أقرأ أيضاً
التاريخ: 30-11-2016
4587
التاريخ: 12-2-2017
10435
التاريخ: 14-2-2017
3338
التاريخ: 30-11-2016
1483
|
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 178، 179]
لما بين سبحانه أن البر لا يتم إلا بالإيمان والتمسك بالشرائع بين الشرائع وبدأ بالدماء والجراح فقال { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم } أي فرض عليكم وأوجب وقيل كتب عليكم في أم الكتاب وهو اللوح المحفوظ على جهة الفرض { القصاص في القتلى } المساواة في القتلى أي يفعل بالقاتل مثل ما فعله بالمقتول ولا خلاف أن المراد به قتل العمد لأن العمد هو الذي يجب فيه القصاص دون الخطإ المحض وشبيه العمد.
ومتى قيل كيف قال { كتب عليكم القصاص في القتلى } والأولياء مخيرون بين القصاص والعفو وأخذ الدية و المقتص منه لا فعل له فيه فلا وجوب عليه فالجواب من وجهين ( أحدهما ) أنه فرض عليكم ذلك إن اختار أولياء المقتول القصاص والفرض قد يكون مضيقا وقد يكون مخيرا فيه (والثاني) أنه فرض عليكم التمسك بما حد عليكم وترك مجاوزته إلى ما لم يجعل لكم وأما من يتولى القصاص فهو إمام المسلمين ومن يجري مجراه فيجب عليه استيفاء القصاص عند مطالبة الولي لأنه حق الآدمي ويجب على القاتل تسليم النفس .
{ الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى } قال الصادق ولا يقتل حر بعبد ولكن يضرب ضربا شديدا ويغرم دية العبد وهذا مذهب الشافعي وقال إن قتل رجل امرأة فأراد أولياء المقتول أن يقتلوه أدوا نصف ديته إلى أهل الرجل وهذا هو حقيقة المساواة فإن نفس المرأة لا تساوي نفس الرجل بل هي على النصف منها فيجب إذا أخذت النفس الكاملة بالنفس الناقصة أن يرد فضل ما بينهما وكذلك رواه الطبري في تفسيره عن علي السلام ويجوز قتل العبد بالحر والأنثى بالذكر إجماعا وليس في الآية ما يمنع من ذلك لأنه لم يقل لا تقتل الأنثى بالذكر ولا العبد بالحر فما تضمنته الآية معمول به وما قلناه مثبت بالإجماع وبقوله سبحانه النفس بالنفس.
وقوله {فمن عفي له من أخيه شيء} فيه قولان (أحدهما) أن معناه من ترك له وصفح عنه من الواجب عليه وهو القصاص في قتل العمد من أخيه أي من دم أخيه فحذف المضاف للعلم به وأراد بالأخ المقتول سماه أخا للقاتل فدل أن أخوة الإسلام بينهما لم تنقطع وإن القاتل لم يخرج عن الإيمان بقتله وقيل أراد بالأخ العافي الذي هو ولي الدم سماه الله أخا للقاتل وقوله { شيء } دليل على أن بعض الأولياء إذا عفا سقط القود لأن شيئا من الدم قد بطل بعفو البعض والله تعالى قال { فمن عفي له من أخيه شيء } والضمير في قوله { له } وفي { أخيه } كلاهما يرجع إلى من وهو القاتل أي من ترك له القتل ورضي منه بالدية هذا قول أكثر المفسرين قالوا العفو أن يقبل الدية في قتل العمد ولم يذكر سبحانه العافي لكنه معلوم أن المراد به من له القصاص والمطالبة وهو ولي الدم .
والقول الآخر: أن المراد بقوله { فمن عفي له } ولي الدم والهاء في أخيه يرجع إليه وتقديره فمن بذل له من أخيه يعني أخا الولي وهو المقتول الدية ويكون العافي معطي المال ذكر ذلك عن مالك ومن نصر هذا القول قال أن لفظ شيء منكر والقود معلوم فلا يجوز الكناية عنه بلفظ النكرة فيجب أن يكون المعنى فمن بذل له من أخيه مال وذلك يجوز أن يكون مجهولا لا يدري أنه يعطيه الدية أو جنسا آخر ومقدار الدية أو أقل أو أكثر فصح أن يقال فيه شيء وهذا ضعيف والقول الأول أظهر وقد ذكرنا الوجه في تنكير قوله {شيء} هناك وأما الذي له العفو عن القصاص فكل من يرث الدية إلا الزوج والزوجة عندنا وأما غير أصحابنا من العلماء فلا يستثنونهما .
وقوله {فاتباع بالمعروف} أي فعلى العافي اتباع بالمعروف هي أن لا يشدد في الطلب وينظره إن كان معسرا ولا يطالبه بالزيادة على حقه وعلى المعفو له { وأداء إليه بإحسان } أي الدفع عند الإمكان من غير مطل وبه قال ابن عباس والحسن وقتادة ومجاهد وهو المروي عن أبي عبد الله (عليه السلام) وقيل المراد فعلى المعفو عنه الاتباع والأداء وقوله { ذلك } إشارة إلى جميع ما تقدم { تخفيف من ربكم ورحمة } معناه أنه جعل لكم القصاص أوالدية أو العفو وخيركم بينها وكان لأهل التوراة القصاص أو العفو ولأهل الإنجيل العفو أوالدية وقوله { فمن اعتدى بعد ذلك } أي بأن قتل بعد قبول الدية أو العفو عن ابن عباس والحسن وقتادة ومجاهد وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليه السلام) وقيل بأن قتل غير قاتله أو طلب أكثر مما وجب له من الدية وقيل بأن جاوز الحد بعد ما بين له كيفية القصاص قال القاضي ويجب حمله على الجميع لعموم اللفظ { فله عذاب أليم } في الآخرة .
ثم بين سبحانه وجه الحكمة في إيجاب القصاص فقال { ولكم } أيها المخاطبون { في القصاص حيوة } فيه قولان ( أحدهما ) أن معناه في إيجاب القصاص حياة لأن من هم بالقتل فذكر القصاص ارتدع فكان ذلك سببا للحياة عن مجاهد وقتادة وأكثر أهل العلم ( والثاني ) أن معناه لكم في وقوع القتل حياة لأنه لا يقتل إلا القاتل دون غيره بخلاف ما كان يفعله أهل الجاهلية الذين كانوا يتفانون بالطوائل(2) عن السدي والمعنيان جميعا حسنان ونظيره من كلام العرب القتلى أنفى للقتل إلا أن ما في القرآن أكثر فائدة وأوجز في العبارة وأبعد من الكلفة بتكرير الجملة وأحسن تأليفا بالحروف المتلائمة فأما كثرة الفائدة فلأن فيه جميع ما في قولهم القتل أنفى للقتل وزيادة معاني منها إبانة العدل لذكره القصاص ومنها إبانة الغرض المرغوب فيه وهو الحياة ومنها الاستدعاء بالرغبة والرهبة وحكم الله به .
وأما الإيجاز في العبارة فإن الذي هو نظير القتلى أنفى للقتل قوله { القصاص حيوة } وهو عشرة أحرف وذلك أربعة عشر حرفا وأما بعده من الكلفة فهو أن في قولهم القتل أنفى للقتل تكريرا غيره أبلغ منه وأما الحسن بتأليف الحروف المتلائمة فإنه مدرك بالحس وموجود باللفظ فإن الخروج من الفاء إلى اللام أعدل من الخروج من اللام إلى الهمزة لبعد الهمزة من اللام وكذلك الخروج من الصاد إلى الحاء أعدل من الخروج من الألف إلى اللام فباجتماع هذه الأمور التي ذكرناها كان أبلغ منه وأحسن وإن كان الأول حسنا بليغا وقد أخذه الشاعر فقال :
أبلغ أبا مسمع عني مغلغلة *** وفي العتاب حياة بين أقوام(3)
وهذا وإن كان حسنا فبينه وبين لفظ القرآن ما بين أعلى الطبقة وأدناها وأول ما فيه أن ذلك استدعاء إلى العتاب وهذا استدعاء إلى العدل وفي ذلك إبهام وفي الآية بيان عجيب .
وقوله {يا أولي الألباب} معناه يا ذوي العقول لأنهم الذين يعرفون العواقب ويتصورون ذلك فلذلك خصهم {لعلكم تتقون} في لعل ثلاثة أقوال ( أحدها ) أنه بمعنى اللام أي لتتقوا (والثاني) أنه للرجاء والطمع كأنه قال على رجائكم وطمعكم في التقوى (والثالث) على معنى التعرض أي على تعرضكم للتقوى وفي تتقون قولان (أحدهما) لعلكم تتقون القتل بالخوف من القصاص عن ابن عباس والحسن وابن زيد (والثاني) لعلكم تتقون ربكم باجتناب معاصيه وهذا أعم .
______________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج1 ، ص489-492.
2- يقال بينهم طائلة أي : عداوة . والجمع طوائل .
3- مغلغلة : رسالة محمولة من بلد الى بلد.
صنف فقهاء الشريعة الاسلامية العقوبات إلى ثلاثة أصناف : الأول الحدود ، كقطع يد السارق ، ورجم الزاني المتزوج ، وجلد شارب الخمر ، ويأتي التفصيل في محله ان شاء اللَّه . الصنف الثاني الديات ، وهي العقوبات المالية . الصنف الثالث القصاص ، وهوان يستوفي المجني عليه عمدا ، أو وليه من الجاني بمثل ما جنى من قتل ، أو قطع عضو، أو جرح . أما الضرب فلا قصاص فيه ، وعقد الفقهاء لكل واحد من هذه الأصناف بابا مستقلا ، وهذه الآية تدخل في باب القصاص .
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى} . كانوا في الجاهلية يسيرون على شريعة الغاب والفوضى فيقتلون لأتفه الأسباب ظلما وعدوانا ، ويقتص
أولياء القتيل من الأبرياء ، لا من الجاني نفسه ، فإذا قتل رجل عادي مثله قتل أولياء القتيل عددا كبيرا من ذوي القاتل ، وإذا قتلت امرأة مثلها أخذوا مكانها رجلا من أسرتها أو قبيلتها ، وربما قتلوا عشرة بواحد ، وأدى هذا الظلم إلى الحروب الطاحنة بين القبائل ، وإبادة الكثير منها ، ووراثة العداء والأحقاد بين الأبناء والأحفاد . . فشرع اللَّه القصاص ، وهو بمفهومه يفيد المساواة ، والوقوع على الجاني نفسه أيا كان دون غيره من الأبرياء ، ودون زيادة أو نقصان خلافا لما كان عليه أهل الجاهلية ، وأن يكون القتل عمدا ، ولا قصاص في قتل الخطأ وشبه العمد (2) .
وفي معنى هذه الآية قوله تعالى : { النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} – [المائدة 45 ] . وقوله : { فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} [الاسراء 33] . وقوله : { وجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها} [الشورى 40] . وقوله : { فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ} [البقرة 194 ] .
{الْحُرُّ بِالْحُرِّ والْعَبْدُ بِالْعَبْدِ والأُنْثى بِالأُنْثى} . المعنى واضح لا يحتاج إلى شرح وتفسير ، وهو اعتبار المساواة في القصاص بين القاتل والمقتول في الحرية والعبودية والأنوثة .
وتسأل : ان المفهوم من سياق اللفظ ان الحر لا يقتل بالعبد ، وان الرجل لا يقتل بالمرأة ، أي ان الحر إذا قتل عبدا لا يقتل به ، وإذا قتل الرجل امرأة لا يقتل بها ، فهل هذا محل وفاق بين الفقهاء ؟ .
الجواب : ان الآية تعرضت لصور ثلاث فقط ، وهي حر يقتل حرا ، وعبد يقتل عبدا ، وامرأة تقتل امرأة ولم تتعرض للصور الباقية ، وهي أربع :
حر يقتل عبدا ، وعبد يقتل حرا ، ورجل يقتل امرأة ، وامرأة تقتل رجلا . .
وقد دلت الآية بمنطوقها ان القصاص مشروع في الصور الثلاث الأولى ، وهي محل وفاق بين الفقهاء ، لأن صريح القرآن لا خلاف فيه . . والآية لم تنف أو تثبت القصاص في الصور الأخرى لا منطوقا ولا مفهوما ، وعليه فلا بد من الرجوع إلى دليل آخر من سنة أو اجماع .
وقد اختلف الفقهاء في ذلك ، فقال مالك والشافعي وابن حنبل : ان الحر لا يقتل بالعبد . وقال أبو حنيفة : بل يقتل الحر بعبد غيره ، ولا يقتل بعبده .
واتفق الأربعة على ان الرجل يقتل بالمرأة ، وبالعكس . وقال الإمامية : إذا قتل الحر عبدا لا يقتل به ، بل يضرب ضربا شديدا ، ويغرّم دية العبد ، وإذا قتلت المرأة رجلا عمدا كان ولي المقتول بالخيار بين أن يأخذ منها الدية ان رضيت هي ، وبين أن يقتلها ، فان اختار القتل فلا يغرم أهلها شيئا . . وإذا قتل الرجل امرأة كان وليها بالخيار بين أن يأخذ الدية ان رضي القاتل ، وبين ان يقتله الولي على أن يدفع لورثة القاتل نصف دية الرجل 500 دينار .
{فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ} . الضميران في له وأخيه يعودان إلى القاتل ، أما لفظة شيء فإنها تدل على ان ولي الدم إذا عفا عن شيء يتعلق بالقاتل ، كالعفو عن قتله ، والرضا بأخذ الدية فينبغي ان يقابل القاتل هذا العفو بالمعروف ، وقيل : ان لفظة شيء تشعر بأن الورثة إذا تعددوا ، وعفا واحد منهم عن القاتل سقط القصاص ، حتى ولو أصر بقية ورثة المقتول على القتل ، ومهما يكن ، فان اللَّه سبحانه جعل لولي الدم حق القصاص من قاتل العمد ، وليس له أن يلزم القاتل بالدية إذا قدم نفسه للقتل ، ولا للقاتل أن يلزم ولي المقتول بأخذ الدية إذا أصر على القتل قصاصا . . ولهما معا أن يتفقا ويصطلحا على مبلغ من المال بمقدار الدية ، أو أقل ، أو أكثر عوضا عن القصاص ، فإذا تم مثل هذا الاتفاق أصبح لازما ، ولا يجوز العدول عنه ، وعلى ولي المقتول أن يطالب القاتل ببدل الصلح بالمعروف ، فلا يشدد ويضيق في الطلب ، أو يطلب أكثر من حقه ، وعلى القاتل أن يؤدي المال بإحسان ، وبلا مطل وبخس وأذى .
{ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ ورَحْمَةٌ} . أي ان الحكمة من تشريع الدية بدلا عن القصاص هي التخفيف عنكم ، والرحمة بكم . { فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ } . كان بعض أهل الجاهلية إذا عفوا وأخذوا الدية ، ثم ظفروا بعد ذلك بالقاتل قتلوه ، وجمعوا بين القتل وأخذ الدية ، فنهى اللَّه عن هذا الاعتداء ، وتوعد فاعله بالعذاب الأليم . وقال جماعة من المفسرين : يتحتم على الحاكم أن يقتل من قتل القاتل بعد العفو عنه ، حتى ولو بذل الدية ، ورضي بها ولي المقتول . . وهذا القول مجرد استحسان لا تدل الآية عليه من قريب ولا بعيد .
{ولَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الأَلْبابِ} . هذا تعليل لشرعية القصاص ، وبيان للحكمة منه ، وان فيه صيانة الناس من اعتداء بعضهم على بعض ، فان من علم انه إذا قتل يقتل يرتدع خوفا على نفسه من الهلاك ، أما دفع المال فليس بالرادع الكافي عن القتل ، فان الكثير من الناس يبذلون الأموال الطائلة للانتقام من أعدائهم .
وقد أطال المفسرون الكلام في بيان وجوه البلاغة في هذه الآية ، والمقارنة بينها وبين قول من قال : القتل أنفى للقتل ، وذكر بعضهم ستة أوجه لأفضلية الآية ، وزاد الألوسي عليه في تفسيره ، حتى أنهاها 13 وجها ، وزاد على الألوسي من جاء بعده ، وكل هذه الوجوه أوجلها ترجع إلى مباحث الألفاظ .
__________________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج1 ، ص274-277.
2- قتل العمد ان يقصد الفعل والقتل كمن طعن آخر بسكين قاصدا نفس الطعن والقتل أيضا ، أو قصد الفعل القاتل فقط ، أي قصد طعنه في قلبه ، ولكنه لم يقصد قتله ، فان هذا من قتل العمد . والخطأ المحض أن يكون مخطئا في قصده وفعله ، كمن رمى حيوانا فأصاب إنسانا فان الإنسان غير مقصود لا بالرمي ولا بالقتل . وشبه العمد أن يكون عامدا في فعله مخطئا في قصده ، كمن ضرب صبيا للتأديب فمات ، فان الضرب مقصود ، والموت غير مقصود ، وفي قتل الخطأ وشبه العمد تتعين الدية ، ولا يجوز القصاص بحال.
قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر}، في توجيه الخطاب إلى المؤمنين خاصة إشارة إلى كون الحكم خاصا بالمسلمين، وأما غيرهم من أهل الذمة وغيرهم فالآية ساكتة عن ذلك.
ونسبة هذه الآية إلى قوله تعالى: { أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] ، نسبة التفسير، فلا وجه لما ربما يقال، إن هذه الآية ناسخة لتلك الآية فلا يقتل حر بعبد ولا رجل بمرأة.
وبالجملة القصاص مصدر قاص يقاص من قص أثره إذا تبعه ومنه القصاص لمن يحدث بالآثار والحكايات كأنه يتبع آثار الماضين فتسمية القصاص بالقصاص لما فيه من متابعة الجاني في جنايته فيوقع عليه مثل ما أوقعه على غيره.
قوله تعالى: {فمن عفي له من أخيه شيء}، المراد بالموصول القاتل، والعفو للقاتل إنما يكون في حق القصاص فالمراد بالشيء هو الحق، وفي تنكيره تعميم للحكم أي أي حق كان سواء كان تمام الحق أو بعضه كما إذا تعدد أولياء الدم فعفى بعضهم حقه للقاتل فلا قصاص حينئذ بل الدية، وفي التعبير عن ولي الدم بالأخ إثارة لحس المحبة والرأفة وتلويح إلى أن العفو أحب.
قوله تعالى: {فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان}، مبتدأ خبره محذوف أي فعليه أن يتبع القاتل في مطالبة الدية بمصاحبة المعروف، من الاتباع وعلى القاتل أن يؤدي الدية إلى أخيه ولي الدم بالإحسان من غير مماطلة فيها إيذاؤه.
قوله تعالى: {ذلك تخفيف من ربكم ورحمة}، أي الحكم بانتقال القصاص إلى الدية تخفيف من ربكم فلا يتغير فليس لولي الدم أن يقتص بعد العفو فيكون اعتداء فمن اعتدى فاقتص بعد العفو فله عذاب أليم.
قوله تعالى: {ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون}، إشارة إلى حكمة التشريع، ودفع ما ربما يتوهم من تشريع العفو والدية وبيان المزية والمصلحة التي في العفو وهو نشر الرحمة وإيثار الرأفة أن العفو أقرب إلى مصلحة الناس، وحاصله أن العفو ولوكان فيه ما فيه من التخفيف والرحمة، لكن المصلحة العامة قائمة بالقصاص فإن الحياة لا يضمنها إلا القصاص دون العفو والدية ولا كل شيء مما عداهما، يحكم بذلك الإنسان إذا كان ذا لب وقوله لعلكم تتقون، أي القتل وهو بمنزلة التعليل لتشريع القصاص.
وقد ذكروا: أن الجملة، أعني قوله تعالى: ولكم في القصاص حيوة الآية على اختصارها وإيجازها وقلة حروفها وسلاسة لفظها وصفاء تركيبها من أبلغ آيات القرآن في بيانها، وأسماها في بلاغتها فهي جامعة بين قوة الاستدلال وجمال المعنى ولطفه، ورقة الدلالة وظهور المدلول، وقد كان للبلغاء قبلها كلمات في القتل والقصاص تعجبهم بلاغتها وجزالة أسلوبها ونظمها كقولهم: قتل البعض إحياء للجميع وقولهم: أكثروا القتل ليقل القتل، وأعجب من الجميع عندهم قولهم: القتل أنفى للقتل غير أن الآية أنست الجميع ونفت الكل: ولكم في القصاص حيوة فإن الآية أقل حروفا وأسهل في التلفظ، وفيها تعريف القصاص وتنكير الحياة ليدل على أن النتيجة أوسع من القصاص وأعظم وهي مشتملة على بيان النتيجة وعلى بيان حقيقة المصلحة وهي الحياة، وهي متضمن حقيقة المعنى المفيد للغاية فإن القصاص هو المؤدي إلى الحياة دون القتل فإن من القتل ما يقع عدوانا ليس يؤدي إلى الحياة، وهي مشتملة على أشياء أخر غير القتل يؤدي إلى الحياة وهي أقسام القصاص في غير القتل، وهي مشتملة على معنى زائد آخر، وهو معنى المتابعة التي تدل عليها كلمة القصاص بخلاف قولهم القتل أنفى للقتل، وهي مع ذلك متضمنة للحث والترغيب فإنها تدل على حياة مذخورة للناس مغفول عنها يملكونها فعليهم أن يأخذوا بها نظير ما تقول: لك في مكان كذا أو عند فلان مالا وثروة، وهي ذلك تشير إلى أن القائل لا يريد بقوله هذا إلا حفظ منافعهم ورعاية مصلحتهم من غير عائد يعود إليه حيث قال: ولكم.
فهذه وجوه من لطائف ما تشتمل عليه هذه الآية، وربما ذكر بعضهم وجوها أخرى يعثر عليه المراجع غير أن الآية كلما زدت فيه تدبرا زادتك في تجلياتها بجمالها وغلبتك بهور نورها - وكلمة الله هي العليا.
____________________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج1 ، ص359-360.
في القصاص حياة الآيات السابقة طرحت المنهج الإِسلامي في {البرّ}، وهنا يقدّم القرآن الكريم ـ وهكذا في الآيات التالية ـ مجموعة من الأحكام الإِسلامية، إكمالا لبيان المنهج الإِسلامي في الحياة.
تبدأ هذه الأحكام من مسألة حفظ حرمة الدماء، وهي مسألة هامة في الحياة الإِجتماعية، فتنفي العادات والتقاليد الجاهلية، وتقول للمؤمنين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلى}.
عبارة {كُتِبَ عَلَيْكُمُ} تبيّن أهمية الموضوع، وتوحي بالتأكيد عليه، وذكرت في آيات اُخرى بشأن الصوم والوصيّة، ولا يكتب من المسائل عادة إلاّ ما كان قاطعاً وجادّاً.
و(القصاص) من(قصّ)، يقال قصّ أثره: أي تلاه شيئاً بعد شيء. ومنه القصاص لأنه يتلو أصل الجناية ويتبعه، وقيل هو أن يفعل بالثاني مثل ما فعله هو بالأول، مع مراعاة المماثلة، ومنه أخذ القصص كأنه يتبع آثارهم شيئاً بعد شيء(2).
الآية كما ذكرنا تستهدف بيان الموقف الصحيح من المجرم، ولفظ القصاص يدلّ على إنزال عقوبة بالمجرم مماثلة لما ارتكبه هو، لكن الآية لا تكتفي بذلك، بل بينت التفاصيل فقالت: {الْحُرُّ بُالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالاْنْثى بِالاْنْثى}.
وسنوضح إن شاء الله مسألة قصاص الأُنثى بالأُنثى، ونبيّن أنّ الرجل قاتل المرأة يمكن إنزال عقوبة القتل بحقّه ضمن شروط.
ثم تبين الآية أنّ القصاص، حق لأولياء المقتول، وليس حكماً إلزاميّاً، فان شاؤوا أن يعفوا ويأخذوا الدية، وإن شاؤوا ترك الدية فلهم ذلك، وتقول: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} فبعد تبدل حكم القصاص عند عفو أولياء المقتول إلى دية {فَاتَّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} أي فعل العافي إتباع بالمعروف، وهو أن لا يُشدّد في طلب الدّية وينظر من عليه الدية {وَأدَاءٌ إليهِ بإحسِان} أي على المعفو عنه أن يبادر إلى دفع الدية عند الإِمكان، وأن لا يماطل.
التوصية إلى من له الدية أن لا يشددّ في طلبه، وأن يستوفي حقّه بشكل معقول ... وعلى من عليه الدية أن يؤديها بإحسان، وأن لا يسوّف ويماطل.
ثم تؤكد الآية على ضرورة الإِلتزام بحدود ما أقرّه الله، وعدم تجاوز هذه الحدود: {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
وهذا الامر بالقصاص وبالعفو يشكل تركيباً انسانياً منطقياً. فهومن جهة يدين التقاليد السائدة في الجاهلية الأُولى والجاهليات التالية إلى يومنا هذا القاضية بالإِنتقام للمقتول الواحد بقتل الآلاف.
ومن جهة اُخرى، يفتح باب العفو أمام المذنب، مع الحفاظ على احترام الدم وردع القاتلين.
ومن جهة ثالثة، لا يحقّ للطرفين بعد العفو وأخذ الدية التعدّي، خلافاً للجاهليين الذين كانوا يقتلون القاتل أحياناً حتى بعد العفو وأخذ الدية.
الآية التالية قصيرة العبارة وافرة المعنى، تجيب على كثير من الأسئلة المطروحة في حقل القصاص، ويقول: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الاْلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.
هذه الآية بكلماتها العشر، تضع الإِطار العام ـ ببلاغة وفصاحة متناهيتين ـ للقصاص في الإِسلام، وتبين أن القصاص ليس انتقاماً، بل السبيل إلى ضمان حياة النّاس.
إنه يضمن حياة المجتمع، إذ لو انعدم حكم القصاص، وتشجّع القتلة القساة على تعريض أرواح النّاس للخطر ـ كما هو الحال في البلدان التي ألغت حكم القصاص ـ لإِرتفعت إحصائيات القتل والجريمة بسرعة.
وهومن جهة اُخرى، يصون حياة القاتل، بعد أن يصدّه إلى حدّ كبير عن إرتكاب جريمته.
كما أنه يصون المجتمع بجعله قانون المماثلة من الإِنتقام والإِسراف في القتل على طريقة التقاليد الجاهلية التي تبيح قتل الكثير مقابل فرد واحد. وهو بذلك يصون حياة المجتمع.
ومع الاخذ بنظر الاعتبار أن القصاص مشروط بعدم العفو عن القاتل فهذا الشرط نافذة أمل للحياة أيضاً بالنسبة للقاتل.
وعبارة {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} تحذير من كل عدوان لتكميل هذا الحكم الإِسلامي العادل الحكيم.
________________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج1 ، ص412-414.
2 ـ مجمع البيان، ذيل الآية مورد البحث.
|
|
مخاطر عدم علاج ارتفاع ضغط الدم
|
|
|
|
|
اختراق جديد في علاج سرطان البروستات العدواني
|
|
|
|
|
مدرسة دار العلم.. صرح علميّ متميز في كربلاء لنشر علوم أهل البيت (عليهم السلام)
|
|
|