حتى أخبره. فأخبر ذلك زياد معاوية، فقال معاوية لحاجبه: إذا جاء ابن عامر فاضرب وجه دابته عن أقصى الأبواب. ففعل ذلك به، فأتى ابن عامر يزيد، فشكا إليه ذلك فقال له: هل ذكرت زياداً؟ قال: نعم. فركب معه يزيد حتى أدخله، فلما نظر إليه معاوية قام فدخل، فقال يزيد لابن عامر: إجلس فكم عسى أن تقعد في البيت عن مجلسه فلما أطالا، خرج معاوية وفي يده قضيب يضرب به الأبواب ويتمثل:
قد علمت ذلكم الرفاق *** لنا سياقٌ ولكم سياق
ثم قعد فقال: يابن عامر، أنت القائل في زياد ما قلت! أما والله لقد علمت العرب أني كنت أعزّها في الجاهلية، وأن الإسلام لم يزدني الاّ عزاً، وأني لم أتكثر بزياد من قلة، ولم أتعزّز به من ذلة، ولكن عرفت حقاً له فوضعته موضعه، فقال: يا أمير المؤمنين، نرجع الى ما يحب زياد، قال: إذاً نرجع الى ما تحب، فخرج ابن عامر الى زياد فترضّاه.
كما ونقل الطبري عن أحمد بن زهير بسنده قال: إن زياداً لما قدم الكوفة قال: قد جئتكم في أمر ما طلبته إلاّ اليكم. قالوا: ادعنا الى ما شئت. قال: تُلحقون نسبي بمعاوية قالوا: أما بشهادة الزور، فلا. فأتى البصرة فشهد له رجل (15).
هذه هي قصة الاستلحاق برواية شيخ المؤرخين الطبري، ولا يخفى على القارئ اللبيب أن الطبري قد بتر القصة كلها، ولم يذكر منها إلاّ ذيلها، مما هو مشهور بين المؤرخين والمحدثين والعلماء والفقهاء قاطبة، والذين أخرجوا قصة الاستلحاق بتمامها في كتبهم، وقد أنكر ابن الأثير على الطبري إكتفاءه بهذا القدر من القصة، فقال -بعد أن أوردها-:
هذا جميع ما ذكره أبو جعفر في استلحاق معاوية نسب زياد، ولم يذكر حقيقة الحال في ذلك وكيفيته، فإنه من الاُمور المشهورة الكبيرة في الإسلام لا ينبغي اهمالها. وكان ابتداء حاله أن سمية اُم زياد كانت لدهقان زندورد بكسكر، فمرض الدهقان، فدعا الحارث بن كلدة الطبيب الثقفي، فعالجه فبرأ، فوهبه سميّة، فولدت عند الحارث أبا بكرة، واسمه نفيع، فلم يُقرّ به، ثم ولدت نافعاً، فلم يُقرّ به أيضاً، فلما نزل أبو بكرة الى النبي (صلى الله عليه وآله) حين حصر الطائف، قال الحارث لنافع: أنت ولدي، وكان قد زوّج سميّة من غلام له إسمه عبيد، وهو رومي، فولدت له زياداً.
وكان أبو سفيان بن حرب سار في الجاهلية الى الطائف، فنزل على خمّار يقال له أبو مريم السّلولي - وأسلم أبو مريم بعد ذلك وصحب النبي (صلى الله عليه وآله) - فقال أبو سفيان لأبي مريم: قد اشتهيت النساء فالتمس لي بغيّاً. فقال له: هل لك في سمية؟ فقال: هاتها ... فوقع عليها فعلقت بزياد، ثم وضعته في السنة الاولى من الهجرة، فلما كبر ونشأ استكتبه أبو موسى الأشعري لما ولي البصرة، ثم إن عمر بن الخطاب استكفى زياداً أمراً، فقام فيه مقاماً مرضياً، فلما عاد إليه حضر، وعند عمر المهاجرون والأنصار، فخطب خطبة لم يسمعوا بمثلها، فقال عمرو بن العاص: لله هذا الغلام، لو كان أبوه من قريش لساق العرب بعصاه. فقال أبو سفيان -وهو حاضر-: والله إني لأعرف أباه ومن وضعه في رحم اُمه فقال علي: يا أبا سفيان، اسكت، فإنك لتعلم أن عمر لو سمع هذا القول منك لكان إليك سريعاً.
فلما ولي علي الخلافة استعمل زياداً على فارس، فضبطها، وحمى قلاعها، واتصل الخبر بمعاوية فساءه ذلك، وكتب الى زياد يتهدده ويعرّض له بولادة أبي سفيان إياه، فلما قرأ زياد كتابه قام في الناس وقال: العجب كل العجب من ابن آكلة الأكباد ورأس النفاق يخوّفني بقصده إياي وبيني وبينه ابنا عم رسول الله (صلى الله عليه وآله) في المهاجرين والأنصار أما والله لو أذن لي في لقائه لوجدني أضمر مخشيّاً ضرّاباً بالسيف.
وبلغ ذلك علياً فكتب إليه: إني وليتك وأنا أراك له أهلا، وقد كانت من أبي سفيان فلتة من أماني الباطل وكذب النفس لا توجب له ميراثاً ولا تحلّ له نسباً، وإن معاوية يأتي الإنسان من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله، فاحذر ثم احذر والسلام.(16)
فلما قُتل علي[عليه السلام]، وكان من أمر زياد ومصالحته معاوية، واضع زياد مصقلة بن هبيرة الشيباني وضمن له عشرين ألف درهم ليقول لمعاوية إن زياداً قد أكل فارس براً وبحراً وصالحك على ألفي ألف درهم، والله ما أرى الذي يقال إلاّ حقاً، فإذا قال لك: وما يقال؟ فقل: يقال إنه ابن أبي سفيان.
ففعل مصقلة ذلك، ورأى معاوية أن يستميل زياداً، واستصفى مودته بالتحاقه، فاتفقا على ذلك، وأحضر الناس وحضر من يشهد لزياد، وكان فيمن حضر: أبو مريم السلولي، فقال له معاوية: بم تشهد يا أبا مريم؟ فقال: أنا أشهد أن أبا سفيان حضر عندي وطلب مني بغياً، فقلت له: ليس عندي إلاّ سمية، فقال: ايتني بها ... فأتيته بها، فخلا معها.... فاستلحقه معاوية، وكان استلحاقه أول ما رُدّت أحكام الشريعة علانية، فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قضى بالولد للفراش وللعاهر الحجر.
وكتب زياد الى عائشة: من زياد بن أبي سفيان، وهو يريد أن يكتب له: الى زياد بن أبي سفيان، فيحتج بذلك، فكتبت: من عائشة اُم المؤمنين الى ابنها زياد وعظم ذلك على المسلمين عامة وعلى بني اُمية خاصة، وجرى بذلك أقاصيص يطول ذكرها...
ثم قال ابن الاثير: ومن اعتذر لمعاوية قال: إنما استلحق معاوية زياداً لأن أنكحة الجاهلية كانت انواعاً لا حاجة الى ذكر جميعها، وكان منها أن الجماعة يجامعون البغي فإذا حملت وولدت ألحقت الولد لمن شاءت منهم فيلحقه، فلما جاء الاسلام حرّم هذا النكاح، إلاّ أنه أقرّ كل ولد كان ينسب الى أب من أي نكاح كان من أنكحتهم على نسبه، ولم يفرق بين شيء منها، فتوهم معاوية أن ذلك جائز له، ولم يفرّق بين استلحاق في الجاهلية والاسلام، وهذا مردود لاتفاق المسلمين على انكاره، ولأنه لم يستلحق أحد في الاسلام مثله ليكون به حجة (17).
وقال ابن عبد البر: فلما بلغ أبا بكرة أن معاوية استلحقه وأنه رضي بذلك، آلى يميناً لا يكلمه أبداً، وقال: هذا زنّى اُمه وانتفى من أبيه، لا والله ما علمت سمية رأت أبا سفيان قط، ويله ما يصنع باُم حبيبة زوج النبي (صلى الله عليه وآله)، أيريد أن يراها، فإن حجبته فضحته، وإن رآها فيالها مصيبة يهتك من رسول الله (صلى الله عليه وآله) حرمة عظيمة!
وحج زياد في زمن معاوية ودخل المدينة، فأراد الدخول على اُم حبيبة، ثم ذكر قول أبي بكرة فانصرف عن ذلك.
وقيل: إن اُم حبيبة زوج النبي (صلى الله عليه وآله) حجبته ولم تأذن له في الدخول عليها، وقيل: انه حج ولم يزر من أجل قول أبي بكرة وقال: جزى الله أبا بكرة خيراً، فما يدع النصيحة على حال (18).
وقال ابن كثير:
قال ابن جرير، وفي هذه السنة استلحق معاوية زياد بن أبيه فألحقه بأبي سفيان، وذلك أن رجلا شهد على إقرار أبي سفيان أنه عاهر بسمية اُم زياد في الجاهلية وأنها حملت بزياد هذا منه، فلما استلحقه معاوية قيل له: زياد بن أبي سفيان، وقد كان الحسن البصري ينكر هذا الاستلحاق ويقول: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "الولد للفراش وللعاهر الحجر" (19).
هذه هي قصة الاستلحاق كما ذكرها الأئمة الأعلام، ومن المؤسف أن تجد من يعتذر لمعاوية عن هذا العمل الشنيع الذي استنكره ابن الأثير وكفانا مؤونة الرد على المعتذرين لمعاوية، ولكن أسفاً على الاسلام أن يتصدى بعض الفقهاء والعلماء لتبرير مثل هذه الجرائم التي تقصم ظهر الاسلام والمسلمين، إلاّ أن ذلك ليس غريباً على من يبيع آخرته بدنيا غيره، فإن سياسة الترغيب والترهيب التي اتّبعها معاوية قد أوجدت طبقات من المتكسّبين الذين يبيعون دينهم بالدرهم.
قال عبدالرحمن الشرقاوي: "وكان بعض المنتسبين الى الفقه والثقافة وعلوم الدين قد صانعوا حكام بني اُمية وزيّنوا لهم الاستبداد، وأفتوا لهم بأنهم ظل الله في الأرض، وأنهم لا يُسألون عما يفعلون.. وفي الحق أن الحكام الاُمويين كانوا يحسنون مكافأة هؤلاء المتملقين فيجزلون لهم العطاء، ويولّون بعضهم" (20).
لكن الذي يبعث على الاستغراب أكثر من ذلك، أن يتصدى بعض العلماء لتبرير أعمال معاوية وبني اُمية بعد انقضاء دولتهم بقرون متطاولة -كما يفعل ابن العربي مثلا- فإذا كان اُولئك العلماء العملاء قد باعوا دينهم مقابل ثمن قبضوه من معاوية وبني اُمية، فممن يرتجي هؤلاء الجزاء؟! وكيف ينسون المواقف الشجاعة التي وقفها بعض الفقهاء الأتقياء الذين ندّدوا بعمل معاوية علانية رغم أنهم كانوا في ملكه ودولته، ومن هؤلاء: الحسن البصري الذي قال: أربع خصال كنّ في معاوية، لو لم يكن فيه منهنّ إلاّ واحدة، لكانت موبقة: انتزاؤه على هذه الاُمة بالسفهاء حتى ابتزها أمرها بغير مشورة منهم، وفيهم بقايا الصحابة وذوو الفضيلة، واستخلافه ابنه بعده سكيراً خميراً يلبس الحرير ويضرب بالطنابير، وادّعاؤه زياداً وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "الولد للفراش وللعاهر الحجر، وقتله حجراً، ويلا له من حجر وأصحاب حجر، ويلا له من حجر وأصحاب حجر" (21).
وعن ابن حرملة قال: ما سمعت سعيد بن المسيب سبَّ أحداً من الائمة قط، إلاّ أني سمعته يقول: قاتل الله فلاناً (يعني معاوية) كان أول من غيّر قضاء رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وقد قال النبي (صلى الله عليه وآله): "الولد للفراش وللعاهر الحجر" (22).
5 - أكل الربا
من الاُمور التي لا يخالج أحداً من المسلمين الشك فيها مطلقاً، حرمة الربا تحريماً قطعياً، والنهي الشديد عنه، والوعيد لآكله في الكتاب العزيز والسنّة النبوية الشريفة، وفقهاء المسلمين مجمعون بكافة طوائفهم على حرمة الربا وأنه من الكبائر.
وقد نعت القرآن الكريم أكلة الربا بأقبح النعوت والأوصاف، وتوّعدهم بشدّة، فقال عزّ من قائل: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 275] (23)، فالذي يصر على أكل الربا هو من الخالدين في النار، مثله في ذلك كمثل الكفار والمشركين كما وتهدّد القرآن الكريم المصرّين على أكل الربا بحرب من الله ورسوله، فقال تعالى ذكره: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 278، 279] (24).
أما السنّة النبوية الشريفة، فالأحاديث فيها في التشديد على حرمة الربا أكثر من أن تحصى، ولا يخلو منها كتاب من كتب الحديث، والفقه، وسوف أكتفي بالاستشهاد بأمثلة قليلة جداً منها:
عن أبي جحيفة قال: رأيت أبي اشترى حجاماً، فسألته عن ذلك، قال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) نهى عن ثمن الدم وثمن الكلب وكسب الأَمَة، ولعن الواشمة والمستوشمة، وآكل الربا ومؤكله، ولعن الصور (25).
وعن أبي هريرة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: "اجتنبوا السبع الموبقات" قيل: يا رسول الله، وما هن؟ قال: "الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرّم الله إلاّ بالحق، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات" (26).
وعن إبن مسعود مرفوعاً: "الربا ثلاث وسبعون باباً، أيسرها مثل أن ينكح الرجل اُمّه" (27).
هذا هو حكم آكل الربا ومؤكله في القرآن والسنّة، وهذا هو عقابه الأليم، فهو خالد في النار كالكفار، وهو محارب لله ورسوله...الخ.
ومع كل هذا فإن معاوية بن أبي سفيان الصحابي الذي يفترض أنه ممن يأخذ المسلمون دينهم عنهم لا يتورع عن أكل الربا، وليس هذا من تخرصات أحد مخالفيه أو من أكاذيب أهل البدع -كما يسميهم البعض- ولا هو من تقوّلات التاريخية الذين يكتبون للملوك المناوئين لبني اُمية، بل هو بشهادة الصحابة من أولي الفضل والتُقى، أخرجها عنهم أئمة الحديث من علماء الجمهور، فعن عطاء بن يسار: أن معاوية بن أبي سفيان باع سقاية من ذهب أو ورق بأكثر من وزنها، فقال أبو الدرداء: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) ينهى عن مثل هذا إلاّ مثلا بمثل. فقال له معاوية: ما أرى بثمل هذا بأساً! فقال أبو الدرداء: من يعذرني من معاوية أنا أخبره عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ويخبرني عن رأيه لا أُساكنك بأرض أنت بها، ثم قدم أبو الدرداء على عمر بن الخطاب فذكر له ذلك، فكتب عمر بن الخطاب الى معاوية: أن لا تبيع ذلك إلاّ مثلا بمثل، وزناً بوزن (28).
وعن أبي قلابة قال: كنت بالشام في حلقة فيها مسلم بن يسار، فجاء أبو الأشعث، قال: قالوا: أبو الاشعث، أبو الاشعث; فجلس، فقلت له: حدّث أخانا حديث عبادة بن الصامت. قال: نعم، غزونا غزاة وعلى الناس معاوية، فغنمنا غنائم كثيرة، فكان فيما غنمنا: آنية من فضة، فأمر معاوية رجلا أن يبيعها في اُعطيات الناس، فتسارع الناس في ذلك، فبلغ عبادة بن الصامت فقام فقال: إني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) ينهى عن بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبُر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح، إلاّ سواء بسواء، عيناً بعين، فمن زاد أو ازداد فقد أربى. فردّ الناس ما أخذوا، فبلغ معاوية فقام خطيباً فقال: ألا ما بال رجال يتحدثون عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أحاديث قد كنّا نشهده ونصحبه فلم نسمعها منه فقام عبادة بن الصامت فأعاد القصة ثم قال: لنحدثن بما سمعنا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وإن كره معاوية (أو قال: وإن رغم)، ما اُبالي أن لا أصحبه في جنده ليلة سوداء (29).
وفي رواية لابن عساكر عن الحسن، وفيها: فقال له معاوية: اسكت عن هذا الحديث ولا تذكره فقال له: بلى وإن رغم أنف معاوية، ثم قام فقال له معاوية: ما نجد شيئاً أبلغ فيما بيني وبين أصحاب محمد (صلى الله عليه وآله) من الصفح عنهم (30).
إن الملاحظ أن معاوية يريد أن يقرن نفسه بأصحاب النبي (صلى الله عليه وآله) الذين سارعوا الى الإيمان به منذ البداية، ورافقوه وشهدوا معه المشاهد، فيستنكر عليهم أن يرووا عنه أحاديث لم يسمع معاوية بها ولا أدري ما الغريب في ذلك فعبادة بن الصامت ممن بايع النبي (صلى الله عليه وآله) ليلة العقبة، وهو من النقباء، وهو بدري، وقد شهد مع النبي مشاهده (31).
بينما معاوية لم يُسلم إلاّ بعد فتح مكة، ولم يصحب النبي (صلى الله عليه وآله) إلاّ فترة وجيزة، فأنّى له الاحاطة بحديث النبي وسنته، حتى ينكر على عبادة وأمثاله من السبّاقين ولو أن معاوية اعترف بجهله بذلك، وارتدع عما يفعل، لكان له بعض العذر، لكننا نراه يصرّ على التمسك برأيه وينعى على الآخرين تبصيره بالحقيقة - إن كان يجهلها- مع العلم أن معاوية لابد وأن يكون قد سمع النبي (صلى الله عليه وآله) في حجة الوداع، في السنة العاشرة من الهجرة وهو يخطب قائلا: "أيها الناس. اسمعوا قولي فلعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبداً. أيها الناس، إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، وكل رباً موضوع، لكم رؤوس أموالكم، وإن ربا العباس بن عبدالمطلب موضوع كله..." (32).
ولا يكتفي معاوية بكل ذلك، بل يمنّ على أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله) بعد ذلك بالصفح عنهم وكأنهم هم المذنبون بأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، وهو المصيب بإصراره على المنكر والمحرّم!.
6 - بيع الأصنام
قال السرخسي: وذُكر عن مسروق قال: بعث معاوية بتماثيل من صفر تُباع بأرض الهند، فمرّ بها على مسروق رحمه الله، قال: والله لو أني أعلم أنه يقتلني لغرّقتها، ولكني أخاف أن يعذبني فيفتنني، والله لا أدري أي الرجلين معاوية، رجل قد زُيّن له سوء عمله، أو رجل يئس من الآخرة فهو يتمتع في الدنيا.
وقيل: هذه تماثيل كانت أصيبت في الغنيمة، فأمر معاوية ببيعها بأرض الهند بها الاسلحة والكراع للغزاة، فيكون دليلا لأبي حنيفة في جواز بيع الصنم والصليب ممن يعبده، كما هو طريقة القياس، وقد استعظم ذلك مسروق رحمه الله، كما هو طريق الاستحسان الذي ذهب إليه أبو يوسف ومحمد رحمهما الله في كراهة ذلك.
ومسروق من علماء التابعين، وكان يزاحم الصحابة رضي الله عنهم في الفتوى، وقد رجع ابن عباس الى قوله في مسألة النذر بذبح الولد، ولكن مع هذا، قول معاوية مقدّم على قوله وقد كانوا في المجتهدات يلحق بعضهم الوعيد بالبعض، كما قال علي: من أراد أن يتقحم جراثيم جهنم فليقل في الحد، يعني بقول زيد(رض). وإنما قلنا هذا لأنه لا يُظن بمسروق رحمه الله أنه قال في معاوية ما قال عن اعتقاد، وقد كان هو من كبار الصحابة رضي الله عنهم، وكان كاتب الوحي وكان أمير المؤمنين، وقد أخبره رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالملك بعده فقال له (عليه السلام) يوماً: "إذا ملكت أمر اُمتي فأحسن إليهم"، فكان هو مخطئاً في مزاحمة علي(رضي الله عنه)، تاركاً لما هو واجب عليه من الانقياد له، لا يجوز أن يقال فيه أكثر من هذا (33).
لقد أوردت كلام السرخسي كله في هذه القضية للتذكير بأن بعض فقهاء العصر الاُموي قد قبلوا أن يبيعوا دينهم بدراهم معاوية، إلاّ أننا نجد في الفقهاء المتأخرين عن عصر بني اُمية -كأمثال السرخسي هذا- من يبيع دينه لمعاوية دون مقابل، بعد أن أضلته أساليب الدعاية الاُموية على مرّ القرون، فيستميت في الدفاع عن معاوية متأولا كلام التابعي مسروق بن الأجدع الواضح الذي لا لبس فيه ولأنكاره - من باب حسن الظن بالصحابة كما درجوا على القول- ثم يفتعل لمعاوية مناقب عظيمة من كتابته الوحي وبشارة النبي المزعومة له بالملك وغيرها، وسوف اُؤجل البحث في مناقب معاوية ورأي الحفاظ والعلماء فيها إلى مباحث قادمة، إلاّ أنني اُريد فقط أن أذكر هذا الفقيه وأمثاله بقول النبي (صلى الله عليه وآله) في مسألة بيع الأصنام، مكتفياً بما أخرجه أعظم المحدثين، محمد بن اسماعيل البخاري، عن جابر بن عبدالله، أنه سمع رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول عام الفتح وهو بمكة: "إن الله ورسوله حرّم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام". فقيل: يا رسول الله، أرأيت شحوم الميتة، فإنها يطلى بها السفن، ويدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس؟ فقال: "لا، هو حرام"، ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) عند ذلك: "قاتل الله اليهود، إن الله لمّا حرّم شحومها، جملوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه" (34).
7 ـ شرب الخمر:
لا يخامر أحداً من المسلمين شك في حرمة الخمر، وتحذير النبي (صلى الله عليه وآله) منها، فهي اُم الخبائث، وهي التي تفتح الباب للكثير من الشرور والمفاسد، وقد تسببت في تهديم الكيان الاُسري، ومفاسدها أكثر من أن تحصى، لذا حاربها الإسلام، ونظراً لآثارها العميقة على المدمن عليها، وصعوبة تخلصه منها والفكاك من شراكها، ولأنها كانت من الاُمور التي اعتاد عليها أبناء المجتمع الجاهلي، فقد تدرجت أحكام الشريعة الإسلامية في النهي عنها، حتى جاء الوقت المناسب، فأعلن الكتاب العزيز تحريمها بشكل قطعي، وذلك في قوله تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90] (35).
ثم جاء دور السنّة النبوية الشريفة في التشديد على النهي عنها واجتنابها، والوعيد لمن أصرّ على شربها، أو حتى بيعها أو حملها...الخ.
فعن أبي الدرداء، قال: أوصاني خليلي (صلى الله عليه وآله): "لا تشرب الخمر فإنها مفتاح كل شر" (36).
وعن أبي بكر بن عبدالرحمان بن الحرث عن أبيه قال: سمعت عثمان يقول: اجتنبوا الخمر فإنها اُم الخبائث، أنه كان رجل ممن خلا قبلكم تعبّد، فعلقته امرأة غوية، فأرسلت إليه جاريتها فقالت له: إنا ندعوك للشهادة، فانطلق مع جاريتها، فطفقت كلما دخل باباً أغلقته دونه حتى أفضى الى امرأة وضيئة عندها غلام وباطية خمر، فقالت: إني والله ما دعوتك للشهادة، ولكن دعوتك لتقع عليَّ أو تشرب من هذه الخمرة كأساً، أو تقتل هذا الغلام. قال: فاسقيني من هذا الخمر كأساً، فسقته كأساً. قال: زيدوني، فلم يرم حتى وقع عليها وقتل النفس. فاجتنبوا الخمر فإنها والله لا يجتمع الإيمان وإدمان الخمر، إلاّ ليوشك أن يخرج أحدهما صاحبه (37).
وعن أبي هريرة قال، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "مدمن الخمر كعابد وثن" (38).
وعن أبي الدرداء، عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: "لا يدخل الجنة مدمن خمر" (39).
وعن أبي علقمة مولاهم، وعبدالرحمان بن عبدالله الغافقي، أنهما سمعا ابن عمر يقول: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "لعن الله الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه" (40).
وعن عبدالله بن عمر، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "من شرب الخمر لم تقبل له صلاة أربعين صباحاً، فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد لم يقبل الله له صلاة أربعين صباحاً، فإن تاب لم يتب الله عليه، وسقاه من نهر الخبال". قيل: يا أبا عبدالرحمان، وما نهر الخبال؟ قال: نهر من صديد أهل النار (41).
وعن مسروق، قال: القاضي إذا أكل الهدية فقد أكل السحت، وإذا قبل الرشوة بلغت به الكفر، وقال مسروق: من شرب الخمر فقد كفر، وكفره أن ليس له صلاة (42).
فبعد هذه الروايات التي أخرجها الأئمة المحدّثون -وهي غيض من فيض- في موقف الشريعة الإسلامية من الخمر وشاربها، نعود لنسائل اولئك الأئمة عما أخرجوا عن موقف معاوية بن أبي سفيان من الخمر:
أخرج الإمام أحمد عن عبدالله بن بريدة، قال: دخلت أنا وأبي على معاوية فأجلسنا على الفرش، ثم اُتينا بطعام فأكلنا، ثم أتينا بالشراب; فشرب معاوية ثم ناول أبي قال: ما شربته منذ حرّمه رسول الله (صلى الله عليه وآله). ثم قال معاوية: كنت أجمل شباب قريش وأجودهم ثغراً، وما شيء كنت أجد له لذة كما كنت أجده وأنا شاب غير اللبن أو إنسان حسن الحديث يحدثني (43).
وعن عبيد بن رفاعة قال: مرّ على عبادة بن الصامت وهو في الشام قطارة تحمل الخمر، فقال: ما هذه، أزيت؟ قيل: لا، بل خمر تباع لفلان فأخذ شفرة من السوق فقام إليها فلم يذر فيها راوية إلاّ بقرها، وأبو هريرة إذ ذاك بالشام، فأرسل فلان الى أبي هريرة يقول له: أما تمسك عنّا أخاك عبادة! أما بالغدوات فيغدو الى السوق فيفسد على أهل الذمة متاجرهم، وأما بالعشي فيقعد في المسجد ليس له عمل إلاّ شتم أعراضنا أو عيبنا، فأمسك عنا أخاك، فأقبل أبو هريرة يمشي حتى دخل على عبادة فقال له: يا عبادة، ما لك ولمعاوية ذره وما حمل، فإن الله يقول: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة: 134] (44).
قال: يا أبا هريرة، لم تكن معنا إذ بايعنا رسول الله (صلى الله عليه وآله)، بايعناه على السمع والطاعة في النشاط والكسل، وعلى النفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أن نقول في الله لا تأخذنا في الله لومة لائم، وعلى أن ننصره إذا قدم علينا يثرب، فنمنعه مما نمنع منه أنفسنا وأزواجنا وأهلنا، ولنا الجنة، فهذه بيعة رسول الله (صلى الله عليه وآله) التي بايعناه عليها، فمن نكث فإنما ينكث على نفسه، ومن أوفى بما بايع عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وفى الله له بما بايع عليه نبيّه، فلم يكلمه أبو هريرة بشيء (45).
مرة اُخرى يتصدى الصحابي عبادة بن الصامت لمعاوية السادر في غيّه وكأنه لم يسمع نهي النبي (صلى الله عليه وآله) عن الخمر، أو أن أحداً من ذلك الجم الغفير من الصحابة لم ينبهه الى ذلك إن كان هو قد صُمَّ عن السماع، ولا يكتفي بالاستمرار في إصراره على المعصية، بل يلوم الصحابي الذي ينصحه أو يمنعه من ارتكاب ذلك الاثم، والأغرب من ذلك موقف أبي هريرة، فهو بدلا من أن ينكر على معاوية أفعاله تلك، نجده ينكر على عبادة أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر! وكأنه لم يسمع شيئاً هو الآخر عن كل ذلك، رغم أنه أكثر من روى عن النبي (صلى الله عليه وآله) من الصحابة، والعجب منه أن يحاول إقناع عبادة بالآية الكريمة التي استشهد بها، وكأن معاوية من قوم عاد وثمود أو من بني إسرائيل ويفوته قوله تعالى (وأَنَّ هذهِ اُمّتكُمْ اُمةً واحدةً وأنا ربُّكمْ فاعبُدونِ) (46).
ولكن عبادة ألقمه حجراً حين عرّض بتأخر إسلام أبي هريرة، وعدم شهادته العهد بين أصحاب العقبة وبين النبي (صلى الله عليه وآله).
وليس عبادة بن الصامت وحده الذي فعل ذلك بروايا الخمر المحمولة لمعاوية، فإن صحابياً آخر قد فعل مثل ذلك، مما يدل على تكرر هذه الحالة عند معاوية واصراره عليها، فعن محمد بن كعب القرضي، قال: غزا عبدالرحمان بن سهل الأنصاري في زمن عثمان ومعاوية أمير على الشام، فمرّت به روايا خمر، فقام إليها برمحه فبقر كل راوية منها، فناوشه الغلمان حتى بلغ شأنه معاوية، فقال: دعوه فإنه شيخ قد ذهب عقله.
فقال: كذب والله ما ذهب عقلي، ولكن رسول الله (صلى الله عليه وآله) نهانا أن ندخل بطوننا وأسقيتنا خمراً، وأحلف بالله لئن بقيت حتى أرى في معاوية ما سمعت من رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأبقرن بطنه أو لأموتن دونه (47).
ويبدو أن الصحابي عبدالرحمان بن سهل الأنصاري قد سمع عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) حديثاً في معاوية لم يكشف النقاب عنه، وتعهد بقتل معاوية إذا رأى مصداق الحديث بعينه، ولكن يبدو أن القدر لم يمهله ليبر بيمينه، وسوف يأتي تفصيل ذلك فيما بعد إن شاء الله تعالى.
فهذه حال معاوية عندما كان أميراً على الشام، ولعل هذه التصرفات كانت من الأسباب القوية التي جعلت علي بن أبي طالب[عليه السلام] يبادر الى عزل معاوية بعد ما تولى الخلافة مباشرة، ولم يقرّه على عمله، وتحمل في سبيل ذلك خوض غمار الحروب الطاحنة لمنع معاوية من نشر الفساد، لكن من المؤسف أن عثمان بن عفان لم يأخذ على يد معاوية، بل تركه مطلق اليدين، بل وتولى الدفاع عنه وعن تصرفاته أحياناً عندما كتب إليه معاوية: إن عبادة قد أفسد عليّ الشام وأهله، فأما أن تكفّه إليك، وإما أن اُخلّي بينه وبين الشام، فكتب إليه عثمان: أن أرحل عبادة حتى ترجعه الى داره من المدينة، فبعث بعبادة حتى قدم المدينة، فدخل على عثمان في الدار وليس فيها إلاّ رجل من السابقين أو من التابعين الذين قد أدركوا القوم متوافرين، فلم يفجَ عثمان به إلاّ وهو قاعد في جنب الدار، فالتفت إليه وقال: مالنا ولك يا عبادة. فقام عبادة بين ظهراني الناس فقال: إني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) أبا القاسم يقول: "إنه سيلي اُموركم بعدي رجال يعرّفونكم ما تنكرون، وينكرون عليكم ما تعرفون، فلا طاعة لمن عصى، فلا تضلّوا بربكم". فوالذي نفس عبادة بيده، إن فلاناً لمن اولئك. فما راجعه عثمان بحرف (48).
لقد كانت سيرة معاوية هي التخلص من أي صحابي يعترض على مفاسده، فقبل عبادة كان هناك أبو ذر الغفاري الذي اعترض على تصرفات معاوية، فبعثه معاوية الى عثمان بعد أن كتب إليه بأن أبا ذر قد أنغل عليه الشام، ثم أرسله على بعير بلا وطاء حتى كاد يهلك في الطريق. وكان هدف معاوية واضحاً، وهو إبقاء الشام وأهله في حالة استلاب فكري لا يرون منه الحقيقة أبداً إلاّ كما يريدها معاوية، وقد استطاع معاوية بدهائه وعلى مدى عشرين عاماً من إمارته على الشام أن ينشيء جيلا منفصلا عن الأحداث الحقيقية التي تدور حوله، جيل لا يكاد يعرف من شرائع الإسلام إلاّ مظهرها الشكلي فقط، بينما هو لا يرى ما يجري حوله إلاّ بالشكل الزائف الذي توحيه وسائل إعلام معاوية له، فقد ذكر المؤرخون الذين ارّخوا لحرب صفين - مثلا على ما ندّعي- "ان هاشم بن عتبة" (49). استصرخ الناس عند المساء: ألا من كان له الى الله حاجة، ومن كان يريد الآخرة فليقبل، فأقبل إليه ناس كثير شدّ بهم على أهل الشام مراراً، ليس من وجه يحمل عليه إلاّ صبروا له! فقاتل قتالا شديداً ثم قال لأصحابه: لا يهولنكم ما ترون من صبرهم، فوالله ما ترون منهم إلاّ حميّة العرب وصبرها تحت راياتها وعند مراكزها، وإنهم لعلى ضلال، وإنكم لعلى الحق، يا قوم اصبروا وصابروا واجتمعوا، وامشوا بنا الى عدونا على تؤدة رويداً، واذكروا الله، ولا يسلمنّ رجل أخاه، ولا تكثروا الالتفات، واصمدوا صمدهم، وجالدوهم محتسبين حتى يحكم الله بيننا وبينهم وهو خير الحاكمين.
قال أبو سلمة: فبينا هو وعصابة من القراء يجالدون أهل الشام، إذ طلع عليهم فتىً شاب وهو يقول:
والدائن اليوم بدين عثمان *** أنا ابن أرباب ملوك غسان
أن عليـــاً قتـــل ابن عفّان *** أنبأنــــا قراؤنا بمـــــا كان
ثم شدّ لا ينثني حتى يضرب بسيفه، ثم جعل يلعن علياً ويشتمه ويسهب في ذمه، فقال له هاشم بن عقبة: يا هذا إن الكلام بعده الخصام، وإن لعنك سيّد الأبرار بعده عقاب النار، فاتق الله فإنك راجع الى ربك فيسألك عن هذا الموقف وعن هذا المقال.
قال الفتى: إذا سألني ربي قلت: قاتلتُ أهل العراق لأن صاحبهم لا يصلّي كما ذُكر لي وإنهم لا يصلّون، وصاحبهم قتل خليفتنا، وهم آزروه على قتله. فقال له هاشم: يا بني، وما أنت وعثمان إنما قتله أصحاب محمد الذين هم أولى بالنظر في اُمور المسلمين، وإن صاحبنا كان أبعد القوم عن دمه، وأما قولك إنه لا يصلّي، فهو أول من صلّى مع رسول الله، وأول من آمن به، وأما قولك: إن أصحابه لا يصلون، فكل من ترى معه قرّاء الكتاب. لا ينامون الليل تهجداً، فاتق الله واخش عقابه، ولا يغررك من نفسك الأشقياء الضالّون.
فقال الفتى: يا عبدالله، لقد دخل قلبي وجلٌ من كلامك، وإني لأظنك صادقاً صالحاً، وأظنني مخطئاً آثماً، فهل لي من توبة؟ قال: نعم، ارجع إلى ربك وتب إليه فإنه يقبل التوبة ويعفو عن السيئات، ويحب التوابين ويحب المتطهرين.
فرجع الفتى الى صفه منكسراً نادماً، فقال له قوم من أهل الشام: خدعك العراقي قال: لا، ولكن نصحني العراقي" (50).
فمعاوية بن أبي سفيان قد "عمل دائباً منذ كان والياً على سورية زمن عمر بن الخطاب وعثمان، على إيجاد جيش مخلص له شخصياً، يستطيع الاعتماد عليه، وقد استثمر أفضل استثمار ضعف عثمان، ثم بقتله للحصول على الخلافة..." (51).
معاوية وشرائع الإسلام
قال الخضري بك: كان حكام الدولة الاُموية اُمراء للمؤمنين، وخلفاء، وليسوا أئمة كأئمة الشيعة، فهم يؤمون الناس في الصلاة، ولكنهم ليسوا مجتهدين ولا مشرّعين في الدين، فموقفهم في هذا مخالف للشيعة، فلم يضعوا لهم مذهباً دينياً معيناً يختلف عن مذهب أهل السلف، بل تقيدوا بمذهب أهل السلف من حيث العقيدة والتشريع (52).
____________
(1) شرح نهج البلاغة 1: 340.
(2) الموفقيات: 577.
(3) صحيح مسلم: كتاب الأشربة، فتح الباري 9: 456، صحيح ابن حبان 12: 161، اصلاح غلط المحدثين للخطابي البستي: 161، الفايق في غريب الحديث للزمخشري 1: 175، فيض القدير للمناوي 6: 411، فتح العزيز لعبدالكريم الرافعي 1: 301.
(4) شرح نهج البلاغة 5: 129.
(5) سنن أبي داود: ح 4131 باب في جلود النمور والسباع، سنن النسائي ح 2465 مختصراً، مسند أحمد 4: 132 وفيه: فقال له معاوية: أتراها مصيبة!
(6) المستدرك 3: 442، تاريخ الطبري حوادث سنة 50، الكامل في التاريخ 2: 487 حوادث سنة 50، البداية والنهاية 8: 47، تهذيب التهذيب 2: 392، الاستيعاب 1: 412 ترجمة الحكم، اسد الغابة 1: 51 ترجمة الحكم.
(7) سنن النسائي: كتاب قسم الفي والغنيمة.
(8) صحيح البخاري 8: 179 كتاب الايمان والنذور، باب هل يدخل في الايمان والنذور الأرض والغنم والزروع والامتعة، الموطأ 2: 459 كتاب الجهاد، باب ما جاء في الغلول، صحيح مسلم 1: 148 كتاب الايمان، باب غلظ تحريم الغلول.
(9) الموطأ 2: 458، سنن ابي داود: كتاب الجهاد، باب في تعظيم الغلول، سنن النسائي: كتاب الجنائز، باب الصلاة على من غل، سن ابن ماجة: كتاب الجهاد باب الغلول ح 2848.
(10) شرح صحيح مسلم 2: 489.
(11) الموطأ 2: 457 باب ما جاء في الغلول، سنن النسائي: كتاب قسم الفيء.
(12) البداية والنهاية 8: 136، الأحكام السلطانية، للماوردي 2: 228.
(13) صحيح البخاري 8: 199 باب كراهية الشفاعة في الحد.
(14) البقرة: 229.
(15) تاريخ الطبري 5: 214.
(16) (وفي رواية ابن عبد البر عن ابن عباس قال: فلما قرأ زياد الكتاب قال: شهد لي أبو الحسن وربّ الكعبة) الاستيعاب 2: 99.
(17) الكامل في التاريخ 3: 441.
(18) الاستيعاب 2: 99، وانظر اسد الغابة 2: 336، تاريخ ابن عساكر 5: 406، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 16: 187، تاريخ اليعقوبي 2: 19، مروج الذهب 3: 15 وغيرها من المصادر.
(19) البداية والنهاية 8:
(20) أئمة الفقه التسعة: 43.
(21) الطبري 5: 279، الكامل في التاريخ 3: 487، تاريخ ابن عساكر 2: 381، البداية والنهاية 8: 139، النجوم الزاهرة 1: 141 وغيرها.
(22) حلية الاولياء 2: 167، والحديث في صحيح البخاري 8: 191 كتاب الفرائض، باب الولد للفراش، حرة كانت أو أمة، صحيح مسلم كتاب الرضاع، سنن الترمذي 3: 463 ح 1157، سنن النسائي: 3: 378 ح 5676، سنن أبي داود 2: 282 ح 2273.
(23) البقرة: 275.
(24) البقرة: 278 - 279.
(25) صحيح البخاري 3: 78 كتاب البيوع باب مؤكل الربا، و 3: 111 باب ثمن الكلب.
(26) صحيح مسلم 1: 64، صحيح البخاري 3: 195، سنن أبي داود ح 3333، سنن البيهقي 5: 275، سنن الترمذي 3: 12 ح 1206، سنن ابن ماجة 2: 764 ح 2277.
(27) المستدرك على الصحيحين 2: 43 ح 2259، شعب الايمان للبيهقي 4: 394 ح 55199.
(28) الموطأ 2: 634 باب بيع الذهب بالفضة تبراً وعيناً. السنن الكبرى للبيهقي 5: 280 كتاب البيوع، باب تحريم التفاضل في الجنس الواحد. السنن الكبرى للنسائي 4: 30 كتاب البيوع: بيع الذهب بالذهب ح 6164.
(29) صحيح مسلم 3: 398 كتاب المساقاة: باب صرف وبيع الذهب بالورق نقداً، وسنن ابن ماجة 1: 22 ح 18 باب اتباع سنة رسول الله(ص)، والسنن الكبرى للنسائي 4: 27 كتاب البيوع: بيع الشعير بالشعير ح 6154، 6155، والسنن الكبرى للبيهقي 5: 277 كتاب البيوع وتاريخ ابن عساكر 26: 176.
(30) تاريخ دمشق 8: 866.
(31) روى ابن سعد عن خالد بن معدان قال: لم يبق من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالشام أحد أوثق ولا أفقه ولا أرضى من عباد بن الصامت وشداد بن أومى، الطبقات: 374.
(32) تاريخ الطبري 3: 148، الكامل لابن الاثير 2: 302 ذكر حجة الوداع، تاريخ الإسلام 1: 704، مغازي الواقدي 3: 1088، السيرة النبوية لابن هشام 4: 230، الطبقات الكبرى 2: 172، تاريخ خليفة بن خياط: 94، نهاية الإرب 17: 371، عيون الأثر 2: 272.
(33) المبسوط: 24: 46 كتاب الاكراه.
(34) صحيح البخاري 3: 110 باب بيع الميتة والأصنام.
(35) المائدة: 90.
(36) سنن ابن ماجة 2: 311 كتاب الأشربة: باب الخمر مفتاح كل شر.
(37) سنن النسائي 8: 315.
(38) سنن ابن ماجة: كتاب الأشربة.
(39) المصدر السابق.
(40) سنن أبي داود 3: 324 كتاب الأشربة.
(41) جامع الترمذي 3: 44 وقال: هذا حديث حسن، وقد روي نحو هذا عن عبدالله بن عمرو وابن عباس عن النبي(ص)، وانظر مسند أبي داود الطيالسي ح 1901، ومصنف عبد الرزاق ح 10758، ومسند أبي يعلى ح 5686، ومعجم الطبراني الكبير ح 13441، ومصابيح السنة للبغوي ح 3016، وتحفة الاشراف ح 7318، ومسند احمد 2: 35، وشعب الإيمان للبيهقي ح 5580.
(42) سنن النسائي 8: 314.
(43) مسند أحمد 6: 476، ولاشك أن الراوي قد أبدل كلمة الخمر باللبن.
(44) البقرة: 134.
(45) تاريخ دمشق 26: 197، مختصر تاريخ دمشق 11: 306
(46)الأنبياء: 92.
(47) الاستيعاب 2: 401، اُسد الغابة 3: 299، الاصابة في معرفة الصحابة 2: 401، تهذيب التهذيب 6: 173، تاريخ دمشق 34: 419، مختصر تاريخ دمشق 14: 263.
(48) مسند أحمد 6: 444، المستدرك على الصحيحين 3: 357 وصححه على شرط الشيخين، تاريخ دمشق 26: 198، مختصر تاريخ دمشق 11: 307.
(49) يكنى أبا عمرو، ويعرف بالمرقال. نزل الكوفة، أسلم يوم الفتح، وكان من الشجعان الأبطال والفضلاء الأخيار، فقئت عينه يوم اليرموك بالشام، وهو الذي فتح جلولاء من بلاد الفرس وهزم الفرس، وكانت جلولاء تسمى فتح الفتوح... شهد صفين مع علي[عليه السلام] ، وكانت معه الراية، وهو على الرجالة، وقتل يومئذ... وفيه يقول أبو الطفيل عامر بن واثلة:
قاتلتَ في الله عدّو السُّنة ... يا هاشم الخير جزيت الجنة
قال ابن الكلبي وابن حيان: له صحبة. وقال المرزباني: لما جاء قتل عثمان الى أهل الكوفة، قال هاشم لأبي موسى الأشعري: تعال يا أبا موسى بايع لخير هذه الاُمة علي، فقال: لا تعجل فوضع هاشم يده على الاُخرى فقال: هذه لعلي وهذه لي، وقد بايعت علياً، وأنشد:
ولا أخشى أميراً أشعرياً ... اُبايع غـــير مكترث علياً
بـــذاك الله حقــــاً والنبيّا ... اُبايعه وأعلم أن ساُرضي
الاصابة 6: 515، أسد الغابة 5: 353.
(51) تاريخ الطبري 5: 42، كتاب صفين لنصر بن مزاحم: 402، الكامل لابن الأثير 3: 313 حوادث سنة 37، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 8: 35.
(52) عمر ماهر حمادة: دراسة وتقيّة للتاريخ الاسلامي: 23.
v
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مدرسة دار العلم.. صرح علميّ متميز في كربلاء لنشر علوم أهل البيت (عليهم السلام)
|
|
|