أقرأ أيضاً
التاريخ: 18-9-2016
224
التاريخ: 18-9-2016
180
التاريخ: 18-9-2016
222
|
ومن القواعد الفقهيّة ـ المعروفة المشهورة قاعدة « العقود تابعة للقصود » .
فنقول : الظاهر أنّ المراد من هذه الجملة هو أنّ العقود حيث أنّها من الأمور القلبيّة ، لأنّ العقد كما قال بعض اللغويين هو العهد المؤكّد ، والعهد أمر قلبي وإن كان له مبرز خارجي ، كما إنّهم في عقد البيعة كانوا يظهرونه ، بل ينشؤونه بوضع اليد في يده ، وكان أمارة تعهّده بأنّه سلم لمن سالمه وحرب لمن حاربه.
وفي الحقيقة العقد عبارة عن تعهّد الشخص مع آخر في أمر من الأمور ، سواء أكان ذلك الأمر من الأمور الماليّة كباب المعاوضات ، أو أمرا آخر كما في باب النكاح ، حيث أنّ الزوجة تتعهّد بأن تكون زوجة ، فإذا قبل الزوج تتمّ المعاهدة ويحصل ذلك الأمر في عالم الاعتبار. فتترتّب عليه آثاره ، فنتيجة العقد حصول ما تعاهدا وتعاقدا عليه لأن يترتّب عليه آثاره.
ومعلوم أنّ حصول هذا المعنى في عالم الاعتبار ـ سواء أكان اعتبارا شرعيّا أم كان من اعتبارات العقلاء وأمضاها الشارع ، أو لم يمضها كما في باب بيع الغرر ، فإنّ الشارع نهى عنه وإن كان العقلاء يقدمون عليه ويرتّبون عليه الآثار في بعض مراتب الغرر ـ لا يمكن إلاّ بأن يكون ذلك المعنى مقصودا للمتكلّم والمنشئ حال إنشائه وعقده بأيّ لفظ كان.
فكما أنّ صلاة الظهر والعصر مثلا لا توجد بصرف قراءة أربع ركعات من دون قصد كونها ظهرا أو عصرا وأمثال ذلك ، فكذلك عناوين المعاملات والمعاوضات لا تقع إلاّ بالقصد والإرادة. مثلا إذا قصد تمليك ماله وكان ذلك المال من الأعيان بعوض مالي فيحصل عنوان البيع ، وإلاّ لو لم يقصد التمليك أصلا ، أو قصد التمليك بلا عوض ، وكان تمليكا مجّانيّا فيكون هبة.
كما أنّه لو قصد تمليك منفعة لذلك العين بعوض يكون إجارة ، إن كانت المنفعة معلومة من حيث نوع المنفعة ومن حيث المدّة وكان العوض أيضا مالا معلوما.
نعم ثمَّ يقع الكلام من جهات آخر ، مثلا من أنّ اللفظ الذي ينشأ به هذا المعنى هل يلزم أن يكون عربيّا أم لا ، بل يقع بأيّ لغة كان ، إلاّ أن يدلّ دليل خارجي على أنّه يلزم أن يكون باللفظ العربي ، كما أنّ المشهور قالوا بذلك في خصوص باب النكاح ، بل ادّعى جماعة عليه الإجماع.
وأيضا هل يلزم أن يكون بصيغة الماضي ، أو يقع وإن كان بصيغة المضارع؟
وكذلك في سائر الشروط التي ذكروها في العقد.
وعلى كلّ حال تحقّق هذه العناوين تابع لقصدها ، وبدون القصد لا تقع ، وليس المراد أنّ كلّ ما يقصده ويريده يقع شرعا ، لأنّ ما قصده إن لم يكن من المعاملات العقلائيّة وأيضا ليس ممّا أحدثه الشارع ، أو كان من المعاملات العقلائيّة ولكن لم يمضها الشارع ، فجميع ذلك لا يقع شرعا قطعا ، بل المراد أنّ المعاملات العقلائيّة وعقودهم وعهودهم الدائرة فيما بينهم إن أمضاها الشارع ، فلا تقع إلاّ مع قصدها وإرادتها مع تحقّق سائر الشرائط ، من شرائط العقد ، ومن شرائط المتعاقدين ، ومن شرائط العوضين إن كانت المعاملة من المعاوضات.
هذا بالنسبة إلى نفس العناوين ، وأمّا بالنسبة إلى خصوصيّات المعاملة ، ككون الثمن من نقد البلد ، أو من نقد خاصّ ، وإن لم يكن من نقد البلد ، أو وإن كان من أيّ نقد من النقود ، أو وإن كان من العروض ، فجميع ذلك تابع لإرادة المتعاقدين وقصدهم، وكذلك الشرائط الضمنيّة ككون الثمن مساويا مع المبيع في البيع وغيره من الشرائط الضمنيّة ، غاية الأمر الدليل على القصد والإرادة في عالم الإثبات قد يكون بتصريح من الطرفين أو من أحدهما ، وقد يكون بالإطلاق ، وقد يكون بالانصراف.
وإلاّ ففي عالم الثبوت لا مناص إلاّ من إرادة هذه الخصوصيّات ، إذ بدون القصد والإرادة لا توجد ولا تتحقّق.
والسرّ في ذلك هو ما ذكرنا : من أنّ العقد هو العهد المؤكّد ، والعهد بدون قصد ما يتعاهد عليه لا يمكن ، وفي الحقيقة العقد ـ كما قلنا ـ ليس من باب الألفاظ ، بل من الأمور القلبيّة التي قد تسمّى بعقد القلب ، وإطلاقه على ألفاظ القبول والإيجاب مجاز ، من قبيل إطلاق لفظ الموضوع للمدلول على الدالّ ، أو من قبيل إطلاق لفظ الموضوع للمسبب على السبب ، وإن كان في تسمية المنشأ بتلك الألفاظ بالمسبب وتسمية تلك الألفاظ بالسبب مسامحة ، وذلك من جهة أنّ سبب المنشأ هو العاقد لا ألفاظ العقد ، أي ألفاظ القبول والإيجاب ، بل تسميتها بآلة الإنشاء أولى.
وخلاصة الكلام في المقام : أنّ القصد والإرادة له تمام المدخليّة في تحقّق العقود والمعاهدات وتحقّق خصوصيّاتها ، ولا معنى لتحقّق المعاهدة أو العهد بدون أن يقصد المعهود ، وكذلك ما تعاهدا عليه ، ولذلك أشكلنا على القائلين بالإباحة في بيع المعاطاة، وأنّه لا يمكن حصول الإباحة المجرّدة عن الملكيّة مع عدم قصد المتعاطيين لها ، لأنّ كلّ واحد من المتعاطيين يقصد تمليك ما يعطيه للآخر ، فكيف تقول لا يقع ما قصداه ويقع شيء آخر لم يقصداه؟ وهل هذا إلاّ أنّ ما قصد لم يقع ، وما وقع لم يقصد، وكأنّ هذه الكبرى بطلانها ضروري وجداني ، ومرجعه إلى أنّ الأمور القصديّة ـ كالتعظيم والتوهين والعقود ـ وقوعها وحصولها في وعائها ، سواء أكان عالم العين أو عالم الاعتبار ، تابع لقصدها.
كما قلنا في صلاة الظهر والعصر مثلا إنّهما لا تقعان ولا تحصلان في عالم العين إلاّ بقصد عنوانهما ولو كان بصورة إجماليّة ، فوقوع الأمر القصدي بدون القصد ولو إجمالا لا يمكن.
ولا شكّ في أنّ العقود من الأمور القصديّة ، ولذلك لا تقع من الغالط والهازل والسكران والنائم والغافل وأمثال ذلك ، وهذا معنى بطلان إحدى الجملتين من قولهم : إنّ ما وقع لم يقصد وما قصد لم يقع ، أي الجملة الأولى منه.
وأمّا الجملة الثانية ـ أي ما قصد لم يقع ـ فبطلانها مبنيّ على أن يكون متعلّق القصد من العقود أو الإيقاعات التي شرّعها الشارع إحداثا إن كانت ، أو إمضاء كما هو الغالب والأكثر إن لم يكن الجميع ، ويكون واجدا لجميع الأجزاء والشرائط المقرّرة شرعا لذلك العقد أو لذلك الإيقاع ، وإلاّ يمكن أن يقصد ولا يقع لفقد شرط أو لوجود مانع.
كما أنّه لو قصد الطلاق حقيقة وواقعا ولكن لم يكن في طهر غير المواقعة في حال حضور الزوج وعدم كونه مسافرا ، أو لم يكن بحضور شاهدين عدلين ، فلا يقع الطلاق. فمعنى أنّ العقود تابعة للقصود ، أي لا يقع العقد بغير قصد مضمونه وخصوصيّاته ، لا أنّ كلّ ما قصده يقع وإن لم يكن واجدا للشرائط المعتبرة في ذلك العقد أو في ذلك الإيقاع.
ثمَّ لا يخفى أنّ الشرائط الضمنيّة ـ التي يوجب تخلّفها الخيار ـ كلّها ممّا تعلّق القصد بها ، فلا يتوهّم أحد حصولها بدون القصد، مثلا من جملة الشرائط الضمنيّة التي يوجب تخلّفها الخيار هو تساوي الثمن والمثمن بحسب القيمة السوقيّة ، إلاّ فيما إذا كان التفاوت بمقدار يتسامح العرف فيها ولا يكون فاحشا.
ولا شكّ في أنّ البائع والمشتري إنّما يقدمان على المعاملة الكذائيّة باعتقاد أنّ في هذه المعاملة لا يرد خسارة على كلّ واحد منهما ، ولذلك لو علم البائع بأنّ المبيع يساوي أكثر من الثمن المذكور في المعاملة بمقدار لا يتسامح فيه يترك المعاملة ، إلاّ أن يكون له غرض آخر ، وهو خارج عن المفروض.
وكذلك المشتري لو علم بأنّ المبيع لا يساوي هذا الثمن يترك المعاملة ولا يشتري ، فالمتعاملان قصدهما المعاملة بين المالين المتساويين من حيث الماليّة والقيمة السوقيّة ، وإنّما المبادلة تكون لأغراض أخر من احتياج المشتري إلى المبيع لقضاء إحدى حوائجه من المأكل والملبس والمسكن وغير ذلك ، والبائع لتحصيل النفع بالنسبة إلى شرائه الأوّل وإمرار كسبه ، وإلاّ ليس غرضهما من هذه المعاملة أن يخدع كلّ واحد منهما طرفه الآخر.
فهذا الذي نسميه بالشرط الضمني ، الذي هو عبارة عن تساوي العوضين من حيث القيمة السوقيّة ، يكون مقصودا لهما من أوّل الأمر ، وإلاّ فكيف يمكن أن يقع في باب المعاملات من العقود والإيقاعات من دون قصد المنشئ وإرادته ورغما عليه.
وأمّا مسألة كون ضمان المبيع على البائع قبل قبض المشتري وعلى من ليس له الخيار في زمن خيار الأخر ، فإن قلنا بأنّه تعبدي ـ ومن جهة الروايات الواردة في هاتين المسألتين ـ فأجنبيّ عن هذه القاعدة ولا إشكال في البين أصلا.
وإن قلنا : أنّ الضمان في كلا الموردين يكون من باب اقتضاء القاعدة ، فربما يستشكل به على هذه القاعدة بأنّ الضمان في كلا الموردين لم يكن ممّا قصده المتعاملان ، فكيف صار الضمان على البائع لو وقع التلف قبل القبض ، أو لمن ليس له الخيار في زمن خيار الآخر؟
ولكن فيه ما ذكرنا هناك من بناء العرف والعقلاء على أنّ إنشاء العقود المعاوضيّة ، والمبادلة في عالم الاعتبار والتشريع لأجل الأخذ والإعطاء الخارجي ، بحيث لو لم يكن العوضان قابلين للأخذ والإعطاء خارجا ، تكون المعاملة والمبادلة في عالم التشريع لغوا وسفهيّا وعملا غير عقلائي ، فقابليّة الأخذ والإعطاء خارجا مأخوذة في حقيقة المعاملة والمعاوضة حدوثا وبقاء.
فإذا خرج عن هذه القابليّة بواسطة التلف يكون بقاء المعاملة لغوا بنظر العرف والعقلاء ، فتنحلّ عندهم ، ولذلك ليس المراد بالضمان هو الضمان الواقعي ، بل المراد انحلال العقد آنا مّا قبل التلف ورجوع كلّ واحد من العوضين إلى مالكه الأوّل ، فلا نقض على هذه القاعدة ، لأنّ بقاء المعاملة منوطا ببقاء قابليّة الأخذ والإعطاء خارجا مقصود من أوّل الأمر ، فالقصد تعلّق بانحلال العقد حين ذهاب تلك القابلية.
هذا بالنسبة إلى قاعدة « كلّ مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بائعه ».
وأمّا المسألة الثانية ، أي : « التلف في زمن الخيار من مال من لا خيار له » فلمّا ذكرنا في تلك القاعدة في المجلّد الثاني من هذا الكتاب من أنّ التلف بمنزلة الفسخ ، من جهة أنّ العقلاء يرون في موارد ثبوت الخيار أنّ حكمة جعل الخيار أنّ ذا الخيار يتأمّل وينظر في أنّه هل إبقاء هذه المعاملة من صلاحه أم لا ، بل حلّه وفسخه أصلح بحاله؟ فإذا وقع التلف على الذي انتقل إلى ذي الخيار ، فلا يبقى مجال للنظر والتأمل ، بل يكون التلف بمنزلة الفسخ ، فقهرا ينحلّ العقد ، فهذا المعنى مقصود للمتعاملين ويقع جميع ذلك على طبق قصد المتعاقدين.
الجهة الثانية
في مدرك هذه القاعدة :
وهو أمور :
الأوّل : الإجماع من جميع الفقهاء على أنّ العقود تابعة للقصود ، حتّى إنّهم يجعلونها كبرى كليّة مفروغا عنها في مقام الاستدلال على اعتبار القصد في العقود ، وأنّها لا تقع إلاّ على نحو ما قصد ، ولذلك قلنا في المعاطاة كيف يمكن أن تكون مفيدة للإباحة المجرّدة عن الملكيّة مع أنّ الإباحة المجرّدة ليست ممّا قصدها المتعاملان ، والذي قصدا بالتعاطي الخارجي هي الملكيّة ، فلا بدّ إمّا من كونها مفيدة للملكيّة ـ إن أمضاها الشارع ـ وإمّا من بطلانها وعدم إفادتها شيئا لا الملكيّة ولا الإباحة لعدم إمضائه لها.
وخلاصة الكلام : أنّ هذه الجملة كبرى كلّية مسلّمة عندهم بحيث لا ينكرها أحد منهم ، وهذا الاتّفاق والمسلّميّة عندهم من غير نكير من أحد منهم يكون دليلا قطعيّا على تلقّيهم هذه القضيّة من الإمام عليه السلام .
ولكن أنت خبير بأنّ هذه القضيّة ليست تعبّدية ، بل حكم وجدانيّ عقليّ ، وهو أنّ العقود والعهود تابعة لقصد المتعاقدين والمتعاهدين بعد الفراغ عن تشريع ذلك العقد ، وإلاّ لو لم يكن ممضى من قبل الشارع الأقدس لا توجد نتيجة ذلك العقد والمعاهدة في عالم التشريع ، سواء قصدا أو لم يقصدا ، فالقصد يؤثّر في وجود ما قصد بعد كون تلك المعاملة مشروعة من قبل الشارع الأقدس ، وإلاّ فالمعاملات الفاسدة في نظر الشارع الأقدس لا أثر للقصد وعدمه فيها ، لعدم كونها مؤثّرة على كلّ حال.
وخلاصة الكلام : أنّ ادّعاء الإجماع التعبّدي في مثل هذه المسألة الوجدانيّة لا يخلو عن غرابة.
الثاني : أنّ مقتضى الأصل الأوّلي هو عدم ترتّب الأثر على كلّ عقد وعهد ومعاملة ، وأيضا على كلّ إيقاع ، ولعلّ هذا هو المراد من قولهم : إنّ الأصل في المعاملات الفساد ، ولا مخرج عن هذا الأصل إلاّ أن يأتي دليل على الصحّة وترتيب الأثر.
فيقال : إنّ العقود والمعاملات المشروعة ـ وكذا الإيقاعات المشروعة ـ إذا كانت متعلّقة للقصد والإرادة ، بمعنى أنّ الآثار المترتّبة على ذلك العقد شرعا كانت مقصودة للعاقد ، وقبول الطرف بذلك النهج ، فالدليل الدالّ على صحّة ذلك العقد وتلك المعاملة يدلّ على لزوم ترتيب تلك الآثار.
وأمّا لو لم تكن مقصودة فيشكّ في لزوم ترتيب تلك الآثار ، فمقتضى الأصل عدم لزوم ترتيب تلك الآثار ، بل عدم جوازه.
وفيه : أنّ القصد والإرادة إن كان دخيلا في تحقّق عنوان تلك المعاملة ، فلا يشمله دليل الإمضاء ، وذلك لعدم تحقّق موضوعه ، وهذا من أوضح الواضحات ، ولا يحتاج إلى إقامة البرهان عليه. وإن لم يكن دخيلا فيه فأدلّة الإمضاء تشمله ، ويجب ترتيب الأثر على ذلك العقد أو الإيقاع ، سواء قصد أو لم يقصد.
الثالث : أنّ العقد الذي هو عبارة عن العهد المؤكّد ـ كما ذكره اللغويّون ـ من الأمور القلبيّة ، والصيغة بأيّ لفظ كان آلة لإنشاء ذلك المعنى القلبي في عالم الاعتبار ، مثلا عقد النكاح عبارة عن أنّ المرأة تتعهّد في قلبها أن تكون زوجة لفلان بمهر كذا وبشرط كذا ، إن كان لها في هذا الأمر شرط أو شروط ، ثمَّ هي أو وكيلها تنشأ ذلك الأمر القلبي ـ أي كونها زوجة لفلان بمهر كذا وشرط كذا ـ في عالم الاعتبار بأيّ لفظ كان ، أو بألفاظ مخصوصة حسب الجعل الشرعي ، وأنّه اعتبر لفظ خاصّ أو بلغة مخصوصة كما ادّعى الإجماع في عقد النكاح أنّه يجب أن يكون باللغة العربيّة.
فإذا كان الأمر كذلك فيتّضح وجه كون العقود تابعة للقصود ، لأنّه لو كان المراد من العقد في هذه الجملة هو ذلك الأمر القلبي ـ كما عرّفه اللغويّون بأنّه العهد المؤكّد ـ فهو عين القصد المتعلّق بأمر ، كزوجيّتها لفلان ، أو ملكيّة ماله الفلاني لفلان بعوض كذا أو مجّانا.
وبعبارة أخرى : حقيقة العقد عبارة عن الالتزام بأمر لشخص أو أشخاص إمّا في مقابل أمر وشيء من طرفه ، أو بدون مقابل، كعقد البيعة أو عقد الهبة ، وهذا المعنى هو عين القصد المتعلّق بذلك الأمر. وبناء على هذا يكون المراد من هذه القضيّة ـ أي العقود تابعة للقصود ـ أعني : التعهّد بأمر مع الخصوصيّات المعتبرة شرعا أو عرفا في ذلك الأمر تابعة لقصده المتعلّق بذلك الأمر حال الإنشاء ، فإن لم يقصد خصوصيّة من قيد أو شرط حال الإنشاء ، فليس عقده متخصّصا بتلك الخصوصية ، ولا مشروطا بذلك الشرط.
ونتيجة ذلك عدم تحقّق التزامه وتعهّده بذلك الشيء الذي لم يقصده ، ودليل صحة العقد أو وجوب الوفاء بالعقود لا يشمل تلك الخصوصية ، لأنّ مفاد هذا الدليل هو وجوب الوفاء بما عقد عليه وتعهّد به ، والمفروض أنّ هذه الخصوصيّة ليست ممّا تعلّق به قصده ، أي ليست ممّا تعهّد والتزم به.
وإن شئت قلت : إنّ دليل {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] أو « المؤمنون عند شروطهم » (1) مفادهما هو وجوب العمل بما التزم به تكليفا ، أو نفوذ ما التزم به عليه وضعا ، وعلى أيّ واحد من الوجهين لا يبقى موضوع لهما بعد عدم قصد العاقد لتلك الخصوصيّة ، لا مستقلا ولا في ضمن العقد.
وأمّا لو كان المراد من العقد في هذه القضيّة هو الإيجاب والقبول ، كما أنّهم يطلقون هذه الكلمة عليهما ، فيقولون مثلا لكلمة « بعت » من البائع و « اشتريت » ـ أو « قبلت » من المشتري عقد البيع ، فلا بدّ أن يكون المراد حينئذ بالعقد المعنى المنشئ بهذه الألفاظ ، أي تمليك المبيع للمشتري ، وتملك الثمن للبائع ، فيكون المراد من هذه القضية ـ بناء على هذا المعنى ـ أنّ وقوع البيع مثلا ـ أي : التمليك والتملك المذكورين ـ تابع لقصد البائع والمشتري.
وهكذا الأمر في سائر العقود والمعاملات ، لعدم كون نفس هذه الألفاظ تابعة للقصود يقينا إلاّ بمعنى آخر غير مربوط بما نحن فيه ، وهو تبعيّة الوجود اللفظي للوجود الذهني ، فكان المتكلّم بكلام يجعل ما هو موجودا ذهنيّا موجودا خارجيّا لفظيّا ، فيكون المراد أنّ ما قصده يقع وما لم يقصده لم يقع.
وهذا أيضا يرجع إلى أنّ مفاد {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] وأدلّة صحّة المعاملات ـ مثل قوله تعالى {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] وقوله تعالى { وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128] وقوله تعالى {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] وأمثال ذلك من الأدلّة على صحّة المعاملات ومشروعيّتها ـ هو وقوع المنشئات شرعا ولزوم ترتيب آثارها عليها طبق قصد المتعاقدين والتزامها ، فلو قصدا صرف هذه الأمور من دون ملاحظة خصوصيّة فيها ـ من قيد أو شرط ـ تقع نفس هذه الأمور من دون أيّ خصوصيّة فيها.
وأمّا لو قصدا مع خصوصيّة من قيد أو شرط تقع بتلك الخصوصيّة. نعم إثبات أنّ قصدهما أو أحدهما تعلّق بالمعاملة الفلانيّة بتلك الخصوصيّة يحتاج إلى دليل في مقام الإثبات ، من تقييد الألفاظ التي تستعمل في مقام الإنشاء أو انصرافها ، وإلاّ ففي مقام الإثبات يتمسّك بإطلاق العقد لنفي الخصوصيّة المحتملة.
وربما يثبت بإطلاق العقد خصوصيّة في الثمن أو المثمن ، وذلك فيما إذا كان عدم تلك الخصوصيّة يحتاج إلى البيان ، وذلك كانصراف الثمن إلى نقد البلد ، فلو كان الدرهم أو الدينار في البلد غير الدرهم والدينار في غير البلد ، سواء أكان من حيث الوزن أو كان من حيث الجودة والرداءة من جهة كونهما مغشوشين وغير مغشوشين ، فينصرف إلى ما في البلد ، ولو كان المراد غيرهما يحتاج إلى البيان ، وهكذا في ناحية المثمن ، فلو كان وزن الحقّة أو الصاع أو الرطل في البلدان الأخر غير ما في البلد ، فالإطلاق يثبت به وزن البلد ، وكلّ ذلك لأنّ غير ما في البلد لو كان مرادا يحتاج إلى البيان.
وحاصل ما ذكرنا : أنّ وقوع المسبّب والمنشأ في عالم الاعتبار التشريعي تابع لما قصده المتعاقدان في الإطلاق والتقييد والاشتراط وعدمه ، وكذلك بالنسبة إلى جميع الخصوصيّات المحتملة.
ثمَّ إنّه قد يستدلّ لهذه القاعدة بأمور لا ينبغي أن يذكر أو يسطر ، كقوله عليه السلام : « إنّما الأعمال بالنيات » (2) ، وقوله عليه السلام : « لكلّ امرء ما نوى » (3).
فعدم التعرّض لها أولى.
في بيان موارد تطبيق هذه القاعدة :
وقبل التكلّم فيها يجب التنبيه على أمور :
الأوّل : هو أنّ تبعيّة العقود للقصود أمر واقعي وفي مقام الثبوت ، وأمّا في مقام الإثبات فيؤخذ بظواهر الألفاظ ، ولا يسمع ادّعاء إرادة خلاف ظواهر الألفاظ التي استعملها في مقام الإنشاء من إطلاق أو تقييد ، أو تجوّز أو إضمار أو حذف ، وأمثال ذلك.
الثاني : أنّ صرف الإرادة والقصد لا أثر لهما ما لم يكن على طبقهما إنشاء وذلك من جهة أنّه من أوضح الواضحات أنّ إرادة تمليك ماله لزيد مثلا بعوض أو بلا عوض لا يلزمه بشيء ، لأنّ الذي يجب هو الوفاء بالعقد ، وصرف الإرادة والقصد ليس بعقد وإن قلنا إنّ العقد هو العهد المؤكّد وأنّه أمر قلبي ، ولكن لا يسمّى بالعقد إلاّ بعد وجود مبرز لذلك التعهّد القلبي ، كالإنشاء باللفظ أو بالكتابة ، أو وضع اليد على اليد كما في البيعة وأحيانا في بعض المعاملات كالبيع ، ولذلك يسمّونه بالصفقة، فالعقد هو العهد المبرز بأحد هذه الأمور ، أو بغيرها ممّا تعارف بينهم.
الثالث : أنّ الأحكام والآثار المترتّبة على المنشأ شرعا ليست تابعة لقصدها ، بل تترتّب عليه ولو قصد عدمها ، فإذا زوّجت نفسها من شخص ، يجب عليها التمكين وإن قصدت عدمها ، وكذلك الزوج يجب عليها نفقتها وإن قصد عدمها حال القبول.
وأمّا لو اشترطا ـ أو أحدهما ـ مثل هذه الشروط في متن العقد ، فينظر هل إنّ هذا الشرط من الشروط الصحيحة أو من الفاسدة؟ فإن كان من الصحيحة يجب العمل به ، وإن كان من الفاسدة ، فيدخل في مسألة أنّ الشرط الفاسد هل هو مفسد للعقد أم لا؟ وعدم تبعيّة هذه الأمور من جهة أنّها أحكام شرعيّة موضوعها تحقّق المنشأ ، وليست هي من المعاهدات لا مستقلا ولا أنّها من أجزائها ، فلا يصحّ النقض على هذه القاعدة بلزوم ترتّب هذه الآثار وإن لم يقصدها المتعاقدان.
وكذلك الأمر بالنسبة إلى بعض الخيارات ، فإنّها تثبت مع عدم قصد المتعاقدين ، مثلا خيار الحيوان حكم شرعي مترتّب على المعاملة التي تكون أحد العوضين فيها حيوانا ، أو في خصوص ما إذا كان المبيع حيوانا ـ على القولين في المسألة ـ وإن لم يقصد الخيار لطرفه من انتقل عنه الحيوان.
الرابع : أنّ صحّة عقد المكره على تقدير لحوقه الرضا ليس نقضا على هذه القاعدة ، وذلك من جهة أنّ المكره قاصد للمعنى ، وتمليك داره لزيد مثلا بعد إكراهه على بيعها منه ، والذي يكون عقد المكره فاقدا له هو طيب نفسه بهذه المعاملة ، لا أنّها ليست مقصودة له.
نعم ذكر العلاّمة (4) والشهيدان (5) أنّ المكره قاصد إلى اللفظ لا إلى المعنى ، لكن الظاهر أنّ المكره ليس كذلك ، بل المكره يقصد اللفظ فانيا في المعنى ، وهذا هو معنى استعمال اللفظ ، غاية الأمر يكون هذا الاستعمال ناشئا عن الإكراه لا عن طيب النفس ، بل لدفع الضرر المتوعّد عليه ، فليس من قبيل الغالط والهازل.
أما الغالط فيريد شيئا ، ويستعمل لفظا آخر الذي يفيد معنى آخر غير ما أراد غلطا ، وأمّا الهازل وإن كان يستعمل اللفظ في معناه ، ولكن ليس قصده وقوع مضمون العقد في عالم الاعتبار التشريعي ، بل ينشأ بداعي الهزل والمزاح ، مثل التعارف وأنّه إذا يطلب منه أن ينزل عليه ضيفا وقصده من هذا الطلب ليس واقعا وحقيقة أنّه ينزل عليه ويكون ضيفا عنده ، بل صرف إنشاء بداعي التعارف وإظهار مودّته واحترامه له ، بخلاف ما إذا كان مكرها على هذا الطلب ، كما إذا أوعده المكره بضرر لو لم يضفه ، فلو طلب المكره ـ بالفتح ـ في هذه الصورة أن ينزل عليه ضيفا ، يكون طلبه طلبا حقيقيّا غاية الأمر أنّه ليس عن طيب النفس ، بل يكون للتخلّص عن الضرر المتوعّد عليه.
فإذا كان الأمر كذلك ، ففي عقد المكره جميع ما يعتبر في صحّة العقد موجود عدا طيب النفس ، فإذا لحقه الرضا وحصل طيب النفس يتمّ جميع الشرائط ويؤثّر أثره ، ولا يكون نقضا على هذه القاعدة أصلا.
إذا عرفت هذه الأمور فنقول : إنّه إن قصد خصوصيّة في أحد العوضين أو في كليهما ، أو في أحد المتعاقدين أو في كليهما ، ولم يكن طبقها إنشاء ، أو أنشأ أمرا ولم يتعلّق به قصد ، فذلك لا يوجد في عالم الاعتبار التشريعي ، بل لا بدّ من اجتماع كلا الأمرين : القصد والإنشاء بعد الفراغ عن مشروعيّتها.
فمن الموارد الواضحة لهذه القاعدة ما ذكره شيخنا الأعظم في بيع المعاطاة ـ قبال قول القائلين بالإباحة ـ : أنّه لا شبهة في أنّ المتعاملين لم يقصدا الإباحة المجرّدة ، وإنّما قصدهما تمليك العوضين ، كلّ واحد منهما ما هو ملكه للآخر عوض ما يتملكه منه ، فكيف يمكن أن لا يقع ما قصداه ويقع ما لم يقصداه؟ (6)
وما قيل في توجيه هذا الأمر ـ أي :
تحقّق الإباحة بالتعاطي الخارجي ، مع قصد المتعاملين تمليك ماله للآخر بعوض تملّك مال ذلك الآخر ـ من أنّ هذه الدعوى مركّبة من أمرين :
أحدهما : عدم حصول الملك لكلّ واحد منهما لما أخذه بالمعاطاة.
ثانيهما : حصول إباحة جميع التصرّفات فيما أخذه حتّى التصرّفات المتوقّفة على الملك.
أمّا الأوّل ـ أي : عدم حصول الملك لكلّ واحد منهما وإن قصداه ـ فلأنّ صرف قصد التمليك ليس من الأسباب الملكيّة ، بل لا بدّ من إنشائه في عالم الاعتبار بلفظ يكون ظاهرا في التمليك ، وليس صرف الإعطاء والأخذ سببا للتمليك والتملّك.
وبعبارة أخرى : يكون داخلا تحت أحد عناوين الملكيّة ، من بيع أو صلح أو هبة أو غير ذلك.
وأمّا الثاني ـ أي : حصول الإباحة مع عدم قصدهما لها ـ فلأنّ الإباحة المجرّدة عن الملكيّة من العناوين الثانويّة التي تترتّب على الفعل الصادر عنه بعنوانه الأوّليّ قهرا وإن لم يقصدها ، بل وإن قصد خلافها وعدمها ، وذلك كما قيل في مسألة الرجوع إلى المرأة المطلّقة رجعيّة إنّ الزوج لو وطأها في أيّام عدّتها يحصل الرجوع قهرا وإن لم يقصده ، بل وإن قصد عدم الرجوع. كما إذا قصد بذلك الوطي الزناء لا الرجوع ، فالرجوع الذي هو عنوان ثانوي للوطئ يترتّب عليه قهرا وإن قصد به الزناء.
أقول : وكلا التوجيهين باطل :
أمّا الأوّل : فلأنّ المعاطاة ـ أي : الإعطاء بقصد كونه عوضا عمّا يعطيه الآخر ـ بيع عرفا ، بل البيع عند العرف غالبا بهذا الشكل ـ أي بالتعاطي ـ لا بالصيغة والقول ، فيكون من الأسباب المملكة.
وأمّا الثاني ـ أي : كون الإباحة من العناوين الثانويّة التي تترتّب على العنوان الأوّلي قهرا ، بمعنى أنّ تسليط المالك غيره على ماله بإعطائه له تترتّب عليه الإباحة قهرا وإن لم يقصدها ، بل وإن قصد عدمها ـ دعوى بلا بيّنة ولا برهان ، خصوصا فيما إذا كان التسليط بعنوان كونه عوضا عن المسمّى.
نعم لو كان التسليط على ماله مجّانا وبلا عوض ، لكان من الممكن أنّ يترتّب عليه الإباحة قهرا ، فقياس المقام على وطئ المطلقة رجعيّة ـ في حصول الرجوع قهرا وإن قصد بذلك الوطي الزنا ـ في غير محلّه ، مع كلام في أصل المقيس عليه ، وأنّه ـ أي :
الرجوع ـ هل هو من العناوين القصديّة التي لا تحصل إلاّ مع قصدها ، أم من العناوين غير القصديّة التي تحصل مع عدم قصدها ، بل وحتّى مع قصد عدمها كالايلام بالنسبة إلى الضرب الشديد الموجع؟
وعلى كلّ حال ليس المقام مقام تحقيق مسألة المعاطاة ، وكفى في عدم كون مطلق تسليط المالك غيره على ماله مفيدا للإباحة المجرّدة ، اتّفاقهم على أنّ المقبوض بالعقد الفاسد يجري مجرى الغصب.
نعم هاهنا يرد إشكال آخر ، وهو أنّ القول بحصول الإباحة مع قصدهما التمليك دون الإباحة ليس من موارد نقض هذه القاعدة ، كي يقال بهذه القاعدة بحصول الملكيّة لكلّ واحد من المتعاطيين ، ولا يلزم عدم تبعيّة العقود للقصود ، وذلك من جهة أنّ المعاطاة ليست بعقد ، لأنّ صرف الأخذ والإعطاء ـ وإن كان بقصد كونه ملكا للآخر عوض تملّكه من الآخر ما يعطيه ، أي ما سمّياه حين المبادلة بينهما ـ ليس عقدا عند العرف والعقلاء ، بل العقلاء والعرف لا يطلقون العقد إلاّ على التعهّد على أمر يكون لذلك التعهّد والالتزام القلبي مبرزا من لفظ يكون صريحا في إنشاء ذلك العنوان المعاملي.
ولذلك يقولون لألفاظ الإيجاب والقبول ـ التي ينشأ بها تمليك عين بعوض مالي ـ عقد البيع ، وهكذا الأمر في سائر المعاملات، كعقد الإجارة والمضاربة والمزارعة والمساقاة وغيرها ، أو كتابة بناء على صدق العقد بالكتابة ، أو بالصفقة أو بوضع اليد في يده كما في عقد البيعة.
وأمّا الأخذ والإعطاء خارجا فليس من هذا القبيل ، لأنّه يمكن أن يكون بدون الالتزام والتعهّد بأن يكون ملكا للآخر عوض تملّكه عنه.
ومن موارد هذه القاعدة هو أنّه لو نسي ذكر الأجل والمدّة في عقد الانقطاع ، فقد يقال ببطلان ذلك العقد ، وقال بعض آخر : بأنّه ينقلب دائما ، فيستشكل عليهم بأنّ العقود تابعة للقصود ، فكيف يمكن أن يقع الدوام الذي لم يكن مقصودا ولا يقع ما هو المقصود وهو المتعة والانقطاع؟ فمقتضى هذه القاعدة هو بطلان هذا العقد ، أي عقد الانقطاع والمتعة الذي نسي فيه ذكر الأجل.
وذلك من جهة أنّ الدوام غير مقصود ، فلا يقع ؛ لأنّ العقود تابعة للقصود ، وأمّا الانقطاع وإن كان مقصودا ولكن قد عرفت أنّ صرف القصد لا يترتّب عليه أثر وثمرة ما لم يبلغ إلى مرتبة الإنشاء ، فيحتاج إلى اجتماع أمرين : القصد والإنشاء على طبقه ، وكلّ واحد منهما منفردا لا أثر له.
ونتيجة هذا عدم وقوع كليهما ، أي عدم وقوع الدوام والانقطاع جميعا ، لنقصان كلّ واحد منهما من جهة ، وعدم اجتماع الأمرين في كلّ واحد منهما. أمّا الانقطاع لعدم بلوغه إلى مرتبة الإنشاء لعدم ذكر الأجل لنسيانه ، وأمّا الدوام فلعدم كونه مقصودا.
وإن شئت قلت : إنّ المقصود هو المتعة والمنشأ هو الدوام ، فما هو المقصود ليس بمنشإ ، وما هو المنشأ ليس بمقصود ، ومع ذلك فالمشهور يقولون بأنّه ينعقد دائما ، بل ادّعى بعضهم عليه الإجماع.
ويمكن توجيه كلامهم بحيث لا يكون مخالفا لهذه القاعدة ، بأن يقال : إنّ المتعة والدوام ليستا من نوعين وحقيقتين مختلفتين ، بل كلاهما عبارة عن العلاقة الخاصّة ، والارتباط المخصوص بين الرجل والمرأة في عالم الاعتبار التشريعي يعبّر عنها بالزوجيّة ، والزوجيّة من الأحكام الوضعيّة التي جعلها الشارع في عالم الاعتبار التشريعي مثل الطهارة والنجاسة ، وهي من الاعتبارات القابلة للجعل ابتداء واستقلالا.
فكما أنّ للطهارة والنجاسة موضوعات في الشرع ، كذلك للزوجيّة أيضا موضوعات ، والحكم الكلّي المجعول من قبل الشارع وهو أنّ كلّ امرأة خلية إذا زوّجت نفسها بنفسها ، أو بتوسّط وكيلها ، أو وليّها بالشرائط المقرّرة شرعا ـ أي شرائط العقد من حيث المادّة والصورة ، وشرائط المتعاقدين أي الزوج والزوجة والمهر ، والأجل إن كان عقد الانقطاع ـ فهي زوجة، سواء أكانت زوجيّتها دائمة أو موقّتة ، وهي المتعة.
فلا فرق في الزوجيّة بين أن تكون دائمة أو منقطعة ، والزوجيّة بعد اعتبارها لا ترفع إلاّ برافع ، وإلاّ فهي بحسب نفسها ليس لها أمد ونهاية.
نعم هي كسائر الأحكام الوضعيّة والاعتبارات الشرعيّة تنتفي وتنعدم بانعدام موضوعها أو بتعيين الأجل والأمد لها من أوّل جعلها ، فالزوجيّة الدائمة ليست إلاّ إنشاء نفس الزوجيّة من دون احتياجها إلى شيء آخر ، وليست حقيقتها مركّبة من هذا الاعتبار وعدم ذكر الأجل ، بمعنى أنّها ليست بشرط لا ، كي تكون مركّبة من أمر وجودي وأمر عدمي ، أي العلاقة والارتباط الاعتباري وعدم كونها موقّتة ، كما توهّم هذا التركيب في الوجوب.
فقالوا بأنّه عبارة عن طلب الفعل مع المنع من الترك ، وبيّنّا خطأهم في كتابنا « منتهى الأصول » (7) وقلنا إنّ الوجوب عبارة عن نفس طلب الشيء من دون أيّ قيد عدمي أو وجودي آخر ، غاية الأمر بعد طلب الشيء إذا صدر إجازة الترك من الشارع فيقال : إنّه مستحب ، وإلاّ فطبع نفس الطلب يقتضي الوجوب وعدم جواز الترك بحكم العقل بلزوم إطاعة المولى ، فلا يحتاج الوجوب إلى مئونة زائدة على نفس الطلب ، والذي يحتاج إلى مئونة زائدة هو الاستحباب.
ولذلك قلنا في الأصول إنّ إطلاق الصيغة يقتضي الوجوب ، وإلاّ لو كان راضيا بالترك كان عليه البيان ، وما نحن فيه من ذلك القبيل عينا ، أي : الزوجيّة الدائميّة لا تحتاج إلاّ الى إنشائها من قبل من له أهليّة ذلك ، من دون احتياجها إلى مئونة زائدة على ذلك ، من قيد عدم كونها موقّتة ، بخلاف الزوجيّة الموقّتة التي يقال لها المتعة والمنقطعة ، فإنّها تحتاج إلى ذكر الأجل ، فإذا لم يذكر الأجل لم تقع الزوجيّة الموقّتة في مقام الإنشاء ، وإرادتها بدون الإنشاء قلنا إنّها لا أثر لها.
فعدم وقوع الزوجيّة الموقّتة يكون مقتضى القاعدة ، وأمّا وقوع الدائمة فلأنّه قصد الزوجيّة على الفرض ، غاية الأمر كان له قصد آخر ، وهو أن تكون موقّتة لكن إنشاء وقع على طبق أحد القصدين ، أي قصده لأصل الزوجيّة ، دون قصده الآخر أي كونها موقّتة ، فذلك القصد الآخر الذي لم يقع الإنشاء على طبقه يبقى لغوا وبلا أثر أصلا.
فليس فتوى المشهور بحصول الزوجيّة الدائمة مخالفا لهذه القاعدة.
وإن شئت قلت : إنّ إطلاق عقد النكاح يقتضي كون الزوجيّة المنشأة دائميّة.
هذا ، مضافا إلى ورود روايات في هذه المسألة لعلّها تكون مستندهم في هذه الفتوى :
منها : ما رواه ابن بكير قال : قال أبو عبد الله عليه السلام في حديث : « إن سمّي الأجل فهو متعة ، وإن لم يسمّ الأجل فهو نكاح بات » (8).
ومنها : ما رواه أبان بن تغلب في حديث صيغة المتعة أنّه قال لأبي عبد الله عليه السلام : فإنّي أستحي أن أذكر شرط الأيّام ، قال عليه السلام : « هو أضرّ عليك » قلت : وكيف؟ قال عليه السلام : « لأنّك إن لم تشرط كان تزويج مقام ولزمتك النفقة في العدّة ، وكانت وارثا ، ولم تقدر على أن تطلّقها إلاّ طلاق السنّة » (9).
ومنها : أيضا ما رواه في التهذيب عن الكافي مثله (10).
ومنها : ما رواه هشام بن سالم قال : قلت لأبي عبد الله عليه السلام : أتزوّج المرأة متعة مرّة مبهمة؟ قال : فقال عليه السلام : « ذاك أشدّ عليك ترثها وترثك ، ولا يجوز لك أن تطلّقها إلاّ على طهر وشاهدين » قلت : أصلحك الله فكيف أتزوّجها؟ قال : « أيّاما معدودة بشيء مسمّى مقدار ما تراضيتم به ، فإذا مضت أيّامها كان طلاقها في شرطها ، ولا نفقة ولا عدّة لها عليك » (11).
ومن الموارد التي يستشكل على هذه القاعدة مورد تخلّف الوصف حيث قالوا بصحّة المعاملة ، غاية الأمر إنّ تخلّف الوصف ـ مثل تخلّف الشرط ـ يوجب الخيار.
فلو قال : بعتك هذا العبد الكاتب ، فظهر أنّه ليس بكاتب ، فما قصداه هو العبد الكاتب ، وما هو الموجود ووقع على فرض صحّة هذه المعاملة غير ما هو المقصود.
وذلك من جهة أنّ واجد قيد غير فاقدة ، فما قصد لم يقع وما وقع لم يقصد ، فليست العقود تابعة للقصود.
ولكن يمكن أن يقال : إنّ في مورد تخلّف الوصف ـ الذي هو عبارة عن بيع عين شخصيّة على أن تكون متّصفة بصفة كذا ـ أيضا التزامين وقصدين : أحدهما : تعلّق بنقل هذه العين الخارجيّة.
والثاني : تعلّق بكونها متّصفة بصفة كذا ، غاية الأمر إنّ أحد الالتزامين مربوط بالآخر.
وليس هاهنا التزامين مستقلّين ، بحيث يكون أحدهما أجنبيّا عن الآخر ، بمعنى أنّه باع هذه العين والتزم بصيرورتها ملكا للمشتري مقابل العوض المسمّى والتزم أيضا كونها متّصفة بكذا والتزم المشتري بانتقالها إليه مقابل ذلك العوض الذي سمّياه، ولكن كان هذا الالتزام منه في ظرف التزام البائع بكونها متّصفة بكذا ، فالتزامه مربوط بالتزام البائع بكونها متّصفة بصفة كذا.
فإذا لم يكن المبيع كذلك وكان فاقدا لتلك الصفة ، فهو ـ أي : المشتري مثلا ـ بالخيار في أن يقبل هذا الانتقال ويبرم العقد ويرفع اليد عن تخلّف ذلك الوصف ، أو يفسخ ويحلّ العقد من جهة عدم التزامه بقبول الفاقد للوصف مقابل ذلك العوض المسمّى كي يلزمه {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] بلزوم القبول وعدم جواز الحلّ والفسخ ، فما وقع
ـ أي : انتقال هذه العين التي كانت فاقدة لذلك الوصف ـ كان مقصودا ، غاية الأمر كان هناك قصد آخر ووقع أيضا تحت الإنشاء ، ولكن حيث ليس له مصداق فذلك المقصود لم يقع.
وبعبارة أخرى : ما وقع ليس تمام مقصوده ، لا أنّه وقع غير ما هو مقصوده ، بل الصحيح أنّ ما وقع تمام ما قصد لكن بأحد القصدين ، والقصد الآخر ومتعلّقه لم يقع أصلا ، لعدمه وعدم إمكان وقوع المعاملة على الصفة الشخصيّة المعدومة.
وبعبارة أوضح : حال تخلّف الوصف حال تخلّف الشرط ، فكما أنّ في مورد تخلّف الشرط يقولون بصحّة المعاملة ـ وليس من قبيل ما وقع لم يقصد ، بل يكون ما وقع مقصودا ، لأنّ الشرط التزام آخر في ضمن الالتزام بأصل المعاملة ولذلك يوجب تخلّفه الخيار ـ فليكن تخلّف الوصف أيضا هكذا ، فإنّه أيضا التزام في التزام.
والحمد لله أوّلاً وآخراً ، وظاهراً وباطناً.
_________________
(*) « الحق المبين » ج 1 ، ص 18 ، « عوائد الأيّام » ص 52 ، « عناوين الأصول » عنوان 30 ، « خزائن الأحكام » العدد 11 ، « مستقصى مدارك القواعد » ص 9 ، « دلائل السداد وقواعد فقه واجتهاد » ص 35 ، « القواعد » ص 179 ، « القواعد الفقهية » ( مكارم الشيرازي ) ج 4 ، ص 369.
(1) « عوالي اللئالى » ج 3 ، ص 217 ، ح 77 ، « مستدرك الوسائل » ج 13 ، ص 310 ، أبواب الخيار ، باب 5 ، ح 7.
(2) و (3) « الأمالي » للطوسي ، ج 2 ، ص 231 ، « مصباح الشريعة » ص 39 ، « دعائم الإسلام » ج 1 ، ص 156 ، « بحار الأنوار » ج 70 ، ص 210 ، ح 32 و 38 ، « وسائل الشيعة » ج 1 ، ص 34 ، أبواب مقدّمة العبادات ، باب 5 ، ح 10.
(4) « نهاية الأحكام » ج 2 ، ص 456.
(5) « الدروس » ج 3 ، ص 192 ، « المسالك » ج 3 ، ص 156 ، « الروضة البهيّة » ج 3 ، ص 126.
(6) « المكاسب » ص 85.
(7) « منتهى الأصول » ج 1 ، ص 112.
(8) « الكافي » ج 5 ، ص 456 ، باب في أنّه يحتاج أن يعيد عليها الشرط. ، ح 1 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 267 ، ح 1134 ، باب تفصيل أحكام النكاح ، ح 59 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 469 ، أبواب المتعة ، باب 20 ، ح 1.
(9) « الكافي » ج 5 ، ص 455 ، باب شروط المتعة ، ح 3 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 470 ، أبواب المتعة ، باب 20 ، ح 2.
(10) « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 265 ، ح 1145 ، باب تفصيل أحكام النكاح ، ح 70 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 150 ، ح 551 ، باب أنّه إذا شرط ثبوت الميراث. ، ح 6 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 470 ، أبواب المتعة ، باب 20 ، ذيل ح 2.
(11) « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 267 ، ح 1151 ، باب تفصيل أحكام النكاح ، ح 76 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 152 ، ح 556 ، باب ان ولد المتعة لاحق بأبيه ، ح 5 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 470 ، أبواب المتعة ، باب 20 ، ح 3.
|
|
مخاطر عدم علاج ارتفاع ضغط الدم
|
|
|
|
|
اختراق جديد في علاج سرطان البروستات العدواني
|
|
|
|
|
مدرسة دار العلم.. صرح علميّ متميز في كربلاء لنشر علوم أهل البيت (عليهم السلام)
|
|
|