أقرأ أيضاً
التاريخ: 16-10-2016
1032
التاريخ: 16-10-2016
977
التاريخ: 16-10-2016
837
التاريخ: 16-10-2016
943
|
أولاً: الوضع الاجتماعي:
ان نقص الوثائق المدونة عن طبيعة الوضع الاجتماعي لسكان بلاد الرافدين أبان الحكم السلوقي أدى إلى صعوبة كبيرة لدى الباحثين في الوصول إلى رسم صورة واضحة عن هذا الموضوع ، بينما كان الامر على العكس من ذلك في بلاد مصر أذ تزخر بآلاف الوثائق البردية التي تعود إلى العصر الهلنستي والتي تعطي صورة دقيقة لأحوال الناس وشكواهم وعلاقاتهم بعضهم بالبعض الاخر فالوثائق الوحيدة وردتنا من معابد بابل والوركاء والتي يظهر فيها الدور الكبير الذي لعبته المعابد في مجال الدين والثقافة في هذه الفترة إلى جانب دورها في التشريع والأبحاث العلمية والفلكية ، غير ان وثائق معابد بابل والوركاء لا تسعفنا كثيراً في الكشف عن مظاهر الحياة الاجتماعية المختلفة للسكان ، إذ لا توجد وثائق مدنية تسعف الباحثين في هذا المجال فالعقود والإشارات التي ترد مع النصوص الأدبية والعلمية غالباً ما تتعلق بطبقة الكهنة الأرستقراطية والتي لم يزد عددها في الوركاء مثلاً عن بعض مئات في كل جيل ، لكن هناك ثغرة يمكن ان ينفذ منها الباحثون ليخترقوا هذا الغموض الذي يكتنف الوضع الاجتماعي ، وهي دراسة أسماء الأعلام والوظائف ، ودرجة القرابة بين شاغليها ، وكذلك العلاقات الأسرية وعن طريق ذلك نستطيع ان نستشف بعض التصورات عن وضع الأسرة في تلك المدن ، وطريقة تنظيم المجتمع فيها(1) والمجتمع العراقي كما هو معروف كان مقسماً إلى طبقتين الأحرار والعبيد كما هي الحال بالنسبة للمجتمعات القديمة الأخرى كاليونانية والرومانية وبما أن معلوماتنا قليلة جداً عن التقسيم الطبقي لهذه الفترة ألا أننا استطعنا من خلال المصادر المتاحة بين أيدينا أن نميز بين فئتين من فئات المجتمع ، الفئة الأولى وهي عامة الناس من غير فئة الكهنوت الثرية ، هذه الفئة مارست حياتها بحرية من دون القيود الكهنوتية ، أما الفئة الثانية فهي بالطبع فئة الكهنوت التي شغلت المناصب العليا في المجتمع ، كما نلاحظ أن بعض أبناء الفئة الأولى برزوا في الحياة العامة ، ومارسوا دوراً هاماً في الحياة السياسية والاقتصادية ، وظهر من بينها أعيان أند مجوا في الأخذ بمظاهر الحضارة الإغريقية حتى ان بعضهم حملوا أسماء إغريقية إلى جانب أسمائهم البابلية(2) .
واقدم واوضح مثال على أشخاص بابليين حملوا أسماء يونانية هو انو- أُبلط Anu- ubalit ابن انو إكصر Anu-iksur من قبيلة اخوتو ففي وثيقة مدونة بالخط المسماري تعود إلى شهر نيسان لعام 68 من التقويم السلوقي الذي يوافق نيسان /أيار 244ق.م يخبرنا انو-اوبليط مفتخراً أن الملك أنطيوخس الثاني قد انعم عليه باسم يوناني نيكارخوس Nikarchose ، وقد حصل هذا على الأرجح بسبب خدماته كموظف في الوركاء(4). وعلى مر الأجيال استمر هذا التقليد ففي وثيقة أخرى مدونة في شهر نيسان من عام 110حسب التقويم السلوقي الذي يعادل ربيع عام 202ق.م نجد ان شخص آخر بابلي هو آنو-أُبلط Anu-ubalit ابن آنو-بلآسوا-إقبي سمي باسم يوناني وهو كيفالون وهو من قبيلة نيكارخوس نفسها ولكن من سلالة أخرى(5) .
والى أعيان المجتمع ينتمي الكتبة ، الذين كانوا يتولون أعمال الصيرفة والمضاربات المالية وتحرير العقود وصكوك المعاملات ، وكان هؤلاء الكتبة يكونون جماعة صغيرة معروفة لباقي أعضاء المجتمع ويورثون وظائفهم وامتيازاتهم ومهاراتهم وخبراتهم إلى أبنائهم من بعدهم من جيل إلى آخر ، كما كان لفئة الكتبة بعض الحقوق والواجبات الدينية والكهنوتية لكنهم عدوا في درجة صغار الكهنة في المعابد . وأما فئة كبار الكهنة فكانت تشكل طبقة المثقفين المستنيرين والعلماء المتخصصين في فروع المعرفة والملمين بالأسرار الكهنوتية، والدينية والدنيوية، وكانوا أيضا ملمين بخبرات ومهام متعددة ومتنوعة مثل السحر والتعاويذ وطرد الأرواح الشريرة(6).
تميز كيان المدن البابلية أبان الحكم السلوقي بصفةٍ مميزة، ففي القرن الرابع ق.م كان المجتمع البابلي مجتمعاً مدنياً تطور بالتدريج نتيجة لاختلاط الأفراد العاملين في المعابد مع طبقة الأثرياء من سكان المدينة، فشكلت هذه المجموعات مجموعة جديدة في المجتمع البابلي سميت بـ(مجتمع معبد المدينة) آو (مجتمع المدينة والمعبد)(7) كما كانت الحال في مدينة الوركاء، وضم هذا المجتمع فضلا عن العوائل القديمة من السكان المحليين الذين كانوا يشكلون الغالبية العظمى في المجتمع البابلي ، اليونانيين الوافدين إلى بلاد الرافدين(8).
وتمتع معظم أعضاء مجتمع المعبد والمدينة بامتيازات خاصة من ضمنها الحرية والعفو من الضرائب(9) وحق استخدام نظام الادعاء العام المستند إلى القانون البابلي(10) الى جانب امتيازات أخرى تساوي امتيازات سكان العاصمة الإغريقية(11).
وكان هناك أناس ذوو مكانة رفيعة في المجتمع يشكلون مجموعة بارزة ويتمتعون بحصانة قوية من قبل التاج الملكي مقابل ولائهم للملك، وكانوا معفيين من الضرائب وهؤلاء كانوا من السكان المحليين وأيضا من اليونانيين، وان نظام الحصانات والمنح الشخصية الذي كان الملك يمنحه للأشخاص آو المجاميع اليونانية وغير اليونانية كان أسلوبا واسع الاستخدام يستخدمه الملوك بغية تعزيز حكمهم(12) وكمثال واضح على ولاء السكان للملوك السلوقيين هو خروج الناس بشكل موكب رسمي لاستقبال أخ الملك سلوقس الثالث القادم من سوريا إلى سلوقية على نهر دجلة، حيث قاموا بمرافقته مع كادر عزف للموسيقى وهو يدخل مدينة سلوقية باحتفال جميل(13).
ومن أهم صور الحياة الاجتماعية أبان الحكم السلوقي الاحتفال بقدوم السنة الجديدة ويسمى هذا الاحتفال بعيد اكيتو(14)، وهذا الاحتفال هو أحد الاحتفالات البابلية الأكثر أهمية والأكثر قدماً، وفي بعض السنين كان الملوك السلوقيون يحضرون بأنفسهم إلى بابل للاحتفال بقدوم السنة الجديدة، والدليل على ذلك حضور الملك انطيوخس الثالث إلى بابل للمشاركة في الاحتفال وهذا الآمر تم توضيحه من خلال مذكرة فلكية مؤرخة في عام 205/204ق.م(15).
وفي خضم عمق شعب بلاد الرافدين وأصالته عاش الغزاة الإغريق في مجاميع سكانية صغيرة ، أي في مجتمعات خاصة بهم، تقوم على المدرسة والنادي الرياضي والمعبد، وكذلك في مساكن متجاورة في حي واحد، يمارسون من خلال هذه المؤسسات الاجتماعية والثقافية حياتهم وثقافتهم على طريق بني جلدتهم في الوطن آلام، وعلى غرار سكان العاصمة إنطاكية، ومن المحتمل أن يكون السكان غير اليونانيين هم الآخرون قد نظموا أنفسهم على شكل جاليات Politeumata قومية عبارة عن منظمات شبه سياسية تقوم على أساس العرق وكان الغرض منها تحديد الوضع الاجتماعي والسياسي والإداري للمواطنين المنحدرين من أصول غير اغريقية، خاصة أن شعوب هذه المنطقة عرفت بتعدد الأقوام منذ أقدم العصور(16).
ومع هذا يمكن القول بأن الإغريق السلوقيين عاشوا جنباً إلى جانب مع البابليين في فترات زمنية لاحقة، كما ضم المجتمع البابلي أيضا إلى جانب السلوقيين والبابليين عدداً كبيراً من اليهود(17).
ومن الجدير بالذكر انه كان بإمكان الناس من البابليين واليونانيين ممارسة العبادة في المعابد المختلفة في بلاد الرافدين من دون الآخذ بالحسبان الطقوس الخاصة بهم(18).
ويدعم هذا القول العثور على وثيقة مدونة بالخط المسماري في مدينة سلوقية على دجلة تعود إلى عام 87 من التقويم السلوقي الذي يوافق عام 225/224ق.م، وتنص هذه الوثيقة على تخصيص عبد آو اكثر كنذر للإله نركال(19) والمانح كان شخصاً إغريقيا يدعى بـ كيبروس kebros ، والعبد آو العبيد خصص الإله في سبيل حياة الملك والمانح ، والفقرات الاخرى من الوثيقة تدور حول تنازل كيبروس عن جميع الحقوق الشرعية للعبيد(20) .
ونستشف من الوثيقة ان المجتمع العراقي القديم كما ذكرنا كان مقسماً إلى طبقتين الأحرار والعبيد . ومن صور الوضع الاجتماعي في هذا العصر الاندماج بين البابليين واليونانيين عن طريق الزواج إذ توجد إشارات عديدة على زواج بابلي من يونانية آو زواج يوناني من بابلية(21). وكان الاسكندر المقدوني هو أول من شق طريق الاختلاط بالشرق عن طريق الزواج ، فتزوج هو وثمانية من كبار ضباطه من نساء اِخمينيات ومنهم من تزوج من نساء بابليات ، ومنهم الملك سلوقس الأول الذي تزوج من امرأة تدعى افاميا البختيارية ، وأطلق اسمها على عدة مدن أنشأت في عهده(22) .
وعن طريق هذه السياسة الاستيطانية التي عمل على ترسيخها الاسكندر المقدوني وفيما بعد الأسرة السلوقية تغلغلت إلى بلاد الرافدين اسر يونانية عديدة ، وتملك القادة السلوقيون الأملاك والأراضي الزراعية ، وفرضوا هيمنتهم على مفاصل الحياة(23) .
وأبان هذا الحكم أيضا نجد آن الفرص السياسية والتجارية والفنية قد اجتذبت سيلاً جارفاً من المهاجرين والمغامرين والمستعمرين والكتبة والجند والتجار والأطباء والعلماء والسراري ليقدموا إلى بلاد الرافدين ، وعلى سبيل المثال كان المثالون والنحاتون اليونانيون ينحتون التماثيل وينقشون النقود لملوك بابل وفينيقية وغيرها(24) .
ثانياً: الوضع الديني:
كانت للمعتقدات الدينية أهمية قصوى في حياة الشعوب القديمة ، بل كانت من أهم العوامل المؤثرة في سير حياتها وتطور حضارتها ، فبالنسبة لتأريخ الإنسان العراقي القديم قلما نجد أي اثر تركه لنا الإنسان الذي عاش في العصور التاريخية إلا و كان للدين فيه تأثير واضح وكبير ، وقد تمسك العراقيون القدماء بشدة بمعتقداتهم الدينية حتى انهم حافظوا عليها وهم تحت سيطرة الأقوام الغازية ولا سيما غزو الاسكندر المقدوني وخلفائه السلوقيين الذين حكموا اكثر من مئتي سنة ، وكانت لهذه الفترة أهمية عظيمة خاصة من الناحية الحضارية كما ذكرنا آنفا، اذ انهم تأثروا بديانة العراقيين القدماء على الرغم من ارتباطهم الشديد بآلهتهم الهلنستية التي دخلت العراق فالحكام السلوقيون كانوا ينظرون إلى أنفسهم على أنهم مغتصبوا السلطة ، لذلك نجدهم يبحثون عن سبب وأساس ديني يجعل سلطتهم قانونية ولتعزيز ادعائهم بالحكم ، لذلك ظهرت بعض السمات الخاصة المتعلقة بالمعتقدات الدينية للآسر الحاكمة من ضمنها تبني عبادة اله مهم ومعين فوجد الحكام السلوقيين في بلاد الرافدين والشام ضالتهم المنشودة في عبادة الإله ابولو اله الحكمة والمعرفة المذكور آنفا ، وعدوه إلههم الخاص الحافظ وافتخر سلوقس الأول بنسب نفسه أليه وبأنه كان ابنه وحمل بنفسه رمزه وهي المرساة ، التي كانت منقوشة على فخذه على أنها علامة ولادية، وقد قبل السكان الإغريق ذلك الادعاء حيث نصت كتابة تذكارية مهمة، نقشت على شرف سلوقس كحاكم جديد للبلاد بعد منحه امتيازات عديدة من ضمنها الأشراف على مذبح ، حيث يقوم الرياضيون المتنافسون بتقديم القرابين الجسدية فيه في كل عام، فضلاً عن تسمية أحد اشهر السنة باسمه واقامة احتفالات ملكية كل أربعة أعوام تتضمن مسابقات في الموسيقى والفروسية والرياضة وجميعها تكون تحت رعاية الإله ابولو (الجد الأعلى للسلالة الحاكمة)(25) وارتبطت ادعاءات الحكام الهلنستيين بآلهتم الخاصة مع التقاليد الشرقية الموروثة بتقديس الحاكم وهي في الأصل تدعو إلى عبادة السلف ثم تطورت إلى عبادة الملك وتقديسه في حياته وعده إلهاً(26) وكان تطور هذه الممارسة بطيئا وغير منتظم في البلاط السلوقي، ومن أهم الدلائل على تطبيق هذه الممارسة هو الأداء الخاص بسلوقس الأول في القانون الذي صدر في عام 281ق.م والذي تم بموجبه الاعتراف بسلوقس حفيداً للإله ابولو، يقترب في نصوص ومفرادته ومضامينه من معطيات سمو الشرف الإلهي. حيث تم تأسيس مبنى ديني ومذبح لتلقي الاضاحي وكذلك إقامة مواكب رسمية وألعاب وتراتيل دينية ومنح أكاليل ذهبية للرياضيين المتنافسين وأقيمت النصب والتماثيل، فضلا عن استعمال الاسم الملكي لتسمية قبيلة أو شهر في التقويم المحلي، وقد أعلن انطيوخس الأول ان والده اصبح في مصاف الآلهة وأضفى عليه لقب سلوقس المنتصر وهو أحد ألقاب الآلهة(27)، في حين يعد انطويوخس الثالث أول ملك سلوقي يؤسس معبداً رسمياً لتقديس نفسه وأسلافه، كما تشير بذلك رسالة يعود تأريخها إلى عام 193/192 ق.م كتبت بخط يده إلى حاكم إقليم كاريا(28) ويعين بموجبها كاهنة لمعبد زوجته(29).
احترم الملوك السلوقيون المعتقدات الدينية للعراقيين القدماء وطقوسهم ومعابدهم التي كانت منشرة في بابل وفي بورسيا وكوثا(30) وكما الاتجاه العام لسياسة الحكام الهلنستيين تجاه المعابد في بابل تميز برحابة الصدر وسماحة الفكر ولا يوجد ذكر لأعمال السلب والنهب لأي معبد في المصادر البابلية مثل التي حدثت في بلاد عيلام. بل على العكس نجد آن الاسكندر المقدوني في البدء قد خطط لإعادة بناء معبد ساكيلا قبل الملوك السلوقيين وفعلاً بدأ بالعمل لتحويل الحطام. ومن الجدير بالذكر آن تمويل هذا العمل، كان من أموال الضرائب التي آخذت من المحليين ومن هبات الاسكندر، واستمرار العمل بهذا المشروع بعد وفاة الاسكندر على عهد فيلب أخو الاسكندر ومن ثم واصل انطيوخس الأول هذا العمل وكان آنذاك نائباً للملك، وعلى ما يبدو فأن انطيوخس الأول تمكن من أنهاء هذا العمل، حيث دون نهاية عمله على جدران معبد ساكيلا ، وفي نفس الوقت أنهى العمل في إعادة بناء معبد زيدا، وان عملية التدوين كانت قد تمت في سنة 43 من التقويم السلوقي(31)، وقد أشرنا سابقاً إلى هذا النص(32).
ولم تقتصر سياسة الحكام السلوقيين على أعمال البناء والصيانة للمعابد بل انها تعدت ذلك بتقديم العطايا والقرابين إلى المعابد والآلهة البابلية، فعلى سبيل المثال قام الملك انطيوخس الأول بتقديم قربان من الغنم إلى معبد إكشنوكال للإله سين )Sin ) في بابل، كما قدم الملك سلوقس الثالث عطايا إلى الإلهين بيل )Bel ) وبيلتيا )Beltia ) في معبد ساكيلا(33).
وفي مرسوم ملكي قدم الملك سلوقس الثاني إلى بابل وبورسيبا وكوثا في عام 237 ق.م، هدايا منها أراضي، وأشياء ثمينة أخرى، وتوجد إشارة في نهاية المرسوم تؤكد أن الهدايا ملك للمعبد (ساكيلا) إلى الأبد، ومن الجدير بالذكر أن المرسوم قد كتب ثانية في عهد انطيوخس الرابع في عام 173 ق.م، ويبدو أن هذا الملك قد رغب في تأكيد ان المرسوم مازال ساريا، وان معبد ساكيلا مازال المركز المقدس لبلاد بابل(34).
ويمكن أن نستدل على السبب الرئيس لاهتمام الملوك السلوقيين بالمعابد في بلاد الرافدين ولاسيما معبد ساكيلا من خلال نص يشير إلى الطقوس الخاصة بسلوقس ونسله في معبد ساكيلا، وطبقاً لرأي الباحث مكيوان Mcewan فان هذه العبادة لها المكانة نفسها في عبادة الإلهين بيل وبيلتيا بالشرق الأدنى القديم(35).
أما في مدينة الوركاء فيمكن أن نلتمس الاهتمام السلوقي بالمعابد والدين من خلال تشييد مجمع المعبد الضخم بيت-رشس ))) واريكال(36) اللذين حلا محل معبد أنا Eanna القديم بوصفة المركز الديني الرئيس في المدينة (37).
هذا بخصوص اهتمامات الملوك اليونانيين بالمعتقدات الدينية وبسياستهم تجاه المعابد الموجودة في مدن بلاد الرافدين ، آما بخصوص عامة الناس من اليونانيين فكان باستطاعتهم الدخول في المعابد المختلفة في الشرق الأدنى بصورة عامة وفي بلاد الرافدين بصورة خاصة وممارسة مختلف الطقوس الدينية من دون الآخذ بالحسبان لطقوسهم الخاصة بهم(38). وكما أسلفنا آنفا.
ويؤيد هذا القول العثور على بقايا لوح في مدينة سلوقية على نهر دجلة يحمل كتابات مسمارية تتعلق بالديانة وقد قام الباحث دوتي Doty بنشرها ، ومحتوى اللوح عن تكريس عبيد لأملاك الالهين، نركال Nergal وايرش –كيكال(39)Ereskigal وان الشخص المتبرع هو ووالده كانا يحملان اسماء إغريقية ، فاسم الشخص كيبروس kebros واسم والده توريلوسو Turillusu ولذا فأن اغلب الظن ان الموضوع يتعلق بفرد يوناني الأصل(40). كما ذكرنا آنفا.
وفي مدينة الوركاء تم العثور على وثيقة مدونة بالمسمارية محتواها يتعلق بامرأة كانت تحمل اسماً يونانياً وكذلك الحال بالنسبة لاسم أبيها قامت بتكريس عبيد لمعبد انو )Anu) ، وانتو )Antu) في مدينة الوركاء ، مع العلم آن زوج المرأة أيضا كان يحمل اسماً يونانياً ، ويعود تأريخ هذه الوثيقة إلى الفترة المحصورة بين عام123 و125 من التاريخ السلوقي والموافق189-187 ق.م(41) ويمكن أن نستدل من خلال هاتين الوثيقتين بأنه كان بإمكان اليونانيين الدخول في الديانة البابلية وتقديم الهدايا لمعابد الآلهة القديمة في البلاد ، وهذا يعني انهم فعلاً كانوا قد اعتنقوا الديانة البابلية ويعدون من جملة مقدسي الآلهة القديمة للبلاد(42).
أن معظم الوثائق المسمارية التي تتعلق بالديانة في بلاد الرافدين أبان الحكم السلوقي اكتشفت في مدينة الوركاء(43)، فعلى سبيل المثال هناك اكثر من 320 عقداً يتعلق بالكهنة في مدينة الوركاء لهذا سوف نركز على أهم الآلهة التي عبدت فيها من اجل إعطاء صورة كافية عن الديانة في بلاد الرافدين في هذه الحقبة الزمنية .
اعتقد العراقيون القدماء بوجود عدد كبير من الآلهة ونظموا جدولاً بأسمائها وصنفوها إلى مجاميع متعددة واوجدوا علاقات قربى بينها وقسموا الكون إلى مناطق يحكم في كل منطقة اله معين آو مجموعة من الآلهة كما خصصوا لشؤون الحياة المختلفة والظواهر الطبيعية آلهة بيدها نظامها واسبابها، فكان أحد الآلهة يسيطر على السماء ويهيمن الآخر على الهواء ، والثالث على المياه العذبة ، والرابع على المياه المالحة… وهكذا وهنالك آلهة ثانوية مسؤولة عن أمور أخرى اقل أهمية كالحراثة والطابوق والصوان والمعدن وغيرها اذ كان لكل من هذه الظواهر والأشياء اله خاص كما كان لكل مدينة من المدن آلهتها الحامية الخاصة ومع الاعتقاد بوجود هذا العدد الكبير من الآلهة ، فقد كانت بعض الآلهة تفضل على غيرها وتخص بالتعظيم والتبجيل على حساب الآلهة الأخرى تبعاً للتطورات السياسية التي تمر بها البلاد ، فضلا عن مكانة الآلهة وأهميتها فلم تكن الآلهة ذات مكانة واحدة آو مركز متساوً(44) ، لذا نلاحظ ان مراكز الآلهة كانت تتغير حسب الظروف وخاصة السياسية في مجمع الآلهة (البانثيون)(45) .خلال العصور المتعددة من تأريخ بلاد الرافدين .
وما يهمنا هنا هو التغير الأهم ألا وهو التحول عن عبادة عشتار(46) ومجموعة آلهتها في العصر البابلي الحديث إلى عبادة آنو وزوجته أنتو أبان الحكم السلوقي ، وان بروز آنو وأنتو على رأس هيكل الآلهة في الوركاء لا يعني ان عبادة عشتار ونانايا Nanaya (47) غابتا في طي النسيان حيث ماتزال الإلهتان تشغلان مكاناً بارزاً في هيكل الآلهة وغالباً ما يرد ذكرهما أثناء المراسيم الدينية فضلاً عن الوثائق الإدارية والقانونية التي تتعلق بالعبادة ، وتظهر اختيارات الأسماء آن الإلهتين مازالتا تتمتعان بشعبية واسعة على الرغم من ان آنو كان هو الاله المفضل ، بينما نلاحظ أن اختيارات الأسماء في العصر البابلي الحديث تؤكد ومن خلال الأنواع الأخرى من الأدلة آن الاغلبية الكبرى من أشكال الأسماء كانت تحمل اسم الإلهتين عشتار ونانايا بينما كانت تشكيلات الأسماء التي تحمل اسم الإله آنو نادرة الوجود(48).
ويبدوا إن التغيير الذي حصل في التحول عن عبادة عشتار ومجموعتها إلى عبادة آنو وزوجته كان قد حصل أبان الحكم الاخميني في القرن الذي مر بين اعتلاء داريوس الأول(49) على العرش واعتلاء داريوس الثاني(50) على أي حال فهذا لا يعني آن ظهور آنو ومجموعة الآلهة التابعة له حصل فجأةً فلعل عملية التغيير كانت عملية طويلة تبلورت تبلوراً بطيئاً أثناء الحكم الاخميني ، توّجت أخيرا ببناء مجتمع معبد بيت-ريش في الحكم السلوقي(51). والدارس للوضع الديني لبلاد الرافدين أثناء الاحتلال الأجنبي (الاخميني-السلوقي –الفرثي)، يجد أن الآلهة نفسها تقريباً عبدت في البلاد ، وكذلك يجد تشابه في طقوس العبادة ومراسيمها ، وقد يجد الشيء نفسه أيضا بالنسبة للطقوس الخاصة بالأسرار المقدسة (52) .
____________________________________
(1)الناصري، احمد علي، المصدر السابق، صـ349.
(2)Oelsner, J., Griechien in Babylonian und dies Einheimischen temple in Helienstischer Zeit, xxxvlll Renconter Assyriologique Internationale (Paris, 8-10 juillet 1991), Paris, 1992.
(3)Oelsner,J., Ibid, p.341-347.
(4)الناصري، المصدر السابق، صـ349.
(5)سركيسان، المصدر السابق،صـ479.وكذلك ينظر:
Downey, S.B., OP.Cit, p.43.
(6) Ibid, p.43.
(7)Ibid, p.43.
(8) سركيسان، المصدر السابق،صـ480.
(9)Downey, S.B., OP.Cit, p.43.
(10)Sherwin- white, S., Seleucid Babylonia, op. Cit, p.27.
(11)Kuhrt, A., The Seleucid kings.OP. Cit, P. 46.
(12)عيد اكيتو: هو من أهم الأعياد البابلية، وهو عيد رأس السنة الذي يجري فيه الزواج المقدس بين الملك ممثلاً الإله تموز وكاهنة تمثل الإلهة عشتار، وترجع أهم نصوص هذا الزواج إلى عصر سلالة اور الثالثة.
ينظر : الاحمد ، سامي سعيد ، المصدر السابق ، صـ47 .
(13)Kuhrt, A., The Seleucid kings, OP. Cit, P. 61.
(14)الناصري، المصدر السابق، صـ354-355.
(15)Rostovttzeff, M. , Syria. And the East, CAH, Vol - Vll, OP.Cit, P187
(16) Dalley, S, Op. Cit, P. 115.
(17)الإله نركال : معنى اسمه سلطة المدينة الكبيرة وعرف باسم ميسلامترا ( القادم من ميسلام) وهو إله العالم السفلي ورب المرض والمعارك الدموية وزوجته ايرشكيكال إلهة العالم السفلي . ينظر : الاحمد ، سامي سعيد ، المصدر السابق ، صـ32.
(18)Doty, L.T., “Acuneiform tablet from tell Umar,” Mesopotamia, 13-14(1978-1979), P.91-96.
(19) Oelsner,J., OP.cit, P.341-347.
(20) ايمار ، اندريه ، وأبوايه ، جانين ، المصدر السابق ، صـ470 .
(21) الحفصى ،محمد الاسعد ،المصدر السابق ،ص182 .
(22) المصدر نفسه، ص 182.
(23) الصالحي ، واثق إسماعيل ، " المعتقدات الدينية في فترة الاحتلال الاخميني والسلوقي والفرثي "، في : موسوعة الموصل الحضارية ، جـ1، موصل ، 1991 ، صـ320.
(24) المصدر نفسه، صـ 320.
وللمزيد من المعلومات عن عبادة الملك وتقديسه ينظر : ايمار ،اندريه ، وأبويه ،جانين ، المصدر السابق ، صـ432 .
(25) وربما أن هذه الألقاب الدينية استمرت حتى بدايات ظهور الديانة المسيحية ، حيث اتخذ المسيحيون الأوائل رسم السمكة رمزاً سرياً فيما بينهم يتعرف بها المسيحي على أخيه المسيحي، ويستدل بها على الأماكن والكهوف التي كان يلجأ اليها المسيحيون في ذلك الوقت وتفسير هذا مرده إلى العبارة اليونانية ( Iesous Christos Theo Uios Soter ) التي معناها ( يسوع المسيح ابن الله المخلص ) ، فمجموع الحروف الأولى من هذه الكلمات اليونانية تشكل اللفظ اليوناني I-Ch-Th-U-S ومعناه السمكة ، وما يهمنا هنا هو كلمة Soter المخلص الواردة في العبادة أعلاه ، والتي على ما يبدو ان المسيحيين الأوائل من اليونانيين توارثوا هذا اللقب من قبل السلوقيين ، فكما نعلم ان كلمة ( Soter) المخلص هو أحد القاب الملك انطيوخس الأول وديمتريوس الأول . ( ينظر الشكل14 ) .
نستشف من كلمة Soter ( المخلص ) في عبارة المسيح ابن الله المخلص ان جذور هذه الكلمة يونانية وإنها أطلقت في حق الملوك ومن هو عظيم عندهم من الشخصيات الحاكمة ،فعندما أطلقت بحق السيد المسيح فالآمر يعني ان الفكر المسيحي له استنباط من فكر بشري يوناني ، كما ان الآلهة عندما عبدت عند العرب قبل الإسلام فإنما كانت تمثل شخصيات فذة في مجتمعهم فقدروها وصنعوا لها التماثيل ، وكذلك أسماء الأوثان التي كانت في قوم نوح هي أسماء قوم صالحين من قوم نوح فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم إن أنصبوا في مجالسهم التي كانوا يجلسونها أنصاباً وسموها بأسمائهم ففعلوا …
(26)إقليم كاريا : يقع في الجنوب الغربي لآسيا الصغرى وامتدت في عصور لاحقة شمالاً حتى نهر مندريس وتكثر في هذه المنطقة الخلجان والوديان والأراضي الخصبة التي اشتهرت بزراعة الحبوب والتين وانتاج الزيوت والخمور. ينظر: الاحمد، سامي سعيد، والهاشمي، رضا جواد، المصدر السابق، صـ366.
(27)الصالحي، واثق، المعتقدات الدينية، المصدر السابق، صـ320.
(28)Downey, S. B. Op. Cit, P. ll.
(29)Mcewan , G ., OP. Cit, P. 193
(30) راجع النص في الفصل الاول من الرسالة .
(31) الإله سين: عبد السومريون اله القمر تحت اسم ننا أو ننار في حين سماه الأكديون والآشوريون (سين) وتعد مدينة اورمن ابرز المراكز الدينية لعبادة الإله ننا (سين).
ينظر: علي، فاضل عبد الواحد، المصدر السابق، ص307.
(32) بيل Bel : كلمة تعني السيد وهو أحد ألقاب الإله مردوك. ينظر: ساكز، هاري، المصدر السابق،صـ396.
(33) بيلتيا Beltia : أو بيليت : كلمة تعني السيدة ،وهي أحد ألقاب الإلهة عشتار. ينظر: ساكز، هاري، المصدر السابق،صـ396.
(34)Mcewan, G., OP.Cit. 193-194.
(35)اوتس ، جون ، المصدر السابق ، ص 215-216 .
(36)Downey , S . B., Op. Cit, P .11
وينظر كذلك :
Mcewan, G., Op.cit, P.161.
(37) بيت-ريش : بناية ضخمة وجديدة شيدها السلوقيون لعبادة الإله انو وزوجته آنتو شمالي شرقي معبد انو القديم وتتكون هذه البناية من عدة أفنية وساحات فسيحة وحجر كثيرة ومصليات عدية ، وتهدمت البناية في أواخر عهد السلوقيين . ينظر : صالح ، قحطان رشيد ، المصدر السابق ، صـ246 .
(38) معبد اريكال : بناية كبيرة شيدها السلوقيون جنوب بيت-رش ، في ضلعها الجنوبي ، وهي مشيدها باجر مزجج ، وقد أهملت هذه البناية بعد فترة حكم السلوقيين . ينظر : صالح ، قحطان رشيد ، المصدر نفسه ، صـ246-247 .
(39)Beaulieu,P”Antiquarian Theology in Seleucit Uruk”,ACTA Sumerologica ,14(1992),p.35-45.
(40)Dalley, S ., OP. Cit, P. 115.
(41)ايرش-كيكال : يمكن ان تترجم اسمها إلى ( ملكة العالم الأسفل العظيم ، وتعرف بالأكدية باسم آلتو allatu، انها الآلهة التي تحكم الجحيم، وزوجها الأول كان الإله كوكال –آنا Gugal-ana وزوجها الثاني هو الإله نركال Nergal الذي سبق ذكره، ولهما أسطورة معروفة هي أسطورة نركال- وايرش كيكال. ينظر:
Black, J., Green, A., OP Cit, P.77.
وينظر:
حنون، نائل، عقائد ما بعد الموت في حضارة بلاد وادي الرافدين القديمة، ط2، بغداد، 1986، صـ327-331.
(42)Oelsner,J., OP.Cit, P.341.
ينظر كذلك:
Dotey, L.T.op.Cit, P.91-98.
(43) آنو Anu :هو اله السماء واشير اليه باللغة السومرية بالمصطلح ان (AN) أي السماء وباللغة الاكدية آنو Anu الذي يعني السماء ايضا .
ينظر: الشاكر، فاتن، المصدر السابق، ص11.
(44) انتو(Antu) هي زوجة الإله انو، وهي إلهة الأرض واطلق عليها في السومرية ثم عرفت باسم KI وبالآكدية بـ(Antu).
ينظر: الشاكر، فاتن، المصدر السابق، صـ11.
(45)Oelsner,J., OP.Cit, P.343.
(46) Mcewan, G., Op. Cit, p.67.
(47) سليمان، عامر، العراق في التاريخ القديم،ج2، المصدر السابق صـ115-116.
(48) صورت الآلهة بأنها تعيش، كما كان البشر يعيشون، في مجتمع تحكمه قوانين وضوابط معينة وعلى رأس هذا المجتمع يقف رئيس الآلهة يساعده في إدارة شؤون مجمع الآلهة عدداً من الآلهة الكبار.
ينظر: سليمان، عامر، جوانب من حضارة العراق القديم، في: العراق في التاريخ، بغداد، 1983، صـ211.
(49)عشتار او انانا اشتق اسم هذه الآلهة من صيغة (dnin-an-an) والتي تعني: سيدة السماء، وهي إلهة الحب والجمال الجنس، وعبدت بصورة خاصة في معبد (أي- انا)(بيت السماء. ينظر: الشاكر، فاتن، المصدر السابق، صـ93-99.
(50) نانايا Nanaya : تشترك هذه الآلهة ببعض المظاهر الجنسية للآلهة انانا(عشتار)، وبدت سويةً مع أبنتها كاني سوراkani sura وانانا في الوركاء بهيئة الثالوث المقدس في الوركاء، ثم في مدينة كيش أثناء العهد البابلي القديم.
ينظر: Black,J., Green, A., OP.Cit, P.134.
(51) داريوس الأول: خلف الملك قمبيز على حكم فارس وشن أول غزو فارسي على بلاد الإغريق عام 490ق.م ومده حكمه كانت من 522-486ق.م. ينظر: باقر، طه، وآخرون، تأريخ إيران القديم، المصدر السابق، صـ52-54.
(52) داريوس الثاني : وصل داريوس الثاني إلى الحكم سنة424 بعد قتله أخا الملك احشوريش الثاني، ويبدو انه توفي في بابل في سنة404 أي انه حكم من 424-404 ينظر: باقر، طه، واخرون، المصدر نفسه، صـ71.
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|