أقرأ أيضاً
التاريخ: 1-12-2016
2202
التاريخ: 1-12-2016
2250
التاريخ: 1-12-2016
1808
التاريخ: 18-5-2021
2231
|
من الأدب البابلي:
استفادت الحضارة البابلية من مخلفات السومريين اللغوية والأدبية، على نحو ما استفادت من تراثهم التشريعي. وكان أصحابها أسعد حظًّا من أسلافهم الأكديين أصحاب الثقافة السامية القديمة، فالأكديون كانوا ينحتون في الصخر عندما كتبوا لغتهم السامية بالكتابة المسمارية، وهذا لم يترك لهم مجالًا واسعًا للخروج بأدب سامي متميز، أما البابليون فقد وجدوا الأرض ممهدة بمجهودات سومرية وسامية خليطة، وعملوا من ناحيتهم على إدخال علامات جديدة في الكتابة المسمارية للتعبير عن أصوات لم تكن متميزة، ومنها التعبير بعلامتين متمايزتين عن كل من الجيم والقاف، وبدءوا في تصنيف قوائم لغوية تجمع بين كلمات سومرية قديمة ومترادفاتها السامية. وعمل كتبتهم على تسجيل أسماء الحيوانات والنباتات في قوائم متصلة، وسجلوا بعض القصص والأساطير السومرية والسامية الكبيرة بأسلوبهم الخاص.
أساطير نشأة الوجود:
انتفع البابليون ببعض عناصر الفكر السومري عن أصول الخلق المادي والمعنوي في دنياهم، وخرجوا بنطرية عن نشأة الوجود جعلوا ربهم مردوك قطب الدائرة فيها، ونافسوا بها نظريات السومريين أنفسهم، وضمنوها ما تواتر إليهم عن نشأة الحضارة الاولى عند مجمع البحرين، وما سبقها من خواء وعماء ووحشية وما صاحبها من تحديات مضنية في سبيل التغلب على أخطار البحر والتحكم في جبروت النهر، وفي سبيل التحول من الركود إلى النشاط، ومن الفوضى إلى الاستقرار، وضمنوها ما تواتر إليهم عن فاعلية البحر القديم، ووجود نوع من الشورى بين أصحاب الرأي القدماء حتى إذا ما اتفق رأيهم على زعيم أسلموا له أمرهم وعهدوا إليه بمقدراتهم.
وخرجت النظرية مشوهة مطولة يكثر فيها التكرر وتتعدد فيها الأسماء، كالعادة. ولكن يمكن الخروج من عناصرها المهذبة، بأنهم ردوا أصول الأشياء إلى ماء أزلي اختلط عذبه بمالحه، ومثل العذوبة فيه آبسو وهو مذكر، ومثلت الملوحة فيه تيامة وهو أنثى. وعمموا نظريتهم بمقطعها الأول الذي يقول "إنوما إليش" بمعنى "حينما في العلا". واسترسلت الفقرة الأولى منها قائلة: "حينما في العلا لم يكن للسماء ذكر، وفي الدنا لم يكن للأرض اسم، ولم يكن من شيء غير آبسو والدهم وتيامة أمهم". وافترضت النظرية نشأة أجيال الأرباب في جوف ماء البحر "تيامة" جيلًا بعد جيل، وكان كل جيل منهم يفوق من سبقه، حتى انعقدت ألوية الحكمة بينهم للإله "إيا" الملقب بلقب "نوديمو". ولكن حكمة أولئك الأرباب لم تخل دون شدة صخبهم وسعيهم إلى التبديل والتغيير، الأمر الذي أقلق أباهم آبسو وجعله يهم بالقضاء عليهم، رغم معارضة أمهم تيامة التي قالت "وكيف نقضي على من خلقناهم بأنفسها؟ وإن مسلكهم معيب حقًّا ولكنه شيء متوقع". ثم ألقى "إيا" النعاس على آبسو وقتله وأفناه في نفسه وبنى بيته فيما كان يشغله "إي - آبسو" وعاش فيه هو وزوجته، وأنجبا ولدهما "مردوك" الذي فاقت قدرته كل الحدود، وهنا عاودت تيامة ذكرى زوجها المضحى به، وانقلبت على أحفادها، وسلطت عليهم الكواسر والزواحف والمخاوف. واستعانت عليهم بإله قديم يدعى "كنجو"، أغرته بنفسها وعهدت إليه بألواح القدر. وعجز الأرباب متفرقين ومجتمعين أمام هذين الحليفين، سواء بالمداهنة أم بالعنف، حتى تخيروا من بينهم "مردوك" وفوضوه السلطة المطلقة وخلعوا عليه قدراتهم وأسرار أسمائهم وارتضوه ملكًا عليهم. وقد تعدد لقاؤه مع تيامة بالسحر تراة وبالحرب أخرى، حتى تصيدها بشبكة وأطلق عليها ريح السموم فملأت جوفها ونفختها، فقيدها وذبحها، واندار على حليفها كنجو واسترد منه ألواح القدر وختمها بخاتمه واستودعها في مكنون صدره. ثم عاد إلى تيامة فبقرها وقسمها نصفين، مثل نصفي صدفة البحر، وجعل نصفها الأعلى سماء ونصفها الأسفل أرضًا، وعين في السماء حرسًا ونظم ماءها وعين مواضع الأرباب فيها. وأرسى الأرض وجبالها والدجلة والفرات وفجر العيون والينابيع(1).
توسع البابليون فيما روته الأساطير السومرية عن خلق الإنسان وعلاقته بأربابه في بداية الخلق والنشأة، وضمنته في قصة أتراخاسيس الذي قد يعني اسمه معنى "فائق الإدراك "أو الحكمة"، ويفهم منها أن عالم السماء والأرض كان قاصرًا على طوائف الأرباب بمراتبهم، حيث وقع غرم العمل في إصلاح الأرض وزراعتها لإعالة الجميع على أكتاف طائفة منهم تسمى إججي، حتى ناءت هذه الطائفة بمشقة العمل أربعين عامًا. ثم جمعت أمرها وحملت المشاعل وتظاهرت معلنة احتجاجها أمام قصر الإله الأعظم إنليل. واستفتى إنليل بطانته من مجمع الأرباب، واستقر رأيهم على خلق الإنسان كي يحمل النير عوضًا عنهم ويخدم الآلهة ويكد من أجل إقامة معابدها وتوحيد قرابينها.
وعملًا بمشورة إبا رب الحكمة، عهد الآلهة إلى الربة الأم ننتو التي لقبت بلقب مامي "أو ماما" بأن تخلق الإنسان الأول "لوللو" وأعانها الرب إيا فأعد لها الطين النقي الطاهر ومارس عددًا من الشعائر حين إعداده - ولأمر ما ذبح الآلهة في هذه المناسبة واحدًا منهم يدعى وإيلا ربما لشخصيته كما روت القصة، أو لأنه كان أشدهم ذنبًا في تحريض طائفة الإججي على العصيان كما روت قصة سومرية عن ذبيحها كنجو، وتفلت ننتو على الطين ومزجته بلحم الضحية ودمه، وعاونها إيا، وشكلت من الطين سبعة ذكور وسبع إناث، وقدرت تسعة شهور لحمل الإناث. وبين دقات الطبول وقراءة التعاويذ خرج الإنسان الحي، وأتاها الأرباب يقبلون قدميها عرفانًا بجميلها، واستحقت أن توصف لذلك بسيدة الآلهة "بليت إيلي".
وانقضى بعد ذلك ألف ومائتان من الأعوام تكاثر الناس فيها، واشتد صخبهم حتى ضاق إنليل بضجيجهم فأمر نمتار بأن يبتليهم بالأوبئة والأوجاع ليقلل أعدادهم، ولم ينقذهم من الفناء غير الرب إيا وفائق الحكمة أتراخاسيس اللذين قر رأيهما على استمالة نمتار بالقرابين من "طحين وخبز مقدد" عسى أن "تخجله الهدية فيرفع يده عن العالمين" ونجحت الحيلة وخف البلاء.
وبعد ألف ومائتي عام أخرى تضخمت شرور الناس، فقرر إنليل أن يبتليهم بالقحط والمجاعة، وأمر أداد بأن يحبس المطر وأن يرسل الرياح جافة حسوما، واستمر هذا لست سنوات فجفت الأرض وهزل البشر وقلت المواليد وأكل الناس أولادهم. وهنا استرضى إيا وأتراخاسيس أداد بقربات من طحين وخبز مقدد حتى لان جانبه وسمح لقليل من الطل والندى، وعمل إيا من ناحيته على أن يفتح ثغرة لمياه الأعماق فتدفقت تروي الأرض وتحيي أهلها، وبلغ استياء إنليل مداه لفشل خططه، وقر رأيه على أن يغرق كل الخلق بما أرادوا أن يحيوا به. وأمر بطوفان كاسح "أبوبو في البابلية وأماورو في السومرية" - وأخذ المواثيق على الأرباب أن يعاونوه على إحداثه.
واشتركت القصة في رواية أحداث الطوفان مع قصة جلجميش الثالثة أحداثها - كما تشابهت إلى حد ما مع بعض قصص التوراة "سفر التكوين 6: 1 - 22" في تصوير غضب الإله على البشر وابتلائه لهم ثم عقابه لهم بالطوفان. ولكن ذهب القرآن الكريم مذهبًا آخر في تصوير ما أدى إلى الطوفان وتصوير بعض أحداثه "في سور: نوح والأعراف ويونس وهود والأنبياء والمؤمنون والشعراء والعنكبوت والصافات والقمر".
جلجامش وقصة الطوفان:
هذه أشهر الأساطير التي روى البابليون في ثناياها قصة الطوفان القديمة بعد أن عدلوا فيها أضافوا إليها وغيروا بعض مسمياتها. وتخلفت من الصيغة البابلية لهذه الأساطير ألواح مبعثرة قليلة أمكن تصحيح قصتها واستكمالها من ألواح أخرى مرادفة لها وأكثر تفصيلًا منها كتبت بعدها باللغات الآشورية والحورية والحيثية(2). وبهذا أمكن تكوين صورة عامة لها يفهم منها أن جلجميش كان حاكمًا على مدينة أوروك، أحبه شمش وحباه آنو وإنليل وإيا بنضرة الشباب وبسطه الجسم وجمال الصورة والقوة الخارقة والحكمة السابغة والنظرة الثاقبة حتى أصبح إنسانًا مثاليًّا، أو على حد تعبير الأسطورة حتى أصبح به ثلثان من الربوبية وثلث من البشرية. وقد اهتم بمدينته وأسوارها كما اهتم ببلاطه وفخامته ورفاهيته، فدب الحسد منه في نفوس معاصريه، وشكوه إلى أربابهم؛ وادعوا أنه يسخر أبناءهم ويحتبي عذاراهم ونساءهم، فاستجاب الأرباب لشكواهم وابتغوا أن يعيدوا السلام والطمأنينة إلى أرض أوروك التي أرسى الحكماء السبعة بنيانها "وهم سبعة حكماء أسطوريون نسبت القصص إليهم تأسيس وتحضير أقدم مدن في الوجود"(3). وأمر آنو الربة أرورو أن تخلق من الطين إنسانًا ينافس جلجميش قوة واقتدارًا حتى تهبط عزيمته حسدًا منه فينصرف طغيانه عن شعبه. وأتمت أرورو أمرها وغسلت يديها وقبضت قبضة من طين البراري وتفلت عليها وخلقت منها غلامًا دُعي إنكيدو "أو إنجيدو" عظيم البأس، له قوة الأسود وسرعة الطير، وفيه قبس من روح آنو ونينورتا، ولكنه نشأ على الرغم من قوته أشعر غير ذي فطنة ولا حكمة، فمال إلى مصاحبة الغزلان آكلات العشب دون الناس، وشاركها مرعاها وموارد شربها، وعزف عن طعام الناس وموارد شربهم. وبلغ من إخلاص لحيواناته أن تتبع شباك الصيادين فأتلفها، وتتبع حفرهم فردمها. فاشتكاه صائد إلى أبيه الشيخ، فوجهه أبوه إلى جلجميش وتنبأ له أنه سوف يستأسر إنكيدو عن طريق أنثى، فلما أعاد شكواه على جلجميش أوصاه بالفعل بأن يغويه بغانية جميلة، ففعل ما أوصاه به وارتحل بها ثلاثة أيام حتى بلغا البرية التي يعيش فيها، وتربصا به يومين حتى خرج بحيواناته يسقيها. واستطاعت الأنثى أن تلفه بجمالها، فكشفت له عن مفاتنها وخلعت له ملابسها وفرشتها له، ونجحت فيما فشل فيه غيرها، فاستجاب لها إنكيدو وقضى معها ستة أيام وسبع ليال، ولما أفاق بعدها التفت إلى البرية وحيواناتها، ولكن الحيوانات التي أحبته لفطرته وطهره ما أن رأيت وجهه بعد الخطيئة حتى ازورت عنه وهجرته، فأدرك دنسه واشتد به عذاب النفس والحزن واليأس. ولكن المرأة شغلته بحديثها المعسول وأوهمته أنه أصبح حكيمًا وحرضته على أن يواجه جلجميش ويستحوذ على مدينته أوروك وملكه العريض وينتقل من حياة البراري إلى جوار مقر آنو وإشتار "عشتار" وحياة المدنية. فاستجاب إنكيدوا للمرأة مرة أخرى ووصل معها إلى أوروك. وهنا تواردت الرؤى على جلجميش، ورأى فيما يرى النائم روح آنو تجلت في السماء على هيئة كوكب ونزلت عليه فحاول أن يرفعها أو يحركها ففشل، وتجمع أهل أوروك حولها وقبلوا قدميها. ولما أفاق جلجميش قص رؤياه على أمه الحكيمة نينسون، فنبأته بنبإ إنكيدو تنبأت له بأنه سيميل إليه كما يميل إلى أنثى. ثم رأى في رؤيا أخرى أن قومه ثبتوا فأسًا في الأرض وتجمعوا حولها، فاتجه إليها بدوره، ولما أعاد الرؤيا على أمه فسرتها له بنفس تأويلها الأول.
وقضى إنكيدوا مع غانيته ستة أيام وسبع ليال أخرى كاد ينسى نفسه فيها، فأثارت المرأة عزيمته ثانية وألبسته ثيابًا جديدة، وخرجت تشده كأنها أمه إلى أماكن الرعاة ليستعيد نخوته بينهم، فحن هناك إلى رضاعة لبن البراري، وعندما قدم إليه طعامهم وشرابهم ما درى كيف يطعمه ويشربه، فراضته المرأة عليه حتى اعتاده واستساغ الشراب العنيف وأسرف فيه، وأزال شعر بدنه واعتاد الطيوب، وأصبح يذود عن أغنام الرعاة ويصيد السباع. ثم أتى البرية رجل يستصرخه ضد جلجميش الذي استولى على زوجته، فاستثارت الغانية والناس همته حتى خرج إلى أوروك وهناك تجمع الناس حوله ورأوا فيه كفئًا لجلجميش وإن كان أقصر قامة منه.
وتلاقى البطلان في سوق المدينة وتصارعا مصارعة عنيفة، واستطاع جلجميش أن ينتصر على خصمه، ثم رق كل من همها للآخر وصادقه وأصبح كل منهما أحب إلى صديقه من نفسه، حتى كان يوم رأى فيه جلجميش صديقه دامع العين كسير الفؤاد، فلما سأله عما به شكا له الإعياء والمرض، فاعتزم جلجميش أن يدفع عنه الملل ويشركه في مغامرة مثيرة، وعرض عليه أن ينطلقا إلى حيث يعيش هواوا ويتعاونا على قتله عسى أن يذهب النحس عن الأرض بهلاكه، وهنا قصت الألواح مغامرة الصديقين في صورة قريبة من صورتها السومرية القديمة مع تعديلات يسيرة وتعبيرات تناسب آفاق المعرفة في عصرها، وكان من ذلك أن ذكرت جبل الأرز في أرض الأحياء التي اتجها إليها باسمه الكنعاني المعروف للساميين وهو جبل حرمون الذي ذكرت نصوص أوجاريت في الشام أن معبوداتها تستقر فوقه. ثم كان من أمتع ما جاءت به قول جلجميش لصديقه وهو يرد على مخاوفه من لقاء هواوا "من يستطيع أن يعاند السماء يا صديقي؟ ليس من يخلد تحت الشمس غير الأرباب، أما البشر فأيامهم معدودات ... ، وأنت هنا تخشى الموت؟، فأين بطولتك الفذة إذن؟ أولى بك أن تهيب بي أن تقدم ولا تخف، فإذا سقطت صريعًا تركت لنفسي سمعة طيبة، وقال عني خلفائي من أهل بيتي سقط جلجميش بعد أن تحدى هواوا".
وأضافت النسخ الآشورية للقصة أن جلجميش بعد أن نجح في إقناع شيوخ بلده بمغامرته التفتوا إلى إنكيدو وقالوا له "نحن أعضاء المجلس أمناك على الملك، فأعده سالمًا إلينا"، والتفت جلجميش إلى صديقه وقال له هيا بنا إلى القصر الكبير "إجالمه" وإلى حضرة الملكة العظيمة نينسون. وعندما قص عليها ما عزم عليه فزعت وارتدت رداءها الكهنوتي وصعدت الدرج وعلت السور وطلعت إلى السطح وحرقت البخور فتصاعد عبيره عاليًا لربها شمش ثم رفعت يديها إلى معبودها وقالت تخاطبه: لم وهبتني جلجميش ولدًا؟ ولم جعلت هذا الابن القلق من نصيبي؟
ثم انتهت الألواح إلى ما انتهت إليه القصة السومرية من قتل هواوا، وأضافت أن جلجميش انتشى بعد النصر واغتسل وعقص شعره وأرسل ضفيرته خلف ظهره واستبدل ثيابه وارتدى عباءة ذات أهداب، فلمحته الربة إشتار "عشتار" وشغفت به حبًّا وابتغته زوجًا لها ومنته بأماني كثيرة ووعدته بملك عريض فاستهان بعرضها وذكرها بغرامياتها المتقلبة وكيف أحبت دوموزي في صباها ثم غدرت به، وكيف أحبت طائرًا ثم كسرت جناحه، وكيف عشقت أسدًا وحفرت له سبع حفر بعد سبع حفر، وكيف أحبت محاربًا وراعيًا، بل وأحبت بستاني القصر، ثم غدرت بمن أحبها منهم ومسخت منهم من استعصم عليها. فلما واجه جلجميش هذه الربة الحسناء بحقيقتها انقلب حبها له إلى حقد شديد وشكته إلى والديها في السماء "آنو وأنتوم" ودعت أباها إلى أن يرسل عليه فحل السماء ليقتله، وتوعدته إن لم يفعل بأن تفتح أبواب العالم السفلي فيخرج أمواته ويفتكون بالأحياء، فاستجاب لها أبوها وأرسل معها فحل السماء بعذاب شديد. وأراد إنكيدو أن يفتدي صديقه فتصدى للفحل ونجا من حفره بعد أن سقط في إحداها، ثم تعاون هو وجلجميش على ذبحه وقدما قلبه قربانًا إلى شمش، فجن جنون إشتار وصبت اللعنات على أوروك وحرضت الكاهنات على أهلها. فتصدى لها إنكيدو وتوعدها بأن يفعل بها مثل ما فعل بالفحل، وأفسد هو وصديقه خطتها وكان يوم انتصارهما عليها يومًا مشهودًا، خرجت العازفات فيه ينشدن بإيعاز من جلجميش: من هو أعظم المغاوير قدرًا؟ من هو أعظم الناس قدرًا؟ فيرد الناس وراءهن: ذاك هو جلجميش: أعظم المغاوير قدرًا، ذاك جلجميش أعظم الناس شهرة. وتلك صورة من هتاف الأنصار للبطل تربط الماضي بالحاضر.
وانقلب حال السماء وأربابها، فاجتمع آنو وإنليل وشمش، وانقسموا فريقين: آنو وإنليل في جانب وقد اعتزما الفتك بإنكيدو لإهانته إشتار واشتراكه في قتل هواوا وقتل الفحل، وشمش في جانب آخر وقد أصر على حماية الصديقين واعترف بأنهما قتلا هواوا والفحل بأمره ... ، وانتصر رأي آنو وإنليل وابتليا إنكيدو بداء عضال لا يرتجى البرء منه واسترسلت الأسطورة في وصف أسف جلجميش على صديقه، وخوف إنكيدو من عالم الفناء وأهواله، وتبرمه بما لحق به، حتى أتاه صوت شمش من السماء بعتاب رقيق، ذكره فيه بفضل ربه عليه حين وهبه القوة والبأس من قبل، وحين حباه بصداقته للبطل جلجميش وحين أيده بنصره في مغامراته القديمة، فقرت نفس إنكيدو ورضي بنصيبه وتحولت لعناته إلى دعوات، ولكن ظلت الرؤى تتوارد عليه وتدفعه إلى أن يتذكر العالم الآخر رغم أنفه، حيث الدار التي لم يتركها شخص دخلها، وحيث الطريق التي لا رجعة منها، وحيث الظلام الأبدي الذي عز النور على أهله، وحيث الطعام طين وتراب، وحيث لا يجد الموتى ما يتدثرون به سوى أجنحة كأجنحة الطيور، وحيث تحيا ملكه العالم الآخر إرشكيجال وحيث تركع أمامها كاتبتها بلت سرى تقرأ لها لوحها المكتوب، وقد رآها إنكيدو في منامه ترفع رأسها وتتطلع إليه وتقول من أتى بهذا الشخص هنا؟ فأدرك أنها النهاية، واشتد به المرض وظل يعاني سكرات الموت عشرة أيام "أو اثني عشر يومًا"، فلما أحس دنو أجله دعا جلجميش وودعه وأفضى إليه بأسفه على أنه لم يمت شهيدًا في معركة وأن عليه أن يموت على فراشه. ولما قضى نحبه بكاه جلجميش وظل يندبه بحرقة ووفاء، وأبنه ونعى صفاته وشجاعته بعبارات ينفطر الفؤاد لها، ثم فاق إلى نفسه وتخيل نفسه يلقي مصير إنكيدو فطارت نفسه شعاعًا وكره الموت، واعتزم أن يلجأ إلى جده الأكبر الحكيم أوتانبشتيم "أو وتنابشتو، أو أوتونبشتم، ابن وبرتوتو، وهو نوح البابلي، في مقابل نوح السومري زيوسدرا، الذي يقابله Xisouthros في النصوص الإغريقية للعصور المتأخرة.(4)، عله يجد عنده سر الحياة، وانطلق من ثم يقطع البراري والقفار حتى بلغ جبلًا يُدعى جبل ماشو تتصاعد قممه إلى عنان السماء وتصل جذوره إلى العالم السفلي، ولقي حارسه وكان له وجه عقرب، فخوفه الحارس أهوال الطريق ولكنه لم ينثن عن عزمته وظل يقطع مفازاته ويتخطى أهواله حتى لقد ناداه شمش من علاه: إلى أين جلجميش؟ ارجع فلن تجد الحياة التي تسعى إليها ... ، فأجابه: وهل بعد أن أقطع البراري أضع رأسي في قلب الأرض وأنام مدى الدهر؟ دع ناظري يمتلئان بنورك دائمًا فإن الظلمة تتشتت أمام النور ...
واستمر جلجميش في طريقه، وقابل صاحبة حانة تدعى سيدوري روى لها قصته وقصة صديقه الذي اختطفه الموت بعد أن سقطت دودة من أنفه وتحول إلى طين، على حد قوله، فلم يستطعم الحياة من بعده، فردت عليه بأن الموت نهاية كل حي وأن للإنسان أن ينعم بحياته ويطعم ويشرب ويلبس ويمرح، وأنه ليس من سبيل إلى حياة الخلود التي يبتغيها، وأنه يفصل بينه وبين أوتا نبتشتيم بحر لم يعبره إنسان، وأنه لن يستطيع عبوره بغير مساعدة نوتي فظيع يدعى سورسونابو. وكأنما أراد القصاص أن يبين أن الرؤية الصحيحة قد تتوفر عند صاحبة حانة وتغيب عن جلجميش العظيم بعد أن ألهته عنها شدة رغبته في الحياة، وقابل جلجميش النوتى وحاوره وراضاه حتى اصطحبه معه في قاربه، وركبا الموج شهرًا وثمانية عشر يومًا إلى أن بلغا مياه الأعماق. وخرج جلجميش إلى جزيرة جده أوتانبشتيم "أو وتنابشتو" وقابله ورأى فيه صورة من نفسه وقص عليه قصته ورجاه أن يدله على سر الخلود، ولكن جده أراد أن يزيده خبرة بأحداث الماضي البعيد قبل أن يلبي رجاءه، فقص عليه قصة الطوفان القديم، قائلًا له:
"سأكشف لك جلجميش سرًّا، وهو سر رباني. شوروباك مدينة تعرفها تقع على ضفة الفرات، هي مدينة عتيقة عاش الأرباب فيها، وعندما أرادت مشيئتهم إحداث الطوفان، كان بينهم آنو أبوهم، والشجاع إنليل مستشارهم، ومساعدهم نينورتا، وإنوجيه متولي أمر قنواتهم. وكان معهم كذلك رب الحكمة إيا الذي حزبه الأمر ولكنه لم يشأ أن يفشي سر الآلهة جهرة، فجعل أوتا نبشتيم يرى في منامه ما يحذره من الطوفان، ولما لم يدرك هذا الأخير مغزى رؤياه وتطلع إلى تفسيرها ألقى إيا حديثه إلى كوخه بطريق غير مباشر قائلًا: يا كوخ البوص، يا جدار ويا جدار؛ يا كوخ البوص، يا جدار ويا جدار، أصيخوا ورددوا:
يا رجل شوروباك يابن وبرتوتو.
أهدم الدار وابن سفينة. دع أملاكك، وانقذ حياتك ...
ارحل بها وخذ بذرة كل حي...
اجعل عرضها مثل طولها.
ففهمت وقلت مولاي إيا أمرت سيدي وسأكون أهلًا لحمل الرسالة، ولكن بم أجيب أهل المدينة وشيوخها؟ فقال إيا، قل لهم إني سمعت أن إنليل غير راضٍ عني، ولهذا لن أبقى في مدينتكم ولن أطرق أرض إنليل - ولسوف أذهب إلى الأعماق وأعيش مع مولاي إيا - ولسوف يبارك لكم في الطير والأسماك ويجعل الأرض تؤتي أكلها، ذلك الذي يأمر في ظلمة الليل باخضرار اليابس - ولسوف يرسل عليكم مطرًا من الغلال "وكلمة الغلال تورية عن الهلاك لاشتراكهما في اللفظ" ... وبعد أن تعلم الحكيم من ربه كيف يصنع السفينة من البوص والأخشاب ولم تكن له معرفة سابقة بصناعتها قال: وعند الفجر تجمع الناس حولي، وحمل الصغار القار، وحمل الكبار كل الضروريات، وفي اليوم الخامس أتممت إطار السفينة، وكانت سعة أرضها فدانًا كاملًا، وارتفاع جدرانها 120 ذراعًا ... ، وجعلت لها سبعة مسطحات أي قسمتها ستة أقسام وقسمت أرضيتها تسعة أجزاء ... وأكرمت من عملوا معي... ، وأكتملت السفينة في اليوم السابع وأنزلوها الماء، وحملتها بكل ما عندي، وما أملك من فضة وذهب، وحملتها بصنوف الأحياء كلهم، وأخذت معي كل عائلتي وأقربائي، وحيوانات البراري، وكل الصناع.
وحدد "شمش" وقتًا معينًا لي قائلًا: عندما يرسل من يبعث القلق بالليل، رذاذًا من المن، ارحل بسفينتك وأغلق مدخلها. وحان الوقت .. وتطلعت إلى الجو، فوجدته معتمًا، فغلقت السفينة، وعهدت بها إلى النوتى بوزور أموري. وظهرت غمامة سوداء في الفجر، رعد فيها أداد، وتقدمها شولات وهانيش رسولين فوق السهل والجبل، وحطم إراجال المساند "التي تسند الدنيا"، وخرج نينورتا فجعل الترع تفيض، وحمل الأنوناكيون المشاعل وجعلوا الأرض تتوهج بها، وبلغ غضب أداد السماوات، وأحال النوبر إلى ظلمة، وهبت عاصفة الجنوب يومًا كاملًا بسرعة عنيفة فنسفت الجبال، واقتلعت الناس، فخشي الأرباب عاقبة الطوفان وأجفلوا وصعدوا إلى سماء آنو "أعلى السماوات" وتجمعوا كالكلاب حين تقبع بجوار الجدران؛ وصرخت إشتار صرخة أنثى تلد، وولولت صاحبة الصوت الشجي قائلة: ضاعت الأيام الحوالي هباء لأني أخطأت في مجمع الأرباب؛ ولكن كيف أخطئ في مجمعهم وأعلن حربًا لفناء الناس وأنا التي وهبتهم الحياة، فتكاثروا كأسماك البحر ... " وبكى الأنوناكيون معها.
واستمرت أعاصير الطوفان ستة أيام "وست" ليالي واكتسحت الأرض كما تكتسحها عاصفة الجنوب، وفي اليوم السابع هبطت العاصفة وهدأ البحر وتوقف الطوفان، وتطلعت إلى الجو، فإذا سكون شامل والناس قد تحولوا إلى طين، وأصبحت الأرضيات في مستوى السقوف. ففتحت منفذًا، وسقط الضوء على وجهي، فسجدت وبكيت، وتطلعت أتلمس خطوط الساحل على مدى البحر هنا وهناك، وبدت يابسة. والتصقت السفينة "نسرات نابشتم أي منقذة الحياة" بجبل نيزير(5) فاحتجزها، يومًا ويومين وثلاثة وأربعة وخمسة وستة ولم يدعها تتحرك. وفي اليوم السابع أطلقت حمامة، فذهبت وعادت وعز عليها أن تجد مكانًا ظاهرًا تحط عليه، وأرسلت سنونو فذهب وعاد حين لم يجد موضعًا ظاهرًا يحط عليه، فأرسلت غرابًا فذهب ورأى الماء يتناقص فأكل وعب ودار ولم يعد. وحينذاك واجهت الجهات الأربع وضحيت - وسكبت قربانًا فوق قمة الجبل، ونصبت 14 قدرًا، وعندما شم الأرباب الرائحة تجمعوا كالطيور حول الأضاحي. ثم وصلت العظيمة "إشتار" ورفعت حليها العظيمة التي أهداها لها آنو، وقالت: أيها الأرباب، بحق هذا اللازورد حول عنقي، سوف أذكر هذه الأيام ولن أنساها، ادعوا الأرباب إلى الأضاحي ولكن لا تدعوا إنليل الذي سبب الطوفان وأهلك شعبي، وبعد فترة وصل إنليل فلما رأى السفينة غضب وقال: هل نجت روح وما كان لبشر أن يبقى؟ فأجاب نينورتا، ومن غير إيا يفشي الخطط وهو العليم بكل شيء؟
وهنا قال إيا لإنليل العظيم: يا حكيم الأرباب يا بطل، كيف تتهور وتأمر بالطوفان؟ إنما تقع الخطيئة على مرتكبها، وعلى الباغي تدور الدوائر، كن رحيمًا وإلا قطع ... ، كن صبورًا وإلا أقصي...
أما كان يخرج أسد فيقلل للناس عوضًا عن الفيضان؟
أما كان يخرج ذئب فيقلل للناس عوضًا عن الفيضان؟
أما كانت تحدث مجاعة فتقلل للناس عوضًا عن الفيضان؟
لست أنا من يفشي سر الأرباب الكبار. لقد جعلت أتراخا سيس "= حكيم الحكماء أي أوتانبشتيم" يرى رؤيا كشف فيها سر الأرباب، فاقض فيه إذن!
"ولا يبعد أن القصاص أراد أن يعبر بمثل التساؤلات السابقة عن تساؤلات دارات في ذهنه هو عن حكمة الأرباب في إرسال الطوفان الذي أوشك أن يهلك الجميع".
وعند ذاك خرج إنليل من السفينة وأمسك يدي وأخرجني وأخرج زوجتي وجعلها تركع بجانبي، ووفق بيننا ولمس جبهتينا ليباركنا، وقال: لم يعد أوتانبشتيم بشرًا، سيكون هو وزوجته أشبه بنا معشر الأرباب، وسيستقر بعيدًا عند مصاب الأنهار. فرفعني الأرباب إلى مصاب الأنهار. ولكن أنت(5) تعدد المحاولات للتعرف على هذا الجبل في منطقة كردستان قرب السليمانية، وجنوبي الزاب الأصغر، وحيث يوجد بين أمر جدروون أبو بير إه نبه جدروون، أو جبل أرارات أو جرديان في أرمينيا - ولكن بغير دليل قاطع. "يا جلجميش" من سيجمع لك الأرباب ليهبوك الحياة؟ قم لا تنم ... ".
وانتقضت ستة أيام وسبع ليال، وجلجميش قابع وقد غلبه النعاس. فقال أوتانبشتيم لزوجته: "انظري إلى هذا البطل الذي يبحث عن الحياة، لقد استولى عليه النعاس ... " فقالت له زوجته: "المسه لعله يصحو ويعود من حيث أتى". ولكنه قال لها: "إن الإنسان من طبعه الخداع، ولسوف يحاول أن يخدعك "أي ينكر أنه نام"، فقومي اخبزي له فطائر وضعيها فوق يا فوخه، وعلمي على الجدار "عدد" الأيام التي نامها". فخبزت سبع فطائر ووضعتها فوق رأسه "يومًا بعد يوم"، وعلمت "عدد" الأيام على الجدار، فجفت الفطيرة الأولى، وفسدت الثانية، وعفنت الثالثة وابيضت الرابعة، واخضرت الخامسة، وظلت السادسة كما هي، وعندما وضعت له السابعة صحا وقال لجده: "الواقع أنه قلما ينتابني النعاس، وحالما تلمسني أصحو". فقال جده: "قم جلجميش وعد الفطائر ولاحظ ما صارت إليه ... ". وأسقط في يد جلجميش وعلم بعزم جده على ترحيله، فقال له: "وما عساي أن أفعل وأين أذهب وقد خمدت أطرافي، وفي حجرة نومه يستقر الموت وأينما ذهبت فهو الموت ... ؟ ".
واستدعى أوتانبشتيم نوتيه وأمره بأن يأخذ جلجميش إلى البحيرة ليزيل أوساخه ويحمل الماء عنه أدران جلده وحتى يظهر بهاء جسده. وأوصاه بأن يزوده بثوب جديد وعمامة جديدة ويساعده على العودة إلى بلده. فنفذ النوتي ما أمره به واستعد للإبحار جلجميش، ولكن زوجة أوتانبشتيم قالت له بحنان الجدة على حفيدها: "وما عساك معطيه وهو عائد إلى بلده؟ " فاستدعاه وقال له سوف أعهد إليك بسر رباني، نباتا سوف يخزك شوكه مثل الورد "ينبت في غور البحر"، ما أن تحرزه حتى تتجدد حياتك. فما سمع جلجميش قوله حتى ربط أحجارًا إلى قدميه وغاص بها في الماء حتى رأى النبات واقتلعه ووخزه شوكه، ثم حل الأحجار فطنا، وقال للنوتي "سوف آخذ هذا النبات إلى أوروك وأسميه رجوع الشيخ إلى صباه وسوف آكله بنفسي".
وبعد ثلاثين مرحلة رأي جلجميش بئرًا صافيه فأراد أن يبترد فيها، ونزل الماء، ولكن أفعى شمت النبات فاختطفته واختفت به. وربما أراد راوي القصة بذكر اختطاف الحية لسر الحياة الأبدية أن يفسر به قدرتها على تجديد جلدها وشبابها الظاهري كلما أدركها الهرم ولحق البلى بجلدها. وقعد جلجميش يبكي ويندب حظه .. ثم رضخ للأمر الواقع واصطحب الملاح ودعاه إلى زيارة أوروك، ووصفها له بأن مساحة مساكنها تبلغ سارا، وتمتد بساتينها سارا، وتمتد حدودها سارا ... وهكذا انتهت القصة إلى ما يفيد بأن سنة الحياة والموت جارية منذ الأزل وحتى الأبد وأنه لم يغيرها أن أتى جلجميش البطل بالأعاجيب في سبيل تغييرها، وأنه لم يكتب له الخلود من البشر غير أوتانبشتيم الذي يكاد يرادف الخضر في الأقاصيص الشعبية عند المسلمين، وإن كانت القصة العراقية القديمة قد أشركت معه زوجته أيضًا في نعمة الخلود.
صعود إيتانا إلى السماء:
ورث البابليون عن السومريين من أساطير العبرة التي استخدمت حوار الحيوانات والطيور للتعبير عن فكرتها، أسطورة ملك من ملوك كيش القدماء كان يدعى إيتانا ويلقب بالراعي(6)، ثم صاغوها بأسلوبهم فخرجت تصور حكمة القدر في المنع والعطاء، وتصور عواقب البغي والصلاح، وتصور سداد حكمة الصغير عن رأي الكبير أحيانًا، وتصور أمل البشرية القديم الجديد في ارتقاء الجو إلى عالم السماء.
كان إيتانا من أوائل من نزلت الملكية عليهم من السماء بعد الطوفان، وقد أوتي من كل شيء فيما خلا نعمة الولد، وعلم من تنبوءات الكهان أنه لا علاج لعقمه إلا بنبات الإنجاب، وأنه لا وجود لهذا النبات إلا في السماء السابعة سماء آنو، ولما طال تضرعه لربه شمش كي يهبه اسما "أي ولدًا" يخلد ذكره، اتخذه شمش أداة لتنفيذ قضاء قديم، ودله على نسر عجوز مهيض الجناح مثلوب المخالب منبوذ في حفرة عميقة، وأمره بأن يعينه حتى يسترد قواه عله يحمله معه إلى السماء حيث توجد طلبته.
وكانت قصة النسر أنه تآخى مع أفعوان وعقد معه أغلظ الأيمان على الإخلاص، وأشهدا معًا رب الشمس على أن من خان العهد سوف يضل طريقه وتسد الجبال سبيله. وعاشا متجاورين، الأفعوان في ساق شجرة والنسر في قمتها، وأنجب كل منهما ولدًا. وكان للأفعوان نصيب مما يصيده النسر، وللنسر نصيب مما يصيده الأفعوان. حتى كان يوم دب فيه دبيب الشر في قلب النسر العجوز فقال لولده إنه يشتهي أن يفترس ابن الثعبان ثم يهجر الأرض ويتخذ سكنه في السماء. وهنا ذكره ولده الصغير الأريب بقسمه، وحذره من انتقام ربه، ولكنه لم يرعو وأتم جريمته. وعندما عاد الثعبان وافتقد ولده اتجه بشكواه إلى شمش فاستجاب له ربه الذي عز عليه أن يحنث النسر بقسمه باسمه، ووعده بأن ييسر له قتل ثور بري بين الجبال، وأن عليه أن يبقر بطنه ويختبئ فيها حتى إذا حط النسر عليه ليأكله تمكن منه وفعل به ما يشتهيه. وحدث ما رسمه شمش، واتخذ الثعبان مخبأه في جوف الثور، وعندما حطت عقبان السماء على الفريسة أقبل النسر معها يسعى إلى نصيبه، فنهاه ولده الحكيم وحذره أن تكون مكيدة، ولكنه لم يرعو واكتفى بأن دار حول جثة الثور عدة مرات حتى استيقن من أنه لا وجود لعدوه الأفعوان بجواره، ثم ولج بطن الثور يريد أطايبها، وهنا تمكن الأفعوان منه، فانهار الغادر الجبان باكيًا مستعطفًا، ولكن الأفعوان واجهه بأنه لا مفر من تنفيذ قضاء شمش فيه، ونتف ريشه وكسر جناحيه وثلم مخالبه ورماه في حفرة ليلقى حتفه فيها. وحينذاك أعلن النسر توبته لربه، ولكن لم تفارقه حيلته، فنادى ربه قائلًا: "إذا ألقيتني ههنا فمن ذا الذي يعتبر بانتقامك مني؟ انقذ حياتي، ولأشيعن ذكرك وقدرتك للأبد"، فأجابه شمش بقوله "أنت شرير، وقد أسأت إلي، والآن دعوتني، ولن ألبي دعوتك "في التو"، ولكني سوف أرسل إليك فيما بعد من يأخذ بيدك".
سمع إيتانا هذه القصة من النسر بعد أن عثر عليه كسيرًا في حفرته، وقص عليه هو الآخر قصته، ثم أطعمه ورعاه حتى استرد قوته واستوى جناحاه. وعندما اعتزم الصعود إلى السماء، طلب النسر منه أن يلاصقه صدرًا لصدر، وأن يضم ساعديه حول وسطه ويستمسك بريشه، ثم أقلع به. ولما علا به في أجواء السماء قال له: تطلع يا صديقي إلى الأرض كيف تحولت إلى مجرد ربوة، وكيف يبدو البحر وكأنه مجرد جدول. وطفق كلما ارتقى به عاليًا نبهه إلى ملاحظة الأرض والبحر وكيف يتناقصان تدريجيًّا في مجال الرؤية، حتى أصبح البحر العريض في هيئة الدلو وتناقص بعد ذلك إلى هيئة سلة الخبز ثم اختفى عن النظر تمامًا هو الأرض "وتلك ملاحظات بارعة من القصاص بغير شك". ولما أوشكا بلوغ المنتهى، اختلفت الروايات في مصيرهما، فروت إحداهما أنهما بلغا سماء آنور ووقفا عند مدخلها وأديا التحية ثم صمتت. بينما روت أخرى أن النسر أجفل عندها وارتعد وهوى بحمله سريعًا مرحلة إثر مرحلة حتى سقط على الأرض، أرض آنو، من حيث طمعها أن يدخلا في سمائه(7).
وأخذت بحوار الحيوانات والزواحف والطيور أقاصيص أخرى، بعضها سومري محور، وبعضها بابلي مستحدث. وكانت منها أقصوصة ألاعيب الثعلب ذلك الذي تطلع إلى ربه إنليل ووعده بأنه سوف يضحي له بكل عائلته ويصلي له إن هو وهبه قرونًا، ثم مكر بذئب وكلب، وتحاكموا جميعًا وتفاخروا أمام ربهم(8) "على عادة الأساطير السومرية القديمة في التحاكم أمام الأرباب وأولي الرأي". وقصة الثعلب والسيسي. ثم محاورة الأثلة والنخلة ذات المقدمة الميثولوجية السومرية، وتفاخرها في قصر أول ملوك ما بعد الطوفان، على أيهما أنفع وأبهى. ومحاورة الصفصافة وشجرة الغار(9)، في صورة ظهرت لها أشباهها في كثير من الآداب القديمة، مثل الأدب المصري القديم، وتضمنت الآداب البابلية عددًا من الأمثال والعبارات المرحة جمعت بين الحكمة وبين الفكاهة.
وعلى أية حال فإنما يتضح من سياق الأساطير البابلية السابقة، شيء قريب مما عقبنا به على الأساطير السومرية، وهو أن براعة أهلها في التخيل والرمز لم تستطع أن تجنبهم الاعتراف بنوازع السوء في بعض أربابهم، أو في عناصر بيئتهم والأرباب المتحكمين فيها بمعنى أصح، فأب يريد أن يدمر أولاده وإيا يقتل جده، وتيامة تحارب أحفادها، ثم تلقى حتفها على يد واحد منهم. وفي قصة جلجميش رأينا كيف حقدت إشتار على جلجميش وصديقه وكيف أجبرت أباها على أن يرسل فحلًا على الأرض بعذاب شديد. وفي قصة الطوفان رأينا كيف أنكر بعض الأرباب أفعال بعض آخر، وفي قصة أخرى يسرق رب الطير "زو" ألواح القدر من أربابها فيجمعون أمرهم على الانتقام منه وتثور ثارتهم ضده" مثلما استولت إتانا السومرية على ألواح القدر بالخديعة من إنكي في الزمن القديم". وزادت أساطير الدين فصورت "سين" رب القمر البابلي يعشق إحدى بقراته فينقلب ثورًا وينكحها سرًّا. وصورت آنو إله السماء يطرد ابنته "لاماشتو" من السماء إلى الأرض لسوء سلوكها. وقد تكون في هذه وتلك رموز دينية أو قومية لا ندركها، ولكنها لا تخلو على أية حال مما يدل على أن الآداب في كل عصر لا تبرأ من الغث إلى جانب الثمين، وعلى أن عوامل الصراع والعنف في البيئة العراقية القديمة أثرت في تصورات الساميين كما أثرت من قبل في تصورات السومريين وإن أصبحت في عهودهم المتحضرة أخف أثرًا بكثير(10).
__________
(1) Lapat, Le Poeme Babylonien De La Creation, 1935; A. Heidel, The Babylonian Genesis, 1942; E. A. Speiser, Anet, 60 F.; A.K. Grayson, Ibid., 501 F.
(2) See, Anet, 90, 163, 172; Alexander Heidel, The Gilgamesh Epic And The Old Testament Parallels, 1946; Ephraim Speiser, Anet, 72 F.
(3) H. Zimmern, Az, Xxxv "1923", 151 F.
(4) Anet, 88, N. 143 "Cf. Th… Jacobsen The Sumerian Kings List "1939", 76-77, N. 34, And For His Father: Ibid. 75-76, N. 32; Anet, 594; Civil Et Biggs,. Ba, Lx, 1966, 1-5.
(5) تعدد المحاولات للتعرف على هذا الجبل في منطقة كردستان قرب السليمانية، وجنوبي الزاب الأصغر، وحيث يوجد بين أمر جدروون أبو بير إه نبه جدروون، أو جبل أرارات أو جرديان في أرمينيا - ولكن بغير دليل قاطع.
(6)Th. Jacobsen, the Sumerian King-List, 1939, 80-81; H. Frankfort, Cylinder Seals, 1939, 139-139.
(7) S. Langdon, Babylonica, Xii "1931" 1 F.; E. Ebeling, A.F.O, Xiv "1944", 298 F.; E.A. Speiser, Akkadian Myths And Epics, Anet, 114 F.; R. Williams, Phoenix, X "1956", 70 F.
(8) Lambert, Op. Cit., 186 F. And References.
(9) يوجد كلام باللغة الإنجليزية برجاء مراعاة ذلك
(10) See, Langdon, Semitic Mythology, 97; Landsberger, Jnes, Xiv, 14; Babylonion Inscriptions…, Iv, 126; Lambert, Op. Cit., 5 F.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مدرسة دار العلم.. صرح علميّ متميز في كربلاء لنشر علوم أهل البيت (عليهم السلام)
|
|
|