المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية
آخر المواضيع المضافة

الفقه الاسلامي واصوله
عدد المواضيع في هذا القسم 8853 موضوعاً
المسائل الفقهية
علم اصول الفقه
القواعد الفقهية
المصطلحات الفقهية
الفقه المقارن

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر المرجع الالكتروني للمعلوماتية



قاعدة « كلّ ما صحّ إعارته صح إجارته » (*)  
  
1734   11:19 صباحاً   التاريخ: 20-9-2016
المؤلف : آية الله العظمى السيد محمد حسن البجنوردي
الكتاب أو المصدر : القواعد الفقهية
الجزء والصفحة : ج5 ص278 - 290.
القسم : الفقه الاسلامي واصوله / القواعد الفقهية / قواعد فقهية متفرقة /

ومن القواعد الفقهيّة المشهورة هي قاعدة « كلّ ما صحّ إعارته صح إجارته ».

والبحث فيها من جهات :

[ الجهة ] الأولى

في بيان المراد منها‌ :

فنقول : إنّ مفاد هذه القاعدة أنّ كلّ شي‌ء يصحّ إعارته من جهة أنّه عين يصحّ الانتفاع بها مع بقاء نفسها ، يصحّ إجارته ، فمثل الأطعمة والأشربة ممّا ينتفع بها ، ولكن الانتفاع بها بإتلافها وإعدامها لا مع بقاء عينها ، لا يصحّ إعارتها ، وذلك لأنّ حقيقة العارية عبارة عن تمليك منفعة شي‌ء أو الانتفاع به مع بقاء ذلك الشي‌ء في ملك المعير.

وقد يقال : بأنّها عبارة عن تسليط المستعير على الانتفاع به مع بقاء العين في ملكه.

وهذا أحسن وأجود من التعريف الأوّل. أمّا كونه أجود من تمليك المنفعة ؛ فلأنّه ليس له أن ينقلها إلى شخص آخر ، وأيضا لا ترثها الورثة ، ولو كانت العارية تمليك المنفعة لجاز النقل إلى غيره ، وكانت ترثها الورثة. وأمّا كونها تمليك الانتفاع ففرع قابلية الانتفاع لكونه ملكا.

وهذا مشكل ؛ لأنّ الملكيّة اعتبار عقلائي أمضاها الشارع في موارد وأسقطها في‌ موارد أخر ، وموضوع هذا الاعتبار عند العقلاء إمّا الأعيان التي تحتاج إليها الناس للأغراض التي عندهم ، أو منافع تلك الأعيان. وأمّا الانتفاع بتلك المنافع فجوازه وعدم جوازه من آثار ملكيّتها وعدم ملكيّتها ، وإلاّ فنفس الانتفاع ليس قابلا لاعتبار الملكيّة فيه ، فلا يصحّ أن يقال بأنّها تمليك الانتفاع بالشي‌ء الذي يعطيه.

اللهمّ إلاّ أن يراد بالتمليك التسليط ، لا ذلك الأمر الاعتباري المذكور ، فيكون المراد به هو التعريف الثاني ، أي التسليط على الانتفاع.

وقد ورد التمليك بهذا المعنى في الكتاب العزيز في قوله تعالى {لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي} [المائدة: 25] .

وعلى كلّ حال تعريفها بأنّه عقد ثمرته التبرّع بالمنفعة ـ كما عن المحقّق في الشرائع (1) ، وغيره في غيره ـ لا يخلو من تأمّل ؛ لأنّه أوّلا المتعارف والمتداول بين الناس في باب العارية هو إعطاء شي‌ء يصحّ الانتفاع به لغيره أنّ ينتفع به ، من دون عقد وتعهّد بينهما ، فليس عقد في البين. وأمّا إعطاؤه بعد العقد بإيجاب من قبل المعير وقبول من طرف المستعير يكاد أن لا يوجد ، لأنّ المتعارف بين العقلاء غير هذا المعنى.

فهو التسليط مجانا وبلا عوض على العين التي لها منفعة لكي ينتفع بها مع بقاء نفسها ، فلا يصدق العارية على المأكولات والمشروبات التي يكون الانتفاع بها بإتلافها ، أي أكلها وشربها.

نعم لو كانت لها منفعة غير الأكل والشرب كما قد يتّفق ، بل المتعارف في بعض البلاد يزينون مجالسهم التي تنعقد لأجل عقد القرآن بين الزوجين بأنواع الفواكه والحلويّات والشرابت من دون أكلها وشربها ، فلا بأس حينئذ بإعارتها كما أنّه لا بأس بإجارتها كذلك.

ثمَّ إنّه لا بدّ وأن يكون الانتفاع بمنافع العين المعارة محلّلة ، فإن كان كلّ منافعه‌ محرّمة فلا يجوز لا إعارته ولا إجارته ، كأدوات اللهو والأغاني ، وأواني الذهب والفضّة بناء على عموم حرمة الانتفاع بها ، لا خصوص الأكل والشرب.

وأمّا إن كان بعض منافعه محلّلة وبعضها محرّمة ، كأواني الذهب والفضّة بناء على عدم عموم حرمة الانتفاع بها واستعمالها ، بل يكون الحرام خصوص الأكل والشرب فيها ، وكالجارية التي يحرم بعض المنافع منها كوطيها ، لأنّه لا يحلّ إلاّ بالتزويج أو الملك أو التحليل ، ويحلّ بعض منافعها الأخر كاستخدامها في البيت ؛ فلا يجوز إعارته إلاّ باعتبار منافعه المحلّلة.

فمفاد القاعدة هو أنّ كلّ عين يصحّ إعارتها باعتبار أنّ لها منفعة محلّلة يمكن الانتفاع بها مع بقاء نفسها ، تصحّ إجارتها. وأمّا ما ليس لها منفعة محلّلة ، فليس لنفس المالك أن ينتفع بها باعتبار منافعها المحرّمة ، فكيف له أن يسلّط غيره عليه باعتبار تلك المنافع أو يملكها لغيره أو يملك انتفاع الغير بها.

فيجوز إعارة كلّ ما له منفعة محلّلة باعتبار تلك المنافع المحلّلة مع بقاء عينه ، كالأراضي والبساتين والدوّاب والثياب والمساكن والدكاكين ، وأنواع الفرش والألبسة والأمتعة ، وأثاث البيت والكتب التي لا يوجب الإضلال ، وأدوات الطبخ ، وأقسام الحلي ، وكلب الصيد المحلّل ، وحراسة الدار والمراكب والسيّارات والطيّارات ، وأدوات الزراعة والفلاحة والمكائن بجميع أقسامها وأنواعها ، وغيرها ممّا لم نذكرها ، وكان مصداقا لعنوان ما له منفعة محلّلة ويمكن الانتفاع به مع بقاء عينه ، فهذه الأمور جميعا كما يجوز إعارتها كذلك يجوز إجارتها ، وهذا هو مفاد هذه القاعدة .

نعم ربما يستشكل على هذه الكلّية بأنّ إعارة الشاة المنحة يجوز للانتفاع بلبنها ، ولا يجوز إجارتها لذلك ، وكذلك يجوز إعارة جاريته المرضعة للانتفاع بلبنها بأن يشرب الطفل من ذلك اللبن أو للانتفاع بإرضاعها للطفل ، وكذلك يجوز إعارة البئر للاستقاء منها ولا يجوز إجارتها لذلك ، وكذلك يجوز إعارة البستان للانتفاع بأثمار أشجارها ولا يجوز إجارته لذلك. وفي بعض هذه المذكورات قيل بالعكس .

ويظهر من كلام صاحب الجواهر (2) أنّ إجارة المرضعة للرضاع جائزة ، ولا يجوز إعارتها لذلك. وهذه عين عبارته : ولا يقدح في هذا الضابط جواز عارية المنحة للحلب دون الإجارة له ، عكس المرأة للرضاع بعد أن كان ذلك بالدليل.

وعلى كلّ حال هذه النقوض غير واردة على هذه الكلّية. أمّا جواز عارية الشاة المنحة فأوّلا يمكن أن يقال بأنّه ليس من باب العارية ، بل يكون إباحة للبنها من طرف المالك لمن يعطيها بيده.

وثانيا : يمكن أن يكون هذا لدليل خاصّ ورد في المقام ، فيكون مخصّصا لهذه القاعدة وهو الإجماع كما حكاه في الجواهر (3) عن بعض متأخري المتأخّرين ، أو ما رواه الحلبي عن الصادق 7 في الرجل يكون له الغنم يعطيها بضريبة سمنا شيئا معلوما أو دراهم معلومة من كلّ شاة كذا وكذا ، قال 7 : « لا بأس بالدراهم ولست أحبّ بالسمن » (4).

أو صحيح ابن سنان ، سأله أيضا عن رجل دفع إلى رجل غنمه بسمن ودراهم معلومة لكلّ شاة كذا وكذا في كلّ شهر ، قال : « لا بأس بالدراهم ، وأمّا السمن فلا أحبّ ذلك إلاّ أن تكون حوالب » (5).

وقرّب في الجواهر (6) الاستدلال بهاتين الروايتين على جواز عارية الشاة المنحة (7) للانتفاع بلبنها بأنّ مفاد هاتين الروايتين جواز إعطاء الشاة بعوض وبضريبة للانتفاع بلبنها ، فتدلاّن على جواز الإعطاء مجّانا بطريق أولى أي بالفحوى ، وإعطاء الشاة بضريبة لا بدّ وأن يكون للانتفاع بلبنها أو بصوفها أو بكليهما ، فإذا دلّتا بالفحوى على جواز الإعطاء للانتفاع بهاتين المنفعتين مجّانا فيكون هذا عين العارية.

وفيه : على فرض تسليم أنّ الرواية تدلّ على جواز إعطاء الشاة المنحة مجانا لهاتين المنفعتين ، لا تدلّ على أنّ جواز الإعطاء من باب العارية ، بل من الممكن أن يكون من باب الإباحة أو الصلح المجّاني .

واستدلّ في التذكرة على جواز عارية الشاة المنحة بما عن النبي 6 : « العارية مؤدّاة ، والمنحة مردودة ، والدين مقضيّ ـ والزعيم ـ والغريم غارم » (8).

ولكن الإنصاف أنّ هذا الحديث الشريف ـ على فرض تسليم صدوره عنه 6 ـ على خلاف المطلوب ، وأنّ المنحة ليست بعارية أدلّ ، لما جعله 6 مقابلا وعدلا للعارية.

نعم يدلّ على أنّ ردّ المنحة واجب ، كما أنّ تأدية العارية وقضاء الدين لازم ، والغريم غارم أي المديون يجب عليه أن يؤدّى دينه.

هذا بناء على نقل التذكرة ، وأمّا بناء على ما في سنن أبي داود وصحيح الترمذي : « الزعيم غارم » (9) فمعناه أنّ الكفيل يجب عليه أداء الغرامة ، إذ الزعيم بمعنى الكفيل ، كما في قوله تعالى {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ } [يوسف: 72] .

فالمستفاد من الحديث الشريف أنّ الشاة المنحة التي أعطاها المالك لشخص وأباح له لبنها يجب على ذلك الشخص ردّه ، وهذا لا ربط له بالعارية. هذا مع أنّ التحقيق أنّه كما يجوز إعارة الشاة المنحة إجماعا يجوز إجارتها أيضا.

وأمّا الإشكال عليه بأنّ الإجارة تمليك المنفعة مع بقاء العين ، وأمّا تمليك الأعيان فليس بإجارة ، بل إمّا بيع إذا كان بعوض مالي ، أو هبة إن كان مجّانا وبلا عوض ، أو صلح إذا وقع التسالم عليه أو غير ذلك.

فجوابه : أنّ متعلّق الإجارة في المفروض هي الشاة باعتبار تمليك منافعها ، غاية الأمر أنّ المنفعة قد تكون من الأعراض القائمة بعين في الخارج ، كسكنى الدار وركوب الدابّة والتفرّج في بستان ، وقد تكون من الأمور الاعتباريّة ، كما أنّهم يستأجرون الحلويّات الكثيرة ، وكذا الفواكه لأجل مجلس عقد القرآن بين الزوجين ، لا لأكلها بل لإظهار الجلالة والعظمة. وأمثلة هذا القسم كثيرة.

وقد تكون من الأعيان الخارجيّة ومن الجواهر التي لها وجود تبعي قبل الانفصال عن متبوعه ، ووجود استقلالي بعد الانفصال كاللبن بالنسبة إلى الشاة المنحة والمرأة المرضعة ، وكالأثمار بالنسبة إلى الأشجار ، وكالمياه بالنسبة إلى الآبار. وفي هذا القسم إذا ورد التمليك على هذه الأشياء باعتبار وجودها الاستقلالي ، أو كان بعد انفصالها عن متبوعها ، فلا شبهة في أنّ مثل هذا التمليك لا يمكن أن يكون إجارة ؛ لأنّ حقيقة الإجارة تمليك المنفعة ، وهذه تمليك عين لا تمليك منفعة. وهذا واضح جدّا.

وأمّا إذا ورد التمليك عليها باعتبار وجودها قبل الانفصال ، أي باعتبار كونها من توابع متبوعاتها وصفات موضوعاتها ، ولذلك يقولون شاة منحة وامرأة مرضعة وشجرة مثمرة إلى غير ذلك من الأمثلة ، فهذا يعدّ من تمليك المنافع بهذا الاعتبار عند العرف.

فإذا قال : آجرتك هذه الشاة بكذا ، لا يفهم منه العرف إلاّ تمليك منافع هذه الشاة‌ التي بنظرهم عبارة عن صوفه ولبنه ، ولم يقم دليل عقلي ولا نقلي على أنّ منفعة عين لا يمكن أن تكون عين أخرى ، فهل يشكّ أحد في أنّ منفعة شجر الكرم هو العنب ، أو في أنّ منفعة النخيل هي التمور.

فإذا كان المتفاهم العرفي في باب العارية والإجارة هو إعطاء العين الخارجيّة ، وإن شئت قلت : هو تسليط على العين باعتبار كون منافعها ملكا له مدّة معلومة ، فإن كان هذا التسليط والتمليك مجّانا وبلا عوض يسمّى عارية ، وإن كان بعوض يسمّى إجارة.

فبناء على هذا التسليط على الشاة المنحة مع تمليك أصوافها وألبانها وسائر منافعها المتّصلة بها لا بعد انفصالها عنها يكون إجارة ـ حسب المتفاهم العرفي من هذا اللفظ الذي هو معنى ظهور اللفظ في معنى ـ إن كان بعوض ، وإن لم يكن بعوض يكون عارية.

ولا فرق في المتفاهم العرفي بين أن تكون تلك المنافع من الأعراض الخارجيّة ، أو كانت من الاعتباريّات ، أو تكون من الأعيان الخارجيّة بشرط عدم انفصال هذا الأخير عن موصوفه ومتبوعه .

ولا فرق فيما ذكرنا بين الشاة المنحة والمرأة المرضعة والشجرة المثمرة والبئر التي لها ماء بالنسبة إلى الاستقاء منها ، ففي جميع ذلك تصحّ إجارتها وأيضا إعارتها ، إلاّ أن يأتي دليل خاصّ من إجماع أو رواية معتبرة على عدم صحّة كليهما أو أحدهما ، فلا يرد نقض على هذه القاعدة بهذه الأمور.

وأمّا ما يقال أو يتوهّم بأنّهم متّفقون على أنّ الإجارة تمليك منافع العين التي يوجرها الموجر ، ويذكرون أنّ المنفعة مقابل العين ، ونقل الأعيان مقابل نقل المنفعة فلا يجتمعان.

فقد عرفت ما فيه : وأنّ هذه الأعيان ما دامت متّصلة بالعين المتعلّقة للإجارة‌ تعدّ منفعة ، ومفهوم المنفعة لا بدّ وأن يؤخذ من العرف كسائر المفاهيم ، فإذا كانت هذه المنافع المذكورة التي من الأعيان الخارجيّة منفعة للعين ما دامت متّصلة بها ، فتشمل الإطلاقات أدلّة الإجارة والعارية أيضا مثل هذه الموارد ، أي التسليط على الشاة المنحة والجارية المرضعة والشجرة المثمرة، والبئر التي لها ماء وغير هذه الأمور ممّا يشبهها مع إنشاء تمليك المنافع المذكورة لهذه الأمور.

ولا يخفى أنّه ليس مرادنا من إنشاء تمليك منافع هذه الأمور أن يكون بإنشاء مستقلّ ، وإلاّ يخرج عن كونه إجارة ، بل مرادنا من تمليك منافع هذه الأمور هو إنشاء تمليكها بلفظ الإجارة المتعلّقة بنفس هذه الأمور باعتبار تلك المنافع.

وأمّا الإشكال والنقض على ما ذكرنا ـ بأنّه لا يجوز إجارة الشاة بلحاظ سخلها ، ولا الجارية بلحاظ ولدها ، ولا البذر بلحاظ الزرع ـ فغير تامّ ؛ وذلك لأنّ السخل والولد موجودان منفصلان عن الشاة والجارية ، ورحم الشاة والجارية وعاء نمائهما وتربيتهما.

مع أنّ هذه المفاهيم تختلف بنظر العرف ، فلو قال : أجرتك هذه الشاة ـ مثلا ـ يفهم العرف من هذه العبارة تمليك صوفها ولبنها، ولا يفهم منها تمليك سخلها التي في بطنها ، وقلنا : إنّ المدار في تشخيص المفاهيم وتعيين مداليل الألفاظ والجمل هو الفهم العرفي.

مضافا إلى أنّ السخل والولد إن كانا من منافع الشاة والجارية في المتفاهم العرفي نقول بصحّة إجارتها وإعارتها ، إلاّ أن يأتي دليل من إجماع أو رواية على عدم صحّتها أو عدم صحّة أحدهما ، وأمّا البذر والزرع والبيض والدجاج والنواة والنخلة وأمثالها فالزرع والدجاج والنخلة هي عين البذر والبيض والنواة ، لا أنّها من منافعها.

وأمّا ما أفاده سيّدنا الأستاذ في حاشية العروة بقوله : نعم ربما يشكل في إجارة الأشجار للثمار بأنّ الانتفاع الحاصل فيها يعدّ في العرف انتفاعا بالثمر لا بالشجر.

فكلام عجيب ؛ لأنّه بعد قبوله المبنى الذي ذكرنا وأنّه من الممكن أن تكون منفعة الشي‌ء من الأعيان الخارجيّة ، فأيّ فرق بين الشاة المنحة والانتفاع بلبنها ، وبين النخلة مثلا والانتفاع بثمرها ، بل كون ثمار الأشجار منفعة لها أبين من كون الماء الموجود في البئر منفعة لها ، وأيضا أبين من كون اللبن من منافع الشاة أو المرضعة.

وشيخنا الأستاذ حيث أنّه لم يختر هذا المبنى ذهب إلى عدم صحّة إجارة هذه الأمور ، وقال في إجارة الشجر لأثماره ـ في مقام إنكار صحّة إجارة هذه الأمور ـ في حاشيته على العروة : خصوصا في إجارة الأشجار للانتفاع بأثمارها. فكأنّه 1 يرى القول بإجارة الأشجار بلحاظ الانتفاع بأثمارها أبعد عن الصحّة من إجارة الشاة المنحة بلحاظ لبنها ، والمرأة المرضعة بلحاظ إرضاعها أو لبنها ، والبئر بلحاظ الانتفاع بمائها ، ونحن لم نفهم فيها خصوصيّة أوجب ذلك.

الجهة الثانية

في بيان الدليل على هذه القاعدة :

وهو أمران :

[ الأمر ] الأوّل : الإجماع‌ فهذا صاحب الجواهر 1 يقول في مقام شرح هذه العبارة التي في الشرائع وهي : « كلّما صحّ إعارته صحّ إجارته » (10) : بلا خلاف أجده نقلا وتحصيلا ، بل إجماعا كذلك (11).

ومثل هذه العبارة من هذا الفقيه المحقّق المتتبّع لها قيمتها ، وإن كان قد تقدّم منّا مرارا الإشكال على أمثال هذه الإجماعات التي من المحتمل القريب أن يكون اتّفاقهم مستندا إلى مدرك يعتمدون عليه ، من دون أن يكون سبب اتّفاقهم تلقّيهم عن‌ الإمام 7 فلا بدّ من الرجوع إلى نفس المدرك المحتمل إن كان معلوما ، وأنّه هل يصحّ الاعتماد عليه أم لا؟ كما أنّه في المقام من المحتمل القريب أن يكون مدركهم هذا الأمر الثاني الذي نبيّنه إن شاء الله تعالى.

الأمر الثاني : هو أنّ الإعارة والإجارة لا تختلفان في الحقيقة ، وكلاهما عبارتان عن تسليط المالك المستعير والمستأجر على عين ماله لتمليك منفعته إيّاهما ، ولا فرق بينهما إلاّ بأنّ تمليك المنفعة أو الانتفاع بتلك العين في العارية مجّاني وبلا عوض ، وفي الإجارة يكون بعوض وليس مجانا.

فمورد الإجارة والإعارة واحد ، وهو العين التي لها منفعة محلّلة يمكن الانتفاع بها ، فيسلط الطرف عليه ويملكه منفعتها أو الانتفاع بها فينتفع بها. وأمّا كون الانتفاع بها بلا عوض أو مع العوض لا يغيّر المورد ، فالمورد في كليهما واحد ، إلاّ أن يأتي دليل خاصّ من إجماع أو رواية معتبرة على صحّة إحديها دون الأخرى ، وإلاّ فمقتضى الأصل الأوّلي هو أنّه لو صحّ أحدهما صحّ الآخر.

ومقتضى هذا الدليل أنّ الكلّية من الطرفين ، أي كما أنّ كلّما صحّ إعارته صحّ إجارته ، كذلك كلّما صحّ إجارته صحّ إعارته. وهو كذلك إلاّ أنّهم ذكروا الكلّية الأولى دون الثانية ، ولعلّه لأنّ الإجارة عقد لازم لا يمكن حلّه إلاّ بأحد موجبات الفسخ ، بخلاف العارية فإنّ العارية قابلة للاسترداد والرّد في أيّ وقت أراد كلّ واحد من الطرفين. فالإجارة تحتاج إلى دليل الإثبات وصحّة عقده كي يحكم عليها باللزوم ، وأمّا العارية في الحقيقة هو إذن في التصرّفات ، ولا أثر لكونها صحيحة أو فاسدة ؛ لأنّ فاسدها أيضا لا ضمان فيها ، لقاعدة « كلّما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده » فلا أثر مهمّ لمعرفة أنّها صحيحة أو فاسدة ، ولذلك أهملوا ذكر الكليّة الثانية.

أو لأنّ السيرة العمليّة بالنسبة إلى موارد العارية أوسع ، فإنّ الناس يستعيرون‌ أغلب الأشياء لقضاء حوائجهم ، من الظروف والفرش ، وأدوات الطبخ من القدور والمكائن التي يطبخون عليها ، والبسط والابر وأدوات شرب الچاى من السماور والكتلى والقوري والاستكان والمواعين على أنواعها وأقسامها ، والكتب العلميّة في مختلف العلوم ، وكتب الأدعية والزيارة وغير ذلك ممّا يطول إحصاؤها.

وخلاصة الكلام : ما من شي‌ء له منفعة ويقضى الحاجة في مدّة قليلة إلاّ وقد يقع موردا للاستعارة ، بخلاف الإجارة ، فإنّ السيرة العمليّة لم تنعقد إلاّ في المهمّات من الحوائج وفيما لم يكن الاحتياج إليها في المدّة القليلة ، بل يكون الاحتياج إليها في مدّة معتدّة بها ، فيمكن أن تكون في بعض الموارد صحّة الإجارة مشكوكة لعدم قيام سيرة عمليّة عليها ، ولكن صحّة العارية تكون معلومة لقيام السيرة عليه ، فيستدلّ بها على صحّة الإجارة لأجل هذه القاعدة.

ولكن ليس هناك مورد تكون صحّة الإجارة معلومة وصحّة العارية ، مشكوكة في ذلك المورد كي يستدلّ بالكليّة الأخرى على صحّة تلك العارية ؛ فلذلك ذكروا الكلّية الأولى وأهملوا ذكر الثانية.

الجهة الثالثة

في موارد تطبيق هذه القاعدة‌ :

فنقول أوّلا : أنّ هذه القاعدة تجري في إجارة الأعيان بلحاظ منافعها ، وأمّا في باب الأجراء الأحرار فلا تجري الكلّية الثانية ؛ لأنّه يجوز استئجارهم ولا يجوز إعارتهم ؛ لأنّهم وإن كانوا أعيانا ولهم منافع محلّلة ، ولكن لا يدخلون تحت يد أحد ولا يملكهم أحد ، وهم وإن كانوا يملكون أعمالهم ولكن لا ينطبق على أعمالهم عنوان العارية ؛ لأنّ العارية كما قلنا عبارة عن تسليط الغير على عين من أعيان ما يملكه لأجل أن ينتفع بها وفي الإجراء الأحرار لا يمكن ذلك لا من قبل أنفسهم ولا من‌ قبل غيرهم.

نعم لو كان الأجير من العبيد فكما تصحّ إجارته كذلك تصحّ إعارته.

وثانيا : إنّ مورد تطبيق هذه القاعدة جميع الموارد التي قامت السيرة على صحّة إعارتها ، فمفاد هذه القاعدة صحّة إجارتها.

فما ذكرنا من الموارد الكثيرة التي بناء العقلاء على صحّة إعارتها ، وقامت السيرة على ذلك حتى المحقّرات ، كما إذا استعار إبرة لخياطة خرق في ثوبه ـ مثلا ـ فإجارته لذلك أيضا صحيحة ، اللهمّ إلاّ أن يكون منفعته قليلة بحدّ أنّ العقلاء لا يبذلون بإزائه المال ، فيمكن أن يقال حينئذ بالتفكيك بينهما بأنّ إعارته في ذلك المورد جائزة ، إذ لا مانع من إعطاء ذلك الشي‌ء بيد الطرف للانتفاع بتلك المنفعة القليلة مجّانا وبلا عوض ، ولكن لا يجوز إجارته لأنّ الإجارة لا يمكن بدون العوض ، والمفروض أنّ العقلاء لا يبذلون بإزاء تلك المنفعة القليلة مالا ، فيمكن أن يكون هذا نقضا على هذه الكلّية لجواز الإعارة دون الإجارة ، فتدبّر.

والحمد لله أوّلاً وآخراً ، وظاهراً وباطنا.

_______________

(*) « الحق المبين » ص 72.

(1) « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 135.

(2) « جواهر الكلام » ج 27 ، ص 173.

(3) « جواهر الكلام » ج 27 ، ص 172.

(4) « الكافي » ج 5 ، ص 223 ، باب الغنم تعطى بالضريبة ، ح 1 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 127 ، ح 554 ، باب الغرر والمجازفة وشراء السرقة ، ح 25 ؛ « الاستبصار » ج 3 ، ص 103 ، ح 359 ، باب إعطاء الغنم بالضريبة ، ح 1 ؛ « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 260 ، أبواب عقد البيع وشروطه ، باب 9 ، ح 1.

(5) « الكافي » ج 5 ، ص 224 ، باب الغنم تعطى بالضريبة ، ح 4 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 127 ، ح 556 ، باب الغرر والمجازفة وشراء السرقة ، ح 27 ؛ « الاستبصار » ج 3 ، ص 103 ، ح 362 ، باب إعطاء الغنم بالضريبة ، ح 4 ؛ « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 260 ، أبواب عقد البيع وشروطه ، باب 9 ، ح 4.

(6) « جواهر الكلام » ج 27 ، ص 173.

(7) المنحة ـ بالكسر ـ في الأصل الشاة أو الناقة يعطيها صاحبها رجلا يشرب لبنها ثمَّ يردّها إذا انقطع اللبن.

(8) « تذكرة الفقهاء » ج 2 ، ص 206. وانظر : « عوالي اللئالي » ج 3 ، ص 252 ، ح 8.

(9) « سنن ابي داود » ج 3 ، ص 295 ، كتاب البيوع ، ح 3565 ؛ « سنن ترمذى » ج 3 ، ص 565 ، كتاب البيوع ، باب 39 ، ح 1265 ؛ « عوالي اللئالي » ج 2 ، ص 257 ، ح 3 ؛ « مستدرك الوسائل » ج 13 ، ص 435 ، أبواب كتاب الضمان ، باب 1 ، ح 2.

(10) « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 140.

(11) « جواهر الكلام » ج 27 ، ص 213.




قواعد تقع في طريق استفادة الأحكام الشرعية الإلهية وهذه القواعد هي أحكام عامّة فقهية تجري في أبواب مختلفة، و موضوعاتها و إن كانت أخصّ من المسائل الأصوليّة إلاّ أنّها أعمّ من المسائل الفقهيّة. فهي كالبرزخ بين الأصول و الفقه، حيث إنّها إمّا تختص بعدّة من أبواب الفقه لا جميعها، كقاعدة الطهارة الجارية في أبواب الطهارة و النّجاسة فقط، و قاعدة لاتعاد الجارية في أبواب الصلاة فحسب، و قاعدة ما يضمن و ما لا يضمن الجارية في أبواب المعاملات بالمعنى الأخصّ دون غيرها; و إمّا مختصة بموضوعات معيّنة خارجية و إن عمّت أبواب الفقه كلّها، كقاعدتي لا ضرر و لا حرج; فإنّهما و إن كانتا تجريان في جلّ أبواب الفقه أو كلّها، إلاّ أنّهما تدوران حول موضوعات خاصة، و هي الموضوعات الضرريّة و الحرجية وبرزت القواعد في الكتب الفقهية الا ان الاعلام فيما بعد جعلوها في مصنفات خاصة بها، واشتهرت عند الفرق الاسلامية ايضاً، (واما المنطلق في تأسيس القواعد الفقهية لدى الشيعة ، فهو أن الأئمة عليهم السلام وضعوا أصولا كلية وأمروا الفقهاء بالتفريع عليها " علينا إلقاء الأصول وعليكم التفريع " ويعتبر هذا الامر واضحا في الآثار الفقهية الامامية ، وقد تزايد الاهتمام بجمع القواعد الفقهية واستخراجها من التراث الفقهي وصياغتها بصورة مستقلة في القرن الثامن الهجري ، عندما صنف الشهيد الأول قدس سره كتاب القواعد والفوائد وقد سبق الشهيد الأول في هذا المضمار الفقيه يحيى بن سعيد الحلي )


آخر مرحلة يصل اليها طالب العلوم الدينية بعد سنوات من الجد والاجتهاد ولا ينالها الا ذو حظ عظيم، فلا يكتفي الطالب بالتحصيل ما لم تكن ملكة الاجتهاد عنده، وقد عرفه العلماء بتعاريف مختلفة منها: (فهو في الاصطلاح تحصيل الحجة على الأحكام الشرعية الفرعية عن ملكة واستعداد ، والمراد من تحصيل الحجة أعم من اقامتها على اثبات الاحكام أو على اسقاطها ، وتقييد الاحكام بالفرعية لإخراج تحصيل الحجة على الاحكام الأصولية الاعتقادية ، كوجوب الاعتقاد بالمبدء تعالى وصفاته والاعتقاد بالنبوة والإمامة والمعاد ، فتحصيل الدليل على تلك الأحكام كما يتمكن منه غالب العامة ولو بأقل مراتبه لا يسمى اجتهادا في الاصطلاح) (فالاجتهاد المطلق هو ما يقتدر به على استنباط الاحكام الفعلية من أمارة معتبرة أو أصل معتبر عقلا أو نقلا في المورد التي لم يظفر فيها بها) وهذه المرتبة تؤهل الفقيه للافتاء ورجوع الناس اليه في الاحكام الفقهية، فهو يعتبر متخصص بشكل دقيق فيها يتوصل الى ما لا يمكن ان يتوصل اليه غيره.


احد اهم العلوم الدينية التي ظهرت بوادر تأسيسه منذ زمن النبي والائمة (عليهم السلام)، اذ تتوقف عليه مسائل جمة، فهو قانون الانسان المؤمن في الحياة، والذي يحوي الاحكام الالهية كلها، يقول العلامة الحلي : (وأفضل العلم بعد المعرفة بالله تعالى علم الفقه ، فإنّه الناظم لأُمور المعاش والمعاد ، وبه يتم كمال نوع الإنسان ، وهو الكاسب لكيفيّة شرع الله تعالى ، وبه يحصل المعرفة بأوامر الله تعالى ونواهيه الّتي هي سبب النجاة ، وبها يستحق الثواب ، فهو أفضل من غيره) وقال المقداد السيوري: (فان علم الفقه لا يخفى بلوغه الغاية شرفا وفضلا ، ولا يجهل احتياج الكل اليه وكفى بذلك نبلا) ومر هذا المعنى حسب الفترة الزمنية فـ(الفقه كان في الصدر الأول يستعمل في فهم أحكام الدين جميعها ، سواء كانت متعلقة بالإيمان والعقائد وما يتصل بها ، أم كانت أحكام الفروج والحدود والصلاة والصيام وبعد فترة تخصص استعماله فصار يعرف بأنه علم الأحكام من الصلاة والصيام والفروض والحدود وقد استقر تعريف الفقه - اصطلاحا كما يقول الشهيد - على ( العلم بالأحكام الشرعية العملية عن أدلتها التفصيلية لتحصيل السعادة الأخروية )) وتطور علم الفقه في المدرسة الشيعية تطوراً كبيراً اذ تعج المكتبات الدينية اليوم بمئات المصادر الفقهية وبأساليب مختلفة التنوع والعرض، كل ذلك خدمة لدين الاسلام وتراث الائمة الاطهار.