أقرأ أيضاً
التاريخ: 28-7-2017
1803
التاريخ: 28-7-2017
1384
التاريخ: 28-7-2017
788
التاريخ: 31-7-2017
1006
|
ما العلاقة بين الظلم والظلام؟ قال علماء اللغة:
ـ ظَلَمَ: يعني جار وجاوز الحد، ووضع الشيء في غير مكانه. جاء في المثل:
(من شابه أباه فما ظلم) وقالوا أيضاً: (من استرعى الذئب فقد ظلم).
وهذا المثل يضرب لمن يولي غير الأمين. ويقال: ظلم فلان فلاناً: غصبه حقه أو نقصه إيّاه. وفي الحديث: لزموا الطريق فلم يظلموه. ويقال:
هو ظالم. وظلام. وهو وهي ظلوم.
ـ وظَلِمَ الليل: اسود فهو ظَلِمٌ. وأظلم الليل اسود. ويقال: أظلم الشعر. والقوم دخلوا في الظلام. والبيت جعله مظلماً. وظالمه: مظالمة، وظِلاماً: ظلمه. وتظالم القوم: ظلم بعضهم بعضاً.
الظلامة: ما يطلبه المظلوم. والظلماء: الظلمة ويقال: ليلة ظلماء, والظُلمة: ذهاب النور. والمظلم: الشديد الظلمة. يقال: يوم مظلوم وأمر مظلام: لا يدري من أين يؤتى والجمع مظالم.
فالعلاقة المشتركة بين الظلام والظلم. ظلم هارون وظلام السجن حتى ذهاب النور، فيفقد النظر التمييز بين الأشياء، بين السقيم والسليم.
والظلم: يعني ذهاب الحق الذي يوضح الأمور، ويجلي الحقائق حتى تظهر على حقيقتها، ولا لبس فيها. كما يعني وضع الشيء في غير مكانه والمظلام هو هارون الرشيد وأشباهه من الملوك العباسيين، ومن سبقهم من الأمويين. والمظلوم: هو الذي انتقص من حقه أو الذي لم يعط حقه وهو الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) ومن سبقه من آبائه وأجداده الذين ضحوا بكل ما عندهم من قوى وقاوموا الظلم والظالمين من أجل إعلاء كلمة الله عزّ وجلّ والمحافظة على الشريعة الإسلامية، والدفاع عن المظلومين والمستضعفين في الأرض ليبقوا أعزة كراماً محترمين. قال تعالى واصفاً المؤمنين: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ } [المنافقون: 8] (1).
فلنتصور هذه المكانة الرفيعة التي منحها الله عزّ وجلّ للمؤمنين فقد أعطاهم شرفاً عظيماً ومكانة سامية لا يرقى إليها غيرهم في المجتمع، أعطاهم العزة بعد جلالته وبعد الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله). فأهل البيت (عليهم السلام) حافظوا على هذه العزة ودافعوا عنها فكانوا من المؤمنين الصادقين، والعباسيون حاولوا سلب هذه العزة منهم فكانوا ظالمين منافقين.
والإمام الكاظم (عليه السلام) الذي كظم غيظه سنيناً طويلة من ظلم الحكام العباسيين، حافظ على هذه العزة التي منحها ربّ العالمين للمؤمنين الصادقين...
فانتقل (عليه السلام) من ظلم هارون إلى ظلام السجون، ولعل هذه المحنة التي عاناها بعزم وصبر من أقسى المحن وأفجعه؛ ألمّت به فتحملها وكظم غيظه في صدره صابراً مجاهداً في سبيل الله.
لقد قضى زهرة شبابه في ظلمات السجون محجوباً عن أهله وشيعته، محروماً من نشر علومه على الناس جميعاً. فكان شبيه عيسى بن مريم في تقواه وورعه وصلاحه.
جهد هارون في ظلمه، وأمعن في التنكيل به خوفاً من تسلمه الخلافة، علماً أن الإمام (عليه السلام) لم يكن يبغي الحكم والسلطان، ولم يكن يبغي الجاه والمال، وإنما كان يبغي نشر العدل والحق بين الناس، ومقاومة ظلم أولئك الحكام وجورهم واستبدادهم بأمور المسلمين.
إن تاريخ الإنسانية قديماً وحديثاً حافل بالثورات الصاخبة التي قام بها المصلحون الاجتماعيون على حكام الظلم والطغيان من أجل إسعاد أبناء مجتمعهم، وإنماء أوطانهم، حتى عانوا في سبيل ذلك جميع ضروب الأذى، وأنواع التنكيل والتشريد والاضطهاد؛ وكان في طليعة هؤلاء المجاهدين والمكافحين عن كرامة المسلمين أئمة أهل البيت (عليهم السلام).
فقد قدموا أروع التضحيات، وتحملوا أقسى ألوان الجهاد في سبيل الله من أجل إنقاذ المسلمين من الجور العباسي، والاستبداد السياسي الذي تمثل على مسرح الحكام الأمويين والعباسيين.
هؤلاء الحكام باعوا دينهم بدنياهم بثمن زهيد، فتلاعبوا بمقدّرات المجتمع، وسلبوا أموال المسلمين وصرفوها على الفجور والمجون، وبذلوها للعملاء الخونة الذين ساندوهم وأعانوهم على الظلم والجور.
وأئمة أهل البيت (عليهم السلام) باعتبارهم مسؤولين عن رعاية الدين، وحماية المسلمين، كان من واجبهم الشرعي مقاومة ذلك الحكم الجائر ومكافحة الظالمين المستبدين، فنفروا في وجه الظلم، وأنقذوا المجتمع الإسلامي من الجور والاستبداد اللّذين حلا في العباد والبلاد. فقاموا بما يجب عليهم من أداء رسالتهم الإنسانية بكل أمانة وإخلاص.
وكان زعيم المعارضين المناضلين لسياسة هارون هو الإمام موسى الكاظم (عليه السلام). الذي قضى زمناً طويلاً في السجون حتى لفظ أنفاسه الأخيرة فيها وهو شهيد غريب عانى أمرّ الآلام، وأدهى الخطوب.
القبض على الإمام (عليه السلام)
انتشر اسم الإمام (عليه السلام) في الأقطار، وذاع صيته في الأمصار، وتحدّث الناس عن علمه ومآثره وفضله، فثقل ذلك على هارون، وطفح قلبه غيظاً منه فذهب الطاغية إلى قبر النبي (صلّى الله عليه وآله)، فسلم على النبي مثل الزوار المؤمنين، وخاطبه قائلاً:
(بأبي أنت وأمي يا رسول الله، إني اعتذر إليك من أمر عزمت عليه، إني أريد أن آخذ موسى بن جعفر (عليه السلام) فأحبسه لأني قد خشيت أن يُلقي بين أمتك حرباً يسفك فيها دماءهم)(2).
إنه يريد أن يخلق مبرراً أمام المجتمع لعمله الفظيع ويخفّف ما سيواجه به من الاستياء، لا سيّما من العلماء الذين سيستنكرون عمله الإجرامي.
وبعد الاعتذار في اليوم الثاني أصدر الطاغية أوامره بإلقاء القبض على الإمام، فجاءت الشرطة وألقت القبض عليه وهو في طاعة الله يصلي لربه عند رأس جده النبي (صلّى الله عليه وآله). فقطع المجرمون الآثمون عليه صلاته ولم يمهلوه من إتمامها. لكنهم نسوا أن الله يمهل ولا يهمل. ثم حمل الإمام من ذلك المكان الشريف وقيّد بالحديد وقد توجّه إلى جدّه الرسول الأكرم:
(إليك أشكو يا رسول الله) (3). فأين احترام قداسة القبر الشريف، قبر رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأين احترام أبنائه، الأئمة المعصومين التي هي أولى بالرعاية والمحبة والمودة من كل شيء؟ ثم أين احترام الصلاة التي هي أقدس عبادة في الإسلام؟
لم يحترم هارون قداسة القبر الشريف فهتك حرمته وحرمة أبنائه، وقطع صلاة الإمام (عليه السلام) وأمر بتقييده، وحمل إليه في ذل القيود، ولما مثل الطاهر الكريم أمام الفاجر اللئيم أغلظ له في القول، وكان اعتقاله سنة 179هـ في شهر شوال لعشر بقين منه (4).
فـي البصـرة
ساروا بالإمام (عليه السلام) معتقلاً إلى البصرة ووكل هارون حسان السروي بحراسته والمحافظة عله (5). وقبل أن يصل إلى البصرة تشرّف بالمثول بين يديه عبد الله بن مرحوم الأزدي فدفع له الإمام كتباً وأمره بإيصالها إلى ولي عهده الإمام الرضا (عليه السلام) وعرفه بأنه الإمام من بعده (6) سارت القافلة بالإمام المقيد حتى وصلت إلى البصرة قبل التروية بيوم (7) فأخذ حسان وكيل هارون الإمام ودفعه إلى عيسى بن أبي جعفر فسجنه في بيت من بيوت السجن، وأقفل عليه الباب، فكان لا يفتح باب السجن إلا في حالتين: خروج الإمام (عليه السلام) إلى الطهور، أو إدخال الطعام له (8).
أحوالـه في السجن
تفرغ الإمام (عليه السلام) للعبادة، انقطع الإمام (عليه السلام) في السجن إلى العبادة المطلقة، يصوم في النهار ويقوم بالليل، يقضي كل أوقاته في الصلاة والسجود والدعاء.
لقد أدهش العقول وحير الألباب بعبادته المتواصلة، وانقطاعه إلى الله عزّ وجلّ: وقد اعتبر وجوده في السجن نعمة من أعظم النعم التي منحها الله له، وذلك لتفرغه للعبادة، فكان يشكر ربه تعالى على ذلك ويدعو بهذا الدعاء الروحاني قائلاً:
(اللهم، إنك تعلم أني كنت أسألك أن تفرغني لعبادتك، اللهم وقد فعلت فلك الحمد) (9).
يبدو لنا من هذا الدعاء رضى الإمام (عليه السلام) بقضاء الله تعالى وصبره الجميل وكظمه الغيظ بانتظار الفرج إن شاء الله، كما يدل هذا الدعاء من جهة أخرى على مدى حب الإمام الخالص وشوقه الزائد لعبادة الله وطاعته.
اتصال العلماء بـه
شاع اعتقال الإمام (عليه السلام) في البصرة وجميع أنحاء البلاد، فأقبل عليه رواة الحديث بطريق خفي لينهلوا من علمه الغزير، وقد رووا عنه بعض الأحكام والعلوم ومن هؤلاء ياسين الزياتي (10).
كما اتصل به كبار العلماء من البصرة ومن نواح أخرى فرووا عنه الشيء الكثير ممّا يتعلق بالتشريع الإسلامي. ولا يخفى ما قلناه سابقاً إن الإمام (عليه السلام) دائرة معارف يغترف منها كل من أراد المعرفة.
الإيعـاز باغتياله
لما انتشر خبر اعتقال الإمام (عليه السلام) في سجن البصرة، وتناقل الناس حديثه مقروناً بالحسرة واللوعة والحزن، خاف هارون من حدوث الفتن، وقيام الاضطرابات في المدينة فأوعز إلى عيسى باغتيال الإمام (عليه السلام) ليستريح منه ويطمئن باله. ولكن هل يقدم عيسى على ارتكاب مثل هذه الجريمة النكراء؟!
طلب عيسى بالإعفاء
لما وصلت أوامر هارون لعيسى لتنفيذ الاغتيال، ثقل عليه الأمر وفكر ملياً بالمصير، جمع أصحابه وخواصه وعرض عليهم الأمر فأشاروا عليه بالتحذير من ارتكاب مثل هذه الجريمة التي تغضب الله ورسوله، فاستصوب رأيهم وكتب إلى هارون رسالة يطلب فيها إعفاءه عن ذلك.
جاء في الرسالة:
(يا أمير المؤمنين، كتبت إلي في هذا الرجل، وقد اختبرته طول مقامه بمن حبسته معه عيناً عليه، لينظروا حيلته، وأمره وطويته ممن له المعرفة والدراية، ويجري من الإنسان مجرى الدم، فلم يكن منه سوء قط، ولم يذكر أمير المؤمنين إلا بخير، ولم يكن عنده تطلع إلى ولاية، ولا خروج ولا شيء من أمر الدنيا، ولا دعا قط على أمير المؤمنين، ولا على أحد من الناس، ولا يدعو إلا بالمغفرة والرحمة له ولجميع المسلمين مع ملازمته للصيام والصلاة والعبادة، فإن رأي أمير المؤمنين أن يعفيني من أمره، أو ينفذ من يتسلمه مني وإلا سرحت سبيله، فإني منه في غاية الحرج) (11).
تدل هذه الرسالة بوضوح على إكبار عيسى وتقديره للإمام (عليه السلام)، فقد راقبه ووضع العيون عليه فلم يره إلا مشغولاً بذكر الله وطاعته، ولم يتعرض بذكر أحد بسوء حتى الظالمين له، لذا خاف عيسى وراقب الله. بقي في سجن عيسى سنة كاملة.
حمل الإمام إلى بغــداد
عندما شعر هارون بعدم تنفيذ طلبه في اغتيال الإمام من قبل عيسى عامله على البصرة، خاف منه أن يطلق سراح الإمام (عليه السلام)، فأمر بحمل الإمام إلى بغداد مقيّداً بالحديد، تحف به الحرس والشرطة. ساروا به مسرعين حتى انتهوا إلى بغداد، وفوراً أعلموا الرشيد بصنيعهم فأمر بحبسه عند أحد وزرائه يدعى الفضل بن الربيع.
أخذه الفضل وسجنه في بيته، هكذا كانت إرادة هارون، فلم يعتقله في السجون العامة لمكانة الإمام العالية في المجتمع، وسمو شخصيته لأن الشخصيات الهامة في عهد الطاغية هارون كانت تعتقل في بيوت وزرائه وليس في السجون العامة، فقد سجن عبد الملك بن صالح عندما غضب عليه عند الفضل بن الربيع (12)، وكذلك سجن إبراهيم بن المهدي عند أحمد بن أبي خالد (13).
انشغال الإمام بالعبـادة
تفرغ الإمام (عليه السلام) في السجن لطاعة ربّه، فقضى معظم أوقاته في الصلاة والتضرع والابتهال إلى الله، فرّاج الكروب والهموم. فقد بهر الفضل بعبادته، فكان يتحدث عنها أمام زائريه بتعجب وإكبار للإمام.
حدّث عبد الله القزويني قال: دخلت على الفضل بن الربيع وهو جالس على سطح داره، فقال لي: اُدْنُ مني، فدنوت حتى حاذيته فقال لي: أشرف على الدار، فأشرف عبد الله على الدار فقال له الفضل ـ ما ترى في البيت؟ ـ أرى ثوباً مطروحاً هناك.
ـ انظر حسناً. فتأمل عبد الله ملياً، فقال له: رجل ساجد.
ـ هل تعرفه؟ ـ لا. فقال له: هذا مولاك.
ـ من مولاي؟!! ـ تتجاهل علي؟!!
ـ ما أتجاهل، ولكن لا أعرف لي مولى.
ـ قال الفضل: هذا أبو الحسن موسى بن جعفر.
وأخذ الفضل يحدث عبد الله عن عبادة الإمام وتقواه وطاعته لله فقال: (إني اتفقده الليل والنهار فلم أجده في وقت من الأوقات إلا على الحال التي أخبرك بها، يصلي الفجر، فيعقب ساعة في دبر صلاته إلى أن تطلع الشمس ثم يسجد سجدة فلا يزال ساجداً حتى تزول الشمس، ثم يبتدئ بالصلاة من غير أن يجدد الوضوء، فاعلم أنه لم ينم في سجوده ولا أغفى، فلا يزال كذلك إلى أن يفرغ من صلاة العصر، فإذا صلى العصر سجد سجدة فلا يزال ساجداً إلى أن تغيب الشمس، فإذا غابت وثب من سجدته فصلى المغرب من غير أن يحدث حدثاً، ولا يزال في صلاته وتعقيبه إلى أن يصلي العشاء، فإذا صلى العشاء أفطر على شوى يؤتى به، ثم يجدد الوضوء، ثم يسجد ثم يرفع رأسه فينام نومة خفيفة، ثم يقوم فيجدد الوضوء، ثم يقوم، فلا يزال يصلي في جوف الليل حتى يطلع الفجر فلست أدري حتى يقول الغلام إن الفجر قد طلع؟ إذ قد وثب هو لصلاة الفجر فهذا دأبه منذ حُوّل إليّ..).
لما رأى عبد الله إكبار الفضل للإمام (عليه السلام) حذره من أن يستجيب لرغبة الرشيد باغتياله. فقال له:
(اتق الله، ولا تحدث في أمره حدثاً يكون منه زوال النعمة، فقد تعلم أنه لم يفعل أحد بأحد منهم سوءاً إلا كانت نعمته زائلة).
وكان الفضل مؤمناً بذلك فقال له: (قد أرسلوا إليّ غير مرّة يأمروني بقتله، فلم أجبهم إلى ذلك، وأعلمتهم أني لا أفعل، ولو قتلوني ما أجبتهم إلى ما سألوني) (14).
ولا غرو فالإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) كان مثلاً صالحاً يحتذى في التقوى والورع والإيمان بالله، فحب الله مطبوع في قلبه ومشاعره.
إشراف هارون على الإمام في سجنه
لما امتنع حراسه ووزراؤه من القدوم على اغتياله، لم يثق بالعيون التي وضعها عليه في السجن، فأخذ يراقبه بنفسه، ويتطلع على شؤونه خوفاً من أن يتصل به أحد من الناس، فأطل من أعلى القصر على السجن فرأى ثوباً مطروحاً في مكان خاص لم يتغير عن موضعه فقال للفضل:
ـ ما ذاك الثوب المطروح الذي أراه كل يوم في ذلك الموضع؟!
ـ يا أمير المؤمنين، ما ذاك ثوب، وإنما هو موسى بن جعفر، له في كل يوم سجدة بعد طلوع الشمس إلى وقت الزوال.
فبهر هارون بصلابة الإمام (عليه السلام) وقوة إرادته وقال للفضل:
ـ أما هذا فإنه من رهبان بني هاشم!!
فالتفت إليه الفضل بعدما سمع منه اعترافه بزهد الإمام قائلاً له:
ـ يا أمير المؤمنين: ما لك قد ضيّقت عليه في السجن؟!!
فأجابه هارون بكل لؤم وغرور قائلاً:
(هيهات: لابدّ من ذلك) (15).
هارون الطاغية كان يعلم عزوف الإمام عن الدنيا، ويعلم إقبال الإمام على الله، ويعلم منزلة الإمام السامية وتقدير الناس له، لكن حبه للسلطان والدنيا أعمى بصره وبصيرته، وملأ قلبه غيظاً وحسداً له. وهذا ما دفعه إلى ذلك. الحسد القاتل الذي يميت القلب ويضعف الروح ويخدر الإيمان، ويعمي البصيرة عن رؤية الحق.
مصـائب ومتـاعب
ضاق صدر الإمام من ظلمة السجن وطول المدة فيه بعد أن حجب عن عياله وأطفاله وشيعته، ينتقل من سجن إلى سجن مثقلاً بالحديد، والشرطة تراقبه خوفاً من اتصال أحد من شيعته به، فأحسّ بآلام مرهقة أحاطت به، وخطوب مريرة ثقلت عليه، وهارون ما زال على موقفه يراقبه بحذر، ويخطط لاغتياله. فما العمل؟
لقد لجأ (عليه السلام) إلى الله تبارك وتعالى في أن يخلّصه من هذا الطاغية وهذه المحنة المريرة.
دعـاء من القلب
سئم الإمام من السجن وطالت مدة الحبس عليه، وهو رهين السجون فقام في غلس الليل وجدد طهوره وصلى لربه أربع ركعات، وأخذ يناجي الله بهذا الدعاء الروحي الصاعد من قلب طاهر أثقلته الهموم فقال: (يا سيدي، نجّني من حبس هارون وخلّصني من يده، يا مخلّص الشجر من بين رمل وطين، ويا مخلّص النار من بين الحديد والحجر، ويا مخلّص اللبن من بين فرث ودم، ويا مخلّص الولد من بين مشيمة ورحم، ويا مخلّص الروح من بين الأحشاء والأمعاء، خلّصني من يد هارون الرشيد).
يرشح من هذا الدعاء المرارة التي عاناها الإمام (عليه السلام) في السجن والحزن العميق الذي رزح على صدره خلاف هذه الفترة الطويلة لكن إرادة الله فوق كل إرادة فمنه الفرج وهو على كل شيء قدير.
إطلاق سراح الإمام (عليه السلام)
قال تعالى: { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] (16).
الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) مؤمن طاهر وعبد صالح دعا الله عزّ وجلّ لينقذه من هذه المحنة الظالمة التي أثقلت صدره فاستجاب سبحانه لدعائه وأخرج عنه الغمّ الذي أصابه في سجن الطاغية هارون.
فأطلق سراحه غلس الليل. ويعود السبب في ذلك إلى رؤيا رآها في منامه. حدّث عبد الله بن مالك الخزاعي (17) قال:
أتاني رسول الرشيد في ما جاءني به قط، فانتزعني من موضعي، ومنعني من تغيير ثيابي، فراعني ذلك، فلما صرت إلى الدار سبقني الخادم، فعرف الرشيد خبري، فأذن لي بالدخول، فوجدته جالساً على فراشه فسلّمت فسكت ساعة، فطار عقلي، وتضاعف جزعي، ثم قال لي:
ـ يا عبد الله، أتدري لما طلبتك في هذا الوقت؟
ـ لا، والله يا أمير المؤمنين. قال: إني رأيت الساعة في منامي كأن حبشياً قد أتاني، ومعه حربة فقال: إن لم تخلّ عن موسى بن جعفر الساعة، وإلا نحرتك بهذه الحربة، اذهب فخل عنه (18).
ولم يطمئن عبد الله بأمر الرشيد بإطلاق سراح الإمام، فقال له: أطلق سراح موسى بن جعفر؟ قال له ذلك ثلاث مرات، فقال الرشيد: (نعم، امض الساعة حتى تطلق موسى بن جعفر، وأعطه ثلاثين ألف درهم، وقل له: إن أحببت المقام قبلنا فلك عندي ما تحب، وإن أحببت المضي إلى المدينة فالأمر في ذلك إليك).
مضى عبد الله مسرعاً إلى السجن يقول: لما دخلت وثب الإمام (عليه السلام) قائماً، وظنّ أني قد أمرت فيه بمكروه، فقلت له:
(قد أمرني أمير المؤمنين بإطلاقك وأن أدفع إليك ثلاثين ألف درهم، وهو يقول لك: إن أحببت المقام قبلنا فلك ما تحب، وإن أحببت الانصراف فالأمر في ذلك مطلق لك، وأعطيته الثلاثين ألف درهم) (19).
وقلت له: لقد رأيت من أمرك عجبا.
وأخذ الإمام (عليه السلام) يحدثه عن السبب في إطلاق سراحه قائلاً:
(بينما أنا نائم إذ أتاني رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فقال لي: يا موسى، حبست مظلوماً قل هذه الكلمات فإنك لا تبيت هذه الليلة في الحبس، فقلت له بأبي أنت وأمي ما أقول فقال (صلّى الله عليه وآله): قل:
(يا سامع كل صوت، ويا سابق الفوت، ويا كاسي العظام لحماً ومنشرها بعد الموت، أسألك بأسمائك الحسنى، وباسمك الأعظم الأكبر المخزون المكنون الذي لم يطلع عليه أحد من المخلوقين، يا حليماً ذا أناة لا يقوى على أناته، يا ذا المعروف الذي لا ينقطع أبداً، ولا يحصى عدداً، فرج عني) فكان ما ترى (20).
وفرج الله عن الإمام فخلى هارون بعد رؤياه سبيله، وقد مكث في سجن الفضل مدة طويلة من الزمن لم يعينها لنا التاريخ.
بعد إطلاق سراحه لم يذهب الإمام (عليه السلام) إلى يثرب بل بقي في بغداد لم ينزح عنها وكان يدخل على الرشيد في كل أسبوع مرة في يوم الخميس (21).
كان الرشيد يحتفي به كثيراً إذا رآه، وقد دخل عليه يوماً، وقد استولى عليه الغضب من أجل رجل ارتكب جرماً فأمر أن يضرب ثلاثة حدود فنهاه الإمام (عليه السلام) عن ذلك وقال إنما تغضب لله، فلا تغضب له أكثر ممّا غضب لنفسه) (22).
الإذن بالرجوع إلى يثرب
طلب الإمام (عليه السلام) من هارون أن يسمح له بالرحيل إلى يثرب، مدينة آبائه وجدّه (صلّى الله عليه وآله) لرؤية عياله وأطفاله، قيل أنه سمح له، وقيل أنه لم يجبه قائلاً له: أنظر في ذلك حتى حبسه في السجن عند السندي (23).
وأكبر الظن أن هارون فرض عليه الإقامة الجبرية في بغداد ولم يسمح له بالسفر إلى وطنه. فمكث (عليه السلام) في بغداد مدة من الزمن لم يحددها لنا قسم كبير من المؤرخين. خلال هذه المدة لم يتعرض له هارون بسوء. قال السيد مير علي الهندي قال: (وقد حدث مرتين أن سمح هارون لهذا الإمام الوديع بالرجوع إلى الحجاز ولكن شكوكه كانت في كلتا المرتين تتغلب على طيبة قلبه فيبقيه في الحبس) (24).
استمر الإمام في تلك الفترة من بذل الجهود لإرشاد الناس وهدايتهم إلى طريق الحق ومن الذين اهتدوا متأثرين بنصائحه بشر الحاني فقد تاب على يد الإمام (عليه السلام) حتى صار من عيون عباد الله الصالحين المتقين لكن التاريخ لم يذكر المدة التي خلي فيها عن سبيل الإمام (عليه السلام)، فيحتمل أنها فترة قصيرة، وكل ما ذكره المؤرخون أنه (عليه السلام) انتقل من سجن إلى سجن، من سجن الفضل بن الربيع إلى سجن الفضل بن يحيى.. فيا سبحان الله إلى هذا الحد محبة الدنيا وعشق السلطان تعمي القلوب عن الحقيقة، وتصم الآذان عن سماع الحق؟!!
فهارون لم يؤمن بكل ما رآه من الآيات والمعجزات التي ظهرت للإمام (عليه السلام) فاطلق سراحه وندم على ذلك فأصر على التنكيل به وكانت الجريمة.
اعتقال الإمام (عليه السلام) عند الفضل بن يحيى
مرة ثانية ألقى هارون القبض على الإمام فأمر باعتقاله عند الفضل بن يحيى، فماذا حدث له في سجنه؟
معاملة حسنة في سجن الفضل:
لما رأى الفضل بن يحيى إقبال الإمام (عليه السلام) على الله سبحانه وتعالى، وانشغاله بذكره، أكبر الإمام ورفّه عليه وأحسن معاملته، فكان يرسل له كل يوم مائدة فاخرة من الطعام، وقد رأى (عليه السلام) من السعة في سجن الفضل ما لم يرها في السجون الأخرى.
الإيعاز باغتياله من جـديد
أوعز هارون للفضل باغتيال الإمام (عليه السلام)، فخاف الفضل من الله وامتنع عن تنفيذ هذه الجريمة النكراء، ولم يلبّ رغبة هارون. ذلك أنه كان ممن يذهب إلى الإمامة ويدين بها، وهذا هو السبب في اتهام البرامكة بالتشيع.
قال الفضل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، أقود نفسي إلى النار وأحفر قبري بيديّ؟! لا يمكن أن أنفذ رغبات هارون الطاغية في قتل ابن بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) مهما كانت النتيجة.
التنكيل بالفضـل
كان لهارون بعض العملاء المأجورين يراقبون ويوصلون بأخبارهم إليه، كما في عصرنا اليوم، انطلقوا إليه وأخبروه بحسن معاملة الفضل للإمام (عليه السلام) ولما سمع ذلك الطاغية استشاط غضباً وأنفذ بالحال خادمه مسرور إلى بغداد ليكشف له حقيقة الأمر، فإن كان الأمر على ما بلغه مضى إلى العباس بن محمد وأوصله رسالة يأمره فيها بجلد الفضل بن يحيى، وكذلك أمره بالوصول إلى السندي بن شاهك مدير شرطته ومنفذ أوامره لينفذ ما أمر به دون أي تأخير.
قدم العميل مسرور إلى بغداد فنزل دار الفضل بن يحيى لا يدري أحد ما يريده ثم دخل خلسة إلى الإمام موسى (عليه السلام) فوجده مرفّهاً مرتاحاً كما بلغ هارون فمضى من فوره إلى العباس وأمره بتنفيذ أمر الخليفة، وكذلك سار إلى السندي فأمره بإطاعة العباس، أرسل العباس فوراً الشرطة إلى الفضل فأخرجوه من داره وهو يهرول والناس من حوله، فدخل على العباس فأمر بتجريده، ثم ضربه مائة سوط.
خرج الفضل بعد هذا الجزاء الظالم وقد انهارت قواه ودكّت أعصابه متحرقاً على الإمام ماذا سيحصل له.
كتب مسرور الوغد الحقير إلى هارون بما فعله، فأمره بنقل الإمام من عند الفضل واعتقاله في دار السندي بن شاهك. ثم جلس هارون في مجلس حافل ضمّ جمهوراً غفيراً من الناس، فرفع صوته قائلاً: أيها الناس، إن الفضل بن يحيى قد عصاني، وخالف طاعتي، ورأيت أن ألعنه فالعنوه.
ارتفعت أصوات العملاء من جميع جنبات الحفل باللعن والسباب والشتم على الفضل حتى اهتزت الأرض من أصوات اللعن.
وبلغ يحيى بن خالد ذلك فأسرع إلى الرشيد ودخل عليه من غير الباب الذي يدخل منه الناس، وأسره قائلاً: يا أمير المؤمنين، إن الفضل حدث، وأنا أكفيك ما تريد.
فسرّ هارون بما أخبره صنيعه الوغد وذهب عن نفسه ما يحمله من الحقد على الفضل، فأراد يحيى أن يستعيد كيان ولده ويرد له كرامته.
فقال للرشيد: (يا أمير المؤمنين، قد غضضت من الفضل بلعنك إياه فشرّفه بإزالة ذلك) فأقبل هارون يوجهه على الناس، ورفع عقيرته قائلاً: (إن الفضل قد عصاني في شيء فلعنته، وقد تاب وناب إلى طاعتي فتولوه).
ارتفعت الأصوات المأجورة ثانية من جميع جنبات الحفل وأعلنت التأييد الشامل لتلك السياسة المتقلبة والمتناقضة وهي ذات لهجة واحدة أعلنها أولئك الناس الذين يهتمون بمصالحهم الخاصة ولا يؤمنون بالقيم ولا بالمثل العليا مرددين:
(يا أمير المؤمنين، نحن أولياء من واليت، وأعداء من عاديت، وقد توليناه) (25).
وكما ترى هكذا كانت حالة الجماهير الإسلامية في ذلك العصر قد انحرفت عن المبادئ الأصيلة، وفقدت وعيها وحسها وساعدت الطاغية على ظلمه في أطاعته ونفذت رغباته الظالمة والجائرة بحق إمام معصوم ابن إمام معصوم، شريف بريء لم يقترف ذنباً ولا ارتكب خطأ، ولو كان عندهم أي شعور ديني لما سجن الإمام (عليه السلام) ولما نكل به من سجن إلى سجن مقيداً بالأغلال والحديد.
ويعود السبب في ذلك كله إلى عبث السياسة الملتوية في الأوساط الاجتماعية ونشرها الفساد والفجور والبؤس والشقاء والتسبّب في ربوع ذلك المجتمع حتى كان من نتائجه مواقف مذمومة لا يحمد عقباها بأي حال. كما كشفت لنا هذه البادرة مدى الحقد والكراهية التي يكنها هارون اللعين في نفسه للإمام (عليه السلام) الشريف. فقد نكل بالفضل بن يحيى وهو كان من أعز الناس عنده وأقربهم إليه، وأعلن شتمه وسبه لأنه أحسن معاملته للإمام (عليه السلام) ولم يضيق عليه في السجن. علماً أن المدة التي قضاها الإمام (عليه السلام) في سجن الفضل قصيرة للغاية كما ذكر الرواة أياماً معدودة. ونختصر فنقول:
كانت أرواح الناس في العصر العباسي ودماؤهم يتصرف فيها الحكام حسب ما أرادوا، فالملك يفعل ما يريد فهو ظل الله على الأرض لا يسأل عن ذنب ولا جرم، همه كرسي الحكم وكفى.
خـاتمة المطاف
أحزان جديدة، وخطب مريع حلّ بسبط النبي (صلّى الله عليه وآله) وريحانته العطرة ووديعته في أمته، فقد سدت نوافذ الحياة عليه وحفّت به المصائب والمصاعب من كل جانب، فجمع هارون الطاغية كل ما عنده من لؤم وغضب وبغض وصبها عليه دفعة واحدة؛ من تكبيل بالقيود، وزج في السجون، ومراقبة بالعيون خوفاً من العطف عليه، فنكل بكل من أكرمه ورعى جانبه، حين جلد الفضل بن يحيى مائة جلدة، وأعلن سبه وشهّر به لأنه لم يضيّق عليه.
لقد أصبح هارون قلقاً جداً من وجود الإمام (عليه السلام) فذيوع فضله بين الملأ وانتشار اسمه وحديث الناس عن محنته واضطهاده، كل ذلك أقلق مضجعه وأربك فكره، فأوعز إلى كبار رجال دولته باغتياله لكنهم لم يجيبوه على ذلك، لما رأوا للإمام (عليه السلام) من كرامة وتقى وانقطاع إلى عبادة الله عزّ وجلّ، فخافوا من غضب الله ورسوله عليهم وزوال نعمتهم إن تعرضوا له بمكروه. استمر هارون في التفتيش عن مثل هؤلاء الأوغاد الذين يبيعون آخرتهم بدنياهم فلم يجد سوى السندي بن شاهك (26) الأثيم اللعين الذي لا يرجو لله وقارا، ولا يؤمن بالآخرة، فنقله إلى سجنه، وأمره بالتضييق عليه. فاستجاب الأثيم لذلك، حيث عامل الإمام بكل قسوة، والإمام صابر محتسب، قد كظم غيظه، وأوكل أمره إلى الله. إنها المحنة الكبرى قد مُنيَ بها الإمام (عليه السلام) حينما نقل إلى سجن السندي بن شاهك، الذي بالغ في أذاه والتضييق عليه، والتنكيل به في مأكله ومشربه وتكبيله بالقيود، كل ذلك ليرضي هارون ويتقرب منه من أجل دنياه. وسوف نعرض لهذا الدور الرهيب، آخر أدوار حياة الإمام الكاظم المظلوم، ونذكر بعض شؤونه الأخرى كأوقافه ووصاياه وغيرها من الأمور.
مكـان السجن
سجن (عليه السلام) في السجن المعروف بدار المسيّب الواقع قرب باب الكوفة (27) وفيه كانت وفاته (عليه السلام) (28).
التضييق على الإمـام (عليه السلام)
أمر هارون الطاغية جلاده السندي الباغي أن يضيّق على الإمام، وإن يقيّده بثلاثين رطلاً من الحديد، ويقفل الباب في وجهه، ولا يدعه يخرج إلا للوضوء. وامتثل السندي لأوامر معلمه، فعمل على التضييق على الإمام، ووكل على مراقبته مولاه بشاراً، وكان من أشد الناس بغضاً لآل أبي طالب ولكنه لم يلبث أن تغيّر حاله، وتاب إلى طريق الحق، لما رآه من كرامات الإمام (عليه السلام) ومعاجزه، وقام ببعض الخدمات له (29).
لم يرع السندي حرمة الإمام (عليه السلام) وتعرض لإساءته، فقد حدث أبو الأزهر ابن ناصح البرجي قال:
اجتمعت مع ابن السكّيت (30) في مسجد يقع بالقرب من دار السندي، فدارت بيننا مذاكرة في علم العربية، وكان في الجامع رجل لا نعرفه فالتفت إلينا قائلاً: (يا هؤلاء، أنتم إلى إقامة دينكم أحوج منكم إلى إقامة ألسنتكم).
وأخذ الرجل يدلي علينا بالأدلة الوافرة على ضرورة الإمامة، ثم قال:
ـ ليس بينكم، وبين إمام العصر غير هذا الجدار ـ وأشار إلى جدار السندي.
ـ لعلك تعني هذا المحبوس؟
ـ نعم. يقول أبو الأزهر فعرفنا الرجل من الشيعة، وإنه يذهب إلى الإمامة فقلنا له: قد سترنا عليك، وطلبنا منه أن يذهب عنا لئلا نبتلي بسببه فانبرى الرجل لنا وقال: (والله لا يفعلون ذلك أبداً، والله ما قلت لكم إلا بأمره، وإنه ليرانا ويسمع كلامنا، ولو شاء أن يكون ثالثنا لكان).
يقول أبو الأزهر: وفي أثناء الحديث دخل علينا رجل من باب المسجد تكاد العقول أن تذهب لهيبته ووقاره، فعلمنا أنه الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) فبادرنا قائلاً: أنا ذلك الرجل الذي حدثكم عني صاحبي، وفي الوقت أقبل السندي ومعه جماعة من شرطته فقال للإمام بغير حياء ولا خجل: (يا ويحك كم تخرج بسحرك وحيلتك من وراء الأبواب والأغلال فلو كنت هربت كان أحب إليّ من وقوفك ههنا أتريد يا موسى أن يقتلني الخليفة؟).
فقال له الإمام (عليه السلام) والتأثر باد عليه:
(كيف أهرب، وكرامتي ـ أي نيلي الشهادة ـ على أيديكم).
ثم أخذ بيد الإمام (عليه السلام) وأودعه السجن.
هكذا كانت حالة الإمام (عليه السلام) يساء إليه ويضيّق عليه وهو صابر محتسب قد كظم غيظه، وبث همومه وأشجانه إلى الله تعالى.
تفرّغ الإمـام (عليه السلام) للعبادة من جـديد
اعتاد الإمام (عليه السلام) على عذاب السجون من قبل الحكام الظالمين الطغاة، فأقبل على العبادة، يصوم في النهار، ويقوم في الليل، ويقضي أكثر أوقاته بالسجود والعبادة، لا يفتر لسانه عن ذكر الله. حتى أن أخت السندي لما رأت إقبال الإمام (عليه السلام) على الطاعة الخالصة والعبادة المستمرة أثر ذلك في نفسها، وأصبحت من الصالحات، وعند ذلك دبّت الرأفة في قلبها وأخذت تعطف على الإمام (عليه السلام) وتقوم بخدمته دون علم أخيها وكانت إذا نظرت إليه أرسلت الدموع مدراراً من عينيها وتقول: (خاب قوم تعرّضوا لهذا الرجل) (31).
اتصال العلماء بالإمام (عليه السلام)
الإمام الكاظم (عليه السلام) ذلك الينبوع الغزير والمنهل الذي لا ينضب ماؤه كان مقصد العلماء والرواة والمحدثين، اتصلوا به من طريق خفي فنهلوا من نمير علومه، من هؤلاء نذكر موسى بن إبراهيم المروزي، وقد سمح له السندي بذلك لأنه كان معلماً لولده، وقد ألف المروزي كتاباً ممّا سمعه من الإمام (عليه السلام). واتصل به هند بن الحجاج وغيره من قادة الفكر الإسلامي، كما دخل عليه من غلس الليل أبو يوسف ومحمد بن الحسن (32) وقد أراد اختباره في بعض المسائل المهمة ليطلعا على مدى علمه ولما استقر بهما المجلس جاء إلى الإمام (عليه السلام) أحد الموظفين في السجن فقال له:
إن نوبتي قد فرغت وأريد الانصراف، فإن كانت لك حاجة فأمرني أن آتيك بها غداً، فقال (عليه السلام):
ليس لي حاجة انصرف. فلما انصرف، التفت (عليه السلام) إلى أبي يوسف وصاحبيه فقال لهما:
(إني لأعجب من هذا الرجل يسألني أن أكلفه حاجة يأتيني بها غداً إذا جاء وهو ميت في هذه الليلة) فأمسكا عن سؤاله، وقاما، وقد استولى عليهما الذهول وجعل كل واحد منهما يقول لصاحبه:
أردنا أن نسأله عن الفرض، والسنة، فأخذ يتكلم معنا في علم الغيب!!
والله لنرسلن خلف الرجل من يبيت على باب داره لينظر ما ذا يكون من أمره؟ وأرسلا في الوقت شخصاً فجلس على باب دار الرجل يراقبه فلما استقر في مكانه سمع الصراخ والعويل قد على من الدار، فسأل عن الحادث فأخبر بأن الرجل قد توفى، فقام مبادراً وأخبرهما بالأمر، متعجباً من علم الإمام (عليه السلام). وقد روى هذه القصة العديد من رواة الأثر (33) وإن دلّت هذه الرواية على شيء فإنها تدل على علم الإمام بالمغيبات، وانكشاف الحجاب له، وهذا ما تعتقده الشيعة في الإمام فهو يرى بعين الله تعالى.
إن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) قد أخبروا بالملاحم والأمور الغيبية التي تحققت كلها، فهم بلا ريب ولا شك ورثة علم النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله) قد ألهمهم عزّ وجلّ جميع أنواع العلوم، وأطلعهم على خفايا الأمور.
__________
(1) سورة المنافقون: الآية 8.
(2) البحار، ج17، ص296.
(3) المناقب، ج2، ص385.
(4) البحار، ج17، ص296.
(5) البحار، ج11، ص298.
(6) راجع تنقيح المقال.
(7) البحار، ج11، ص298.
(8) المصدر نفسه.
(9) المناقب، ج2، ص379.
(10) النجاشي، ص352.
(11) البحار والفصول المهمة.
(12) تاريخ الطبري.
(13) تاريخ بغداد، ج3، ص185.
(14) عيون أخبار الرضا وبحار الأنوار.
(15) البحار، ج11، ص298.
(16) سورة غافر: الآية 60.
(17) كان مسؤولاً عن دار الرشيد وشرطته.
(18) مروج الذهب، ج3، ص265.
(19) جاء في المناقب، ج2، ص370 أن الإمام (عليه السلام) رفض الهدايا التي قدمت له.
(20) وفيات الأعيان، ج4، ص394، وشذرات الذهب، ج1، ص304.
(21) البحار، ج11، ص270.
(22) الوسائل باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
(23) البحار، ج11، ص269.
(24) مختصر تاريخ العرب، ص209.
(25) مقاتل الطالبيين، ص303-304.
(26) هو مولى المنصور الدوانيقي ولي دمشق من قبل موسى بن عيسى في خلافة هارون الرشيد، ذكر ذلك الصفدي في كتابه: (أمراء دمشق ص39)، ونظمه في أرجوزته التي ذكر فيها أمراء دمشق بقوله:
وكان قد ولي بها بن شاهك خلافة ولم يكن بمالك ،وذكر الجاحظ حديثاً عنه في (حياة الحيوان حينما ولي الشام يتعلق في تسويته بين القحطانية والعدنانية، وذكر الجهشياري في: (الوزراء والكتاب ص188)، أن السندي في أيام هارون كان يلي الجسرين في بغداد، وقد وكل بحراسة دور البرامكة لما أراد هارون النكبة بهم وجاء في (المصايد والمطارد ص7)، كان له ولدان: الحسين وإبراهيم. وله حفيد الشاعر المعروف والكاتب المشهور كشاجم كان من ألمع شخصيات عصره في أدبه وعلمه ومن المتفانين في حب آل محمد (عليهم السلام)، وجاء في (الكنى والألقاب ج3، ص93)، أن كشاجم كان من شعراء أهل البيت (عليهم السلام) المجاهدين وله في مدح آل محمد قصائد مشهورة. وذكر ابن شهر اشوب في (المناقب) أن الله سبحانه وتعالى انتقم من السندي في اليوم الذي توفي فيه الإمام (عليه السلام) فقد نفر فرسه به وألقاه في نهر دجلة فمات فيه.
(27) باب الكوفة: هو أحد الأبواب الأربعة الرئيسية لمدينة بغداد حينما بناه المنصور، وقد بنى على كل باب قبة مذهبة، وحولها مجالس ومرتفعات يجلس فيها فيشرف على كل ما يعمل به، وباب الكوفة هو الطريق الذي يسلك فيه إلى الحج، وكان باباً عظيماً لا يغلقه إلا جماعة من الناس، ولما غرقت بغداد في فيضان 330هـ هدمت طاقات باب الكوفة، وجاء ذلك في خارطة بغداد أن باب الكوفة تقع في قرية الوشاش الحديثة في محلة الكرخ. وقال بعض العراقيين أن المحل الذي سجن فيه الإمام معروف عند بعض الأوساط وهو أحد قصور آل الباججي.
(28) البحار، ج11، ص300.
(29) نفسه، ج11، ص305.
(30) هو أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الدورقي الأهوازي الإمامي النحوي اللغوي، كان ثقة جليلاً من عظماء الشيعة، ويعد من خواص الإماميين التقيين وكان حامل لواء علم العربية، والأدب، والشعر، له تصانيف كثيرة منها: تهذيب الألفاظ، إصلاح المنطق، قال ابن خلكان: قال بعض العلماء ما عبر على جسر بغداد كتاب من اللغة مثل (إصلاح المنطق) ولا شك إنه من الكتب النافعة الممتعة الجامعة لكثير من اللغة ولا نعرف في حجمه مثله في بابه، وقد عني به جماعة، واختصره الوزير المغربي، وهذبه الخطيب التبريزي، وقال ثعلب: أجمع أصحابنا أنه لم يكن يعد ابن الأعرابي أعلم باللغة من ابن السكّيت، قتله المتوكل في 5 رجب سنة 244هـ. وسبب قتله أنه قال له يوماً: أيهما أحب إليك ابناي هذان، أي المعتز والمؤيد، أم الحسن والحسين، فقال ابن السكّيت: والله أن قنبر خادم علي بن أبي طالب (عليه السلام) خير منك ومن ابنيك، فقال المتوكل للأتراك: سلّوا لسانه من قفاه ففعلوا ذلك فمات، ومن الغريب أنه قبل قتله بقليل قال:
يصاب الفتى من عثرة بلسانه وليس يصاب من عثرة الرجل
فعثرته في القول تذهب رأسه وعثرته في الرجل تبرأ عن مهل
جاء ذلك في الكنى والألقاب: ج1، ص303-304.
(31) النجاشي، ص319.
(32) محمد بن الحسن الشيباني، مولاهم الكوفي الفقيه، ولد بواسط، ونشأ بالكوفة، أخذ الفقه من أبي يوسف ثم من أبي حنيفة، وسمع مالك بن أنس، وأخذ عنه الشافعي وأبو عبيد وكان فقيهاً. النجوم الزاهرة، ج2، ص130، وأنباه الرواة، ج2، ص268، توفي سنة 183هـ هو والكسائي في يوم واحد، دفنهما هارون. رثاهما اليزيدي:
سيفنيك ما أفنى القرون التي مضت فكن مستعداً فالفناء عتيد
أصبت على قاضي القضاة محمد فأذرئت دمعي والفؤاد عميد
وقلت إذا ما الخطب أشكل من لنا بإيضاحه يوماً وأنت فقيد
وأوجعني موت الكسائي بعده وكادت بي أرض الفضاء تميد
(33) نور الأبصار، ص126-127، الاتحاف بحب الأشراف، ص57-58، البحار، ج11، ص251، وجاء فيه زيادة على ذلك أنهما رجعا إلى الإمام (عليه السلام) فقالا له: قد علمنا أنك أدركت العلم في الحلال والحرام فمن أين أدركت أمر هذا الرجل الموكل بك أن يموت في هذه الليلة؟ فقال (عليه السلام): من الباب الذي علّمه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) علي بن أبي طالب (عليه السلام) فلما ردّ عليهما بذلك بقيا حائرين لا يطيقان الجواب، وكذلك ذكره الأربلي في كشف الغمة، ص253.
|
|
"عادة ليلية" قد تكون المفتاح للوقاية من الخرف
|
|
|
|
|
ممتص الصدمات: طريقة عمله وأهميته وأبرز علامات تلفه
|
|
|
|
|
المجمع العلمي يعلن إطلاق المسابقة الجامعية الوطنية لأفضل بحث تخرّج حول القرآن الكريم
|
|
|